في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


(الصفحة 21)

فإذا كان هناك من الأحياء من يكون صالحاً للرجوع إليه وتقليده لا مجال لتعيّن الاجتهادولزوم تحصيل الملكة عليه ، ومع عدمه ـ والفرض أ نّه لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ; لقيام الإجماع(1) عليه كما سيجيء البحث والتكلّم فيه(2) إن شاء الله تعالى ـ يتعيّن عليه الاجتهاد إذا لم يتمكّن من الاحتياط وإحراز الواقع من هذا الطريق ، كما أ نّه مع عدم التمكّن من الاحتياط يتخيّر بين الاجتهاد والتقليد ; لعدم ثبوت حكم العقل بلزوم التعلّم ، بل غرضه التعرّض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ورعاية موافقتها ; سواء كان المكلّف عالماً بها تفصيلا أو جاهلا مراجعاً إلى العالم .

فانقدح من ذلك أنّ تعيّن الاجتهاد ولزومه عقلا إنّما هو فيما إذا انسدّ عليه باب التقليد والاحتياط ، ومن الواضح أنّ اللزوم في هذا المورد ليس لزوماً نفسياً ، بل طريقي مرجعه إلى تنجّز التكاليف المعلومة واستحقاق العقوبة على مخالفتها ، هذا ما هو مقتضى حكم العقل .

وأمّا اللزوم الشرعي ، فيدلّ على أصله ما دلّ على وجوب التعلّم من الأخبار التي سيجيء نقلها والتكلّم فيها إن شاء الله تعالى ، وعلى كونه طريقياً لا نفسيّاً ولا مقدميّاً التأمّل في تلك الأخبار واستظهار الطريقية منها ، وعلى عدم كونه عينياً وضوح استلزام تعيّن الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط على كلّ مكلّف للعسر والحرجواختلال النظام ، سيّما في هذه الأعصار التي كثرت مقدّمات الاجتهاد ، وكذا الموانع عن تحقّقها،مضافاًإلى أدلّة التقليد الدالّة على جواز رجوع العامّي إلى المجتهد ،


(1) جامع المقاصد: 3/491 ، شرح الألفية، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 ، مسالك الأفهام: 3 / 109; رسائل الشهيد الثاني: 1 / 44; مستمسك العروة الوثقى: 1 / 22 ، وانظر رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 58 ، ومطارح الأنظار: 2 / 559 ـ 560 . (2) في ص194 ـ 211 .
(الصفحة 22)

والمستلزمة لعدموجوب تحصيل الملكة على كلّ أحد . هذا بالإضافة إلى عمل نفسه .

وأمّا بالإضافة إلى رجوع غير العامّي إليه ، فاللزوم العقلي منتف قطعاً ; لعدم حكمه بذلك أصلا بعد ما كان الملاك في حكمه هو تخلّص المكلّف بنفسه من تبعة مخالفة تكاليف المولى ، وليس هنا ملاك آخر مقتض للزوم العقلي .

وأمّا اللزوم الشرعي ، فقد يقال بثبوته على وجه النفسي الكفائي التعييني ، نظراً إلى لزوم حفظ الدين وإبقائه والتحرّز عن اضمحلاله واندراسه ; ضرورة أنّ وجوب ذلك غير قابل للإنكار ، ومن المعلوم ـ بعد عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، وعدم جواز رجوع العامي إلى الأموات ـ أ نّ الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط لأجل الوصول إلى القوانين الدينيّة والأحكام الشرعيّة من الطرق الموجبة لبقاء الدين والتحفّظ عن اضمحلاله وانهدامه ، بداهة أ نّه مع عدم وجود من يرجع إليه العامي ـ والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الأموات ـ ينسدّ باب الاطّلاع على الأحكام الشرعية وتطبيق العمل عليها ، فاللازم لأجل هذا الغرض المهمّ أن يتصدّى بعض من المكلّفين للوصول إلى هذا المقام والبلوغ إلى هذه المرتبة(1) .

ومقتضى ماذكر عدم كفاية مجرّدالوصولوتحصيل الملكة، بل اللازم بعده استنباط الفعلي واستخراج الأحكام من مداركها وتبليغها إلى المكلّفين ليعملوا على طبقها .

هذا، ولكنّ الدليل المذكورلايجدي لإثبات الوجوب النفسي; لأنّ الواجب النفسي حينئذ هوالتحفّظ على الدينوإبقائه، والاجتهادمقدّمة له ، فلا مجال لدعوى النفسية من هذا الطريق بوجه. نعم ، لو استند في ذلك إلى آية النفر المعروفة لكان لذلك وجه.

ويؤيّده ما ورد في تفسيرها من بعض الروايات ، كرواية عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : اختلاف أُمّتي


(1) دروس في فقه الشيعة: 1 / 26 ـ 29.
(الصفحة 23)

رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1) ، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد ، إنّما الدين واحد(2) .

ويؤيدّه أيضاً قول الرضا(عليه السلام) في حديث ـ على ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان ـ  : إنّما اُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال :ـ مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة(عليهم السلام) إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله ـ عزّوجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ}(3) .

وبهاتين الروايتين يدفع التوهّم الذي يمكن أن يتخيّل من عدم دلالة الآية الكريمة على شمول الحكم لكلّ عصر وزمان ، كما هو غير خفيّ .

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المكلّف لا يجب عليه تحصيل ملكة الاجتهاد مع وجود المجتهد ; لقيام السيرة وعدم ثبوت الردع ، فهو مخيّر بين التقليد والرجوع إلى الخبرة ، وبين تحصيل ملكة الاجتهاد وصيرورته خبيراً ، ولا مزيّة لأحد الأمرين ولا مرجّح في البين .


(1) سورة التوبة : 9 / 122. (2) معاني الأخبار : 157 ح1 ، علل الشرائع : 85 ح4 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27/140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح10 . (3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)  : 2 / 119 ، علل الشرائع : 273 ح9 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 96 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب8 ح65 .
(الصفحة 24)

في جواز التقليد للمجتهد وعدمه

هل يجوز للمجتهد الواجد لملكة الاستنباط أن يرجع إلى مجتهد آخر فيما لم يجتهد فيه ولم يستنبط حكمه من الأدلّة فعلا أم لا؟ تفصيل القول فيه : أ نّه تارة : يلاحظ ذلك بالنظر إلى حكم العقل ، وأُخرى : بالنظر إلى السيرة التي هي العمدة في باب التقليد ، وثالثة : بالنظر إلى الأدلّة السمعية والآيات والروايات الواردة في هذا الباب .

أمّا بالنظر إلى حكم العقل ، فالظاهر أ نّه لا يحكم بالجواز ، حيث لا يحصل له اليقين بفراغ الذمّة مع الاستناد إلى فتوى الغير فيما إذا تمكّن من الاستناد إلى الحجّة واستنباط الحكم من الأدلّة ، ومع الشك في حصول البراءة يلزمه العقل بالاستنباط الفعلي والاستناد إلى الحجّة ، خصوصاً مع ملاحظة أ نّه لم ينقل القول بالجواز عن أحد من علمائنا الإماميّة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ كما عن الشيخ(قدس سره) في «رسالة الاجتهاد والتقليد»(1) . نعم ، قد نسب الجواز إلى السيّد صاحب المناهل(قدس سره) (2) .

ولعلّ دعوى الجواز مستندة إلى أ نّه كما كان المكلّف مخيّراً عقلا في ابتداء الأمر بين تحصيل ملكة الاجتهاد ، وبين الرجوع إلى العالم الخبير ، ولم يكن تقدّم لأحد الأمرين على الآخر ، كذلك هذا التخيير العقلي ثابت بحاله مع تحصيل الملكة وعدم


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 53 . (2) المناهل : 699، كتاب القضاء ، المنهل 8 . 
(الصفحة 25)

تحقّق الاستنباط الفعلي ; لأ نّه بمجرّد حصول القدرة وتحقّق الملكة لا يصدق عليه عنوان العالم الخبير، فلامانع من الرجوع إلى الغير الذي تصدّى للاستنباط واستخرج الحكم من المدارك ; فإنّه أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم ، فلا فرق بين الصورتين.

وأمّا بالنظر إلى السيرة ، فمن الواضح عدم ثبوت السيرة على رجوع من له الملكة إلى المستنبط الفعلي ; سواء كان المراد بالسيرة هي السيرة المتشرّعة الثابتة في باب التقليد ، أم كان المراد بها هي السيرة العقلائية الثابتة في جميع موارد رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به والمطّلع عليها .

أمّا على الأوّل : فواضح; لعدم ثبوت سيرة المتشرّعة في باب التقليد على رجوع الواجد للملكة إلى المستنبط الفعلي ، ولا أقلّ من الشك في الثبوت وعدمه ، وهو يكفي في عدم الجواز .

وأمّا على الثاني : الذي هو العمدة في باب التقليد ; لأ نّه من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم ، والمتشرّعة قد استقرّت سيرتهم على ذلك بما هم عقلاء ، وكون الجهل بالحكم الشرعي أحد مصاديق الجهل . فمن الواضح كما يظهر بمراجعة العقلاء عدم ثبوت سيرتهم على الرجوع في مثل المقام ، فهل يرجع الطبيب غير العارف بالدواء مع التمكّن من العلم به لو صرف ساعة من الزمان أو ساعتين مثلا إلى غيره العارف؟! وهل يكون على ـ تقدير الرجوع ـ معذوراً عند العقلاء لو كان تشخيص الغير الذي رجع إليه مخالفاً للواقع ؟ ولا أقلّ من الشك في ثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام ، وهو يكفي في عدم الجواز كما عرفت .

وأمّا الأدلّة السمعيّة ، فالمحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة

(الصفحة 26)

الاجتهاد والتقليد دعوى انصرافها عمّن له ملكة الاجتهاد(1) ، بل المحقّق الإصفهاني(قدس سره) بعد حكمه في رسالة الاجتهاد والتقليد بأنّ الواجد لابدّ له من المراجعة إلى الأدلّة السمعية حتى يظهر له الجواز والعدم ولا يجديه استنباط الغير ، حكم بأ نّه لا معنى لإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى المتمكّن من الاستنباط ; لأنّ أدلّة الأحكام الشرعية شاملة لمثل هذا الشخص ، فالأحكام الواقعية منجّزة في حقّه من طريق الأمارات المعتبرة ; لتمكّنه من الاستفادة منها ، ومعه كيف يسعه الرجوع إلى غيره والعمل بفتياه ؟ وهذا بخلاف العامّي المحض العاجز عن الاستنباط ، فإنّ تلك الأدلّة لا تشمله لفرض عجزه عن فهم مداليلها(2) .

وأورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة بأنّ تنجّز الأحكام الواقعيّة من طريق الأمارات لا ينافي حجّيّة فتوى المجتهد حتى بالإضافة إلى من له ملكة الاستنباط ، فيمكن أن يكون الاستناد إليها معذِّراً عن مخالفة الواقع إذا تحقّقت المخالفة ، وهذا نظير تنجّز الأحكام الواقعية على العامي بعلمه الإجمالي ، ومع ذلك فإنّ استناده إلى فتوى المجتهد يعذّره عن مخالفة الواقع(3) .

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين المجتهد المطلق والمتجزّئ ; فإنّه لا يجوز له أيضاً فيما حصل له ملكة الاستنباط بالإضافة إليه الرجوع إلى الغير والعمل بفتياه ، كما هو غير خفيّ .

الجهة الرابعة : يستفاد من عبارة المتن أنّ الضروريّات كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما خارجة عن دائرة الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها ويحكم العقل


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 57 . (2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 19 ـ 20 . (3) دروس في فقه الشيعة: 1/20.
(الصفحة 27)

باللزوم تخييراً بينها ، والوجه في ذلك أنّ الأحكام الضرورية معلومة للمكلّف ، ومن المعلوم أ نّه مع حصول العلم للمكلّف بالواقع يكون هو بنفسه حجّة عليه، ولامجال للتعبّد بالأمارة بالإضافة إليه ; سواء كانت موافقة لعلمه أو مخالفة له ، وسواء كانت الأمارة فتوى الغير أو غيرها من الأمارات ; لأنّ الحكم الظاهري إنّما يختصّ جعله بخصوص الجاهل الذي لا علم له بالواقع ، فلا مجال له بالإضافة إلى العالم مطلقاً ، ولذا لو حصل للمكلّف العلم في غير الضروريّات أيضاً لا مجال له للتقليد أو الاجتهاد ، وإن كان مخالفاً لفتوى المجتهد الذي يقلّده في سائر المسائل .

وقد انقدح من ذلك أنّ الضروريّات لا معنى لجريان التقليد فيها ، فالتعبير بعدم الحاجة إلى التقليد فيها ـ كما في «العروة»(1) ـ المشعر بالجواز لا يخلو عن مسامحة ، كما أنّ التعميم لليقينيات أيضاً يشعر بل يدلّ على أ نّه يكون في الفقه أحكام خاصّة يقينيّة ، كما أ نّه يكون فيه أحكام مخصوصة ضرورية ، مع أ نّه ليس في الفقه أحكام معيّنة متّصفة بكونها يقينيّة .

والظاهر أنّ غرضه(قدس سره) أ نّه متى حصل للمكلّف يقين بحكم من الأحكام من أيّ طريق حصل لا مجال له للتقليد في خصوص ذلك الحكم اليقيني وإن لم يكن ضروريّاً ، فيرجع إلى ما ذكرنا .


(1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 6 .
(الصفحة 28)

[جواز العمل بالاحتياط والاكتفاء به]

مسألة1: يجوز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار على الأقوى 1.

1 ـ في شرح بعض الأعلام على مثل هذه المسألة من العروة ما ملخّصه : أنّ محلّ الكلام هنا هو الاحتياط غير المخلّ بالنظام ; لأنّ الاحتياط المخلّ به غير مشروع في نفسه ; سواء تمكّن المكلّف من الاجتهاد أو التقليد أم لم يتمكّن منهما . نعم ، الاحتياط المستلزم للوقوع في الحرج داخل في محلّ البحث ; لأنّ نفي الحرج إنّما يدلّ على نفي الوجوب، وهو لا ينافي الجواز ، كما أنّ محلّ الكلام هو خصوص الواجبات العبادية ; لعدم المانع في غيرها وإن استلزم التكرار .

وما عن الشهيد(رحمه الله) من النقاش في الاحتياط في باب العقود والإيقاعات ، نظراً إلى أنّ الجزم ينافي الترديد(1) ، مندفع بأنّ التردّد فيما هو الممضى من السبب شرعاً غير التردّد في الإنشاء ، والاعتبار الذي هو أمر نفساني قائم بالمعتبر ، والذي يضرّ بصحّة العقد أو الإيقاع هو الثاني دون الأوّل(2) .

أقول : قد عرفت(3) أنّ البحث في الاحتياط تارة : في جوازه بعنوانه الذي هو كسائر العناوين المتعلّقة لواحد من الأحكام الخمسة ، وأُخرى : في الاجتزاء بما يتحقّق به الاحتياط في مقام الامتثال أو الموافقة أو ترتّب الأثر المقصود ، وعرفت أيضاً أنّ المهمّ في المقام هي الجهة الثانية(4) .

ومن الواضح أ نّه لا فرق من هذه الجهة بين كون الاحتياط مخلاًّ بالنظام ، أو


(1) القواعد والفوائد: 2/238، القاعدة 238، والحاكي هو الشيخ في المكاسب : 3/ 173 . (2) دروس في فقه الشيعة: 1/29 ـ 30. (3 ، 4) في ص15 ـ 17 .
(الصفحة 29)

مستلزماً للوقوع في الحرج أم لا ; ضرورة أ نّه بسبب تحقّق هذا العنوان ـ الملازم للعلم بتحقّق المأمور به في الخارج بجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، أو بتحقّق ما هو السبب المؤثّر في حصول الأثر المترقّب ـ لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء وعدم تأثيره في الأثر المقصود ; سواء كان مخلاًّ بالنظام أو موجباً للوقوع في الحرج أم لا ، فإنّ اتّصافه بوصف الإخلال به أو استلزامه للوقوع فيه لا يضرّ بترتّب الأثر المترقّب بداهة ، فالتفصيل من هذه الجهة ، وجعل هاتين الصورتين أو خصوص الصورة الأُولى خارجة عن محلّ النزاع لا وجه له أصلا .

ثمّ إنّه على التقدير الأوّل ـ الذي يكون النزاع في جواز الاحتياط بعنوانه ـ يكون المحرّم على تقديره هو عنوان الإخلال ، ولا تتعدّى الحرمة عنه إلى عنوان الاحتياط ; لما حقّقناه في محلّه من أنّ الحرمة المتعلّقة بعنوان من العناوين لا يعقل أن يسري منه إلى غيره ممّا يتّحد معه وجوداً(1) ، فحرمة الإخلال لا توجب حرمة الاحتياط بوجه .

ثمّ إنّ ما أفاده في وجه دخول صورة الاستلزام للحرج في محلّ البحث يمكن أن يخدش فيه بأنّ دليل نفي الحرج وإن كان ظاهره نفي الوجوب وهو لا ينافي الجواز ، إلاّ أ نّه ربما يحتمل فيه أن يكون الغرض منه النفي على سبيل العزيمة لا الرخصة ، كما ربما يستفاد من بعض الروايات(2) من وجوب قبول المنّة من الله سبحانه وتعالى .

ويؤيّده قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}(3) الظاهر في تعلّق الإرادة الإلهيّة


(1) اُصول فقه شيعه: 4/630 ـ 640. (2) وسائل الشيعة : 1 / 154 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ب8 ح11 ، وص163 ب 9 ح14 وص464 ، أبواب الوضوء ب39 ح5 ، وج3 / 491 ، أبواب النجاسات ب50 ح3 . (3) سورة البقرة : 2 / 185 .
(الصفحة 30)

باليسر ، وهو لا يجتمع مع الإيقاع في الحرج ، والتحقيق في محلّه .

ثمّ إنّ تخصيص محلّ الكلام بخصوص الواجبات العباديّة وإخراج باب العقود والإيقاعات عن حريم النزاع مع وجود النقاش من مثل الشهيد ـ عليه الرحمة والرضوان ـ ممّا لا وجه له ، ودفع وجه النقاش بما هو التحقيق عنده لا يوجب الخروج عن محلّ النزاع ، وإلاّ يلزم خروج أكثر المسائل الخلافيّة عن كونها كذلك بسبب التحقيق المؤدّي إلى أحد الطرفين أو الأطراف .

وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ المراد بالجواز في المتن هو الاجتزاء والاكتفاء في مقام الإطاعة والامتثال ، أو تحقّق ما هو السبب المؤثّر ، لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط ، ولكنّه ربما يُقال بأنّ المراد بالجواز في خصوص هذه المسألة هو الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط لا الاجتزاء في مقام الامتثال وشبهه ، وذلك لأ نّه على التقدير الآخر يلزم التكرار بعد تصريح الماتن قبل ذلك بكون الاحتياط أحد الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها ، فالأولى حمل هذه العبارة على الجواز بالمعنى الأوّل لئلاّ يلزم التكرار .

ويندفع بأ نّه يكفي فى عدم لزوم التكرار التصريح بكون الجواز ثابتاً في الاحتياط ولو كان مسلتزماً للتكرار ، وفي الحقيقة الغرض من هذه المسألة تعميم الجواز لصورة استلزام الاحتياط للتكرار مع حفظ كون المقصود من الجواز هو الاجتزاء والاكتفاء ، لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط .

نعم ، لا مجال لإنكار أنّ الاحتياط بعنوانه يكون معروضاً لحكم من الأحكام الخمسة التكليفيّة ، والتحقيق إمكان اتّصافه بكلّ منها وجواز تصوّر المورد له ، فالاحتياط الواجب إنّما هو في مثل الشبهة المحصورة الوجوبيّة أو التحريميّة; سواء قيل بقيام الدليل الشرعي على الوجوب ، أو أنّ وجوبه الشرعي مستفاد من

(الصفحة 31)

الملازمة بين الحكمين : حكم العقل ، وحكم الشرع .

والاحتياط المحرّم إنّما هو فيما إذا أدّى إلى الوسواس وقلنا بتحريمه ، نظراً إلى أ نّه من الشيطان كما في بعض الروايات(1) ، أو أدّى إلى الإخلال بالنظام بناءً على كونه من العناوين المحرّمة ، كلّ ذلك بعد الفراغ عن كون استلزامه للمحرّم موجباً لقبح عنوانه ثمّ حرمته بقاعدة الملازمة ، فتدبّر جيّداً .

وأمّا الاحتياط المستحبّ فموارده كثيرة ; لأنّ العقل يحكم بحسنه في غير الموردين المتقدّمين إذا لم يجر فيه احتمال المبغوضيّة ; لأجل احتمال كونه من العناوين المبغوضة أو انطباق عنوان مبغوض عليه ، وإلاّ فمع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بحسنه بتّاً ، ومن هنا يظهر النظر فيما تكرّر في الكلمات من التحريص على الإتيان بمحتمل الوجوب ـ غير القائم على وجوبه دليل معتبر ـ بعنوان الرجاء ، نظراً إلى حسن الاحتياط وعدم اختصاص حسنه بحال دون حال ; فإنّ ذلك إنّما يتمّ مع عدم وجود احتمال المبغوضية ، وإلاّ فالحكم بالحسن ممّا لا وجه له أصلا .

وممّا ذكرنا يظهر جواز فرض المورد لصورتي إباحة الاحتياط وكراهته ; فإنّ منشأ الإباحة تارة : عدم تعلّق الحكم لأجل عدم ثبوت الملاك ، وأُخرى: تعارض الملاكين ، فتأمّل .

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الظاهر أ نّه لم يقل أحد بالمنع من الاحتياط في جميع الموارد ، وإن كان يمكن توجيهه بوجه غير وجيه .

وأمّا المنع عن الاحتياط في باب العقود والإيقاعات، فلم ينقل عن أحد أيضاً


(1) وسائل الشيعة : 1/63 ، أبواب مقدّمة العبادات ب10 ح8 ، وج : 8 / 227 ـ 228 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل ب16 ح1و2 .
(الصفحة 32)

إلاّ ما حكي عن الشهيد(رحمه الله) من النقاش الذي عرفت(1) .

والتحقيق في دفعه ـ بعد عدم كون العقود والإيقاعات أسباباً ومؤثّرات حقيقة ; ضرورة أنّ ما يترتّب عليها ليس إلاّ الأُمور الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء والشارع ، وهي بعيدة عن عالم التأثير والتأثّر بمراحل ، فهذه أي العقود والإيقاعات موضوعات للاعتبار ومقدّمات له ـ أن يقال : إنّ الجزم المعتبر في المعاملة عبارة عن تعلّق القصد والإرادة الجدّية بتحقّق مقتضاها عقيب الإنشاء ، وهذا لا ينافي مع الترديد فيما هو الموضوع للاعتبار ; فإنّ احتمال تحقّق الاعتبار عقيب اللفظ المحتمل منشأ لتعلّق الإرادة الجديّة بالإنشاء بذلك اللفظ .

وبالجملة : الداعي والمحرّك له على الإنشاء بكلا اللفظين ليس إلاّ تعلّق القصد الجدّي بتحقّق موضوع الاعتبار لدى العرف والشرع ، فهذا النقاش أيضاً ممنوع .

وأمّا الواجبات ، فالتوصليّات منها أيضاً ممّا لم ينقل عن أحد المنع أو النقاش في جريان الاحتياط فيها ، من دون فرق بين ما كان تحقّق عنوانه متوقّفاً على القصد إليه كأداء الدين مثلا ، وما لم يكن كذلك كغسل الثوب . نعم ، بناءً على المنع في العبادات لأجل الإخلال بقصد القربة يمكن أن يقال بالمنع منه هنا بالإضافة إلى ترتّب المثوبة ; فإنّ قصد القربة وإن لم يكن معتبراً في سقوط الأمر وتحقّق الموافقة إلاّ أ نّه معتبر في ترتّب المثوبة ، وعليه : فالاحتياط فيها من هذه الجهة يمكن المنع عنه ; بمعنى أنّ الأثر المترقّب ـ وهو ترتّب المثوبة ـ لا يترتّب على الاحتياط ; لإخلاله بقصد القربة على ما هو المفروض .


(1) في ص28 .
(الصفحة 33)

وأمّا العبادات ، فظاهر ما نسب إلى المشهور(1) من بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد عدم الاجتزاء بالاحتياط مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا كان مستلزماً للتكرار وما إذا لم يكن ، بل ظاهر ما حكي عن الرضي(قدس سره) من دعوى الاتّفاق على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها(2) ، وتقرير أخيه المرتضى(قدس سره) له (3)، ذلك أيضاً مطلقاً ، ولكن استظهر الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة القطع الاتّفاق على عدم الجواز في خصوص ما إذا استلزم التكرار(4) ، والمحكي عن الحلّي(قدس سره) في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين عدم الجواز حتى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، وأ نّه يصلّي عارياً في هذه الصورة(5) ، ولكنّ الظاهر أنّه يقول بذلك في خصوص ما إذا كان التكرار في الواجب الضمني كمثال الثوبين . وأمّا إذا كان التكرار في الواجب الاستقلالي ـ كما إذا تردّد أمر الصلاة بين القصر والإتمام أو بين الظهر والجمعة ـ فالظاهر أ نّه لا يقول بسقوط الصلاة رأساً مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي .

وكيف كان فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فيما إذا لم يستلزم الاحتياط للتكرار كما في الأقلّ والأكثر ; سواء


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الانصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، فرائد الأصول: 2/406 ، مستمسك العروة الوثقى: 1/6 ـ 7 . (2) حكى عنه الشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة  : 4 / 325 ، والشهيد الثاني في روض الجنان: 2/1058 ، والشيخ الأنصارى في رسالته في الاجتهاد والتقليد، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، و في فرائد الاصول: 1/72 و ج2 / 408 ، والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: 1/7. (3) رسائل الشريف المرتضى : 2 / 383 ـ 384 . (4) فرائد الاُصول : 1 / 71 ـ 72 . (5) السرائر : 1 / 185 .
(الصفحة 34)

كان أمر الزائد دائراً بين الوجوب والاستحباب وكان أصل المحبوبيّة معلوماً ، أم كان دائراً بين الوجوب واللغوية غير المخلّة بتحقّق العبادة .

وتوهّم استلزام الاحتياط في العبادة للتكرار دائماً حتى في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، نظراً إلى ما ربما يُستفاد من كلام المحقّق صاحب الحاشية(قدس سره) من كون الأقلّ والأكثر طبيعتين متغايرتين ; لأنّ الأقلّ عبارة عن الأجزاء التي لوحظت بنحو الوحدة وكذا الأكثر ، فهما متغايران(1) .

مدفوع بوضوح كون الإتيان بالأكثر مجزئاً على أيّ تقدير ، خصوصاً إذا كان أمر الجزء الزائد دائراً بين الوجوب والاستحباب ، إلاّ أن يناقش فيه من جهات اُخر نتعرّض لدفعها إن شاء الله تعالى . وأمّا من هذه الجهة الراجعة إلى التغاير فلا مجال للمناقشة في إجزاء الأكثر .

وكيف كان ، فما يمكن الاستناد إليه للمنع عن الاحتياط في هذا المقام أُمور :

أحدها : الشهرة المذكورة والإجماع المنقول ، وسيجيء الجواب عنه في المقام الآتي .

ثانيها : الإخلال بقصد الوجه والتمييز ، والجواب المنع صغرى وكبرى كما سيأتي أيضاً .

ثالثها : حكم العقل بتأخّر رتبة الامتثال الاحتمالي عن الامتثال الجزمي ، ولا أقلّ من عدم إدراكه تساوي الرتبتين ، فيرجع إلى قاعدة الاشتغال ، والجواب ما يأتي في المقام الآتي أيضاً .

المقام الثاني : فيما إذا كان الاحتياط مستلزماً للتكرار ، والكلام فيه تارة: مع


(1) راجع هداية المسترشدين : 3/563 .
(الصفحة 35)

التمكّن من الامتثال التفصيلي ، وأُخرى: مع عدمه .

أمّا الصورة الأُولى : فالنزاع في الجواز وعدمه إن كان مسبّباً عن النزاع في اعتبار قصد الوجه والتمييز وعدمه ، بحيث كان القول بالجواز مستنداً إلى عدم اعتبارهما وبالعدم إلى الاعتبار ، فهو في الحقيقة نزاع في المسألة الفقهية ، ولا ينبغي التعرّض له في علم الأُصول ; لأنّ دخالة قصد الوجه والتمييز في المأمور به وعدم حصوله بدونه ـ وبعبارة أُخرى: تشخيص حدود المأمور به والخصوصيّات المعتبرة فيه ـ أمر ليس له ارتباط بالمسائل الأُصوليّة ، كما هو أوضح من أن يخفى .

وأمّا إن كان النزاع في جواز الاجتزاء بالاحتياط ـ مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ـ مع قطع النظر عن اعتبار الوجه والتمييز ، بحيث لم يكن شيء منهما معتبراً أو لم يكن الاحتياط موجباً للإخلال به ، كما في خصوص قصد الوجه على ما هو التحقيق من عدم كون الاحتياط مانعاً عن رعايته ولو كان موجباً للتكرار ، نظراً إلى أ نّه يأتي بالصلاتين مثلا لوجوب تلك الصلاة الواجبة واقعاً ، أو يقصد تحصيل الصلاة الواجبة بما هي واجبة بفعل الصلاتين ، فلا إخلال بقصد الوجه بوجه ; لما عرفت من إمكان قصده بكلا وجهيه غايةً ووصفاً ، فهو الذي يكون نزاعاً في المسألة الأُصولية .

وحينئذ نقول : إنّ ما يمكن الاستناد إليه للقول بعدم الجواز أُمور :

أحدها : ما عرفت(1) من الشهرة المذكورة والإجماع المنقول ، وقد حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري(قدس سره) أ نّه استظهر في رسالة الاجتهاد والتقليد عدم الخلاف في بطلان الاحتياط في العبادة إذا استلزم تكرار أفراد ماهيّة واحدة ، بحيث كان


(1) في ص33.
(الصفحة 36)

التكرار في الواجب الضمني دون الاستقلالي ، كما فيما إذا تردّد أمر القراءة بين الجهر والاخفات ، كما في قراءة صلاة الظهر من يوم الجمعة ، حيث إنّ مقتضى بعض الروايات(1) وجوب الجهر بها(2) .

والجواب عنه أنّ الشهرة غير متحقّقة ; لعدم تعرّض كثير من الأصحاب لهذه المسألة ، والإجماع المنقول لا يكون قابلا للاستدلال مطلقاً على اختلاف بينهم في بعض موارده ، والمقام خارج عنه ، خصوصاً في مثل ما نحن فيه ممّا لم يقع التعرّض له إلاّ من بعض الأصحاب ، مضافاً إلى احتمال أن يكون الوجه في المنع هو بعض الأُمور العقلية التي صارت موجبة لتخيّل المنع .

ومع هذا الاحتمال لا يبقى للتشبّث به مجال ، والإجماع الذي ادّعاه الرضي(قدس سره) لايكون ناظراً إلى المقام ، بل إلى الاكتفاء بفعل صلاة لا يعلم أحكامها واشتمالها على الخصوصيّات المعتبرة فيها ، لا ما يعلم اشتمالها على جميع أجزائها وشرائطها . غاية الأمر أ نّه لم يتميّز الواجب عن المستحبّ منها ، بل هذا كما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) (3)، نظير قولهم : عمل العامّي بلا اجتهاد ولا تقليد باطل(4) ; فإنّه لا يكون ناظراً إلى الاحتياط بوجه ، بل النظر إلى إتيان فعل لا يدرى موافقته للمأمور به لا اجتهاداً ولا تقليداً ; فإنّ الفعل حينئذ لا يكون مطابقاً للمأمور به بحسب العادة إلاّ بالاجتهاد أو التقليد ، فلا يصحّ الاقتصار عليه ، لا أنّه باطل


(1) وسائل الشيعة : 6 / 160 ـ 162 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب73 . (2) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 50 . (3) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 183 . (4) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 49 ، فرائد الاُصول : 2 / 406 ، مستمسك العروة الوثقى : 1/6ـ7 .
(الصفحة 37)

بحسب الواقع ولو ظهر موافقته له أو للفتوى ، كما لا يخفى .

ثانيها : ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره) على ما في تقريراته ، وملّخصه : أ نّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى بحيث يكون الداعي والمحرّك للمكلّف نحو العمل هو تعلّق الأمر به والبعث إليه ، وهذا المعنى لا يتحقّق في الامتثال الإجمالي ; فإنّ الدّاعي في كلّ واحد من الطرفين هو الاحتمال ; أي احتمال تعلّق الأمر به فالانبعاث إنّما يكون عن احتمال البعث ، وهذه وإن كان قسماً من الإطاعة ونحواً من الامتثال ، إلاّ أ نّه لا مجال له مع التمكّن من الامتثال التفصيلي لتأخّره عنه رتبة ، فالإنصاف أنّ دعوى القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع التمكّن عنه في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة غير مجازفة(1) .

ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون عن البعث بمجرّد وجوده الواقعي ، وإلاّ يلزم عدم تحقّق العصيان من أحد ، من غير فرق بين العالم به والجاهل ، مع وضوح تحقّق المخالفة من كلا الفريقين ، بل الباعث هو العلم بالبعث لابمجرّده أيضاً ، بل بما يترتّب عليه من العواقب والتبعات ; لأنّ العلم بالبعث أيضاً ربما لا يوجب التحريك نحو العمل المبعوث إليه ، بل دائماً إلاّ ما شذّ وندر لا يكون كذلك ما لم ينضمّ إليه سائر المقدّمات من ترتّب المثوبة أو العقوبة واشتياق المكلّف إلى الوصول بالأُولى والتخلّص عن الثانية ، وإلى منع اعتبار كون الانبعاث عن البحث على تقدير إمكانه ومعقوليّته دخيلا في تحقّق الطاعة وصدق الامتثال ; لعدم قيام الدليل عليه .

وما أفاده من حكم العقل بذلك ممنوع جدّاً ; لأنّ العقل لا يدرك إلاّ لزوم الإتيان


(1) فوائد الاُصول : 3 / 73 .
(الصفحة 38)

بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه من القيود والخصوصيّات ، والمفروض تحقّقه في المقام ; لأنّ الكلام بعد الفراغ عن عدم اعتبار قصد الوجه وشبهه، أو عدم كون الاحتياط مسلتزماً للإخلال به ـ : أنّه على تقدير تسليم مدخليّة الانبعاث عن البعث في تحقّق الطاعة لا دليل على اعتبار عنوان الطاعة في سقوط الأمر ولو كان عبادياً ، بل الواجب مجرّد الإتيان بما تعلّق به الأمر بشراشر أجزائه وشرائطه ، ولاوجه للحكم باعتبار تحقّق عنوان آخر بعد عدم نهوض دليل عقليّ أو نقليّ عليه ، فالإنصاف أنّ ما أفاده من كون الدعوى المذكورة غير مجازفة مجرّد ادّعاء بلا بيّنة وبرهان ، كما هو غير خفيّ .

مضافاً إلى أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل ، ومن الواضح أنّ المكلّف المنبعث عن مجرّد احتمال البعث أقوى عنده ـ في صدق الإطاعة وعنوان المطيع ـ ممّن لا ينبعث إلاّ بعد العلم بثبوت البعث ، مع أنّ الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو عن العلم بالبعث ; ضرورة أ نّه لو لم يكن العلم به ولو إجمالا متحقّقاً لم يتحقّق الانبعاث من كثير من الناس ، الذين لا ينبعثون عن مجرّد احتمال البعث ولا يتحرّكون بحركة الاحتمال ، كما هو ظاهر .

ثمّ إ نّه ذكر في «المستمسك» ـ في مقام الجواب عن هذا الوجه ـ أنّ فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب ، والاحتمال دخيل في داعويّة الأمر لا أ نّه الداعي إليه ، وإلاّ كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء على كون الفعل ناشئاً عن داعي العلم بالأمر لا عن داعي نفس الأمر ، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر(1) .


(1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .
(الصفحة 39)

ويمكن الإيراد عليه بأ نّه في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث ; لأ نّه قد نال الواقع ووصل إليه بالعرض ، وهذا بخلاف صورة الاحتمال ; فإنّ الانبعاث فيها لا محالة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لا يكون له كاشفيّة بوجه ، وهذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعة والامتثال ; فإنّ المحرّك والداعي في الصورة الأُولى هو الواقع المنكشف ، وفي الصورة الثانية هو نفس الاحتمال ، فالتحقيق في الجواب ما ذكرنا .

ثالثها : كون التكرار لعباً بأمر المولى وعبثاً محضاً ، خصوصاً مع كون التمكّن من تحصيل العلم والامتثال التفصيلي بسهولة ، بحيث لا يحتاج إلى مؤنة زائدة على مثل السؤال عن العالم الحاضر عنده ، وكان التكرار الذي يحصل به الاحتياط متوقّفاً على تكرار العمل مائة أو أزيد مثلا ; فإنّه لا يرتاب في كون التكرار مع اجتماع هاتين الجهتين لعباً وعبثاً ، وهو ينافي العبوديّة المطلوبة في باب العبادات ، الذي هو محّل الكلام ومورد النقض والإبرام .

وأجاب عن هذا الوجه المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالته في الاجتهاد والتقليد بما حاصله : أنّ اللعب إمّا يكون ضائراً بداعي الأمر بحيث لا يصدر الفعل عن داعي الأمر ، أو يضرّ به بحيث يكون تشريكاً في الداعي ، أو يكون عنواناً للفعل فيكون الفعل معنوناً بعنوان قبيح ، والكلّ باطل .

أمّا صدور الفعل لا عن داعي الأمر فهو خلف ; لأنّ المفروض أنّ المحرّك الأصلي نحو الصلاة الواجبة واقعاً هو الأمر بها .

وكذا لو كان تشريكاً في الداعي ، مع أ نّه لو كان تشريكاً بطلت العبادة ولو كان الدخيل داعياً عقلائيّاً .

وأمّا كـونه عنواناً لفعل الصلاة فلا وجه له ; لأنّ اللعب يحصل بالتكرير

(الصفحة 40)

لابالعمل المكرّر ، وبعبارة أُخرى : الإطاعة اليقينيّة تحصل بأحد نحوين : إمّا بالامتثال التفصيلي ، وإمّا بإتيان صلاتين أو أكثر ، ومن هذه الحيثيّة الراجعة إلى تحصيل اليقين بإطاعة الأمر ليس شيء منهما لغواً وعبثاً ، لكن مع إمكان الأوّل وعدم ترتّب غرض عقلائيّ على النحو الثاني يكون لغواً من هذه الجهة لا من حيث المحصّليّة لليقين ، فالصلاة الواقعيّة الموجودة في ضمن الصلوات المتكرّرة لاتوصف باللغوية والعبثية ، بل المجموع بما هو مجموع ، فلم يلزم وصف عنوانيّ قبيح في الصلاة المأتيّ بها موافقة لأمرها في ضمن المجموع(1) .

أقول : لو سلّمنا كون اللعب ضائراً بداعي الأمر ومنافياً للقربة المعتبرة في صحّة العبادة أو الإخلاص المعتبر فيها ، فهو غير ضائر بما هو محلّ الكلام في المسألة الاُصوليّة ; لما عرفت من أنّ النزاع فيها إنّما هو في جواز الاجتزاء بالامتثال الإجمالي مع فرض كون المأتيّ به واجداً لجميع ما اعتبر فيه من القيود والخصوصيّات ، ففرض كون اللعب منافياً لرعاية بعض تلك الخصوصيّات يوجب الخروج عمّا هو محلّ البحث .

وأمّا دعوى كون اللعب عنواناً للفعل ويصير موجباً لتعنون الفعل بعنوان قبيح فقد عرفت في كلام المحقّق المذكور الجواب عنها بما يرجع حاصله إلى نفي استلزام اللعب ; لصيرورة الفعل متّصفاً بعنوان قبيح ; لأ نّه يحصل بالتكرير لا بالعمل المكرّر .

ونحن نقول : إنّه لو سلمت هذه الدعوى أيضاً فتارة : يراد منها أ نّه يشترط في صحّة العبادة وترتّب الغرض المطلوب عليها عدم انطباق عنوان مثل اللعب


(1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 185 ـ 186 .
<<التالي الفهرس السابق>>