في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


(الصفحة 181)

[جواز تقليد المفضول فيما يعلم توافق فتواه مع فتوى الأفضل]

مسألة10: يجوز تقليد المفضول في المسائل التي توافق فتواه فتوى الأفضل فيها، بل فيما لا يعلم تخالفهما في الفتوى أيضاً 1.

1 ـ قد ذكرنا في مسألة تقليد الأعلم(1) أنّ تعيّن الأعلم للتقليد ووجوب الرجوع إليه إنّما هو فيما إذا علمت المخالفة بينه وبين غيره في الفتوى ، أو احتملت المخالفة . وأمّا مع العلم بالموافقة ، فلا مجال لتعيّنه للتقليد ; لعدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه إلاّ على القول بلزوم الاستناد ووجوبه ، كما قد حكي عن بعض الأعاظم ، حيث ذكر أ نّ الحجج لا تكاد تتّصف بالحجّية بوجودها الخارجي ، وإنّما يكون اتّصافها بهذه الصفة فيما إذا استند المكلّف إليها في مقام العمل(2) ; فإنّه على هذا التقدير يلزم على المقلِّد في مقام العمل أن يكون عمله مستنداً إلى فتوى الأعلم ، التي هي الحجّة على ما هو المفروض ، ولا مجال للاستناد إلى غير الأعلم بعد عدم كونه حجّة ، فإذا استند إلى غير الأعلم وقلّده تصير فتوى الأعلم بلا استناد ، فلا تكون حجّة ، وفتوى غيره لم تكن حجّة من الأوّل على ما هو المفروض من تعيّن تقليد الأعلم ، ولذا احتاط في العروة بعدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل(3) .

هذا ، ولكن هذا القول ـ وهو القول بلزوم الاستناد إلى الحجّة في مقام الامتثال ـ


(1) في ص142 ـ 143 ، 158 ـ 160 و 166 . (2) حكاه في التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 114 عن اُستاذه . (3) العروه الوثقى : 1 / 8 مسألة 18 .
(الصفحة 182)

لم يقم عليه دليل ، والاستناد لا دخالة له في الحجّية والأثر المترتّب عليها من التنجيز والتعذير ; ضرورة أنّ الملاك في التنجيز وبلوغ الحكم الواقعي إلى مرحلة استحقاق العقوبة على مخالفته ، وانقطاع حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، والمؤاخذة بلا برهان إنّما هو وجود الحجّة واقعاً وكونها في معرض الوصول ، بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، ولأجل ذلك اشتهر أنّ الاحتمال في الشبهات الحكميّة قبل الفحص لا يكون مجرى أصالة البراءة وشبهها ، وهكذا التعذير ; فإنّ ما يصحّ أن يحتجّ به المكلّف في مقام المخالفة للتكليف الواقعي إنّما هو وجود الحجّة المعتبرة ونهوضها على خلافه ، بضميمة علم المكلّف به وعدم علمه بمخالفتها للواقع وإن لم يستند إليه في مقام العمل ، ولم تكن مخالفته مستندة إلى نهوضها وناشئة عن قيامها ، كما لا يخفى .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ما أفاده بعض الأعاظم بظاهره مستلزم للدور ; لأنّ الاتّصاف بهذه الصفة ـ أي صفة الحجّية ـ في الحجج إذا كان متوقّفاً على استناد المكلّف إليها في مقام العمل ، والمفروض أنّ الاستناد أيضاً متوقّف على الحجيّة ; لأ نّه لا معنى للاستناد قبل تحقّق الاتّصاف وحصول وصف الحجّية ، فالاستناد متأخّر عن الحجّية ، فإذا كانت الحجّية متأخّرة عن الاستناد أيضاً يلزم الدور المحال لا محالة ، فتأمّل .

هذا كلّه بالإضافة إلى المسائل التي يعلم توافق الأفضل والمفضول فيها .

وأمّا فيما لا يعلم توافقهما في الفتوى فقد حكم سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ  دام ظلّه ـ بجواز الرجوع إلى المفضول فيها أيضاً ، ولكنّك عرفت في مسألة تقليد

(الصفحة 183)

الأعلم(1) أنّ الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة بينه ، وبين غيره في الفتوى ـ وهي السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إليه الحاكمة بتعيّنه بضميمة عدم الردع من الشارع ، الكاشف عن الرضا والإمضاء ـ قائم على تعيّنه في صورة الشكّ في الموافقة والمخالفة أيضاً ، فالإنصاف أنّ هذه الصورة ملحقة بصورة العلم بالمخالفة ، لا بصورة العلم بالموافقة ، فتدبّر .


(1) في ص160 ـ 161 ، 166 .
(الصفحة 184)

[إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة]

   مسألة11: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز الرجوع في تلك المسألة إلى غيره ; مع رعاية الأعلم فالأعلم على الأحوط 1

1 ـ والدليل على جواز الأخذ من غير الأعلم مع عدم ثبوت الفتوى له ، أنّ مبنى التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم كما مرّ مراراً(1) ، ومبنى تعيّن الرجوع إلى الأعلم أ نّه إذا قيس رأيه مع رأي غيره ، ولوحظت فتواه مع فتوى غيره ، يكون هو الحجّة ; لقيام ما مرّ من الدليل عليه(2) ، ومن الواضح أنّ تحقّق كلا الملاكين إنّما هو فيما إذا كان للأعلم رأي ونظر . وأمّا مع عدم الرأي ـ لِما يأتي من الجهة الموجبة للعدم ـ فلا وجه لأخذ الفتوى منه ; لعدم ثبوت الفتوى له أصلا ، كما أ نّه لا مانع من الرجوع إلى غيره الذي يصدق عليه عنوان الفقيه وأهل الذكر وأشباههما ; لعدم الترجيح حينئذ بعد عدم ثبوت الفتوى وعدم تحقّق النظر .

ثمّ إنّ عدم ثبوت الفتوى للأعلم إن كان لأجل عدم وروده في المسألة ، وعدم استنباط حكمها من جهة عدم كونها مورداً لابتلائه، أو احتياطه فيها على تقدير الابتلاء، فهذا لا ريب في جواز الرجوع إلى الغير فيه ; لكونه بالإضافة إلى هذه المسألة لا يتّصف إلاّ بالجهل ، ولا يعدّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم أصلا .

كما أ نّه لو كان عدم ثبوت الفتوى لا لأجل عدم الورود فيها رأساً ، بل لأجل


(1) في ص68 ـ 71 ، 92 ، 98 ، 103 . (2) في ص138 ـ 166 .
(الصفحة 185)

احتياجها إلى مزيد تتبّع وتفحّص ، أو تحقيق وتأمّل ، كما ربما يتّفق بالإضافة إلى بعض المسائل ، فلا ريب أيضاً في جواز الرجوع فيه إلى الغير ما دام لم يتحقّق منه التتبّع أو التأمّل ; لعدم اتّصافه بكونه عالماً قبل ذلك .

وأمّا لو كان عدم الفتوى مستنداً إلى عدم تماميّة أدلّة الطرفين ، أو الأطراف في المسألة ، أو ثبوت التعارض والتكافؤ فيها ، بحيث لا محيص من الرجوع إلى الاحتياط بمقتضى حكم العقل ، كما إذا رأى تعارض الأدلّة وعدم ثبوت الترجيح بينها ، فيما إذا سافر إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه ، بحيث لا مجال عنده إلاّ للاحتياط على ما هو مقتضى حكم العقل في موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف ، وعدم دليل على جواز الأخذ بأحد الطرفين أو الأطراف ولو على سبيل التخيير ، فالظاهر عدم جواز الرجوع حينئذ إلى الغير الذي تكون فتواه تعيّن أحدهما ، أو أحدها ، أو التخيير .

وذلك لأنّ مستند رأي غير الأعلم حينئذ يكون باطلا بنظر الأعلم مخدوشاً عنده ، غير قابل للاستناد إليه والحكم على طبقه ، وهذا أمرٌ يكون للأعلم فيه النظر والرأي ، حيث إ نّه يرى ذلك ، فلا مجال حينئذ للحكم بجواز الرجوع إلى غيره .

وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات الوجوبيّة المطلقة للأعلم ليس بتمام على إطلاقه ، بل إنّما يجوز ذلك في خصوص ما إذا كان منشأ الاحتياط الوجوبي عنده عدم تماميّة الاستنباط عنده وعدم كماله لديه ، لا ما إذا كان المنشأ عدم تماميّة الأدلّة أيضاً .

اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ عدم تماميّة الدليل عند الأعلم لا يوجب بطلان الحكم وفتوى الغير عنده ; ضرورة أنّه مع ثبوت البطلان لا يبقى مجال للاحتياط ، بل يوجب عدم صلاحيّته للاستناد ، مع احتمال كون الحكم الواقعي مطابقاً لمدلوله ،

(الصفحة 186)

وعليه : فلا وجه لما ذكر من ثبوت الرأي للأعلم ; فإنّه لا رأي له أصلا ، بل يمضي على طبق الاحتمال ، ويجري على ما هو مقتضى حكم العقل من الاحتياط .

وبعبارة واضحة : ما يجري فيه التقليد إنّما هو النظر والرأي بالإضافة إلى الحكم الإلهي ، والمفروض عدم ثبوته بالنسبة إلى الأعلم ، وعدم صلاحيّة الدليل للاستناد لا يصيّره ذا فتوى وصاحب النظر والرأي فيما يجري فيه التقليد ; لِما ذكرنا من أنّ بطلان الاستناد لا يوجب بطلان الحكم والفتوى ، وإلاّ لا يبقى مجال للاحتياط ، وعليه : فيبقى ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات المطلقة على إطلاقه ، ولا يتحقّق فرق بين الموارد أصلا .

ثمّ إنّه لا خفاء فيما إذا جاز الرجوع إلى الغير في وجوب رعاية الأعلم فالأعلم ; لعين الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم ، كما هو ظاهر .

(الصفحة 187)

[وجوب العدول إلى مجتهد آخر في موارد]

مسألة12: إذا قلّد من ليس له أهليّة الفتوى ، ثمّ التفت وجب عليه العدول. وكذا إذا قلّد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم على الأحوط. وكذا إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم منه على الأحوط في المسائل التي يعلم تفصيلا مخالفتهما فيها في الفرضين 1.

1ـ أمّا وجوب العدول في الفرض الأوّل ، فلانكشاف عدم الأهليّة للفتوى ، وعدم كون تقليده تقليداً صحيحاً وإن كان معذوراً لو استند في تقليده إلى طريق عقليّ أو شرعيّ، كالعلم أو قيام البيّنة، ولكنّه ليس بعدول واقعاً; لعدم صحّة تقليده بوجه.

وأمّا وجوب العدول إلى الأعلم بنحو الاحتياط اللزومي في الفرض الثاني ، فهو مبنيّ على عدم الجزم بلزوم تقليد الأعلم ، وكون تعيّنه من باب الاحتياط ، كما هو مختار الماتن ـ دام ظلّه ـ فيما تقدّم(1) ، ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ المختار تعيّن تقليد الأعلم بنحو الجزم والفتوى ، وعليه : فيتعيّن العدول ـ : أ نّك عرفت(2) أنّ لازم مختاره في مسألة تقليد الأعلم ، وفي مسألة العدول هو جواز العدول لا وجوبه ; لأنّ كلتا المسألتين مبنيّتان عنده على أصالة التعيين العقليّة ، ولا مرجّح لأحديهما على الأُخرى ، فيتخيّر بينهما .

ومنه يظهر الكلام في الفرض الثالث ، ويختصّ هذا الفرض بجريان استصحاب حجّية فتوى المجتهد الأوّل ، وهو يمنع عن حكم العقل بأصالة التعيين . نعم ، لا مجال


(1، 2) في ص 116 مسألة 4 و 138 مسألة 5 .
(الصفحة 188)

للاستصحاب على المختار من قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم .

ثمّ إنّ تخصيص المسائل التي يجب العدول فيها احتياطاً ، بخصوص ما علم تفصيلا مخالفة المجتهدين فيه ، مبنيّ على مختاره ـ دام ظله ـ من اختصاص تعيّن الرجوع إلى الأعلم بصورة العلم بالمخالفة . وأمّا بناءً على المختار لا يبقى فرق بينها وبين صورة الشك فيها ، فيجب العدول في هذه الصورة أيضاً .

(الصفحة 189)

[جواز تقليد الميّت ابتداءً وبقاءً وعدمه]

مسألة13: لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً. نعم، يجوز البقاء على تقليده بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل مطلقاً، ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر، ويجوز الرجوع إلى الحيّ الأعلم ، والرجوع أحوط، ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط، ولا إلى حيّ آخر كذلك إلاّ إلى أعلم منه; فإنّه يجب على الأحوط، ويعتبر أن يكون البقاء بتقليد الحيّ، فلو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك كان كمن عمل من غير تقليد 1.

1 ـ قد وقع الاختلاف بينهم في جواز تقليد الميّت وعدمه ، وبعبارة اُخرى : في اشتراط الحياة في المفتي ، ومن يرجع إليه ويستند على آرائه ونظراته في مقام العمل ، والأقوال بينهم بحسب بادئ النظر خمسة :

الأوّل : ما هو المعروف بين أصحابنا الإماميّة من اشتراط الحياة في المفتي مطلقاً ، وعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ولا استدامة(1) .

الثاني : ما هو خيرة الأخباريّين من أصحابنا من عدم الاشتراط مطلقاً ، وأنّه يجوز تقليد الميّت كذلك(2) ، كما هو المنسوب إلى العامّة ، بل المجمع عليه بينهم ، حيث إنّهم يقلّدون أشخاصاً معيّنين من أموات علمائهم (3)، وحكي عن المحقّق القمّي(قدس سره) الموافقة للأخباريّين في موضعين من جامع الشتات ، حيث إنّه سئل في أحدهما عن


(1) الفصول الغرويّة : 419 ، مطارح الأنظار : 2 / 560 و 620 ، مفاتيح الاُصول : 618 . (2) الفوائد المدنيّة : 149، مفاتيح الشرائع: 2 / 52 ، وقد حكي عنهما في مطارح الأنظار : 2 / 563 . (3) المستصفى من علم الاُصول : 2 / 407، البحر المحيط: 8 / 384 .
(الصفحة 190)

جواز الرجوع إلى فتوى ابن أبي عقيل ، فأجاب بما حاصله : أ نّ الأقوى عندنا جواز تقليد الميّت بحسب الابتداء ، فلا مانع من الرجوع إليه . وقال في ثانيهما : إنّ الأحواط الرجوع إلى الحيّ(1) .

والظاهر أنّ الاحتياط في هذا الكلام هو الاحتياط المستحب دون الواجب .

الثالث : التفصيل بين البدوي والاستمراري ، كما اختاره الماتن ـ دام ظلّه ـ وكثير من متأخّري المتأخِّرين(2) ، وحكاه شارح الوافية عن بعض معاصريه(3) .

الرابع : التفصيل بين وجود المجتهد الحيّ ، فلا يجوز تقليد الميّت مطلقاً ، وبين عدمه فيجوز ، حكاه فخر المحقّقين عن والده العلاّمة(قدس سرهما)(4) ، وحكي عن الأردبيلي(5) وبعض آخر(6) أيضاً .

الخامس : ما ذهب إليه الفاضل التوني ـ على ما حكي عنه ـ من الجواز فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله ، أ نّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ، كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ، وعدم الجواز فيما إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات، واللوازم غير الجليّة للملزومات ، وفي هذه الصورة لا يجوز تقليده ولو كان حيّاً(7) .

والظاهر أنّ هذا ليس تفصيلا في المسألة وما هو محلّ النزاع ; فإنّ مورد البحث


(1) راجع جامع الشتات : 4 / 469 و477 . (2) الفصول الغرويّة : 422 ، مفاتيح الاُصول : 624 ، نهاية الأفكار : 4 ، القسم الثاني : 258 ـ 260 . (3) حكى عنه في مطارح الأنظار  2: 620 . (4) إرشاد المسترشدين وهداية الطالبين في اُصول الفقه (مخطوط) ورقة 183 على ما في هامش حاشية الشرائع للمحقّق الكركي ، المطبوع ضمن حياته وآثاره : 11/115 . (5) مجمع الفائدة والبرهان : 7 / 547. (6) منية المريد : 167 ، باختصار ، معالم الدين : 248 . (7) الوافية : 307 .
(الصفحة 191)

يرجع إلى اشتراط الحياة فيمن يجوز تقليده من حيث هو ، وهذا تفصيل في أصل التقليد ، وأنّ من يجوز الرجوع إليه عبارة عن خصوص مثل الصدوقين ، فهذا لا يرتبط بالمقام ، كما أنّ التفصيل المحكي عن العلاّمة أيضاً لا يكون كذلك ، فإنّ محلّ البحث إنّما هو خصوص صورة وجود المجتهد الحيّ ، ودوران الأمر بين الرجوع إليه وبين الرجوع إلى المجتهد الميّت ، فغير هذا الفرض خارج عن المسألة .

والظاهر أنّ منشأ تجويز المحقّق القمّي(قدس سره) تقليد الميّت ابتداءً ; إنّما هو ذهابه إلى انسداد باب العلم بالأحكام ، والقول بحّجية الظنّ المطلق لأجله ، نظراً إلى قوله باختصاص حجّية الظواهر بخصوص من قصد إفهامه ; فإنّ دعوى الانسداد إنّما هي تبتنى على ذلك ، أو على القول بعدم حجيّة خبر الواحد مطلقاً ، فعلى تقديره يكون ظنّ المكلّف حجّة من أيّ طريق حصل ، ومن أيّ سبب تحقّق ، فإذا حصل الظنّ من فتوى المجتهد الميّت ، خصوصاً إذا كان أعلم ، يكون الظنّ الحاصل من قوله حجّة ، ويجوز ترتيب الأثر عليه .

ويرد عليه ـ مضافاً إلى منع المبنى وعدم تماميّة مقدّمات دليل الانسداد ، نظراً إلى حجّية خبر الواحد بمقدار يفي بمعظم الفقه ، وعدم اختصاص حجّية الظواهر بخصوص المقصودين بالإفهام ، كما حقّقنا كلا الأمرين في الأُصول(1) ـ : منع البناء ; فإنّ فرض الانسداد وتماميّة مقدّمات ذلك الدليل لا يفيد إلاّ حجّية الظنّ الحاصل للمجتهد من أيّ طريق حصل ; فإنّ الفرق بينه وبين الظنّ الخاصّ إنّما هو من جهة دخالة السبب الخاصّ في الثاني ، وعدم دخالته في الأوّل .

فكما أنّ حجّية الظنّ الخاصّ مقصورة على المجتهد ، ولا اعتبار له بالإضافة إلى


(1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 247 وما بعده، و ص 365 وما بعده .
(الصفحة 192)

كلّ مكلّف ، فكذلك اعتبار الظنّ المطلق ، والاكتفاء به إنّما هو بالإضافة إلى خصوص المجتهد . غاية الأمر أ نّه يفتي على طبق ظنّه ، فيعمل المقلّد على طبق رأيه وظنّه ، فالدليل ـ على تقدير التماميّة ـ لا جدوى فيه بالنسبة إلى المقلّد ، ومَن بصدد التقليد وتطبيق العمل على رأي الغير وفتواه .

وممّا ذكرنا انقدح الخلل فيما في تقريرات بعض الأعلام ; من أنّ عدم حجّية الظنّ الحاصل للعامّي إنّما هو لأجل عدم حصول الظنّ له بالحكم الواقعي من فتوى الميّت عند مخالفة الأحياء ، بل الأموات أيضاً معه في المسألة ، خصوصاً إذا كان الأحياء بأجمعهم أو بعضهم أعلم من الميّت ، والاختلاف في الفتوى بين العلماء ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، ومعه لا يحصل للعامّي ظنّ بأنّ ما أفتى به الميّت مطابق للواقع(1) .

وذلك أي وجه الخلل ما عرفت من أ نّه على فرض حصول الظنّ له لا دليل على حجّيته أصلا .

وأمّا الأخباريّون ، فالظاهر أنّ منشأ مخالفتهم وترخيصهم تقليد الميّت ابتداءً ، إنّما هو إنكار مشروعيّة التقليد بالمعنى المصطلح ، وأنّ الرجوع إلى المجتهد إنّما هو من باب الرجوع إلى الراوي . غاية الأمر أنّ المجتهد ينقل الرواية بالمعنى ، ومن المعلوم عدم اعتبار الحياة في الراوي بوجه .

قال السيّد الجزائري(قدس سره)  : إنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ، ومن فوائدها تقريب معاني الأخبار إلى أفهام الناس ; لأنّ فيها العامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن إلى غير ذلك ، وليس يقدر كلّ أحد على بيان هذه الأُمور من مفادها ، فالمجتهدون بذلوا


(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 97 .
(الصفحة 193)

جهدهم في بيان ما يحتاج إلى البيان وترتيبه على أحسن النظام ، والاختلاف بينهم مستند إلى اختلاف الأخبار ، أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة ، حتّى لو نقلت تلك الأخبار لكانت موجبة للاختلاف ، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدّثين ، مع أنّ عملهم مقصور على الأخبار المنقولة .

وبالجملة : فلا فرق بين التصنيف في الفقه والتأليف في الحديث(1) .

ويرد عليهم أيضاً ـ مضافاً إلى منع المبنى ; لأنّ الرجوع إلى المجتهد ليس من باب الرجوع إلى راوي الحديث وناقل الخبر ، بل التقليد الاصطلاحي الذي استفيد جوازه من الأدلّة ، مرجعه إلى تطبيق العمل على رأي العالم ونظره ; من جهة أ نّه أهل الخبرة والاطّلاع والنظر والاجتهاد ، ولذا يعتبر فيه الفقاهة والبلوغ إلى مرتبة النظر ، ولو كان الرجوع إليه من جهة كونه راوي الحديث ، لما كان يعتبر فيه الفقاهة ; لعدم مدخليّتها في الراوي بما هو راو أصلا ـ منع البناء ; فإنّه على تقدير صحّة المبنى ، لا مجال لجواز الرجوع إلى الميّت بعد ثبوت الاختلاف بين العلماء أحيائهم وأمواتهم ، خصوصاً إذا كان الترجيح مع غير من يريد الرجوع إليه من الأموات ; فإنّه بناءً على ذلك  تصير آراء المجتهدين بمنزلة الروايات المختلفة المتعارضة ، فلابدّ من الأخذ بذي الترجيح منها ، أو التخيير لو قام دليل عليه في مثل هذه الصورة أيضاً ، وإلاّ فمقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين سقوطهما عن الحجّية ، كما هو المحقّق في محلّه .

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في جواز تقليد الميّت ابتداءً وعدمه ، وبعبارة أُخرى : في اشتراط


(1) منبع الحياة : 31 .
(الصفحة 194)

الحياة في المفتي ابتداءً وعدمه ، وقبل الخوض في ذكر أدلّة الطرفين ، وبيان ما استدلّ به أصحاب المذهبين ، وتحقيق ما هو الحقّ في البين ، نقول :

لا خفاء في أنّ مقتضى الأصل ـ على تقدير الشك ووصول النوبة إليه ـ عدم حجّية فتوى الميّت بحسب الابتداء ; لأنّ مرجع الشك في الاشتراط إلى الشك في أصل الحجّية بالإضافة إليه ، ومقتضى الأصل الأوّلي في كلّ أمارة مشكوكة الحجّية عدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها .

ولذا اشتهر أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها ، فما يحتاج إلى الدليل إنّما هو القول بعدم اشتراط الحياة وسعة دائرة الحجّية المجعولة ، وشمولها لفتوى المجتهد الميّت أيضاً ، ومع ذلك فالمناسب بيان أدلّة كلا الطرفين ، فنقول :

أمّا ما استدلّ به على الاشتراط وعدم جواز تقليد الميّت فوجوه :

الأوّل : دعوى الإجماع على ذلك عن جملة من أعاظم الفقهاء وأكابر العلماء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولا بأس بنقل جملة من الكلمات المشتملة على هذه الدعوى . قال المحقّق الثاني في محكيّ شرح الألفيّة : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ ، بلا خلاف بين علماء الإماميّة(1) .

وقال الشهيد الثاني في محكيّ المسالك : قد صرّح الأصحاب في هذا الباب ـ من كتبهم المختصرة والمطوّلة ـ وفي غيره ، باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور(2) .


(1) شرح الألفيّة ، المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 . (2) مسالك الأفهام : 3 / 109 .
(الصفحة 195)

وقال أيضاً في محكيّ الرسالة ـ المعمولة في المسألة ـ : ونحن بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم، ماعلمنا بأحد من أصحابنا ـ ممّن يعتبر قوله ، ويعوّل على فتواه ـ خالف في ذلك، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به ، على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع.

ثمّ قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ; فإنّهم ذكروا في كتبهم الأُصوليّة والفقهيّة قاطعين بما ذكرناه(1) .

وقال صاحب المعالم في محكيّها : العمل بفتاوي الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت ، مع وجود المجتهد الحيّ(2) .

وعن الوحيد البهبهاني في فوائده : أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لايكون قوله حجّة(3) . وقال في موضع آخر : وربما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة(4) .

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي : لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ووجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له(5) ، وعلى هذا انعقد الإجماع من الإماميّة ، وبه نطقت مصنّفاتهم الأُصوليّة ، لا أعلم فيه مخالفاً منهم .

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مخالفة المحقّق القمّي(رحمه الله) إنّما هي مبتنية على مسلكه ، ومتفرّعة على مبناه من الانسداد الذي لا نقول به ، وكذا مخالفة الأخباريّين مبتنية


(1) رسائل الشهيد الثاني : 1 / 44 . (2) معالم الدين : 248 . (3 ، 4) الفوائد الحائريّة للبهبهاني : 260 و 397 و 500 . (5) الأقطاب الفقهيّة : 163 .
(الصفحة 196)

على إنكارهم للتقليد الاصطلاحي ، وعلى تقدير خلاف ذلك لا يضرّ بدعوى الإجماع ، واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) من طريق الحدس ، كما هو مبنى المتأخّرين في باب الإجماع .

وقد أُورد على هذا الدليل بأنّ الإجماع المدّعى على تقدير تحقّقه ليس إجماعاً تعبّديّاً موجباً لاستكشاف قول المعصوم(عليه السلام) به ; لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أصالة الاشتغال ، أو ظهور الأدلّة في اشتراط الحياة فيمن يجوز تقليده ، أو غير ذلك ، ومع هذا الاحتمال ينسدّ باب الحدس واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) ، الذي هو الملاك في الحجّية عندنا ; ضرورة عدم ثبوت وصف الحجّية للإجماع بما هو إجماع(1) ، كما قد حقّق في محلّه .

والجواب عن هذا الإيراد : أ نّه وإن كان احتمال الاستناد إلى الدليل ، أو الأصل مانعاً عن ثبوت وصف الحجّية للإجماع ، إلاّ أ نّه لا مجال لهذا الاحتمال في المقام ، خصوصاً بعد استقرار رأي المخالفين ، واستمرار عملهم على تقليد الميّت ، والرجوع إلى أشخاص معيّنين من الأموات ، ففي الحقيقة يكون هذا من خصائص الشيعة وامتيازات الإماميّة .

والعجب من هذا المورد : أ نّه كيف يناقش في تحقّق الإجماع واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) ، مع تصريحه فيما يأتي من كلامه(2) ; بأنّ ضرورة مذهب الشيعة تقتضي عدم الأخذ بفتوى المجتهد الميّت ولو فيما إذا كان أعلم ; فإنّه كيف تجتمع دعوى الضرورة والبداهة مع المناقشة في دعوى الإجماع .


(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 104 . (2) في ص199 .
(الصفحة 197)

الثاني : اختصاص الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، وجواز الرجوع إليه والأخذ بها ، بخصوص المجتهد المتّصف بوصف الحياة ، وعدم شمولها لغير الواجد لهذا الوصف .

أمّا قوله تعالى في آية النفر : {لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}(1) فلظهوره في أنّ الإنذار ـ الذي يتعقّبه الحذر ـ إنّما هو الإنذار الحاصل من المنذر الحيّ ; لعدم معنى لإنذار الميّت ، كما أ نّه لا معنى لاتّصافه بالفقاهة فعلا ، ويُؤيّده تعليق وجوب الإنذار على الرجوع الظاهر في الحياة .

وكذا قوله تعالى : {فَسْـَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2) ظاهر فيمن يكون متّصفاً بهذا الوصف فعلا ، خصوصاً بعد إيجاب السؤال ; فإنّه وإن لم يكن للسؤال مدخليّة في حجّية قول أهل الذكر ونظره ، إلاّ أنّ المفروض في الآية إمكان الرجوع إليه والسؤال عنه ، وهذا الوصف لا يتحقّق في الميّت بوجه .

وكذا الروايات الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، أعمّ ممّا يدلّ عليها بنحو العموم ، كقوله(عليه السلام) ـ فيما حكي عن تفسير العسكري(عليه السلام) ـ : فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه إلخ(3) . في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين ; فإنّ ظهورها في الواجد للأوصاف المذكورة فيها فعلا ، خصوصاً الطائفة الثانية منها واضح لا ينبغي الارتياب فيه .

وكذا السيرة العقلائية ـ التي هي العمدة في أدلّة حجّية فتوى الفقيه كما


(1) سورة التوبة : 9 / 122 . (2) سورة الأنبياء : 21 / 7 . (3) تقدّم في ص83 .
(الصفحة 198)

عرفت (1) ـ لا تشمل فتوى المجتهد الميّت .

توضيحه : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ومحصّله : أ نّه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء ، وحكم العقل بين فتوى الحيّ والميّت ; ضرورة طريقيّة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما .

لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقلي بذلك لا يكفي في جواز العمل ، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحيّ ، وتعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائه ، وإلاّ فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت ـ وإن لم يكن يتفاوت في عالم ارتكازهم مع الحيّ أصلا ـ لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاء الشارع .

والحاصل : أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً ، أو استكشافه من طريق عدم الردع ، وليس في المقام ما يدلّ عليه لفظاً ، واستكشاف ذلك من طريق عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم ، ومع عدمه لا معنى لردع الشارع ، ولا يكون سكوته كاشفاً عن رضاه .

ومن الواضح عدم تعارف الأخذ عن الميّت في الصدر الأوّل ; لعدم كون تدوين الكتب الفتوائيّة متعارفاً حتّى يقال : إنّهم كانوا يراجعون الكتب ; فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث ، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بناؤهم على تدوين كتب نحو متون الأخبار ، ككتب الصدوقين ، ومن في


(1) في ص68 ـ 70 ، 117 ـ 119 .
(الصفحة 199)

طبقتهما ، أو قريب العصر بهما ، ثمّ بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّة والاستدلاليّة ، إلى أن انتهى تدوين الفتاوى خالية عن الدليل بنحو الرسالة العمليّة ، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل ، ولا متعارفاً أصلا(1) .

وفي تقريرات بعض الأعلام ـ في مقام عدم جواز الاستدلال بالسيرة ـ ذكر أ نّ لازمه حصر المجتهد المقلَّد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها ; لأنّ أعلم علمائنا من الأموات والأحياء شخص واحد لا محالة ، فإذا فرضنا أ نّه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائيّة ، وذلك للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا ، ومع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فقط ، من دون فرق في ذلك بين عصر وعصر ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به ; لأ نّه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة ، ولا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئـمّة ثلاثة عشر ، وبهذا تكون السيرة العقلائيّة مردوعة في الشريعة(2) .

والجواب عن هذا الدليل :

أمّا عن الآيات:فلأنّها لا تنطبق على المدّعى ; ضرورة أنّ المدّعى عبارة عن اشتراط الحياة في المفتي ، ومن يجوز الرجوع إليه ، ومقتضاه عدم جواز الرجوع إلى المجتهد الميّت ، مع أنّها ـ أي الآيات على تقدير دلالتها على جواز التقليد ، وعدم المناقشة فيها بما مرّ مفصّلا(3) ـ تكون غاية مفادها حجّية فتوى المجتهد الحيّ ، ولا دلالة فيها على اشتراط الحياة بنحو يفيد عدم حجّية فتوى الميّت بوجه ، فلابدّ


(1) الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني(قدس سره) : 132 ـ 134 . (2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 107 . (3) في ص71 ـ 82 .
(الصفحة 200)

فيها من الرجوع إلى دليل ، أو أصل جار في مورد الشك .

وبالجملة : الآيات ساكتة عن حجّية فتوى غير الحيّ ، لا نافية لها ، كما هو المدّعى ، فلا تنطبق عليه .

وأمّا عن الروايات : فما كان منها يدلّ بنحو العموم ، فهو وإن كان ظاهراً في بيان الاشتراط ، وعدم جواز الرجوع إلى غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها ، إلاّ أنّها مخدوشة من حيث السند كما عرفت(1) . وما كان منها يدلّ على الإرجاع إلى أشخاص معيّنين يجري فيها ما ذكرنا ـ في الآيات ـ من عدم تعرّضها لفتوى غير الحيّ ، ولا دلالة فيها على نفي الحجّية بوجه ، بل لابدّ من الرجوع إلى دليل آخر .

وأمّا السيرة : فيرد على التقريب الذي أفاده الاُستاذ دام ظلّه ـ مضافاً إلى أنّ حكم العقل لا يحتاج إلى إمضاء الشارع ، وإلاّ ينسدّ باب التقليد على العامّي ; لأنّ الحامل له على التقليد ـ كما عرفت(2) ـ ليس إلاّ إدراك عقله وحكمه برجوع الجاهل إلى العالم ، فلو كان حكم العقل أيضاً مفتقراً إلى الإمضاء من الشارع لكان باب التقليد منسدّاً عليه ; لعدم إطلاع العامي على الإمضاء ، كما هو واضح ـ  :

أنّه إن أراد أنّ السيرة العقلائيّة غير جارية في مقام العمل على الرجوع إلى آراء الأموات ، وترتيب الأثر عليها ، وجعلها طريقاً لرفع الجهل ، فمن الواضح خلافه ; لما نراه بالوجدان من مراجعتهم إلى كتب الأقدمين في الفنون المختلفة في جميع الأعصار ، وأخذ الآراء منها والاستفادة وترتيب الأثر عليها ، بحيث لا يفرّقون بينها وبين الكتب المصنّفة في حياتهم أصلا ، فالسيرة العملية العقلائيّة جارية في كلا


(1) في ص92 ـ 115 . (2) في ص68 ـ 70 .
<<التالي الفهرس السابق>>