في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة621)

مسألة  : الختّان ضامن لو تجاوز الحدّ وإن كان حاذقاً ، وفي ضمانه إذا لم يتجاوزه ـ كما إذا أضرّ الختان بالولد فمات ـ إشكال، أظهره العدم1 .


1 ـ قال المحقّق في الشرائع : إذا أفسد الصانع ضمن ولو كان حاذقاً; كالقصّار يحرق الثوب أو يخرق ، أو الحجّام يجني في حجامته ، أو الختّان يختن فيسبق موساه إلى الحشفة أو يتجاوز حدّ الختان ، وكذا البيطار; مثل أن يحيف على الحافر، أو يفصد فيقتل، أو يجني ما يضرّ الدابّة ولو احتاط واجتهد ، أمّا لو تلف في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط ولا تعدّ لم يضمن على الأصح، وكذا الملاّح والمكاري ولا  يضمنان إلاّ ما يتلف عن تفريط(1) .
أقول : في هذه المسألة مقامان :
المقام الأوّل : في ضمان الصانع إذا كان مفسداً مطلقاً، سواء كان حاذقاً أم لم يكن كذلك، والكلام فيه تارةً فيما تقتضيه قاعدة الإتلاف العامّة الحاكمة بثبوت الضمان على من أتلف مال الغير ، واُخرى فيما تفيده النصوص الخاصّة الواردة في الباب .
أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو الضمان لصدق الإتلاف والإفساد على عمل الصانع; لأنّه لا يعتبر في تحقّقه صدوره عن قصد وعمد، ضرورة أنّ إتلاف مثل النائم موجب للضمان ، وكذا لا تعتبر في تحقّقه صدوره عن مباشرة، بل يكفي صدوره بنحو التوليد أو التسبيب، فإلقاء مال الغير في النار الموجب لتلفه بسبب الإحراق إتلاف له، وإن كان الإحراق يعدّ فعلاً للنار ولكنّه لا ينافي الاستناد إلى الملقي أيضاً .
وبالجملة : لا ينبغي الارتياب في تحقّق عنوان الإتلاف في الأمثلة المذكورة في

(1) شرائع الإسلام: 2 / 187.

(الصفحة622)



عبارة الشرائع، وعليه فيترتّب عليه الضمان الذي هو مقتضى قاعدته .
نعم، فيما إذا كان التلف المترتّب على أعمال الصنعة مستنداً إلى عدم قابلية المحلّ ـ كعدم قابلية الثوب للقصارة على الوجه المتعارف ـ لا إلى خطأ الصانع وسبق يده ربما يقال: بأنّه وإن كان يصدق عليه أنّه متلف، إلاّ أنّ الأمر في مثل هذه الإجارة دائر بين صحّتها وعدم الضمان، وبين فسادها والضمان; لأنّ قصارة الثوب إذا كانت ملازمة عادة لخرقه فهو إتلاف مأذون فيه من قِبَل مالكه ، وكذا ختان الطفل الضعيف إذا كان جائزاً بحسب الظاهر لأبيه وجاز له الاستئجار شرعاً فهو إتلاف مأذون فيه شرعاً ومن قِبَل الولي ، وإن كان مع العلم بكون الختان مضرّاً لم يجز للولي ختانه ولما جاز شرعاً الاستئجار له .
وكذا في الطبيب الحاذق المباشر، فإنّه تارةً يقال فيه: بأنّه مكلّف بحفظ النفس المحترمة بعلاج المريض، فمثل هذا يستحيل أن يستلزم الضمان، فإنّ التلف لا يكون إلاّ بخطأ منه، فالموضوع وهو علاج المريض منتف فيه ، واُخرى بأنّه مكلّف باستعمال ما يراه علاجاً لا بما هو علاج واقعاً، وفي مثله لاضمان معه، وعليه ينزّل أخذ البراءة من المريض أي الإذن في العلاج على نحو لاضمان معه .
هذا، ولكنّ الظاهر أنّه لابدّ من ملاحظة أنّ الإذن في عمل يلازم التلف عادة هل يكون إذناً في الإتلاف حتّى لا يكون هناك ضمان ، أو أنّ الإتلاف المأذون فيه هو الذي يكون نفس الإتلاف بعنوانه متعلّقاً للإذن ومأذوناً فيه؟ والظاهر هو الثاني .
وأمّا الثاني: وهو مقتضى الأخبار الواردة في المقام، فنقول : إنّ مايرتبط منها بما هو محلّ البحث وهو إفساد الصانع وجنايته في صنعته لا يتجاوز عن عدّة روايات :
منها : صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سئل عن القصّار

(الصفحة623)



يفسد؟ فقال : كلّ أجير يعطى الاُجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن(1) .
ومنها : صحيحته أو حسنته أيضاً عنه (عليه السلام) في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده، فقال : كلّ عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن(2) .
ومنها : رواية أبي الصباح قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن القصّار هل عليه ضمان؟ فقال : نعم، كلّ من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن(3) .
ومنها : رواية إسماعيل بن أبي الصباح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الثوب أدفعه إلى القصّار فيخرقه؟ قال : أغرمه فانّك إنّما دفعته إليه ليصلحه ولم تدفع إليه ليفسده(4).
وفي رواية اُخرى عنه نحوه إلاّ أنّه قال : عن القصّار يسلّم إليه المتاع فيخرقه أو يحرقه أيغرمه؟ قال : غرّمه بما جنت يده(5) .
ومنها : رواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل استأجر رجلاً يصلح بابه فضرب المسمار فانصدع الباب، فضمّنه أمير المؤمنين (عليه السلام)(6) .
وهذه الروايات مضافاً إلى دلالتها على ثبوت الضمان في مفروض المقام يدلّ أكثرها على إعطاء قاعدة كليّة، وقد عرفت أنّ مقتضى دليل الإتلاف أيضاً ذلك.

(1) الكافي: 5 / 241 ح1، وسائل الشيعة: 19 / 141، كتاب الإجارة ب29 ح1.
(2) الفقيه: 3 / 161 ح704، وسائل الشيعة: 19 / 147، كتاب الإجارة ب29 ح19.
(3) التهذيب: 7 / 220 ح963، الاستبصار: 3 / 132 ح476، وسائل الشيعة: 19 / 145، كتاب الإجارة ب29ح13.
(4 و 5) الكافي: 5 / 242 ح7، الفقيه: 3 / 161 ح705، وسائل الشيعة: 19 / 143ـ 144، كتاب الإجارة ب29ح8.
(6) الكافي: 5 / 243 ح9، وسائل الشيعة: 19 / 144، كتاب الإجارة ب29 ح10.

(الصفحة624)



نعم، في الفرض الذي احتملنا خروجه عن القاعدة الأوّلية ـ وهو ما لو لم يكن الإفساد مستنداً إلى العامل والأجير، بل إلى عدم قابليّة المحلّ وعدم صلاحيّته لعروض الإصلاح له ـ لا يبعد أن يقال بعدم دلالة الروايات أيضاً على ثبوت الضمان فيه; لأنّ موردها الثوب القابل للإصلاح وإعطاء الاُجرة عليه ، ومع عدم قابلية المحلّ للإصلاح لكونه عتيقاً يخرق بمجرّد الفرك والدلك المعتاد لا تشمله الروايات أصلاً .
ثمّ إنّ هنا رواية ربما يستفاد منها خلاف ما ذكرنا من الحكم بضمان الصانع مطلقاً; وهي رواية أبي بصير ليث المرادي، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، وقد ورد في ذيلها قوله : وفي رجل استأجر جمّالاً فيكسر الذي يحمل أو يهريقه، فقال : على نحو من العامل، إن كان مأموناً فليس عليه شيء، وإن كان غير مأمون فهو ضامن(1) .
ودلالتها على عدم ضمان مطلق الصانع إذا أفسد إمّا من جهة كون الجمّال الذي يستأجر للحمل من مصاديق الصانع. غاية الأمر أنّ عمله وصنعته عبارة عن حمل المتاع من مكان إلى آخر، خصوصاً مع نسبة الكسر والإهراق إليه الظاهرة في صدور الجناية منه وإن لم تكن عن عمد واختيار . وأمّا من جهة أنّ الجمّال وإن لم يكن من مصاديق عنوان الصانع، إلاّ أنّ قوله (عليه السلام) في الجواب : «على نحو من العامل . . .» ظاهر في أنّ الحكم بالضمان في العامل ليس على نحو الإطلاق، بل في خصوص ما إذا لم يكن مأموناً ، وقد أفتى بمضمون هذه الرواية الشيخ (قدس سره)، حيث إنّ المحكيّ عنه أنّه في التهذيب حكم بعدم ضمان الأمين(2) .

(1) التهذيب: 7 / 218 ح951، وسائل الشيعة: 19 / 144، كتاب الإجارة ب29 ح11.
(2) التهذيب: 7 / 220.

(الصفحة625)



وربما يقال : بأنّه يتعيّن حملها على الاستحباب، نظراً إلى اندراج الجمّال في القاعدة الكلّية المستفادة من الروايات السابقة، وهي أنّ كلّ من أخذ مال الناس للإصلاح فأفسد فهو ضامن ، وإلى أنّه لم يعمل بها الأصحاب .
ويرد على الوجه الأوّل : أنّ اندراج الجمّال في تلك القاعدة لا يوجب تعيّن حمل الرواية على الاستحباب; لأنّه يمكن تخصيصها بخصوص الجمّال، ولم يقم دليل على عدم قابلية تلك القاعدة للتخصيص. هذا، مضافاً إلى أنّك عرفت أنّ الرواية تدلّ بمقتضى التشبيه على ثبوت قاعدة اُخرى; وهو التفصيل في الضمان في مطلق العامل، ففي الحقيقة مفاد الرواية أنّ القاعدة السارية في العامل هو الفرق بين المأمون وغيره، ولا دليل على ترجيح تلك القاعدة بوجه .
وعلى الوجه الثاني: ـ مضافاً إلى ما مرّ من عمل الشيخ (قدس سره) به في محكي التهذيب ـ أنّه لم يثبت بعد إعراض الأصحاب عن الرواية حتّى يكون قادحاً في اعتبارها بناءً على كون الإعراض قادحاً على اختلاف فيه، والتحقيق في محلّه .
المقام الثاني: في الفرع الذي ذكره المحقّق (قدس سره) في ذيل المسألة; وهو أنّه إذا تلف ما في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط ولا تعدٍّ لم يضمن على الأصحّ(1)، والبحث في هذا الفرع أيضاً تارةً من جهة مقتضى القاعدة، واُخرى من جهة الروايات الواردة فيه .
أمّا من الجهة الاُولى: فقد تقدّم(2) أنّ العين التي هي مورد عمل الأجير وبيده أمانة عنده مدفوعة إليه برضا مالكه وباختياره، فلا يكون ضامناً له مع التلف فيما

(1) شرائع الإسلام: 2 / 187.
(2) في ص553.

(الصفحة626)



إذا لم يكن هناك تعدّ ولا تفريط كما هو المفروض، بل كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)ثبوت الأمانة في المقام أولى من ثبوتها في العين المستأجرة; لأنّ التسليط على العين المستأجرة ممّا لابدّ منه مقدّمة لاستيفاء المنفعة، ومع اللابديّة لا يمكن استكشاف الرضا بعد العقد إلاّ بدعوى أنّ إقدامه على الإجارة المقتضية للتسلّط بعد العقد كان عن رضاه، والظاهر بقاؤه، وهذا بخلاف المقام فإنّ المستأجر هنا مالك للعمل، فدفع العين إلى الأجير مع عدم اللابديّة يكشف قطعاً عن الرضا(1) .
وأمّا من الجهة الثانية: فالروايات الواردة في محلّ البحث مختلفة :
فمنها : ما هي ظاهرة في عدم الضمان مطلقاً، كرواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال: ليس يضمنان(2) . والسؤال إمّا ظاهر في أنّ مورده خصوص ما إذا تلف في يدهما بأيّ نحو من أنحاء التلف ولا  يشمل صورة الإفساد والإتلاف ، وإمّا يكون صورة التلف هي القدر المتيقّن من مورده لاحتمال العموم والشمول، وعلى أيّ تدلّ الرواية على عدم الضمان في محلّ البحث .
ومنها : ما يظهر منه التفصيل في الضمان وعدمه بين صورتي الأمن والاتّهام، كصدر رواية أبي بصير المتقدّمة الدالّة على قول أبي عبدالله (عليه السلام) : أنّه لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين(3). ورواية محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصّره، فدفعه

(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 285 ـ 286.
(2) التهذيب: 7 / 220 ح964، الاستبصار: 3 / 132 ح477، وسائل الشيعة: 19 / 145، كتاب الإجارة ب29ح14.
(3) التهذيب: 7 / 218 ح951، وسائل الشيعة: 19 / 144، كتاب الإجارة ب29 ح11.

(الصفحة627)



القصّار إلى قصّار غيره ليقصّره فضاع الثوب، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصّار مأموناً؟ فوقّع (عليه السلام) : هو ضامن له إلاّ أن يكون ثقة مأموناً إن شاء الله(1) .
ومنها ـ وهو الأكثر ـ  : ما يدلّ على الضمان مطلقاً، كرواية يونس قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن القصّار والصائغ أيضمنون؟ قال : لايصلح إلاّ أن يضمنوا (2).
ورواية الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام)يضمّن القصّار والصائغ احتياطاً على الناس، وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً(3).
وفي رواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمّن الصبّاغ والقصّار والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس، وكان لا يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب، الحديث(4).
والظاهر أنّ المراد من التطوّل الذي تدلّ عليه رواية الحلبي هو التطوّل في مقام العمل مع جواز التغريم الذي هو متفرّع على ثبوت الضمان، وعليه فلا ينافي التضمين من ناحية أمير المؤمنين (عليه السلام) مطلقاً، ويؤيّده بل تدلّ عليه مرسلة الصدوق أنّ أبا عبدالله (عليه السلام) قال : كان أبي (عليه السلام) يضمّن الصائغ والقصّار ما أفسدا، وكان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يتفضّل عليهم(5). مع أنّ موردها المسألة المتقدّمة التي يكون الحكم فيها

(1) التهذيب: 7 / 222 ح974، وسائل الشيعة: 19 / 146، كتاب الإجارة ب29 ح18.
(2) الكافي: 5 / 243 ح10، التهذيب: 7 / 219 ح958، الاستبصار: 3 / 132 ح473، وسائل الشيعة: 19/144، كتاب الإجارة ب29 ح9.
(3) الكافي: 5 / 242 ح3، وسائل الشيعة: 19/142، كتاب الإجارة ب29 ح4.
(4) الكافي: 5 / 242 ح5، التهذيب: 7 / 219 ح956، الاستبصار: 3 / 131 ح471، وسائل الشيعة: 19/142، كتاب الإجارة ب29 ح6.
(5) الفقيه: 3 / 161 ح706، وسائل الشيعة: 19/147، كتاب الإجارة ب29 ح20.

(الصفحة628)



الضمان بمقتضى القاعدة والنصوص، فالتفضّل والتطوّل لا ينافي الضمان .
ثمّ إنّ مقتضى قاعدة الجمع بين الروايات المتعارضة في مثل المقام وإن كان هو التصرّف في المطلقات منها، والحمل على الرواية المفصّلة التي يكون مقتضاها في المقام ثبوت الضمان مع التهمة وعدم كونه مأموناً، وعدمه مع كونه كذلك. وعليه فيصير مفاد الروايات مخالفاً للقاعدة المقتضية لعدم الضمان، نظراً إلى ثبوت الأمانة، حيث إنّ مفادها التفصيل ومقتضى القاعدة الإطلاق، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الروايات الدالّة على الضمان خارجة عن محلّ البحث; لأنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق التلف في يد الصائغ والقصّار ومثلهما، والدليل عليه ـ مضافاً إلى التعليل بكون تضمين أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما هو لأجل الاحتياط على الناس وعلى أمتعتهم ـ ذيل رواية السكوني الدالّ على أنّه لم يكن يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب، فإنّ مقتضاه أنّه مع العلم بثبوت التلف واستناده إلى أمر آخر دون مثل الصائغ لم يكن هناك تضمين أصلاً، فالتضمين الثابت في الصدر إنّما هو في مورد الشكّ في تحقّق التلف، أو الشكّ في الاستناد إلى العامل واحتمال كونه هو المتلف .
ومن هذا يظهر أنّ مورد الرواية المفصّلة أيضاً إنّما هو خصوص صورة الشكّ، ويؤيّده بل يدلّ عليه أنّ نفس هذا التفصيل لا يلائم إلاّ مع هذه الصورة، فإنّ الاتّهام وعدمه لا يرتبط إلاّ بما إذا كان هنا شكّ، وإلاّ فمع العلم بثبوت التلف وعدم الاستناد إلى العامل لايكون فرق بين المتّهم وغيره والتعبير في رواية الصفّار بضياع الثوب لا دلالة فيه على كون الضياع الذي هو أمر غير اختياريّ أمراً مسلّماً حتّى ينافي ما  ذكرنا، فتدبّر .
فالإنصاف أنّ الروايات الدالّة على عدم الضمان محكّمة في المقام، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة أيضاً ذلك. نعم، يبقى على غيرها من الروايات المفصّلة أو الدالّة

(الصفحة629)

مسألة  : الطبيب ضامن إذا باشر بنفسه العلاج ، بل لا يبعد الضمان في التطبيب على النحو المتعارف وان لم يباشر. نعم، إذا وصف الدواء الفلاني وقال : إنّه نافع للمرض الفلاني ، أو قال :إنّ دواءك كذا من دون أن يأمره بشربه فالأقوى عدم الضمان1.


على الضمان المخالفة للقاعدة من جهة اُخرى، وهي سماع دعوى الأمين في تحقّق التلف وعدم الحاجة إلى إقامة البيّنة ونحوها، مع أنّ مقتضاها عدم السماع مطلقاً أو مع الاتّهام، ولكن هذا أمر آخر غير مانحن بصدده من ثبوت الضمان وعدمه عند التلف الواقعي، فتدبّر جيّداً .
1 ـ أقول : قد مرّ في المسألة المتقدّمة أنّه ربما ينفى الضمان في الطبيب الحاذق المباشر، نظراً إلى أنّه مكلّف بحفظ النفس المحترمة بعلاج المريض، ومثله يستحيل أن يستلزم الضمان، فإنّ التلف لا يكون إلاّ بخطأ منه، فالموضوع وهو علاج المريض منتف فيه ، أو إلى أنّه مكلّف باستعمال ما يراه علاجاً لا بما هو علاج واقعاً، وفي مثله لاضمان معه .
وقد عرفت أيضاً استظهار أنّ الإذن في عمل يلازم التلف عادةً لا يكون إذناً في الإتلاف حتّى لايكون هناك ضمان، بل الإتلاف المأذون فيه هو الذي يكون نفس الإتلاف بعنوانه متعلّقاً للإذن ومأذوناً فيه، فالقاعدة تقتضي الضمان، ومنه يظهر الجواب عن الحلّي القائل بعدم الضمان استناداً إلى ثبوت الإذن(1)، فإنّ الإذن في العلاج لايلازم الإذن في الإفساد والإتلاف .
هذا، ويؤيّد القاعدة رواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال

(1) اُنظر السرائر: 3 / 373.

(الصفحة630)

مسألة   : لو عثر الحمّال فانكسر ما كان على ظهره أو رأسه مثلاً ضمن، بخلاف الدابّة المستأجرة للحمل إذا عثرت فتلف أو تعيب ما حملته، فإنّه لاضمان على صاحبها إلاّ إذا كان هو السبب; من جهة ضربها أو سوقها في مزلق ونحو ذلك1 .


أمير المؤمنين (عليه السلام) : من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، وإلاّ فهو له ضامن(1).
ويدلّ على ذلك أيضاً الروايات الواردة في المسألة المتقدّمة(2) الدالّة على أنّ إفساد الأجير الذي أُعطي أجراً على أن يصلح موجب لضمانه، فإنّ مناطه هو الإفساد بدل الإصلاح لا ثبوت الاُجرة .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ الملاك في الضمان هو استناد الإفساد والإتلاف إلى الطبيب وإن لم يتحقّق منه المباشرة، كما في التطبيب على النحو المتعارف، فإنّ الإسناد إلى الطبيب فيه أمر عرفيّ. نعم، لايتحقّق الاستناد في توصيف الدواء ومثله، فالأقوى فيه كما في المتن من عدم الضمان .
1 ـ أمّا الضمان في الفرض الأوّل فمستنده كما في الجواهر هي قاعدة الإتلاف، التي قد عرفت(3) أنّ جريانها لا ينحصر بما إذا كان هناك عمد وقصد، بل الملاك فيها صدق الاستناد وهو متحقّق في الفرض، مضافاً إلى صحيحة داود ابن سرحان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب

(1) الكافي: 7 / 364 ح1، وسائل الشيعة: 29 / 260، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب24 ح1.
(2) في ص622 ـ 623.
(3) تقدّم في ص298 و 621.

(الصفحة631)



إنساناً فمات أو انكسر منه شيء فهو ضامن(1). وربما يتأمّل في شمولها للفرض، فتأمّل.
ولكنّ الظاهر أنّ القاعدة بنفسها كافية في الحكم بالضمان في المقام، فلا وجه لما  حكي عن كشف اللثام من عدم الضمان إلاّ مع التفريط، أو كونها عارية مضمونة(2) لجريان القاعدة مع انتفاء الأمرين أيضاً، كما عرفت .
ثمّ إنّه ذكر في «المستمسك»: أنّه إذا كانت سلسلة أسباب بعضها اختياري وبعضها غير اختياري نسب الفعل إلى الفاعل المختار، كما لو عمد إلى نائم فنخسه فانقلب على إناء ثالث فكسره نسب الكسر إلى الناخس . أمّا لو كانت كلّها غير اختيارية نسب الفعل إلى المباشر، كما لو انقلب النائم على نائم آخر فانقلب الثاني على إناء فكسره نسب الفعل إلى الثاني. ولو كانت كلّها اختيارية، كما لو ضرب زيد عمراً فغضب عمرو وكسر إناء بكر نسب الكسر إلى عمرو، ومن ذلك تعرف أنّ الاختيار ليس شرطاً في صحّة النسبة إلاّ إذا كان موجوداً في سلسلة العلل، فإنّه يستند الفعل إلى السبب الاختياري لا غير(3) .
ومنه يعرف الوجه في عدم الضمان في الفرض الثاني إلاّ إذا كان صاحب الدابّة هو السبب، فإنّه مع عدم التسبّب لا وجه لضمان صاحبها; لعدم استناد التلف إليه بوجه; لأنّ السبب هو العثور وهو لايكون مستنداً إليه. نعم، إذا كان منشؤه الضرب أو السوق في المزلق أو نحوها يتحقّق الاستناد ويتبعه الضمان، كما هو ظاهر .

(1) التهذيب: 7 / 222 ح973، وسائل الشيعة: 19/152، كتاب الإجارة ب30 ح11.
(2) كشف اللثام: 2 / 483.
(3) مستمسك العروة الوثقى: 12 / 81 ـ 82.

(الصفحة632)

مسألة  :لو استأجر دابّة للحمل لم يجز أن يحمّلهاأزيد ممّا اشترط، أو المقدار المتعارف لو أطلق ، فلو حمّلها أزيد منه ضمن تلفها وعوارها. وكذلك إذا سار بها أزيد ممّا اشترط1 .


1 ـ الوجه في الضمان في حمل الأزيد أو السير بها كذلك واضح، والنصّ والفتوى متطابقان عليه. نعم، وقع الخلاف في مقداره وأنّه هل هو التمام أو النصف؟ فالمشهور(1) هو الأوّل، وعن الإرشاد الثاني(2); لأنّ الحمل بعضه مأذون فيه وبعضه غير مأذون فيه، واُجيب عنه بأنّ الموجب للضمان هو العدوان الحاصل بحمل ما لم يأذن به المالك .
كما أنّه وقع الخلاف في مقدار الاُجرة الثابت عليه مع عدم التلف، وأنّه هل هو اُجرة مثل المجموع كما حكي عن الأردبيلي(3)، أو اُجرة مثل الزائد مع المسمّى كما عن المشهور(4)، أو ثبوت المسمّى مع اُجرة الزيادة بحساب المسمّى كما عن المقنعة(5)، أو أنّ في المسألة تفصيلاً؟ وهو أنّه لو كان ذلك على وجه التقييد فالثابت هي اُجرة المثل; لأنّ العقد لم يقع على هذا المقدار من الحمل، ولو لم يكن على وجه التقييد ثبت عليه المسمّـاة واُجرة المثل بالنسبة إلى الزيادة، واختاره صاحب العروة(6)، وهنا احتمال خامس وهو وجوب المسمّى واُجرة المثل للمجموع، أمّا الاُولى فبالإجارة لعدم الموجب لفسادها، وأمّا الثانية فلاستيفاء المنفعة غير

(1) رياض المسائل: 6 / 41، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 241، مستمسك العروة الوثقى: 12/84.
(2) إرشاد الأذهان: 1 / 423.
(3) مجمع الفائدة والبرهان: 10 / 22 ـ 23.
(4) رياض المسائل: 6 / 41، بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 235 ـ 236، مستمسك العروة الوثقى: 12/85.
(5) المقنعة: 642.
(6) العروة الوثقى: 5 / 71 مسألة 12.

(الصفحة633)

مسألة  : لو استؤجر لحفظ متاع فسرق لم يضمن إلاّ مع التقصير أو اشتراط الضمان 1 .


المأذون فيها، واختاره صاحب العروة فيما لو استأجر دابّة لحمل متاع معيّن على وجه التقييد فحمّلها غير ذلك المتاع أو استعملها في الركوب(1)، وقد تقدّم منّا التحقيق في هذا الباب في ضمان المنافع المتضادّة، فراجع(2).

1 ـ الوجه في عدم الضمان مع عدم التقصير أو اشتراطه ـ مضافاً إلى كونه أميناً، ويدلّ على عدم ضمانه ما يدلّ على عدم ضمانه ـ ما روي في الصحيح عن رجل استأجر أجيراً فأقعده على متاعه فسرقه؟ قال : هو مؤتمن(3) . ونوقش في الاستدلال بها بعدم وضوح ظهورها في كونه أجيراً على الحفظ، مضافاً إلى أنّ المستفاد من التعليل الوارد في رواية إسحاق بن عمّار الواردة في الحمّامي الدالّة على عدم ضمانه ثبوت الضمان في المقام; لأنّه قد علّل فيها العدم بأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام ولم يأخذ على الثياب(4)، ومقتضاه أنّه لو كان أخذ الجعل على الثياب لكان اللاّزم ضمانه، والوجه فيه أنّه حينئذ مكلّف بالحفظ فتركه تفريط موجب للضمان. نعم، لو كان ذهاب المتاع غير مستند إلى ترك التحفّظ، بل إلى أمر آخر لا  دخل لحفظه فيه كآفة سماويّة قهريّة، فالظاهر عدم ثبوت الضمان لعدم تحقّق التفريط بوجه .

(1) العروة الوثقى: 5 / 87 مسألة 6.
(2) في ص483 ـ 485.
(3) التهذيب: 7 / 218 ح952، وسائل الشيعة: 19/142، كتاب الإجارة ب29 ح3.
(4) التهذيب: 6 / 314 ح869 ، وسائل الشيعة: 19/140، كتاب الإجارة ب28 ح3.

(الصفحة634)

مسألة  : صاحب الحمّام لا يضمن الثياب وغيرها إن سرقت، إلاّ إذا أُودعت عنده وفرّط أو تعدّى1 .


1 ـ عدم ضمان صاحب الحمّام ـ مع أنّ مقتضى دليل اليد هو الضمان ـ أنّ التسليط أي تسليط الغير على المال عن إرادة ورضى خارج عن دليل اليد; لاتّحاد ملاكه مع ملاك الوديعة من هذه الجهة، وإن كان بينهما فرق من جهة وجوب الحفظ عليه في الوديعة دون المقام; لأنّه لم يقم دليل على وجوب حفظ المال المحترم من حيث هو، فالقاعدة تقتضي عدم الضمان .
ويدلّ عليه أيضاً روايات كثيرة، كرواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبدالله (عليه السلام)أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمّنه، وقال : إنّما هو أمين(1) .
ورواية أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان لا يضمّن صاحب الحمّام، وقال : إنّما يأخذ الأجر على الدخول في الحمام(2) .
ورواية إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه أنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب; لأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام ولم يأخذ على الثياب(3).
وتعليل عدم الضمان في الرواية الاُولى بأنّه أمين إمّا محمول على الأمانة بمعنى الوديعة، بناءً على كون قوله : «وضعت عنده الثياب» ظاهراً في إيداعها عنده، وإمّا على الأمانة بالمعنى الأعمّ، بناءً على عدم كون القول المذكور ظاهراً فيما ذكر، بل في

(1) الكافي: 5 / 242 ح8 ، وسائل الشيعة: 19/139، كتاب الإجارة ب28 ح1.
(2) قرب الإسناد: 152 ح553، وسائل الشيعة: 19/140، كتاب الإجارة ب28 ح2.
(3) التهذيب: 6 / 314 ح869 ، وسائل الشيعة: 19/140، كتاب الإجارة ب28 ح3.

(الصفحة635)

[حصول آفة مفسدة للزراعة]

مسألة  : لو استأجر أرضاً للزراعة فحصلت آفة أفسدت الحاصل لم تبطل الإجارة ولا يوجب ذلك نقصاً في الاُجرة. نعم، لو شرط على المؤجر إبراءه من الاُجرة بمقدار ما نقص أو نصفاً أو ثلثاً منه مثلاً صحّ ولزم الوفاء به1 .


استيلائه عليها من دون إيداع، وأمّا التعليل في الروايتين الأخيرتين فهو ظاهر في أنّه لم يأخذ الاُجرة على حفظ الثياب حتّى يكون مكلّفاً بالحفظ بمقتضى وجوب العمل على طبق الإجارة، بل يكون من هذه الجهة أمين لا يضمن، فاستئجاره وإعطاء الاُجرة إنّما هو لنفس الدخول في الحمّام والاستفادة من مائه، فلا وجه لضمانه .

1 ـ أمّا عدم بطلان الإجارة فإنّه لاموجب له بعد تحقّق الشرائط المعتبرة في صحّة الإجارة بأجمعها كما هو المفروض ، وأمّا عدم كون ذلك موجباً للنقص في الاُجرة فلعدم كون المنفعة التي بذل المال بإزائها متبعّضة; لأنّ المفروض حصول آفة سماوية مفسدة للحاصل غير مرتبطة بالعين ومنفعتها، فلا موجب لنقص الاُجرة .
وأمّا صحّة اشتراط الإبراء فلأنّه من الشروط الجائزة، ولا يجري فيه المناقشة في صحّة شرط النتيجة على تقدير تماميتها; لأنّه من شرط الفعل; لأنّ الفرض تعلّقه بالإبراء ولا يقدح فيها التعليق; لعدم معلومية حصول النقص، والإبراء إنّما هو على تقدير حصوله لمنع قدح التعليق في باب الشروط، كما أنّه لايقدح فيها الجهالة في الفرض الأوّل، وهو ما إذا كان الشرط الإبراء بمقدار ما نقص، وكذا في الفرضين الآخرين بناءً على كون الضمير راجعاً إلى مقدار ما نقص ـ كما هو الظاهر ـ لا إلى

(الصفحة636)



الاُجرة; لعدم كون مثلها قادحاً في باب الشروط التي هي من توابع العقد، ولا يلزم منه التسرية إلى نفس العقد .
نعم، في باب التعليق ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره)(1) أنّه قد يتوهّم ذلك; أي بطلان التعليق في الشرط لرجوعه إلى التعليق في العقد; لأنّ الشرط يرجع إلى جزء من أحد العوضين، ولكن فساد التوهّم ظاهر .
كما أنّه ربما يستدلّ على مانعيّة التعليق في العقود والإيقاعات بمنافاة التعليق للإنشاء، وأنّه لايكاد يجتمع الإنشاء معه، ولازم ذلك جريانه في باب الشروط أيضاً; لعدم الفرق بينها وبين العقود والإيقاعات من هذه الجهة .
ولكن الاستدلال غير تامّ لمنع المنافاة، والشاهد ثبوت التعليق في بعض الإنشاءات بالأصل كالوصية التمليكية والتدبير ونحوهما .
هذا، ولو كان الشرط في الصورة المفروضة بنحو شرط النتيجة، بأن اشترط البراءة على تقدير النقص بمعنى تحقّق البراءة قهراً حين حصوله، فالصحّة وعدمها مبنيّان على صحّة شرط النتيجة وعدمها، وقدتقدّم الكلام في ذلك مفصّلاً فراجع(2).

***

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال في الشرائع: إذاأسقط الاُجرة بعدتحقّقها في الذمّة صحّ، ولو أسقط المنفعة المعيّنة لم تسقط; لأنّ الإبراء لا يتناول إلاّ ما هو في الذمّة(3).
أقول : لا خفاء في أنّ الإبراء لا يتعلّق إلاّ بالكلّي الذمّي، ولا معنى لتعلّقه

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6 / 57.
(2) في ص591 ـ 594.
(3) شرائع الإسلام: 2 / 188.

(الصفحة637)



بالأمر الجزئي الخارجي، من دون أن يكون هنا فرق بين الاُجرة والمنفعة، فإذا كانت الاُجرة كليّة متحقّقة في الذمّة صحّ إبراؤها، كما أنّ المنفعة إذا كانت كليّة ـ كما إذا كان مورد الإجارة دابّة كلّية، أو عبداً كلّياً، أو كان عملاً من الأعمال، سواء تعلّق ذلك العمل بعين شخصية، كما إذا استؤجر على خياطة ثوبه المعيّن أم لا، كما إذا استؤجر على خياطة ثوب كلّي ـ يصحّ ابراؤها، ودعوى أنّ تعلّق العمل بالعين الشخصية الخارجية يوجب جزئيّته وعدم إضافته إلى الذمّة، مدفوعة بأنّ تعلّقه بها لا يصيّره جزئيّاً وهو بعد باق على الكلّية، والاشتغال به ثابت في العهدة. غاية الأمر أنّ ذلك يوجب ضيق دائرة الكلّي وانحصاره بفرد خاصّ. ومن المعلوم أنّ الملاك في الكليّة لا يدور مدار الأفراد كثرة وقلّة، بل المناط إنّما هو ثبوته في الذمّة واشتغالها به القابل للإبراء ونفي الاشتغال.
وأمّا إذا كانت الاُجرة شخصية، كما إذا كان مال الإجارة عيناً مشخّصاً من الأعيان الخارجية، أو منفعة عين جزئيّة فلا معنى لتعلّق الإبراء بها وإسقاطها من المؤجر، كما أنّه إذا كانت المنفعة كذلك كالدار المعيّنة المستأجرة لا يصحّ إبراؤها من المستأجر.
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التقابل بين الاُجرة والمنفعة ـ الذي ربما يشعر به أو يدلّ عليه عبارة الشرائع المتقدّمة ـ في غير محلّه، فإنّه لا تقابل بينهما من هذه الجهة أصلاً، ففي كلّ منهما قد يصحّ الإبراء لكونه كلّياً ذمّياً، وقد لا يصحّ لكونه أمراً شخصياً خارجيّاً.
كما أنّه قد ظهر الفرق بين الأجير المشترك أو العامّ، وبين الأجير الخاصّ، فإنّ الأوّل يصحّ أن يكون طرفاً للإبراء لثبوت العمل على عهدته، والثاني لا يصحّ أن يكون كذلك; لأنّ منفعته المملوكة للمستأجر منفعة

(الصفحة638)

[جواز جعل الاُجرة تعمير الأرض]

مسألة  : تجوز إجارة الأرض للانتفاع بها بالزرع وغيره مدّة معلومة وجعل الاُجرة تعميرها، من كري الأنهار، وتنقية الآبار، وغرس الأشجار، وتسوية الأرض، وإزالة الأحجار ونحو ذلك، بشرط أن يعيّن تلك الأعمال على نحو يرتفع الغرر والجهالة، أو كان تعارف مغن عن التعيين 1 .


عين شخصية خارجيّة كمنفعة الدار المعيّنة، فلا معنى لتعلّق الإبراء به، فتدبّر جيّداً. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].

***


1 ـ الجواز في هذه المسألة إنّما هو على طبق القاعدة; لأنّ الأعمال تصلح لأن تجعل عوضاً في المعاوضات بيعاً كان أو إجارة أو نحوهما، والمفروض تعيينها أو وجود تعارف يرتفع به الغرر والجهالة .
وقد حمل على هذا الفرض في العروة(1) الروايات الواردة في القبالة التي منها :
صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إنّ القبالة أن تأتي الأرض الخربة فتقبّلها من أهلها عشرين سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر فتعمّرها وتؤدّي ما خرج عليها فلا بأس به(2) .
وصحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : وسألته عن الرجل يعطي الأرض الخربة ويقول: أعمرها وهي لك (ملك ـ ظ) ثلاث سنين أو

(1) العروة الوثقى: 5 / 135 ـ 136.
(2) الكافي: 5 / 268 ح3، وسائل الشيعة: 19 / 46، كتاب المزارعة ب11 ح2.

(الصفحة639)



خمس «أربع خ ل» سنين أو ما شاء الله، قال : لابأس(1) .
وصحيحة اُخرى للحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الأرض يأخذها الرجل من صاحبها فيعمرها سنتين ويردّها إلى صاحبها عامرة وله ما أكل منها؟ قال : لابأس(2) .
وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب، ولكن يجري فيها احتمالات اُخر غير ما احتمله في العروة من كون المراد منها هي الإجارة بالنحو المذكور في المسألة، وهو أن يكون من قبيل إجارة الأعيان :
منها : أن يكون المراد منها الإجارة بنحوتكون الاُجرة منفعة الأرض، والمستأجر العامل، والمستأجر عليه هو العمل، فيكون من باب الإجارة على الأعمال .
ومنها : أن يكون المراد منها هي الجعالة على العمل، وكان الجعل هي المنفعة .
ومنها : أن يكون معاملة مستقلّة غير مرتبطة ببابي الإجارة والجعالة. ولكنّ الظاهر ما اختاره في العروة .

***

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بشرح كتاب الإجارة من كتابنا الموسوم بـ  «تفصيل الشريعة» في شرح «تحرير الوسيلة». ونسأل من الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يوفّقني لإتمام هذا الشرح المنيف، ويجعله ذخيرة لي ليوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، وقد وقع الفراغ منه في أوائل شهر جمادى الثانية من شهور سنة 1398 من الهجرة النبويّة، على مهاجرها آلاف الثناء والتحيّة، ومع أنّه لم يمض من هذا الشهر إلاّ أيّام قلائل

(1) الكافي: 5 / 268 ح2، وسائل الشيعة: 19 / 46، كتاب المزارعة ب11 ح1.
(2) التهذيب: 7 / 205 ح903، وسائل الشيعة: 19 / 55، كتاب المزارعة ب16 ح8.

(الصفحة640)



ولكنّه اتّفق فيه حوادث محزنة من أوّل الشهر ينبغي أن يجري عليها بدل الدموع دماً، فقد قتل فيه نفوس كثيرة في بلدة قم المحمية دار العلم والإيمان وحرم أهل البيت (عليهم السلام)، ومنشؤه الدفاع عن حريم القرآن والحماية لقوانين الإسلام، التي صارت مورداً لتجاوز الحكومة الجائرة الإيرانية التي هي من عمّال الاستعمار وحماة اليهود والمنصوبة من قِبلهم، المأمورة من جانبهم لهظم الشعب وإطفاء نور الإسلام والتشيّع، ليسهل له بذل ما أعطاه الله ومنحه للشعب إليهم، وكم ارتكب فجائع في هذه الشهور الأخيرة، وفي هذه السنوات يأبى التاريخ من ضبطها انفعالاً، ولايقدر اللسان والقلم على بيانها وإفهامها، وأهمّها إيراد الضرب والجرح على جملة غير قليلة من طلاّب العلم والفضيلة، وقتل بعض نفوسهم الشريفة والحبس ونفي البلد لجملة من أفاضلهم وأعيانهم، والسبّ والشتم والإهانة بوجوه كثيرة، وقد هجموا على بيوت بعض المراجع وقتلوا فيها بعض النفوس، وهتكوا حرمة الدين والروحانية والمرجعية، ولم يكتفوا بمثل ذلك، بل اتّهموهم في الإذاعة والمطبوعات بما يتبرّأ منه كلّ متديّن فضلاً عن الروحاني والعالم، والآن بلدة قم تحت احتلالهم ومملوءة من المسلّحين والوسائل الحربية من الدبابات وغيرها، فإليك ياربّ المشتكى وعليك المعوّل في الشدّة والرخاء .
اللّهمَّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله .
اللّهمَّ إنّا نشكو إليك فقد نبيّنا، وغيبة وليّنا، وكثرة عدوّنا، وقلّة عددنا، وشدّة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فعجِّل في فرج مولانا المنتظر، المنتقم بحقّه وبحقّ آبائه الطاهرين، صلواتك عليه وعليهم أجمعين .

***

<<التالي الفهرس السابق>>