في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 121

وربّماى وجه هذا القول أيضاً بما يمكن أن يورد على القائلين باعتبار الامتزاج وعدم كفاية مجرّد الاتصال، وهو أنّ المرادب الامتزاج هل هو امتزاج الكلّ بالماء العاصم أو امتزاج بعضه؟ والأوّل محال لاستلزامه تداخل أحد الجسمين في الآخر، وعلى تقدير إمكانه فالاطّلاع على هذا النحو من الامتزاج ممتنع عادة، والثاني تحكم صرف لو اُريد به أزيد من الامتزاج الحاصل من الاتصال، ولو اُريد به غيره فهو المطلوب.

وفيه انّه لم يرد لفظ «الامتزاج» وعنوانه في نص أو معقد إجماع حتى يورد عليه بما ذكر، بل قد عرفت انّ العمدة في هذا الباب هي صحيحة ابن بزيع المتقدّمة، والمستفاد منها ـ بعد دلالتها على اعتبار الامتزاج كما ظهر سابقاً ـ هو الامتزاج بحيث يوجب زوال التغيّر ولو كان متغيّراً ضعيف لأنّ مقتضى إطلاقها ـ كما تقدّم آنفاً ـ انّه لو حصل تغيّر ضعيف للماء ولو كان في غاية الضعف، وزال بسبب امتزاجه بالماء الطاهر العاصم يكفي مجرّد زواله في ارتفاع نجاسة جميع الماء، فالمقدار المعتبر من الامتزاج هو ما يكون مؤثِّراً في زوال التغيّر، ولو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف، ويؤيّده انّ ما ذكرناه هو المجمع عليه بين الأصحاب بمعنى عدم وجود القائل بأزيد من هذا المقدار ما عدا بعض المتأخّرين حيث احتمل بل استظهر اعتبار الاستهلاك وقد عرفت انّ مرجعه إلى عدم كون الماء قابلاً للتطهير وانّه والأعيان النجسة في صف واحد كما هو غير خفي.

ولابد في إحراز حصول الطهارة للماء القليل المتنجّس من إحراز تحقّق الامتزاج بهذا المقدار أي بالمقدار الذي لو كان متغيّراً لأوجب زواله ومع الشكّ في الحصول يكون مقتضى الاستصحاب بقاء النجاسة وعدم تحقّق الطهارة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا عدم اعتبار أن يكون المطهر عالياً كما ربّما توهمه عبارة

الصفحة 122

الشرائع: «ويطهر بإلقاء كر عليه فما زاد دفعة» لما عرفت من أنّ المستند في هذا الباب هي الصحيحة وموردها ما إذا كان المطهر سافلاً كما أنّ قوله(عليه السلام) : «ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً» ينفي اعتبار ذلك.

وامّا اعتبار الدفعة المصرّح به في العبارة فمنشأ احتماله امّا توقّف حصول الامتزاج المعتبر في التطهير عليه، وامّا بقاء الماء على العاصمية المعتبرة فيه قطعاً، وامّا احتمال المدخلية تعبّداً زائداً على اعتبار الامتزاج والعاصمية.

وينفي أصل اعتبارها انّ عمدة المستند هي الصحيحة ومن المعلوم انّ الماء الخارج من المادّة في موردها الذي يوجب زوال التغيّر وحصول الطهارة إنّما يكون خارجاً منها تدريجاً لا دفعة، نعم لو لم يكن هنا دليل في البين لكان مقتضى استصحاب النجاسة إلى أن يحصل العلم بالطهارة لزوم رعاية كلّ ما تحتمل مدخليته في ذلك ولكن مع وجود الدليل لا يبقى موقع لمثل الاستصحاب.

نعم هنا إشكال من جهة تعميم حكم الصحيحة لمثل المقام من المياه الخالية عن المادّة لأنّه متوقّف على إلغاء الخصوصية من التعليل الوارد فيها وهو قوله(عليه السلام): «لأنّ له مادّة» بتقريب انّ الخصوصية التي بها تمتاز ذات المادّة عن سائر المياه المعتصمة هي كون مائها واقعاً في عروق الأرض نابعاً من تحتها ومن الظاهر أنّه لا خصوصية لهذه الخصوصية، ولا مدخلية لهذه الجهة بنظر العرف أصلاً، فالجهة المشتركة بينها وبين تلك المياه ـ وهي الاعتصام ـ هي المعتبرة في رفع النجاسة وهذا واضح لمن راجع أهل العرف.

وإن أبيت إلاّ عن اختصاص الحكم بالمياه التي لها مادّة كالبئر والجاري فاللاّزم الحكم باعتبار الدفعة بل كلّ ما تحتمل مدخليته في رفع النجاسة لو لم يكن في البين ما ينفي الاحتمال، نعم لو استند لعدم اعتبار هذا القيد إلى ما ورد في ماء الحمّام لكان

الصفحة 123

ذلك مبنياً على دعوى عدم الخصوصية لماء الحمّام وعمومية الحكم الوارد فيه وقد عرفت ما فيها.

(في تتميم الماء القليل المتنجّس كراً)

قد وقع الاختلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ في أنّه هل يطهر الماء القليل المتنجس بإتمامه كراً أم لا؟ على أقوال ثلاثة:

أحدها وهو المشهور سيّما بين المتأخّرين عدم ارتفاع النجاسة بالاتمام كراً مطلقاً  ـ سواء كان التتميم بالماء الطاهر أو النجس ـ .

ثانيها: ما ذهب إليه الشيخ والسيّد (قدس سرهما) من التفصيل بين ما إذا كان التتميم بالماء الطاهر فيرتفع وبين ما إذا كان بغيره فلا يرتفع.

ثالثها: ما ذهب إليه ابن إدريس من كفاية التتميم كراً مطلقاً سواء كان بالطاهر أو بالمتنجس الآخر.

وعن السيد المرتضى(قدس سره) انّه استدلّ على مذهبه بوجهين:

الأوّل: انّ الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر تدلّ على أنّ الكرية لا تلائم مع النجاسة ولا تقبلها ـ لا ابتداءً ولا استدامة ـ وأنّ بلوغ الماء إلى ذلك المقدار يوجب استهلاك النجاسة الطارئة عليه وانعدامها فتستوي ملاقاتها قبل الكثرة وبعدها.

وتوضيح كلامه بتقريب منّا انّ المستفاد من أدلّة اعتصام الكر وعدم انفعاله انّ المناط في ذلك هي الكثرة المانعة عن سراية النجاسة الواقعة في بعض أطراف الماء إلى غيره من سائر الأطراف، فكما أنّه لو وقع بعض القذارات العرفية في بعض أطراف الماء يكون الاستقذار من غيره من الأطراف دائراً مدار تحقّق السراية بنظر العرف كذلك بلوغ الماء حدّ الكر يصير مانعاً شرعاً عن تأثير النجاسة الملاقية إلى

الصفحة 124

جميع أجزاء الماء.

وبالجملة فالمناط المستفاد من الدليل هي الكثرة، ولا فرق فيها من جهة الاعتصام بين ما إذا تحقّقت الملاقاة قبل البلوغ أو بعده لتحقّق المناط في كلتا الصورتين، كما لو فرض انّ مثقالاً من السمّ يؤثر في الماء الذي كان أقلّ من خمسين منّاً ولا يؤثِّر في الماء البالغ خمسين أو أكثر فإنّه لا فرق في عدم تأثيره في الصورة الثانية بين ما إذا كان البلوغ إلى ذلك المقدار قبل وقوع السم فيه أو وقع السم أوّلاً ثمّ زيدَ على الماء حتى بلغ خمسين كما لا يخفى.

ويرد عليه انّ اللاّزم ـ بناءً على هذا ـ ملاحظة النسبة بين الماء وبين النجاسة الملاقية معه بمعنى انّه لو كانت قطرة من البول ـ مثلاً ـ مؤثِّرة في الماء الذي ينقص من الكر بقليل فالقطرتان منه تؤثر فيما يقارب الكرين، كما أنّه لو لم يؤثر منّ مِنَ البول في الماء البالغ حدّ الكر فاللاّزم عدم تأثير النصف منه لو نقص الماء عن الكر بقليل. وبالجملة لو بنى على استفادة هذا المناط من أدلّة الاعتصام في الكر يلزم مثل ما ذكر من التوالي الفاسدة.

والحق أن يقال: إنّ المناط في ذلك غير معلوم، والانفعال وضدّه لا يبتنيان على ما ذكر، وعليه لا يجوز رفع اليد عن ظواهر أدلّة الاعتصام الدالّة على أنّ الكرية دافعة للنجاسة ولا دلالة لها على الرافعية بوجه.

الثاني: انّ العلماء أجمعوا على أنّ الكر الذي فيه شيء من الأعيان النجسة طاهر، مع أنّه يحتمل أن تكون النجاسة طارئة عليه قبل بلوغه إلى حدّ الكر فلولا كفاية بلوغه كراً في الحكم بطهارته مطلقاً لما أمكن الحكم بها في الماء المذكور.

وفيه انّ محلّ الكلام في المقام في الطهارة الواقعية المستفادة من الأدلّة الاجتهادية والمسألة المذكورة في كلامه ذات شقوق وصور وفي أكثرها وإن كان الحكم هي

الصفحة 125

الطهارة إلاّ أنّ الطهارة فيها طهارة ظاهرية ثابتة من ناحية الاستصحاب أو قاعدة الطهارة فلا ارتباط لها بالمقام أصلاً.

ويمكن الاستدلال له بدليل ثالث وهو مركّب من أمرين:

أحدهما: دعوى قصور الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل عن شمول الماء المتمّم ـ بالكسر ـ لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس وهو غير متحقّق في المقام لأنّ الماء المذكور حال القلّة لم يكن ملاقياً للنجس، وحال الملاقاة لا يكون متّصفاً بوصف القلّة، إذ بالملاقاة يتبدّل الموضوع ويندرج في عنوان الكر فأدلّة الانفعال قاصرة عن الشمول لمثل المقام.

ثانيهما: صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر ـ المتقدّمة ـ بناءً على ما احتملنا في معناها ونفينا البُعد عنه من أنّ المراد بالتعليل الوارد فيها وهو قوله(عليه السلام): «لأنّه له مادّة» ليس خصوص ما له مادّة من المياه حتى يختص الحكم المذكور فيها بالبئر والجاري وأشباههما، بل المراد هو التقوى بالماء المعتصم الخارج من عروق الأرض لأنّ الخصوصية التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة وهي كونها في ظرف مخصوص ونابعة من تحت الأرض لا مدخلية لها في الحكم المذكور فيها وـ حينئذ ـ فيصير مفاد الرواية انّه لو امتزج الماء الطاهر المعتصم بالماء المتنجس بحيث زال تغيّره ـ ولو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف لم يكن معه حاجة إلى خروج الماء من المادّة كثيراً ـ تعرض له الطهارة وتزول عنه النجاسة.

فإذا ثبت قصور أدلّة الانفعال عن شمول مثل المقام والمفروض انّه لا دليل على النجاسة غيرها فمقتضى قاعدة الطهارة بل استصحابها كون الماء الطاهر المتمِّم ـ بالكسر ـ طاهراً بعد الملاقاة أيضاً وهو معنى اعتصامه وعدم تأثّره، ومقتضى عموم الصحيحة لكلّ ماء معتصم ـ كما عرفت تقريبه ـ انّ الماء المتمّم لكونه معتصماً

الصفحة 126

كما فرض يصير موجباً لطهارة الماء المتمَّم ـ بالفتح ـ لو امتزج معه بالمقدار المعتبر منه.

وما يقال: من أنّه لا وجه للقول بكون الماء المتمِّم ـ بالكسر ـ معتصماً بعد فرض كونه قليلاً إذ من الواضح تأثّره بالنجاسة وانفعاله منها كسائر المياه القليلة مدفوع بأنّ المراد بالاعتصام ليس عدم قابلية الماء للتأثّر من النجاسة أصلاً، كيف وقد عرفت انّ كلّ ما ينفعل بسبب التغيّر فالمراد منه هنا انّه يكون بحيث لا يقبل التأثير من الماء الذي اُريد تطهيره بهذا الماء فلا ينافي صلوحه للتأثير من ناحية النجاسات الاُخرى.

ويدفع هذا الدليل المنع عن قصور أدلّة انفعال الماء القليل عن الشمول لمثل المقام ممّا يتبدّل موضوع القلّة بالملاقاة ويندرج في موضوع الكر، وذلك لأنّ الموضوع للحكم بالنجاسة بسبب الملاقاة هو الماء القليل بمعنى أنّ الملاقاة بعد كونه قليلاً علّة لعروض النجاسة، كما أنّ الكر لو خرج عن الكرية بسبب الملاقاة مع النجس لا يخرج عن الطهارة لأنّ الموضوع هو الماء الكر الملاقي وهو متحقّق.

وبعبارة اُخرى: الملاقاة هنا علّة لتحقّق الكرية وترتّب الانفعال معاً والكرية مانعة عن تأثير النجاسة، فالحكم المترتّب على الكر ـ وهو عدم التأثّر ـ متأخّر عن الانفعال المترتّب على الملاقاة بمرتبة واحدة لكونه في رتبة موضوع الحكم بعدم الانفعال وهي الكرية.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ الملاقاة إنّما حصلت في حال القلّة وبمجرّدها يصير الماء معروضاً للحكم بالنجاسة، ولا يبقى معه مجال للحكم بعدم الانفعال المترتّب على الكرية المتأخّرة عن الملاقاة وهذا واضح لا ينبغي الارتياب فيه فهذا الدليل أيضاً غير صالح للاستدلال به.

الصفحة 127

وربّما يستدلّ له بدليل رابع ـ بعد عدم قصر الادعاء على خصوص الطهارة الواقعية التي هي ظاهر كلامه(قدس سره) بل الأعمّ منها ومن الطهارة الظاهرية ـ وهو الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد تعارض استصحاب نجاسة الماء المتمّم ـ بالفتح ـ واستصحاب طهارة الماء المتمِّم ـ بالكسر ـ نظراً إلى انعقاد الإجماع على عدم اختلاف ماء واحد ممتزج بعضه ببعض في الطهارة والنجاسة فإنّه بعد تعارض الاستصحابين تكون قاعدة الطهارة هي المحكمة في البين.

وأنت خبير بأنّه لا مجال للاستصحاب بعدما عرفت من أنّ أدلّة انفعال الماء القليل لا تقصر عن شمول مثل المقام ممّا يخرج الموضوع بالملاقاة عن حدّ القلّة ويندرج في موضوع الكر; لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس وهو متحقّق في المقام لأنّه لا شبهة في أنّ الملاقاة إنّما هي من صفات الماء في حال القلّة إذ المفروض أنّه بعد تحقّق الملاقاة يتحقّق موضوع الكرية، فالتلاقي وصف للمائين بلا إشكال، وـ حينئذ ـ فامّا أن يقال: إنّ التلاقي وقع مع الكر فيتوجّه عليه انّ المجموع متّصف بالكرية ـ على ما هو المفروض ـ ، ولا يعقل أن يلاقى بعض أجزاء الكر مع هذا الماء الموصوف بالكرية وهذا واضح جدّاً، وامّا أن يقال: بأنّ التلاقي وقع بين المائين الموصوفين بالقلّة فيلزم تحقّق موضوع تلك الأدلّة، إذ المفروض ملاقاة الماء القليل مع النجاسة وهو موضوع للحكم بالانفعال، فإذا لم تكن الأدلّة قاصرة عن شمول المقام فاللاّزم الحكم بنجاسة الماء بجميع أجزائه فلا يبقى مجال لاستصحاب الطهارة حتّى يعارضه استصحاب النجاسة ويرجع بعد التساقط إلى قاعدة الطهارة كما لا يخفى على اُولي الدراية.

وقد أجاب المحقّق الهمداني(قدس سره) عن هذا الدليل أيضاً بما حاصله تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة لأجل حكومته عليه، نظراً إلى أنّ من آثار بقاء

الصفحة 128

نجاسة الماء المتمّم تنجيس ملاقيه الذي هو الماء المتمِّم، وليس من آثار طهارة الثاني تطهير ملاقيه وهو الأوّل.

وأنت خبير بأنّه بعد الاعتراف بقصور أدلّة الانفعال عن شمول مثل المقام ممّا يخرج بالملاقاة عن موضوعها لا وجه للحكومة أصلاً إذ ليس ـ حينئذ ـ من آثار بقاء نجاسة الماء المتمم تنجيس ما لاقاه ممّا صار بسببه كرّاً إذ ليس الدليل على التنجيس إلاّ أدلّة الانفعال وقد اعترف ـ على ما هو المفروض ـ بعدم شمولها للمقام.

وبالجملة: لا دليل على منجسية الماء المتمم ـ بالفتح ـ بعد فرض القصور ولو كانت النجاسة متيقّنة فضلاً عمّا لو اُحرزت بالاستصحاب، فكما أنّه ليس من آثار بقاء طهارة الماء المتمم ـ بالكسر ـ تطهيره للماء المتنجس كذلك ليس من آثار بقاء نجاسة الأوّل تنجيس ملاقيه، ولولا الإجماع على عدم اختلاف ماء واحد في الحكم لكنّا نقول ببقاء كلّ من المائين على حاله من الطهارة والنجاسة كما أنّه في غير معقد الإجماع ـ وهي صورة الامتزاج التي هي إحدى الصورتين للمسألة ـ لابدّ وأن يقال باختلاف حكمهما على هذا القول إلاّ أن يدعى شمول الإجماع لكلتا الصورتين بدعوى كون الاتصال مساوقاً للوحدة عرفاً كما أنّه مساوق لها عقلاً ولكن دعوى الشمول مع لزوم الاقتصار في الأدلّة اللبية على القدر المتيقّن ممنوعة وإن كان الاتصال يوجب اتصاف الماء بالوحدة عرفاً أيضاً.

وبالجملة لا ينبغي الارتياب في أنّه على فرض قصور أدلّة الانفعال لا مجال للإشكال على الاستدلال أصلاً لو فرض تحقّق الإجماع أيضاً.

ثمّ إنّه ذكر المجيب في طيّ كلامه انّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس وبقاء طهارة الماء الطاهر كلاهما مسبّبان عن الشكّ في سببية الكرية للرفع والأصل عدمها.

الصفحة 129

ولا يخفى أنّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس وإن كان مسبّباً عن الشكّ في سببية الكرية للرفع، إلاّ أنّ الشكّ في بقاء طهارة الماء الطاهر لا يكون مسبّباً عن الشكّ المذكور أصلاً، كما أنّ ما ذكره من أنّ الأصل عدم سببية الكرية للرفع مبني على كون السببية مجعولة من جانب الشارع، وامّا بناء على القول بكشفه عنها وبيانه للناس فلا يتمّ فتدبّر.

وقد استدلّ صاحب السرائر (قدس سره) على ما ذهب إليه من كفاية التتميم ولو بالماء المتنجّس بما ورد عنهم (عليهم السلام) من قولهم: «إذا بلغ الماء كراً لم يحمل خبثاً» نظراً إلى أنّ كلمة «خبثاً» نكرة واقعة في سياق النفي وهي تفيد العموم فتشمل الخبث المتقدّم والمتأخّر، ومعنى «لم يحمل» انّه لا يتّصف بالخبث فإنّ العرض محمول على معروضه وصفة له والكر لا يتصف بالخبث مطلقاً كما هو معنى الاعتصام، فالعبارة بمثابة أن يقال: الكر لا يتصف بالنجاسة مطلقاً وخروج صورة التغيّر إنّما هو لقيام الدليل على استثنائها ومع عدمه كما في المقام لابدّ من الأخذ بإطلاق الرواية وشمولها لصورة كون الملاقاة قبل الكرية والحكم بأنّ الكرية رافعة للنجاسة كما أنّها دافعة لها.

وفيه ـ مضافاً إلى أنّه من البعيد غايته أن يكون اجتماع المائين المتنجّسين وامتزاجهما فضلاً عن مجرّد الاتصال موجباً لحصول الطهارة لكليهما معاً ـ .

أوّلاً: انّ المتتبعين في كتب الأحاديث أنكروا وجود هذه الرواية في شيء من كتب المخالف والمؤالف ولذلك قال المحقّق في المعتبر: «إنّ كتب الحديث خالية عنه أصلاً حتى انّ المخالفين لم يعملوا بها إلاّ ما يحكى عن ابن حي وهو زيدي منقطع المذهب، وما رأيت شيئاً أعجب من دعوى ابن إدريس إجماع المخالف والمؤالف على نقلها وصحّتها» والإجماع المنقول ـ على فرض حجّيته ـ إنّما يكون حجّة في باب الفتوى وليس بحجّة في نقل الرواية فالرواية غير تامّة من حيث السند.

الصفحة 130

وثانياً: انّه قال المحقّق الهمداني(قدس سره) إنّ الرواية إذا عرضناها على العرف يستفيدون منها انّ الخبث لا يتجدّد في الكر لا أنّه يرفع الخبث السابق على كريته وعليه فالرواية غير تامّة من حيث الدلالة أيضاً.

وأورد عليه بعض الأعلام في الشرح ـ على ما في تقريراته ـ بأنّ هذه المناقشة ممّا لا يمكن المساعدة عليه; لأنّ معنى «لم يحمل» لا يتصف وهو أعمّ من السابق واللاّحق كما عرفت في تقريب الاستدلال.

لكن لا يخفى انّ «الخبث» اسم للذات بمعنى النجس لا بمعنى الخباثة المصدرية والنجاسة، وعليه فلا يصحّ أن يحمل «لم يحمل» على معنى لا يتّصف فالصحيح أن يقال: إنّ معناها انّ الماء إذا بلغ قدر كر لم يحمل نجساً أي لا يركب عليه النجس كناية عن عدم تأثيره فيه وعدم صيرورته مغلوباً له، وعليه فلا يبقى فرق بين هذه العبارة وبين الرواية المعروفة: «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» في ورود كلتيهما في مقام بيان الرفع وعدم الشمول لصورة الدفع كما هو ظاهر.

ثمّ لو لم نقل بشمول أدلّة الانفعال لمثل المقام ـ على خلاف ما بنينا عليه ـ ووصلت النوبة إلى الاُصول العملية لكان مقتضى الاستصحاب فيما إذا كان التتميم بالماء المتنجّس بقاء نجاسة كلا المائين من دون أن تكون هناك معارضة في البين لعدم مخالفتهما للإجماع على اتحاد الماء الواحد في الحكم كما هو ظاهر فلا مجال في هذه الصورة للرجوع إلى قاعدة الطهارة.

ثمّ إنّ صاحب السرائر وإن قال بكفاية التتميم ولو بالماء المتنجّس إلاّ أنّ دليله ـ على فرض تماميته ـ يقتضي كفاية التتميم ولو بغير الماء من سائر المائعات بل ولو بالعين النجسة فيها إذا استهلكا في المتمّم ـ بالفتح ـ لكثرته وقلّة المتمم ـ بالكسر ـ فإنّه لو كان هناك ماء متنجّس أقلّ من الكر بمنّ ـ مثلاً ـ فصبّ فيه منّ مِن الجلاب

الصفحة 131

أو البول فصار المجموع كرّاً لكان اللاّزم ـ بناء على دليله ـ الحكم بطهارته لأنّ الماء إذا بلغ كراً لم يحمل خبثاً، وهل يمكن الالتزام بمثل ذلك والقول بأنّ التتميم بالبول يوجب ارتفاع النجاسة والاتصاف بالطهارة فتدبّر جيّداً.

وقد انقدح من جميع ذلك انّ المتعيّن من الأقوال الثلاثة المتقدّمة هو القول المشهور سيّما بين المتأخّرين من عدم كون التتميم مؤثِّراً في زوال النجاسة مطلقاً ولو كان بالماء الطاهر فضلاً عن غيره.

الصفحة 132

مسألة 12 ـ إذا كان الماء قليلاً وشكّ في أنّ له مادّة أم لا، فإن كان في السابق ذا مادّة وشكّ في انقطاعها يبني على الحالة الاُولى وإلاّ فلا، لكن مع ملاقاته للنجاسة يحكم بطهارته على الأقوى1.

1 ـ امّا البناء على الحالة الاُولى فيما إذا كان في السابق ذا مادّة فلجريان استصحابها وعدم انقطاعها، ولا مجال للمناقشة في هذا الاستصحاب بدعوى انّه من الاُصول المثبتة التي يكون جريانها على خلاف التحقيق وذلك لأنّه لا يثبت كون الماء جارياً أو ذات مادّة حتى يترتّب عليه أحكامهما التي عمدتها هي الاعتصام وعدم التأثّر بمجرّد الملاقاة مع النجاسة.

والوجه في بطلان هذه الدعوى وعدم كون الأصل في المقام مثبتاً امّا كون الموضوع مركّباً من شيئين أحدهما محرز بالوجدان والآخر بالاستصحاب، وامّا أن الاستصحاب يجري في نفس الماء بتقريب انّ هذا الماء كان في السابق ماءً جارياً ـ مثلاً ـ والآن نشكّ في بقائه على ما كان فيجري الاستصحاب كاستصحاب بقاء الكرية في الماء المشكوك الذي كان في السابق كراً، وقد حقّق في محلّه عدم اختصاص الحجّية في باب الاستصحاب بخصوص الاُمور القارة بل يجري في الاُمور التدريجية أيضاً فلا يقال إنّ هذا الماء لم يعلم ثبوته في السابق فضلاً عن اتصافه بكونه جارياً فتدبّر.

وامّا الحكم بالطهارة فيما إذا لم يكن في السابق ذا مادّة ففيما إذا لم تعلم حالته السابقة من ثبوت المادّة وعدمها مستنده هي قاعدة الطهارة أو استصحابها لأنّ الشكّ في ثبوت الطهارة وعدمها الناشئ من الشكّ في ثبوت المادّة وعدمها مجرى قاعدة الطهارة أو استصحابها، نعم لا يثبت بها أزيد من الطهارة وعدم الانفعال بملاقاة النجاسة، وامّا ترتّب سائر أحكام الجاري أو الماء الذي له مادّة فلا وجه له

الصفحة 133

بعد عدم إحراز الموضوع وعدم كون القاعدة محرزة له بوجه.

وامّا إذا علمت حالته السابقة وانّه لم يكن له مادّة فمقتضى إطلاق المتن طهارته أيضاً مع أنّ استصحاب عدم المادّة وبعبارة اُخرى استصحاب القلّة مع وصف الركود يقتضي كونه ماءً قليلاً راكداً ينفعل بمجرّد الملاقاة، ولم يعلم وجه للحكم بالطهارة في هذه الصورة.

نعم في الصورة الاُولى أيضاً ربّما يقال بالنجاسة كما اختاره السيّدان في «العروة والوسيلة» وما يمكن أن يكون مستنداً للقول بالنجاسة في هذه الصورة اُمور:

أحدها: التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية له كما جوّزه صاحب العروة في بعض الفروع نظراً إلى أنّ أدلّة انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة عامّة تشمل كلّ قليل لم يكن له مادّة واقعاً والمورد شبهة مصداقية يحتمل أن يكون قليلاً موصوفاً بعدم ثبوت المادّة له فمقتضى العموم الشمول والحكم بالانفعال.

وفيه ـ مضافاً إلى أنّه قد قرّر في محلّه عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية له ـ انّه على فرض الجواز لِمَ لم يجز التمسّك بعمومات أدلّة الماء الذي له مادّة من الجاري والبئر وغيرهما فإنّ المقام كما أنّه شبهة مصداقية لعمومات أدلّة الانفعال كذلك شبهة مصداقية لهذه الأدلّة فنتمسّك بها ونحكم بالاعتصام وعدم الانفعال، وعلى فرض التعارض بين العمومين يكون استصحاب الطهارة أو قاعدتها هو المحكم في البين، فهذا الوجه ساقط من أصله.

ثانيها: قاعدة المقتضى والمانع امّا مطلقاً وامّا في خصوص المقام كما يظهر من الشيخ الأنصاري(قدس سره) في كتاب الطهارة.

ثالثها: استصحاب عدم ثبوت المادّة لهذا الماء كما اختاره المحقّق الخراساني(قدس سره)في نظائره كاستصحاب عدم قرشية المرأة.

الصفحة 134

رابعها: القاعدة التي أبدعها المحقّق النائيني(قدس سره) .

وقد تقدّم هذه الوجوه الثلاثة في مسألة الشكّ في الإطلاق والإضافة التي هي المسألة الثالثة من مسائل الماء المطلق فراجع.

الصفحة 135

مسألة 13 ـ الراكد إذا بلغ كراً لا ينجس بالملاقاة ولا ينجس إلاّ بالتغيّر، وإذا تغيّر بعضه فإن كان الباقي بمقدار كر يبقى غير المتغيّر على طهارته ويطهر المتغيّر إذا زال تغيّره بالامتزاج بالكر الباقي وإذا كان الباقي دون الكر ينجس الجميع1.

1 ـ البحث في هذه المسألة يقع في فروع:

الأوّل: انّ الراكد الكر لا ينفعل بالملاقاة مع النجاسة إلاّ إذا حصل له التغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة.

امّا اعتصامه وعدم انفعاله بشيء من النجاسات بمجرّد الملاقاة فهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة بل لم يخالف فيه أحد منهم إلاّ المفيد وسلاّر حيث إنّه يظهر منهما اختصاص ذلك بما عدا ماء الأواني والحياض، وسيأتي بيان ضعف هذا القول إن شاء الله تعالى والدليل على الاعتصام الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّه إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء وقد عقد لذكرها باباً في الوسائل، وقد مرّ في بحث انفعال الماء القليل انّ ثبوت هذين العنوانين ـ الكر والقليل ـ في الفقه إنّما هو لأجل هذا الحكم وهو الانفعال وعدمه بحيث لا ينسبق في أذهان المتشرّعة من سماع هذين اللفظين إلاّ الاعتصام وعدمه ولأجل ذلك لا حاجة إلى البحث فيه.

وامّا نجاسته بسبب التغيّر الحاصل في أحد أوصافه الثلاثة فلا كلام فيها وقد تقدّم انّ التغيّر يوجب تنجّس جميع المياه سواء كان جارياً أم كراً أم غيرهما.

والكلام في المقام إنّما هو في تعيين موضوع الحكم بعدم الانفعال وانّه هل يختص بخصوص الماء المجتمع في محلّ واحد مع تقارب أجزائه، أو يعمّه وما كان مجتمعاً في محلّ واحد ولكن لم تكن أجزائه متقاربة كالماء الكر الذي يكون عمقه قليلاً وطوله أو عرضه كثيراً، أو يعمّهما وما لم تكن أجزائه مجتمعة في محلّ واحد بل كان بعض

الصفحة 136

أجزائه في محل وبعضها الآخر في محلّ آخر ولكن الاتصال بينهما موجود كالغديرين الموصولين بساقية؟ ثمّ الاتصال له مراتب من حيث القوّة والضعف، هذا مع تساوي السطوح، أو يعمّ جميع الصور المتقدّمة وما إذا لم تكن السطوح متساوية، وهذا على أقسام أيضاً:

منها: ما كان الماء الموجود في المحل الأعلى واقفاً غير خارج منه، ومنها ما كان الماء الموجود فيه جارياً على السطح الأسفل، والجريان قد يكون بنحو الانحدار وقد يكون بغير هذا النحو، وهو امّا أن يكون مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص السافل دون العالي فهذه فروض وصور كثيرة.

ولا يخفى انّ الدليل في هذا الباب إنّما ينحصر بالأخبار المستفيضة الدالّة على أنّه إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ومن الواضح انّ المراد بها هو الماء الواحد فالمناط صدق الوحدة بنظر العرف وـ حينئذ ـ فلا يبعد أن يقال بعدم اختصاص المناط بالصورة الاُولى لعدم الفرق بينها وبين الصورة الثانية في صدق الوحدة وتحقّقها عند العرف كما يظهر بالمراجعة اخليهم، وامّا الصورة الثالثة فصدق الوحدة بهذا النظر يدور مدار قوّة الاتصال وضعفه وعليه يحمل ما عن صاحب المعالم(قدس سره) من عدماعتصام الكر فيما إذا كان متفرّقاً ولو مع اتصالها بالسواقي والأنابيب، ولو كان نظره إلى المنع مطلقاً يتوجّه عليه المنع بعد وجود الدليل وصدق الوحدة العرفية وخلوّ دعوى الانصراف عن الوجه. والأمر في الصورة الرابعة أيضاً كذلك.

وامّا الصورة الخامسة فبعض مصاديقها وفروضها وإن كان يعدّ واحداً إلاّ أنّ البعض الآخر لا يكون كذلك فلا يقال على الماء الموجود في الابريق المتّصل بماء سافل انّه كر إذا كان المجموع بالغاً ذلك الحدّ فلا ينجس بملاقاة النجس، كما أنّه لا يقال على منّ مِن الماء الموجود في الحوض ـ مثلاً ـ انّه كر لاتصاله بالماء الموجود في

الصفحة 137

الحب مع فرض كون المجموع كذلك، وهذا لا ينافي ما ذكرناه سابقاً من أنّه لو وقعت النجاسة في الماء السافل لا توجب تنجّس الماء العالي بخلاف العكس وذلك لما عرفت من أنّ مناط تنجّس جميع أجزاء الماء مع ثبوت وصف الملاقاة بالإضافة إلى بعضها هي سراية النجاسة ولا يعقل تحقّقها بالنسبة إلى الماء العالي بل هي متحقّقة في الماء السافل إذا كانت الملاقاة ثابتة للعالي كما لا يخفى.

وبالجملة: لا تكون هنا ضابطة كلّية يتعيّن بها مصاديق موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بل المدار هو صدق الوحدة بنظر العرف وهو قد يختفي في بعض الموارد وسيأتي حكم موارد الشكّ فانتظر.

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ (قدس سره) في كتاب الطهارة تقوي كلّ من العالي والسافل بالآخر استناداً إلى تحقّق الاتحاد بنظر العرف ثمّ قال: «ويؤيّد الاتّحاد قوله(عليه السلام): ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً، جعل(عليه السلام) المادة بعضاً من ماء الحمّام مع تسنيمها عليه، وقوله(عليه السلام) في صحيحة داود بن سرحان: هو بمنزلة الماء الجاري، فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى المجموع من المادّة وما في الحياض».

أقول: امّا الرواية الاُولى فليس فيها تأييد لمرامه(قدس سره) أصلاً إذ كون المادّة بعضاً من ماء الحمّام لا يدلّ على اتحادها مع ما في الحياض الصغيرة إلاّ بعد إثبات انّ ماء الحمّام واحد، لأنّه يمكن ـ قبل ثبوت ذلك ـ أن تتّصف المادّة بكونها بعضاً من ماء الحمّام ولا تتّصف بكونها بعضاً من الماء الواحد.

وبالجملة فمفاد الرواية انّ المادّة بعض من ماء الحمّام، و المدّعى كونها متّحدة مع ما في الحياض وأين هذا من ذاك، والاستشهاد على وحدة ماء الحمّام بأنّ التشبيه بماء النهر يدلّ على كون ماء الحمّام أيضاً واحداً كماء النهر، يدفعه انّ التشبيه إنّما هو في خصوص تطهير بعضه بعضاً لا في سائر أحكام ماء النهر.

الصفحة 138

وامّا الرواية الثانية فلا إشكال في أنّ مرجع الضمير فيها هو الماء الموجود في الحياض لا المموع منه ومن المادّة لأنّ خصوص ما في الحياض كان مورداً لابتلاء الناس فالسؤال إنّما وقع عنه، مضافاً إلى أنّ تنزيل المجموع بالماء الجاري ممّا لا يصدر من البليغ العادي فضلاً عن الإمام(عليه السلام) لعدم المشابهة بينهما ـ حينئذ ـ أصلاً، وهذا بخلاف ما لو كان المراد منه هو خصوص الماء الموجود في الحياض فإنّ التنزيل على هذا التقدير تنزيل لطيف مرجعه إلى أنّه كما يكون الماء الجاري مستمدّاً من المادّة متقوّياً بها كذلك يكون ماء الحمّام مستمدّاً من مادّته الجعلية، متقوّياً بها معتصماً بسببها، فلا يتأثّر بملاقاة النجس.

ثمّ إنّه لا يمكن التمسّك لتقوي السافل بالعالي بالأخبار الواردة في ماء الحمّام، لأنّه متوقّف ـ أوّلاً ـ على إلغاء الخصوصية منها، وـ ثانياً ـ على عدم اعتبار الكرية في مادّة الحمّام، وقد عرفت انّه لا مجال لإلغاء الخصوصية وعلى تقديره فالمتمسك ممّن يعتبر الكرية في مادّة الحمّام.

الثاني: إذا حصل التغيّر لبعض أجزاء الكر وكان الباقي كراً أيضاً فلا خفاء في عدم نجاسة الباقي بعد اعتصامه وعدم عروض التغير له كما أنّه لا ريب في نجاسة المقدار المتغيّر بسبب حصول التغيّر له، إنّما الإشكال في كيفية تطهيره والمختار كما مرّ البحث فيه توقّفه على الامتزاج بالباقي بحيث يزول تغيّره بسببه كما أنّه لو كان هناك كر متغيّر بجميع أجزائه يكون حصول الطهارة له متوقّفاً على زوال تغيّره وحصول امتزاجه بالماء المعتصم ولكنّه قد يقال في باب الكر بأنّ زوال التغيّر ولو من غير ناحية المطهر المعتصم يكفي في ارتفاع النجاسة لما يستفاد من الأخبار الكثيرة من كفاية زوال التغيّر بأي وجه اتفق:

منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح

الصفحة 139

الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب.

فإنّ مقتضى الرواية انّ المناط في جواز الوضوء والشرب هو غلبة الماء على ريح الجيفة، سواء كانت الغلبة حاصلة من الأوّل أو بعد التغيّر.

وفيه انّ ظاهر الرواية هي غلبة الماء بما هو ماء على ريح الجيفة فإذا زال التغيّر من ناحية شيء آخر لم تحصل غلبة الماء بما هو ماء بل حصلت بواسطة شيء آخر فحكم هذا المورد غير مذكور في الرواية أصلاً إلاّ أن يقال بثبوت المفهوم لها.

ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت، قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب.

فإنّ مفادها انّ المناط ف ي عدم جواز الوضوء والشرب هو كون النتن غالباً على الماء، وبعد زوال التغيّر لا يكون هذا المناط باقياً فلا وجه لبقاء النجاسة.

ويرد عليه انّه يحتمل قويّاً أن تكون الرواية واردة في مقام بيان حكم الحدوث فلا تعرض فيها لحكم البقاء.

ومنها: رواية عبدالله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا حاضر ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة، فقال: إذا كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضّأ.

فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الماء قاهراً من الأوّل أو بعد كونه مقهوراً للنجاسة.

وفيه ما عرفت في الجواب عن الاستدلال برواية حريز ـ المتقدّمة ـ من أنّ ظاهر الرواية كون الماء قاهراً بوصف كونه ماء على ريح النجاسة، وبعد فرض كونه مقهوراً حين الحدوث لا يعقل أن تعرض له القاهرية إلاّ لأجل شيء آخر ومعه لا يصدق انّ الماء من حيث هو ماء قاهر عليها، فالرواية غير متعرّضة لحكم المقام لو

الصفحة 140

لم نقل بكون مدلولها هو بقاء النجاسة في هذا الفرض وعدم ارتفاعها.

ومنها: رواية علاء بن الفضيل قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الحياض يُبال فيها، قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول.

فإنّ مفادها انّ العلّة المنحصرة لعدم البأس هي غلبة لون الماء على لون البول وهي متحقّقة فيما لو زال التغيّر وإن كان بنفسه.

وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ انّ الظاهر كون الرواية متعرّضة لحكم الحدوث فقط ولا دلالة لها على حكم البقاء بوجه. فظهر انّ الاستدلال بهذه الروايات في غير محلّه.

نعم يمكن أن يستدلّ لذلك بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة ـ الواردة في ماء البئر لأنّ مقتضى قوله(عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر» انّ علّة حدوث الفساد وزوال الطهارة هو مجرّد عروض وصف التغيّر للماء، ومقتضى قوله(عليه السلام) في الذيل: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم» انّ مجرّد زوال التغيّر يؤثِّر في ارتفاع النجاسة، إذ ليس للنزح خصوصية بل الملاك صيرورة الماء بحيث طاب طعمه وذهبت ريحه فمفاده ـ صدراً وذيلاً ـ انّ التغيّر يدور مداره النجاسة ـ حدوثاً وبقاءً ـ فهي العلّة التامّة لحدوث النجاسة وبارتفاعها تزول كما هو الشأن في كلّ معلول بالإضافة إلى علّته.

ولكنّك خبير بأنّه وإن لم يكن للنزح خصوصية في ارتفاع النجاسة ـ كما مرّ مراراً ـ إلاّ أنّه قد ذكرنا سابقاً انّ المناط في كون الشيء قابلاً للتطهير هو بقائه بعد ارتفاع النجاسة وعروض الطهارة بحيث لو لم يكن دليل على قابلية الماء أيضاً للتطهير لقلنا بعدم القابلية إلاّ بعد الاستهلاك الذي مرجعه إلى انتفاء الموضوع وزوال الحقيقة، ولكنّه بعد قيام الدليل على الخلاف وانّ الماء يكون كالجامدات

<<التالي الفهرس السابق>>