في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 201

كثرة قدحه جدّاً انّ شيئاً من مدحه وقدحه لم يكن على أساس صحيح.

ومنها: اعتماد القمّيين على الرواية كالصدوقين وابن الوليد وسعيد بن عبدالله، وقد عدّوا ذلك من أمارات صحّة الرواية باصطلاح القدماء، قال ـ بعد ذلك ـ : «فالإنصاف انّ الوثوق الحاصل من تزكية الراوي خصوصاً من واحد ليس بأزيد ممّا تفيده هذه القرائن، فالطعن فيها بضعف السند كما في المعتبر والمنتهى مع عدم دورانهم مدار تزكية الراوي محلّ نظر».

وفيه انّه لو كان المراد من اعتمادهم عليها هو نقلهم لها في كتبهم فمن الواضح انّ مجرّد نقل الرواية في الكتاب المعدّ لنقلها لا يدلّ على الاعتماد عليها، ولو كان المراد هو العمل على طبقها والفتوى بمضمونها فالمقدار الثابت هو فتوى الصدوقين والشيخين وعمل هؤلاء الأربعة وإن كانوا من أجلّة علمائنا الإمامية لا يوجب الانجبار بمجرّده في مقابل سائر الأصحاب الذاهبين إلى خلاف مفاد الرواية.

فالإنصاف انّ هذه القرائن لا تكاد تلحق الرواية بالصحاح كما ادّعاه ولو كان تمسّكه في ذلك إلى ما ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن هلال من كون الرجل صالح الرواية لكان أولى مع أنّه لا يحصل الوثوق والاطمئنان بمجرّده أيضاً خصوصاً مع ملاحظة ورود ذمائم كثيرة في حقّه وطعن كثير من علماء الرجال فيه، فالرواية من حيث السند غير قابلة للاعتماد عليها.

وامّا من الجهة الثانية وهي الدلالة فنقول: قد بيّن الإمام(عليه السلام) على طبق الرواية حكمين لثلاثة مياه مستعملة:

الأوّل: الماء المستعمل ـ بنحو الإطلاق.

الثاني: الماء المستعمل الذي غسل به الثوب، والثالث الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الرجل من الجنابة، وامّا المستعمل في غسل الوجه واليد المجتمع في شيء

الصفحة 202

طاهر فهو أمر رابع مذكور في ذيل الرواية ومنفي عنه البأس ولا ارتباط له بالمقام فالعمدة هي الثلاثة المذكورة قبل الذيل ولابدّ من أن يكون المراد من كلّ منها غير الآخر حتّى يستقيم التفصيل.

والظاهر انّ المراد من الأوّل مطلق الماء المستعمل ولذا لو سكت الإمام(عليه السلام) ولم يصدر منه غير الفقرة الاُولى لاستفدنا منها عدم البأس بالتوضؤ من الماء المستعمل مطلقاً هذا بالنظر إلى نفس هذه الفقرة ولكنّه يستفاد من الفقرة الثانية والثالثة انّ المراد من الماء المستعمل في الفقرة الاُولى هو الماء الذي غسل فيه أو به القذارات العرفية غير النجسة شرعاً.

كما انّ الظاهر انّ المراد من الثاني هو الماء الذي غسل به الثوب النجس بداهة انّه لا فرق بين الثوب والبدن لو كانا طاهرين وإن كانا كثيفين.

والمراد من الثالث هو الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الرجل من الجنابة من دون نظر إلى كون الجنب حاملاً للنجاسة الظاهرية بداهة انّه لو كان المراد من الجنب خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية وكان عدم جواز التوضّي منه لأجل كونه مستعملاً في رفع الخبث وغسل النجاسة الظاهرية لأصبحت الفقرة الثانية والثالثة واردتين في مورد واحد وكان مفادهما شيئاً واحداً وهو عدم جواز التوضّي بالماء المستعمل الذي غسل فيه المتنجّس فلا فائدة في التفصيل أصلاً فلا محيص من أن تكون الفقرة الثالثة لبيان حكم الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الجنب بما هو جنب من دون التفات إلى نجاسة بدنه أصلاً.

وبتقريب آخر المراد من قوله(عليه السلام) : الماء الذي يغسل به الثوب هو غسل الثوب من النجاسة الحاصلة فيه فإنّ المنصرف من لفظ الغسل الوارد في الأخبار هو هذا المعنى وإن كان بحسب معناه اللغوي أعمّ منه وهذا بخلاف لفظ «المستعمل» في

الصفحة 203

قوله: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل» فإنّه ليس له حقيقة خاصّة في اصطلاح الشرع، بل المراد معناه اللغوي، والمراد من قوله: «أو يغتسل به الرجل من الجنابة» ظاهره الذي هو عبارة عن الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة لا ما يغسل به المني نظراً إلى الملازمة العادية بين حدوث الجنابة ونجاسة البدن بالمني واجتماع غسالتهما ـ نوعاً ـ في مكان واحد، وذلك ـ مضافاً إلى منع الملازمة ـ لأنّ الحكم مترتّب على هذا العنوان أي ما يستعمل في رفع حدث الجنابة فمجرّد الملازمة لا يوجب صرف الحكم عنه إلى عنوان آخر مضافاً إلى أنّه لو كان المراد غسالة المني لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر بعد ذكر غسالة النجاسات قبله كما عرفت.

فحاصل مدلول الرواية عدم جواز التوضّي بغسالة النجاسات ولا بالماء المستعمل في رفع حدث الجنابة أو ما يعمّها ـ بناءً على أن يكون قوله: «وأشباهه» معطوفاً على الضمير المجرور في قوله: «يتوضّأ منه» حتى يكون مكسوراً كما عرفت انّه الأظهر، وامّا التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء إذا اجتمع في محلّ نظيف لم يكن نجساً فهو جائز صحيح، وفيه إشعار على خلاف ما زعمه أبو حنيفة من نجاسة ماء الوضوء كما تقدّم، فتصير الرواية بناءً على ما ذكرنا متعرّضة لحكم ثلاث مسائل: التوضّي بغسالة النجاسات وبالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر وبالماء المستعمل في الوضوء.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ من أنّ المراد من الرجل هو خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية دون مطلق الجنب نظراً إلى قيام القرينة الداخلية والخارجية عليه:

امّا القرينة الخارجية فهي الأخبار الكثيرة الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة الآمرة بأخذ كفّ من الماء وغسل الفرج به ثمّ غسل أطراف البدن حيث إنّها دلّت

الصفحة 204

على أنّ غسل الفرج وإزالة نجاسته معتبر في صحّة غسل الجنابة، فالمراد بالجنب في الرواية هو الذي في بدنه نجاسة، وكذلك الأخبار المفصلة بين الكرّ والقليل في نجاسة الماء الذي اغتسل فيه الجنب إذ لو لم تكن في بدنه نجاسة لم يكن وجه لنجاسة الماء باغتساله فيه مطلقاً.

وامّا القرينة الداخلية فهي قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية: «وامّا الذي يتوضّأ به الرجل...» حيث دلّ على أنّ المناط في جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل نظافته ونجاسته وانّ حكمه بعدم الجواز فيما غسل به الثوب أو اغتسل به من الجنابة إنّما هو في صورة نجاسة الثوب وبدن الجنب، الموجبة لنجاسة الماء الملاقي لشيء منهما، وامّا إذا كان الماء طاهراً فلا مانع من الاغتسال والتوضؤ به، فلا إطلاق في الرواية حتّى يدلّ على عدم جواز استعمال الماء المستعمل في غسل الجنابة أو غسل الثياب في رفع الحدث مطلقاً.

ويرد عليه ـ مضافاً إلى الفرق البين بين الاغتسال والغسل وعدم كون تغيير العبارة للتفنن فقط بحيث يكون الاختلاف من جهة المورد فقط وكأن الجملة الاُولى ناظرة إلى غسل الثوب النجس والثانية إلى تطهير البدن النجس كما هو واضح ـ عدم تمامية شيء من القرينتين:

امّا الاُولى فغاية مفادها انّ بدن أكثر من كان جنباً مريداً للاغتسال متنجّس في حاله ولا يكون على نحو يغسل فرجه في مكان ويغتسل في مكان آخر ولكنّه هل يصير قرينة على أنّ كلّ حكم جعل الجنب موضوعاً له يكون المراد منه خصوص الجنب الذي كان في بدنه جنابة بحيث لو قيل ـ مثلاً ـ : «يحرم على الجنب الدخول في المسجد» يستفاد منه انّ المراد من كان بدنه نجساً في حال الجنابة بالنجاسة المرتبطة بها.

الصفحة 205

وبعبارة اُخرى: لا وجه لحمل الحكم الثابت على المطلق على أكثر أفراده والخصم لا يحمله على الأفراد النادرة، بل يجعل الموضوع نفس الطبيعة المطلقة وقد شاع انّ كثرة افراد صنف لا توجب حمل النوع عليها فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق مع عدم وجود الدليل على التقييد وقيام الدليل عليه في الأخبار الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة وكذا في الأخبار المفصلة بين الكر والقليل في الماء الذي اغتسل فيه الجنب لا يوجب الحمل عليه في المقام مع عدم قيام الدليل عليه، بل قيامه على عدمه وهو وضوح تغاير الجملتين وعدم كون الاختلاف في مجرّد الثوبية والبدنية، مع أنّ في بعض الأخبار المفصلة جعل بول الدواب في سياق الجنب، ومن المعلوم انّ الدواب التي تبول في الماء غالباً لا تكون أبوالها نجسة.

وامّا الثانية فلعدم ارتباط الذيل بالصدر لأنّ الذيل إنّما هو في مقام بيان حكم الماء المستعمل في الوضوء بخلاف الصدر الذي هو وارد في بيان حكم غسالة النجاسات أو الماء المستعمل في غسل الجنابة، مع أنّ المراد من الشيء النظيف في الذيل هو الاناء الذي تقع فيه المياه والقطرات المستعملة في الوضوء لا أعضاء المتوضّي. وكيف يمكن أن يستفاد من اعتبار عدم نجاسة الاناء الواقع فيه ماء الوضوء في الحكم بجواز التوضّي به.

ثانياً: انّ علّة عدم جواز التوضّي من الماء المستعمل في رفع الجنابة هي نجاسة بدن الجنب وانّ المراد بالجنب من كان على بدنه نجاسة ظاهرية فهل قام الدليل على وحدة المناط في الأحكام المذكورة في الرواية، وحمل مطلق الثوب على خصوص النجس لقيام القرينة التي تقدّمت لا يلازم رفع اليد عن الإطلاق في الرجل الجنب كما هو ظاهر.

فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على مذهب الصدوقين والشيخين (قدس سرهم) لكنّك

الصفحة 206

عرفت ضعف السند جدّاً بحيث لا مساغ للتعويل عليها.

ومن جملة الروايات التي استدلّ بها على المنع صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن ماء الحمّام، فقال: ادخله بازار، ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم (فيه خ د) جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا. فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّ اغتسال الجنب في ماء الحمّام يمنع عن الاغتسال به ثانياً; لأنّ النهي في المستثنى منه لا يدلّ على الحرمة حتّى يكون الاستثناء منها دليلاً على جواز المستثنى للقطع بعدم حرمة الاغتسال من ماء آخر، وتوجيه النهي بأنّه مناف للتقية يدفعه الاستثناء فيها.

وقد ناقش فيها صاحب المعالم(قدس سره) بأنّ الاستثناء من النهي إنّما يوجب ارتفاع الحرمة فحسب ولا يثبت به الوجوب أو غيره، فمعنى الرواية ـ حينئذ ـ انّ الاغتسال من ماء آخر غير منهي عنه إذا كان في الحمّام جنب لا أنّه يجب ذلك فلا دلالة للرواية على عدم جواز الاغتسال بماء الحمّام إذا كان فيه جنب.

وأجاب عن هذه المناقشة صاحب الحدائق(قدس سره) بأنّ الاستثناء من الوجوب يدلّ على حرمة الشيء عرفاً لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي كما أفاده نجم الأئمّة(رحمه الله) .

ويرد على جوابه وضوح انّ الاستثناء من التحريم لا يثبت إلاّ ارتفاعه، وامّا ثبوت حكم آخر من الوجوب أو غيره فلا، وكلام نجم الأئمّة لا يدلّ على أزيد من أنّ الاستثناء من الوجوب عدم الوجوب ومن الحرمة عدمها، وامّا ثبوت حكم آخر فلا.

ولنرجع إلى مفاد الرواية وبيان أنّ المراد من الماء الآخر الذي نهى عن الاغتسال منه ماذا؟ فنقول:

الصفحة 207

قال بعض الأعلام ما ملخّصه: «لا يمكن أن يكون المراد منه ماء الخزانة لعدم كون الاغتسال منه مرسوماً حتى ينهى عنه، ولكون ماء الخزانة أكثر من الكر بمراتب وأيّ مانع من الاغتسال في مثله وإن اغتسل فيه جنب، كما أنّه لم يرد به ماء الأحواض الصغيرة لعدم تعارف الاغتسال في الحياض بل ولا يتيسّر الدخول فيها لصغرها وإنّما كانوا يأخذون الماء منها بالأكفّ والظروف ويغتسلون حولها فيتعيّن أن يكون المراد منه المياه المجتمعة من الغسالة فهو الذي نهى عن الاغتسال فيه، ويدلّ عليه عدّة روايات:

منها: ما عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل ـ حينئذ ـ قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام قال: ادخله بميزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم.

ومنها: موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام فإنّ فيها غسالة ولد الزنا...

ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يظهر منها انّ الاغتسال من مجتمع الغسالة كان أمراً متعارفاً ومرسوماً في تلك الأزمنة، فالمتحصّل انّ النهي ـ الذي هو نهي تنزيل لا محالة ـ في صحيحة محمد بن مسلم إنّما تعلّق على الاغتسال من ماء الغسالة».

وفي كلامه نظر واضح; لأنّه بناءً عليه يصير محصل الكلام في مفاد الرواية انّ الإمام(عليه السلام) نهى عن الاغتسال من ماء الغسالة إلاّ أن يكون في الحمّام أو في المجتمعين فيه جنب فيجوز الاغتسال منه ـ حينئذ ـ فراراً عن لجنب مع أنّه لو كان الجنب في الحمّام مشتغلاً بالاغتسال يجري ماء غسالته إلى البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام التي

الصفحة 208

جوّز الإمام(عليه السلام) الاغتسال منها فيقع فيما فرّ منه. مضافاً إلى أنّ النهي في رواية حمزة ابن أحمد قد علّل بأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ماء وـ حينئذ ـ فكيف يجوز الاغتسال منها فراراً عن الجنب وماء غسالته، والإنصاف انّ هذا الكلام من بعض الأعلام عجيب جدّاً.

والحقّ انّ المراد من ماء آخر هو ماء غير الحمّام لأنّ السائل ـ وهو محمد بن مسلم ـ قد سأل عن ماء الحمّام فقال: ادخله بازار ولا تغتسل من ماء آخر... ومن الظاهر انّ المتفاهم العرفي من هذا الكلام في مقابل ماء الحمّام هو ماء غير الحمّام ولم يفرض في الرواية كون الرجل في الحمّام حتّى يتوجّه النهي إليه بعده، بل الظاهر بملاحظة قوله(عليه السلام) : «ادخله» كون النهي أيضاً مربوطاً بقبل الدخول فتدبّر.

فيصير المعنى انّه إن شئت أن تدخل الحمّام وتستفيد من مائه فادخله بازار ولا يلزم عليك اتعاب النفس وتكليفها بالاغتسال من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا، فالنهي عن الاغتسال من ماء آخر إرشاد إلى عدم لزوم المواجهة مع مشكلات الاغتسال من ماء آخر ولا يكون نهياً مولوياً حتّى يقال: لِمَ لا يجوز الاغتسال من ماء الحمّام مع وجود الجنب فيه أو يقال: إنّ الاستثناء من التحريم يفيد الوجوب أي وجوب الاغتسال من ماء آخر عند وجود الجنب فيه، ودعوى انّه مع عدم الدخول كيف يستكشف وجود الجنب في الحمّام أو كثرة أهله واضحة المنع.

نعم يبقى الكلام ـ حينئذ ـ في الفرق بين صورة وجود الجنب في الحمّام ـ قطعاً أو احتمالاً ـ وبين صورة عدم وجوده فيه من جهة الاغتسال من ماء آخر وعدمه ولعلّ منشأه انّه في الصورة الاُولى يتحقّق للداخل في الحمّام كلفة ومشقّة من جهة المراقبة لأنّ اغتسال الجنب مع كون بدنه نجساً غالباً يوجب ترشّح غسالته إلى غيره ومن

الصفحة 209

المعلوم نجاستها كما سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى، وهذا بخلاف الصورة الثانية التي لا حاجة فيها إلى المراقبة نوعاً.

وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ الرواية وإن كانت تامّة من حيث السند إلاّ أنّ دلالتها ممنوعة عكس الرواية المتقدّمة.

ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: حدّثني صاحب لي ثقة انّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام)عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال: ينضح بكفّ بين يديه وكفّاً من خلفه وكفّاً عن يمينه وكفّاً عن شماله ثمّ يغتسل. وتقريب الاستدلال بها انّ الظاهر من تقرير الإمام(عليه السلام) وأمره بالنضح الذي هو مانع من رجوع الغسالة إلى الماء ـ لأنّ الظاهر انّ المراد بالنضح هو النضح على الأرض لا على البدن، والنضح على الأوّل يوجب رطوبتها وهي تمنع عن جريان الماء على الوهادة ـ ان دخول الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الماء الذي يُغتسل منه مانع عن صحّة الغسل به كما هو المرتكز في ذهن السائل ولأجله سئل عن كيفية الاغتسال في مورد السؤال والإمام قرّره على ذلك ولم يردعه عنه وصار بصدد العلاج بالكيفية المذكورة.

وفيه انّ محطّ نظر السائل فيها هي النجاسة والطهارة بقرينة تقييده الماء بالقليل ولو كان نظره إلى المستعمل في رفع حدث الجنابة بما هو مستعمل فيه وانّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً لم يكن وجه لهذا التقييد كما أنّ التقييد بقوله: وليس معه إناء يشعر بل يدلّ على ذلك.

مع أنّ الإمام(عليه السلام) لم يقرّر السائل ولم يتصدّ لبيان علاج رجوع الماء المستعمل إلى مركزه الاولي لوضوح انّ نضح الماء إلى الجوانب المذكورة لو لم يكن موجباً لسرعة

الصفحة 210

جريان الماء المستعمل ورجوعه إلى محلّه الأصلي لا يكون مانعاً عن رجوعه قطعاً، ولو كان بصدد العلاج المذكور لأمره بأن يجعل الرمل أو التراب بين موضع غسله ومركز الماء أو أمره بأن يغتسل بالتدهين بالماء حتى لا تجري المياه المستعملة إلى الوهادة، والظاهر من هذه الرواية بقرينة الجواب انّ السؤال قد كان محطّ النظر فيه الشكّ في نجاسة الأرض وطهارتها ولذا ذكر الإمام(عليه السلام) مسألة نضح الماء إلى الجوانب وهو حكم تعبّدي محض ثابت في موارد الشكّ في الطهارة والنجاسة كما يظهر بمراجعة الأخبار الكثيرة الدالّة عليه.

مع أنّه لا دليل على أنّ المحذور الذي قرّره الإمام(عليه السلام) هي حرمة الاستعمال فلعلّ السائل يرى كراهته ويؤيّده وضوح انّ العلاج بما ذكر مبني على المسامحة فتدبّر.

ومنها: رواية الفضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء فقال: لا بأس ما جعل عليكم في الدين من حرج. فإنّ انتضاح الماء في الإناء يعمّ بإطلاقه صورة الانتضاح من البدن إليه من دون توسط الأرض وـ حينئذ ـ فتعليل نفي البأس بعدم مجعولية الحرج في الدين يدلّ على أنّ القطرة أو القطرات المنتضحة في الاناء كانت مقتضية لعدم جواز الاستعمال من الماء الموجود في الاناء إلاّ أنّه مرفوع للزوم الحرج، فيدلّ على أنّ الماء المستعمل لو كان جارياً في الاناء لا يجوز الاغتسال به أصلاً، والقائل بالمنع أيضاً يقول باستثناء القطرة والقطرات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والذي يوهن التمسّك بالرواية انّ هذه الرواية رواها الشيخ(قدس سره) بعينها عن فضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) إلاّ أنّه ذكر فيها بدل: «ينتضح من الماء» «ينتضح من الأرض» ودعوى انّها رواية مستقلّة غير هذه الرواية بعيدة جدّاً كما هو غير خفي على من كان مأنوساً بالروايات وكيفية نقلها وضبطها في الكتب، وـ حينئذ ـ فتعليل

الصفحة 211

عدم البأس بنفي الحرج إنّما هو لاحتمال نجاسة الأرض فيصير مدلول الرواية انّ النكتة في الحكم بطهارتها في مورد الشكّ إنّما هو لزوم الحرج ولا دلالة فيها بل ولا إشعار على أنّه لو كان بدل القطرة والانتضاح الماء والجريان لكان الحكم عدم الجواز فتدبّر جيّداً.

ومنها: رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام فقال: ادخله بميزر، وغضّ بصرك، ولا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم. فإنّ الظاهر انّ كلّ واحد من الثلاثة مستقلّ في النهي عن الاغتسال به.

ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى جهالة بعض الرواة ـ انّ محطّ النظر فيها النجاسة والطهارة والنهي مع ذلك تنزيهي بدليل ذكر ولد الزنا بنحو الإطلاق فإنّ الإجماع قائم على أنّه لا بأس بالاغتسال في الماء الذي قد اغتسل به ولد الزنا من غير الجنابة، ويمكن أن يكون النهي تحريمياً مستنداً إلى نجاسة بدن الجنب غالباً وعدم مبالاة ولد الزنا بالنجاسة والطهارة وكون الناصب نجس العين كما سيأتي.

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء. فإنّها تدلّ على أنّ الماء إذا اغتسل فيه الجنب ولم يكن قدر كر لا يجوز استعماله.

وفيه انّ السؤال فيها إنّما يكون عن الطهارة والنجاسة بقرينة جواب الإمام(عليه السلام)، فالمراد بالجنب فيها من كان بدنه نجساً، وعليه فجواب الإمام(عليه السلام) إنّما يكون لبيان قاعدة كلّية وهي انّ الماء إذا بلغ ذلك القدار لم ينجسه شيء ولا يرتبط بالمقام بوجه وإلاّ فيكون مفاد المفهوم انّ الماء إذا لم يكن قدر كر ينجّسه اغتسال الجنب فيه

الصفحة 212

مطلقاً وهو ممّا لم يقل به أحد ولا يرتضى به الصدوقان والشيخان ومن تبعهم، هذا تمام الكلام في أدلّة المنع.

وامّا القائل بالجواز الذي عرفت انّه المشهور ـ مضافاً إلى أنّه يكفيه العمومات والإطلاقات وعدم قيام دليل على المنع ـ يمكن له الاستدلال بعدّة روايات:

منها: صحيحة علي بن جعفر(عليه السلام) عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال: إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه، وكفّاً أمامه، وكفّاً عن يمينه، وكفّاً عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بيده فإنّ ذلك يجزيه، وإن كان الوضوء غسل وجهه، ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه، وإن كان الماء متفرّقاً فقدر أن يجمعه وإلاّ اغتسل من هذا، ومن هذا وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فإنّ ذلك يجزيه. فإنّ قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية : «فلا عليه أن يغتسل...» يدلّ على كفاية الاغتسال بالماء ولو رجع فيه غسالة بعض الأعضاء.

هذا ولكن دلالة الرواية على المنع والاستدلال بها عليه أوضح من دلالة سائر روايات المنع وأولى منها للاستدلال بها عليه نظراً إلى أنّ حكمه(عليه السلام) بالنضح باليد إلى الجهات الأربع ليس إلاّ لعلاج رجوع الماء المستعمل فيه وهو لا ينافي الحكم بالاجزاء في الذيل فإنّ ذلك يختص بحال الضرورة فالرواية دليل على المنع لا على الجواز.

هذا ولكن الإنصاف كما عرفت انّ النضح ليس لعلاج رجوع الماء بتقريب انّ

الصفحة 213

رش الأرض يوجب سرعة جذبها للماء فإنّ ذلك مخالف للوجدان ضرورة انّ رشّها لو لم يكن مانعاً عن جذب الماء لا يكون موجباً لسرعة الانجذاب قطعاً، وكذلك المراد من النضح ليس هو النضح على البدن ـ كما قيل ـ فإنّ ذلك مناف للأمر به في الوضوء أيضاً كما في رواية الكاهلي قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: إذا أتيت ماء وفيه قلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ.

وهذه الرواية كما أنّها دليل على بطلان احتمال كون النضح على البدن كذلك يدلّ على بطلان احتمال كون النضح مانعاً عن رجوع الماء المستعمل إلى محلّه الأصلي فإنّ النضح لو كان علاجاً للرجوع لكان اللاّزم أن يختص بما إذا اُريد الاغتسال، وامّا إذا اُريد التوضّي فلا; إذ لم يقل أحد بعدم جواز التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء وقد عرفت معاملة الأصحاب مع ماء وضوء النبي(صلى الله عليه وآله) .

والذي تحصّل لنا بعد التتبّع في الأخبار والتأمّل فيها انّ النضح إنّما هو في مورد الشكّ في نجاسة الأرض فهو نظير الغسل ـ بالفتح ـ في مقطوع النجاسة كما يظهر بالتتبّع في الأخبار التي تدلّ على الغسل في مورد العلم بالنجاسة والنضح في موضع الشكّ فيها التي منها رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أبوال الدواب والبغال والحمير فقال: اغسله، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه، فإن شككت فانضحه.

ومنها: رواية علي بن جعفر(عليه السلام) عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله. وغيرهما من الأخبار التي تظهر للمتتبّع.

وبالجملة فلا ينبغي الارتياب في أنّ النضح إنّما يكون مستحبّاً في موارد الشكّ

الصفحة 214

في النجاسة، وعليه فالحكم بالنضح في الرواية ـ في المقام ـ لا يدلّ على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث بل نقول: إنّ التأمّل في السؤال يقضي بأنّ محطّ نظر السائل إنّما هو نجاسة الماء القليل الموجود في الساقية أو المستنقع من حيث احتمال شرب السباع منه ولا ارتباط له بمسألة غسالة الجنب أصلاً، فحكم الإمام(عليه السلام)بالنضح إنّما هو لأجل عدم عروض النجاسة الاحتمالية للماء برجوع المياه الملاقية للأرض المشكوكة الطهارة إليه فهو مستحبّ تعبّدي في موارد الشكّ كما عرفت، والحكم بالاجزاء في الذيل مع عدم النضح ورجوع الماء إنّما يدلّ على أنّ استحباب النضح الرافع للقذارة المحتملة إنّما هو فيما إذا تمكّن من الاغتسال بالماء بعد النضح، وامّا في مورد عدم الكفاية مع النضح فلا يستحبّ.

وعلى ما ذكرنا فدلالة الرواية على الجواز تامّة إذ لو كان الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر محظوراً أو ممنوعاً شرعاً لكان الواجب على الإمام(عليه السلام) أن يبيّنه ومع عدم البيان وترك الاستفصال يفهم الجواز قطعاً فتدبّر جيّداً.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قد يقال من اختصاص الصحيحة بصورة الاضطرار لقول السائل في صدرها: «إذا كان لا يجد غيره» وعليه فلا يجوز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث في غير صورة الاضطرار ووجدان ماء آخر غيره.

وجه ظهور الفساد انّك عرفت انّ محطّ نظر السائل إنّما هو نجاسة الماء القليل من حيث احتمال شرب السباع منه ولا ارتباط له بالمقام مع أنّ الظاهر انّ التقييد بذلك إنّما هو لأجل تفرّق الماء أوّلاً وعدم كفايته للوضوء والغسل المتعارفين بنحو روعي فيه الاستحباب واستعمال الصاع للجنابة والمدّ للوضوء ثانياً، ومنه ظهر انّ المراد بقوله(عليه السلام) في الذيل: «لا يكفيه لغسله» عدم كفايته لهذا النحو من الغسل فلا يرد عليه انّه مع فرض عدم الكفاية كيف أوجب عليه الغسل فتأمّل.

الصفحة 215

وربما يستدلّ على الجواز أيضاً بصحيحة محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره اغتسل من مائة؟ قال: لا بأس أن يغتسل منه الجنب، ولقد اغتسلت فيه وجئت فغسلت رجلي، وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب. فإن نفي البأس عن الاغتسال في الحمّام مع اغتسال الجنب فيه دليل على المطلوب وهو الجواز.

ولا يخفى ما في دلالتها فإنّ الظاهر انّ الغسل في الحمّام إنّما هو في خارج الحياض الصغيرة، والمياه المنتضحة منه إليها أو إلى بدن مغتسل آخر لا يوجب المنع عن الاغتسال لأنّ المانع أيضاً لا يمنع من القطرات المنتضحة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فالظاهر كون مقصود السائل هو السؤال عن نجاسة الماء بانتضاح القطرات إلى الماء الموجود في الحياض لكون بدن الجنب غالباً مشتملاً على نجاسة، فالمراد بنفي البأس في الجواب نفي النجاسة ومنشأه عدم العلم بكون هذا الجنب بدنه نجساً أوّلاً.

وعدم العلم بانتضاح غسالة النجس إلى الماء الموجود في الحياض ثانياً.

واعتصام ماء الحمّام الذي يكون المراد به هو خصوص المياه الموجودة في الحياض الصغيرة ثالثاً لما عرفت في مطاوي المباحث السابقة انّ ماء الحمّام من جملة المياه المعتصمة وإن لم يقع التعرّض له بعنوانه مستقلاًّ في المتن فتأمّل.

ويؤيّد ما ذكرنا ذيل الرواية الدالّ على أنّ غسل الرجلين ليس لأجل نجاستهما بل لأجل رفع التراب الذي لزق بهما فإنّه يؤيّد كون النظر إنّما هو إلى النجاسة والطهارة لا إلى الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة بما أنّه مستعمل فيه.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الأقوى هو القول بالجواز لأنّه مضافاً إلى كونه مقتضى الأصل والإطلاقات يدلّ عليه صحيحة علي بن جعفر ـ المتقدّمة ـ وقد

الصفحة 216

عرفت انّ أدلّة المانعين بين ما لا يجوز الاعتماد عليه لضعف السند وإن كانت دلالته تامّة كالرواية الاُولى التي كان في سندها أحمد بن هلال، وبين ما لا تتمّ دلالته وإن كان موثوقاً به من حيث السند كأكثر الروايات المتقدّمة فلا محيص عن القول بالجواز.

ثمّ إنّه لو قلنا بالمنع فلا إشكال في اختصاصه بما إذا اغتسل بالماء القليل الذي يصدق عليه عرفاً انّه اغتسل به الرجل لا اغتسل فيه الرجل، فلا إشكال فيما لو اغتسل في الماء الكثير أو القليل بحيث يصدق عرفاً انّه اغتسل فيه، وإن كان يصدق على كلّ ما اغتسل فيه، انّه اغتسل به ـ بحسب اللغة ـ إلاّ انّ العرف يفرّق بينهما والمدار إنّما هو عليه فكلّ ماء صدق عليه انّه اغتسل به الرجل فلا يجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً لأنّ النهي عن التوضّي وأشباهه إنّما هو بهذا الماء كما في رواية ابن سنان المتقدّمة.

ومن هنا يظهر انّه لا بأس بالقطرات المنتضحة من بدن الجنب أو من الأرض في ماء آخر لأنّه لا يصدق عليها انّها اغتسل بها الرجل بعد استهلاكها في ذلك الماء، بل لا اختصاص لذلك بالقطرات، فكلّ مقدار يسير منه إذا اختلط مع ماء كثير بحيث صار مستهلكاً فيه ومعدوماً بنظر العرف فلا إشكال فيه.

بل يمكن أن يقال: إنّه لو امتزج الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر مع ماء مساو له من حيث المقدار أو أنقص منه في الجملة يجوز استعمال المجموع الممتزج، في رفع الحدث لأنّك عرفت انّ النهي إنّما هو عن استعمال الماء الذي اغتسل به الرجل، ومن المعلوم انّ هذا العنوان لا يصدق على المجموع المختلط فيدخل ذلك في عموم قوله(عليه السلام) في صدر الرواية: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل» فيجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً.

الصفحة 217

ولكنّه لا يخفى انّ العنوان المنهي عنه وإن كان لا يصدق على المجموع المختلط من المائين اللذين كان أحدهما مستعملاً في رفع الحدث الأكبر، إلاّ أنّه لا إشكال في صدقه على الماء الذي يكون كذلك لأنّ المفروض وجوده بين المجموع وعدم كونه مستهلكاً لامتناع استهلاك الشيء فيما هو من جنسه وحقيقته ـ كما قرّر في محلّه ـ والاستهلاك العرفي الذي مرجعه إلى كونه مفروض العدم لقلّته ـ مثلاً ـ منتف في المقام على ما هو المفروض فلا محالة يصدق عليه ذلك العنوان فلا يجوز الاغتسال والتوضّي به فتدبّر.

ثمّ إنّ الظاهر عدم جواز التوضّي وأمثاله بالماء المستعمل في غسل بعض الأعضاء وإن لم يكن سبباً لرفع الجنابة بأن كان مستعملاً في غسل العضو الأخير الذي به يتمّ الغسل وترتفع الجنابة لأنّ الظاهر من موضوع النصّ ـ الذي هو عبارة عن الماء الذي يغتسل به الرجل ـ هو الماء المستعان به في رفع الجنابة بأن كان جزءً لسبب الرفع وإن لم يكن جزءً أخيراً له.

كما أنّ الظاهر أن يكون المراد بالاغتسال المأخوذ في موضوع النص هو الغسل الصحيح فالاستعمال في الغسل الفاسد الذي لا يوجب رفع الحدث لا يمنع عن استعماله في رفع الحدث كما هو غير خفي.

ثمّ إنّه لو استعمل الماء الذي يغتسل به الرجل قبل انفصاله عن بدنه كما إذا وضع يده على بدن المغتسل حتى يجري منه الماء عليها فيحصل غسل اليد فالظاهر عدم الجواز لأنّه يصدق عليه استعمال الماء الذي اغتسل به الرجل.

كما أنّ الظاهر عدم جواز استعمال المغتسل نفسه الماء المنفصل عن بعض الأعضاء في غسل البعض الآخر وإن لم يصل إلى الأرض كما إذا أخذ يده تحت حنكه حتى يجتمع فيها الماء المستعمل في غسل الرأس والوجه فيستعين به في غسل

الصفحة 218

غيرهما والملاك في جميع ما ذكرنا هو صدق موضوع النص وعدمه سواء المغتسل وغيره، كما أنّه لا فرق في الأوّل بين استعمال المستعمل في ذلك الغسل أو في غيره من الوضوء أو الغسل الآخر.

السادس: الماء المستعمل في الاستنجاء وسيأتي البحث فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ عند تعرّض الماتن ـ دام ظلّه ـ له فارتقب.

الصفحة 219

مسألة 24 ـ الماء المستعمل في رفع الخبث المسمّى بالغسالة نجس مطلقاً1.

1 ـ هذه المسألة من المسائل الخلافية التي فيها من الأقوال الكثيرة ما لا مجال لاستقصائها، وما يعتنى به من بينها أربعة:

الأوّل: النجاسة مطلقاً وهو المشهور وقد اختاره الماتن ـ دام ظلّه ـ وهو الأقوى.

الثاني: الطهارة مطلقاً واختاره جماعة منهم صاحب الجواهر(قدس سره) وقد أصرّ على الطهارة بل جعلها من الواضحات.

الثالث: ما اختاره صاحب العروة(قدس سره) من التفصيل بين ماء الغسالة في الغسلة المزيلة للعين فهي نجسة وبين غسالة الغسلة غير المزيلة ـ امّا لإزالة العين قبلها بشيء أو لأجل عدم العين للنجاسة ـ فاحتاط فيها بالاجتناب.

الرابع: التفصيل بين غسالة الغسلة التي تتعقّبها طهارة المحلّ فهي طاهرة سواء كانت مزيلة للعين أم لم يكن وبين غيرها ممّا لا تتعقّبها طهارة المحلّ فهي نجسة كما اختاره بعض الأعلام في الشرح أو انّ الأحوط فيه الاجتناب كما اختاره في الوسيلة.

امّا القول الأوّل ـ وهو النجاسة مطلقاً ـ فيدلّ عليه اُمور:

منها: عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بتقريب انّ المتبادر من هذه الأدلّة عند العرف هو انّ الانفعال إنّما يكون مسبّباً عن نفس الملاقاة من دون فرق بين الكيفيات وأنواع الملاقاة من ورود النجاسة على الماء أو وروده عليها وتجاوزه عنها أو استقراره معها أصلاً، ألا ترى انّه لو قيل ـ مثلاً ـ انّ وقوع الفأرة الميتة في السمن الذائب يوجب نجاسته وحرمة أكله ـ كما ورد في رواية زرارة المتقدّمة الواردة في السمن والزيت ـ هل يتوهّم أحد انّ هذا الحكم منحصر بما إذا وقعت

الصفحة 220

الفأرة في السمن بحيث لو وقع السمن الذائب عليها لا يجري فيه هذا الحكم؟!

ولذا لم يذهب أحد من الأصحاب إلى الفرق بين الحالتين في السمن وغيره من المائعات مع أنّه لم يرد نصّ على عدم الفرق أصلاً، وليس ذلك إلاّ لأنّ المستفاد من الرواية انّ النجاسة المترتّبة عليها حرمة الأكل إنّما هي مسبّبة عن نفس ملاقاة السمن الذائب مع الميتة بلا فرق بين الحالات أصلاً، ونحن نقول: أي فرق بين هذه الرواية وبين الأدلّة الواردة في انفعال الماء القليل، فكما انّ علّة نجاسة السمن في الاُولى هي نفس الملاقاة من دون فرق بين الحالات، فكذلك منشأ تحقّق النجاسة في الثانية أيضاً هو مجرّد التلاقي بأيّ وجه اتفق، فالإنصاف انّه لو خلى الذهن في مقام فهم الروايات عن بعض الشبهات لا يبقى مجال للارتياب فيما ذكرنا.

هذا مضافاً إلى الإطلاق الاحوالي الثابت في مفهوم المستفيضة المعروفة: «الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء» كالإطلاق الاحوالي الثابت في منطوقه.

توضيحه: انّ الموضوع في المنطوق والمفهوم إنّما هي نفس طبيعة الماء من دون مدخلية شيء آخر فيه أصلاً، غاية الأمر انّه لا ينفعل إذا بلغ إلى الحدّ المخصوص ويرتفع ذلك عند ارتفاع ذلك الحدّ، فالموضوع للانفعال هو الماء غير البالغ ذلك الحدّ بلا مدخلية شيء آخر من الظرف أو المكان أو المقدار أو الحالة المخصوصة فيكون ثابتاً عند تحقّق موضوعه.

ومن المعلوم انّ الموضوع متحقّق على جميع التقادير سواء كان الماء وارداً على النجاسة أو العكس، كما أنّه على الأوّل لا فرق بين استقراره معها أو تجاوزه عنها; لأنّ المفروض خروج خصوصية هذه الحالات عمّا جعل موضوعاً للحكم فيترتّب على جميع تلك الحالات، كما أنّ موضوع الحكم بالاعتصام في النطوق هو الماء البالغ ذلك القدر من دون مدخلية خصوصية فيثبت الحكم بالاعتصام في جميع

<<التالي الفهرس السابق>>