في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة21)



لا يرى لنفسه الجامعيّة لشرائط الفتيا ، بخلاف البيع الفاسد مثلا ، فإنّه لا يكون فيه إلاّ الفساد وعدم تأثير التمليك والتملّك ، ويترتّب عليه الاُمور المذكورة في المقبوض بالبيع والعقد الفاسد . وأمّا الحرمة التكليفيّة بالإضافة إلى أصل عقد المعاملة والإنشاء اللفظي أو الكتبي فلا  .
وحينئذ نقول : ربّما يستدلّ على حرمة القضاء الذي هو فعل القاضي في المقام بعدّة من الروايات :
مثل : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السّلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت . وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقّاً ثابتاً له; لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يُكفَر به ، قال الله تعالى : {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) الحديث(2) ، وقد نوقش في ابن حنظلة بعدم ثبوت وثاقته ، نظراً إلى أنّ الراوي لوثاقته هو يزيد بن خليفة ، وهو لم تثبت وثاقته ، ولكن التعبير عن الرواية بالمقبولة يدفع ذلك خصوصاً مع ملاحظة أنّ متنها شاهد على صدقه ، كما لايخفى .
وصحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : بعثني أبو عبدالله (عليه السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى(3) في شيء من

(1) سورة النساء 4 : 60  .
(2) الكافي : 1 / 67 ح10 ، التهذيب : 6 / 218 ح514 ، الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(3) التدارُؤ : التدافع في الخصومة ، القاموس المحيط «درأ»  .

(الصفحة22)



الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق . الحديث(1) ، وغيرهما من الروايات الواردة بهذا المضمون ، نظراً إلى أنّ المعنى المطابقي للجميع وإن كان هي حرمة التحاكم والترافع إلى القضاة المنصوبين في زمان الأئمة (عليهم السلام) من قبل سلطان الجور الغاصب للولاية والحكومة ، إلاّ أنّ المدلول الالتزامي هي حرمة القضاء وفصل الخصومة لهم ، كما يدلّ عليه فهم العرف ، مضافاً إلى أنّ التعبير عنهم بالطاغوت والفسّاق يدلّ على مبغوضيّة عملهم ، بل أشدّ المبغوضيّة كما لايخفى .
ويرد على الاستدلال بالروايتين ومثلهما : أنّه لو سلمت الدلالة الالتزاميّة المذكورة ، فلا دلالة لهما على الحرمة في غير موردهما ، مع أنّ المدّعى أعمّ وأوسع منه ، فهل لهما دلالة على أنّ القاضي الشيعيّ الذي لا يكون منصوباً لا من قبل سلطان الجور ولا من ناحية الأئمة (عليهم السلام); لعدم ثبوت العدالة فيه وهو يعتقد أيضاً ذلك ، إذا فصّل الخصومة ورفع التنازع يكون عمله هذا ـ مضافاً إلى عدم الصحّة وعدم النفوذ ـ محكوماً بالحرمة التكليفية كحرمة شرب الخمر مثلا ، أو لا يستفاد منهما ذلك؟ الظاهر هو العدم ، والإصرار الأكيد على عدم التحاكم إلى الطاغوت لا دلالة له على الحرمة المطلقة في المقام ، كما أنّها المدّعى فتدبّر .
الأمر الثالث : في أنّ وجوب القضاء بأيّ معنى فسّرناه ليس على تقديره إلاّ وجوباً كفائيّاً لا عينيّاً ، ضرورة عدم لزومه على كلّ أحد ، خصوصاً مع ملاحظة الشرائط المعتبرة فيه الآتية إن شاء الله تعالى ، فالوجوب كفائيّ قد يتعيّن إذا لم يكن في البلد ، وكذا فيما يقرب إليه ـ ممّا لا يتعسّر الرجوع إليه ـ من يكون به الكفاية ، كما هو الشأن في سائر الواجبات الكفائيّة ، إذا لم يكن من يقوم بها . وأمّا التعيّن مع

(1) التهذيب : 6 / 303 ح846  ، الوسائل : 27 / 139 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .

(الصفحة23)

مسألة 3 : يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه ، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية; لما فيه من الخطر والتّهمة1.


وجود من به الكفاية بسبب اختيار المترافعين أو الناس فلم يقم عليه دليل ، كما لايخفى .

1 ـ في هذه المسألة أمران :
الأمر الأوّل : الدليل على الاستحباب في الصورة المذكورة في المتن ، وهو مضافاً إلى كونه من مصاديق إقامة العدل والإحسان المأمور بها عقلا وشرعاً روايات :
منها : رواية سلمة بن كهيل المشتملة على وصيّة عليّ (عليه السلام) لشريح القاضي والمتضمّنة لقوله (عليه السلام) : وإيّاك والتضجّر والتأذي في مجلس القضاء ، الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ(1) .
وفي سلمة وإن كان ضعفاً كما صرّح به المحقّق في الشرائع(2) ، إلاّ أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن الثابتة في الاُصول جارية هنا .
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في الحكم بإقامة الحدّ المذكورة في الوسائل في أبواب مقدّمات الحدود الدالّة على رجحانه(3) .
وفي بعضها : أنّ المراد بقول الله عزّوجلّ : {يُحي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا}(4) ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء

(1) الكافي : 7 / 412 ح1 ، الوسائل : 27 / 211 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح1  .
(2) شرائع الإسلام : 4 / 1052 .
(3) الوسائل : 28 / 11 ، أبواب مقدّمات الحدود وأحكامها ب1  .
(4) سورة الحديد 57 : 17  .

(الصفحة24)



العدل ، ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً(1) .
وكيف كان فلا شبهة نصّاً وفتوىً في أصل الاستحباب المذكور .
الأمر الثاني : أنّه كيف يجمع بين هذا الاستحباب وبين الحكم بوجوب القضاء كفايةً أو عيناً كما تقدّم ، مع أنّ المتعلّقين واحد ، ولابدّ في ثبوت حكمين من تغاير المتعلّقين . فإنّه وإن لم يكن بين الأحكام الخمسة التكليفيّة تضادّ اصطلاحاً ، كما حقّقناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من المباحث الأصوليّة ، خلافاً للمحقّق الخراساني (قدس سره) ، الذي جعل إحدى مقدّمات الامتناع بل أهمّها التضادّ بينها(2) ، والوجه فيه : أنّه من عوارض الوجود المتأصل ولو بالعرض ، والأحكام اُمور اعتباريّة محضة; ولذا لا يمكن اجتماع السواد والبياض في جسم واحد ولو كان من ناحية شخصين ، واجتماع الأحكام كذلك من الموالي المتعدّدة بالنسبة إلى عبيدهم أمر ممكن ، وإن كان المتعلّق طبيعة واحدة لا زيادة فيها ولا نقيصة ، وهو واضح جدّاً ، إلاّ أنّه لا يكاد ينكر امتناع اجتماع حكمين على طبيعة واحدة بملاك آخر ، وفي المقام لابدّ في الجمع بين الحكمين من الالتزام بثبوت المغايرة بين المتعلّقين فنقول :
ذكر السيّد (قدس سره) في ملحقات العروة : أنّه يمكن أن يجاب عن الإشكال بأنّ المراد من استحبابه العيني استحباب المبادرة إليه والمسابقة على الغير ، فيختلف موضع الحكمين(3) .
لكنّه أورد عليه بأنّه يبقى إشكال آخر وهو أنّه كيف يعقل استحباب المبادرة من كلّ أحد عيناً ، مع كونه واحداً لا يقبل التكرار ، بل لا يتصوّر استحباب مثله عيناً

(1) الكافي : 7 / 174 ح2 ، التهذيب : 10 / 146 ح578 ، الوسائل : 28 / 12 ، أبواب مقدّمات الحدود ب1 ح3 .
(2) كفاية الاُصول : 193  .
(3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 4 مسألة 6  .

(الصفحة25)

مسألة 4 : يحرم الترافع إلى قضاة الجور ـ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء ـ فلو ترافع إليهم كان عاصياً ، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً ، وفي العين إشكال إلاّ إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم ، فلايبعد جوازه سيّما إذا كان في تركه حرج عليه ، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز1.


وإن لم يكن وجوب .
أقول : حيث إنّ في القضاء بمعنى فصل الخصومة ورفع التّنازع أموراً ثلاثة مترتّبة : تحصيل الولاية الموجبة لجعل منصب القضاوة له بمقتضى المقبولة والصحيحة ، وسماع الدّعوى ، والنظر في أدلّة الطرفين من البيّنة واليمين وغيرهما ، وفصل الخصومة ورفع التنازع لابدّ في الحكم بالتغاير بين المتعلّقين من جعل أحدهما متعلّقاً للوجوب  ، والآخر متعلّقاً للاستحباب ، وإن كان في بعضها نظر .

1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الاُولى : حرمة الترافع إلى قضاة الجور ، وقد فسّرهم بمن لم تجتمع فيهم شرائط القضاء ، مع أنّ إطلاق قاضي الجور على كلّ من لا تجتمع فيهم الشرائط ممنوع جدّاً ، فإنّ المجتهد الشيعي غير الواجد لشرطيّة العدالة هل يكون قاضي الجور ، ولو علم عدم عدالته ، وحتى فيما رأى نفسه كذلك مع أنّ استعمال ضمير الجمع عقيب كلمة «من» لا يكون متداولا وإن فرضت صحّته .
وكيف كان فالدليل على الحرمة إنّما هو بالإضافة إلى قضاة الجور; لأنّه مصداق قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ}(1) . وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا دليل على الحرمة إلاّ من طريق عدم القول بالفصل أو

(1) سورة النساء 4  : 60  .

(الصفحة26)



عدم الفصل ، وإلاّ فحرمة الترافع إلى قضاة الجور ، الذين هم حماة سلطان الجور ومن أياديهم وسبب لتداوم حكومتهم باعتبار أنّ الاجتماع يحتاج إلى التشكيلات القضائيّة ، لا يلازم حرمة الترافع إلى كلّ من لا يكون واجداً لشرائط القضاء ، كما هو واضح لا يخفى .
الثانية : حرمة ما أخذ بحكمهم وإن كان حقّاً ، كما قد صرّح بها في المقبولة المتقدّمة معلّلا بقوله : لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفَر به(1) ، ولا إشكال في ذلك فيما إذا كان المأخوذ ديناً ، كما إذا ادّعى زيد ديناً له على عمرو وترافعا ، وحكم الطاغوت بثبوت الدين ، وكان الأمر في الواقع كذلك ، فإنّ الدين المأخوذ حينئذ حرام وسحت ، وإن كان القاضي محقّاً في قضاه والمدّعي صادقاً في ادعائه; لأنّ تعيّن الدين وصيرورة ما في الذمّة متعيّناً في الخارج صار بسبب حكم الطاغوت وعدم رضاية المديون . وهذا لا يوجب التعيّن بوجه  ، فالتصرّف فيه تصرّف في مال الغير بغير رضاه .
وأمّا إذا كان المأخوذ عيناً خارجيّاً كان في الواقع ملكاً للآخذ مثله ، فقد استشكل في حرمته في المتن من أنّ مقتضى إطلاق المقبولة سيّما بملاحظة إطلاق السؤال ، وترك الاستفصال في الجواب عدم الاختصاص بالدين ، بل الشمول للعين التي هي مورد الترافع والتنازع غالباً ، فاللازم حينئذ الحكم بالحرمة .
ومن أنّ حكم الحاكم ولو كان من قضاة الجور لا يكون حينئذ إلاّ بمنزلة رفع ما يمنع عن تصرّف المالك في ماله وجعله في اختياره ، فإنّ المالك معلوم ولو لنفسه والملك المتعيّن الخارجي معلوم ، ولم يكن هناك إلاّ المانع الذي ارتفع بسبب حكم

(1) الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .

(الصفحة27)



الحاكم ولو كان من قضاة الجور ، وإن لم يتوقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم .
والظّاهر أنّ الالتزام بذلك فيما إذا لم يتوقّف الاستيفاء عليه مشكل . نعم في صورة التّوقف سواء كان حرجيّاً أم لم يكن كذلك لا إشكال فيه . أمّا في صورة الحرج فلدليله الظّاهر في أنّ الله ما جعل عليكم في الدين من حرج(1) لا في خصوص العبادات ومثلها . فدليل نفي الحرج كما أنّه حاكم على الأدلّة الأوّلية في باب العبادات يكون حاكماً عليها في مثل المقام . وأمّا في غير صورة الحرج فلأنّ مورد المقبولة وغيرها إمكان الترافع إلى غير قضاة الجور; ولذا جعل الحكومة والقضاء للأفراد الخاصّة ، والظاهر أنّه في صورة انحصار الطريق بالترافع إلى قضاة الجور لا مانع من الاستيفاء ولو لم يكن حرجيّاً ، فتدبّر .
الثالثة : جواز الحلف كاذباً لو توقّف عليه استيفاء الحقّ في غير باب القضاء ، والدليل عليه الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال :
مثل : صحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : نمرّ بالمال على العشّار  ، فيطلبون منّا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منّا إلاّ بذلك ، قال : فاحلف لهم فهو أحلّ من الّتمر والزّبد(2) .
وصحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري ، عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) في حديث قال : سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف ، قال : لا جناح عليه . وعن رجل يحلف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه ، قال : لا جناح عليه . وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال :

(1) إقتباس من سورة الحج 22 : 78  .
(2) الفقيه : 3 / 230 ح1083 ، نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 72 ح152 ، الوسائل : 23 / 225 ، كتاب الأيمان ب12 ح6 .

(الصفحة28)

مسألة 5 : يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال ولو كان غنيّاً ، وإن كان الأولى الترك مع الغنى ، ويجوز مع تعيّنه عليه إذا كان محتاجاً ، ومع كونه غنيّاً لا يخلو من إشكال ، وإن كان الأقوى جوازه . وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما فالأحوط الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه ، ولو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات1.


نعم(1) . وغير ذلك من الروايات التي يكون مقتضاها الإطلاق ، ولو يكن حرج .

1 ـ إنّ هنا عناوين ثلاثة : الارتزاق من بيت المال ، والأجر أو الجعل على نفس القضاء والرشوة ، وسيأتي حكم العنوان الثالث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى . وأمّا الارتزاق من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين ، التي من عمدتها القضاء وفصل الخصومة ، فلا ينبغي الإشكال في جوازه للقاضي ، سواء كان القضاء واجباً عليه متعيّناً أو كفائيّاً إذا كان محتاجاً ، وفي صورة الغنى عنه أيضاً يجوز; لأنّه لا دليل على المنع وإن كان الأحوط الترك .
وأمّا الأجر والجعل على نفس القضاء فربّما يقال : إنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز; لأنّ القضاء واجب وأخذ الاُجرة على الواجب حرام ، ولكنّه لو سلّمنا وجوب القضاء ، ولم نناقش بما ذكرناه سابقاً من أنّه لم يقم دليل لفظيّ على الوجوب أصلا ، لكن حرمة أخذ الاُجرة على الواجب محلّ بحث وكلام ، وقد ذكرنا هذه المسألة في قواعدنا الفقهيّة مفصّلة فراجع(2) . نعم ربّما يقال بقيام الدليل على الحرمة بالخصوص وهما روايتان :


(1) الكافي 7 : 440 ح4 ، التهذيب : 8 / 285 ح1048 ، الوسائل : 23 / 224 ، كتاب الأيمان ب12 ح1 .
(2) القواعد الفقهيّة : 1 / 509 ـ 533  .

(الصفحة29)



إحداهما : صحيحة عمّار بن مروان قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : كلّ شيء غلّ(1)من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما اُصيب من أعمال ولاة الظّلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر ، والربا بعد البيّنة . فأمّا الرشا ياعمّار في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله(2) . نظراً إلى ظهور الرواية في أنّ اُجور القضاة مطلقاً سحت ، أي ولو كان قضاؤه مقروناً بالوجدان للشرائط ، والجمع المحلّى بالّلام يفيد العموم .
ولكنّه ناقش في ذلك بعض الأعلام ، واستظهر أنّها ناظرة إلى الاُجور التي كان القضاة يأخذونها من الولاة الظلمة ، والذي دعاه إلى ذلك عدم تكرار كلمة «منها» في أجور الفواجر وما بعده من الجمل ، ولأجله قال : إنّ الظّاهر أنّ الضمير في قوله (عليه السلام) : «ومنها اُجور القضاة» يرجع إلى الموصول في جملة «ما اُصيب من أعمال الولاة» ومعنى ذلك أنّ الأموال التي تصاب من أعمال الولاة التي منها اُجور القضاة سحت ، فلا دلالة فيها على أن الأجر على القضاء محرّم مطلقاً ، حتى إذا لم يكن القاضي من عمّال ولاة الجور وكان قضاؤه حقّاً(3) .
والظاهر بطلان المناقشة المذكورة; لأنّها يرد عليها ـ مضافاً إلى كونها خلاف الظاهر جدّاً ـ أنّ لازمها الاقتصار في مقام بيان أنواع السحت التي وصفها بالكثرة على بيان نوعين أو نوع واحد . والظاهر أنّ الأعمال جمع عمل ، وأنّ جمع العامل عمّال لا أعمال ، والعمدة أن جعل ما الموصولة في قوله (عليه السلام) : «ما اصيب» تارة مذكّراً

(1) الغل : الخيانة الخفيّة ، سيّما في الغنيمة .
(2) معاني الأخبار : 211 ح2 ، الخصال : 329 ح26 ، تفسير العيّاشي : 1 / 321 ح115 ، الوسائل : 17/ 95 ، أبواب ما يكتسب به ب5 ح12 .
(3) مباني تكملة المنهاج : 1 / 5  .

(الصفحة30)

مسألة 6 : أخذ الرشوة وإعطاؤها حرام ، إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل . نعم لو توقّف التوصّل إلى حقّه عليها جاز للدافع وإن حرم على الآخذ ، وهل يجوز الدفع إذا كان محقّاً ، ولم يتوقّف التوصّل إليه عليها؟ قيل : نعم ،


وإرجاع ضميره إليه كما في قوله : «اُصيب» واُخرى مؤنّثاً وإرجاع ضمير التأنيث إليه كما في قوله (عليه السلام) : «ومنها اُجور القضاة» بناءً على هذا الاستظهار في كمال خلاف الظاهر ، والسّر في عدم تكرار «منها» في الجملات البعديّة لزومه كثيراً ، ولا يناسب مقام المتكلّم الأديب سيّما الإمام (عليه السلام) ، ولكنّه مع ذلك لا يبعد أن يقال : إنّ «القضاة» لادلالة لها على العموم ، بل الألف واللام فيها إشارة إلى القضاة المعهودين في تلك الأزمنة ، وهم قضاة الجور ، ولا دلالة للرواية على أزيد من حرمة اُجورهم ، كما لايخفى .
ثانيتهما : صحيحة عبدالله بن سنان قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال : ذلك السّحت(1) . وظهور دلالتها على الحرمة في قاضي الجور المنصوب من قبل سلطان الجور لا يكاد ينكر ، ولا دلالة لها على الحرمة مطلقاً .
مع أنّ هنا بعض ما يدلّ على الجواز ، مثل : قول علي (عليه السلام) فيما عهده إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر ، فإنّ فيها بعد ذكر صفات القاضي قال : وأكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيح علّته ، وتقلّ معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره(2) . وغير ذلك من الروايات الدالّة على الجواز .


(1) الكافي : 7 / 409 ح1 ، التهذيب : 6 / 222 ح527 ، الوسائل : 27 / 221 ، أبواب آداب القاضي ب8 ح1 .
(2) الوسائل : 27 / 224 ، أبواب آداب القاضي ب8 ح9 .

(الصفحة31)

والأحوط الترك ، بل لا يخلو من قوّة . ويجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها من غير فرق في جميع ذلك بين أن يكون الرشاء بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي ونحو ذلك1.


1 ـ لا شبهة في حرمة إعطاء الرشوة ـ مثلثة ـ وأخذها في الجملة ، ولها فروض وصور :
الاُولى : ما إذا كان الغرض والهدف من إعطائها للقاضي التوصّل بسببها إلى الحكم له بالباطل ، وهذا هو القدر المتيقّن من الرشوة المحرّمة ، وحكي عن جامع المقاصد والمسالك إجماع المسلمين عليه(1) ، ويدلّ عليه قبل الإجماع الكتاب والسنّة ، قال الله تعالى : {وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ}(2) وهو ظاهر في حرمة الإعطاء; لكونه من مصاديق أكل المال بالباطل ، فيحرم الأخذ أيضاً .
ولعلّ الوجه في الحرمة ـ مضافاً إلى كونها وسيلة لأكل أموال الناس ـ أنّ أمر القضاء الشرعي إنّما هو لإقامة العدل وحفظ أموال الناس وعدم تضييع الحقوق ، فالشارع لا يرضى قطعاً بما يوجب سلب ذلك أخذاً وإعطاء ، وتضييع أموال الناس وحقوقهم ، وهذا واضح .
الثانية : ما إذا كان الغرض التوصّل بها إلى حقّه ، وكان طريقه منحصراً إلى ذلك ، ولا سبيل له على التوصّل إلى حقّه غير ذلك ، فالظّاهر الجواز للدافع وعدمه للآخذ ، وذلك لأنّ الرشوة وإن كانت محرّمة ، ومرتبةُ الحرمة فيها وإن

(1) جامع المقاصد : 4 / 35 ، المسالك : 3 / 136 .
(2) سورة البقرة 2 : 188  .

(الصفحة32)



كانت عالية حتى إنّه عدّ كفراً أو شركاً بالله العظيم في النصوص والروايات ، إلاّ أنّه قد يعرض ما يوجب الجواز ، مثل ما إذا صارت مكرهاً عليها بالإكراه الذي يكون التوعيد فيه أهمّ أو مساوياً لحرمة الرشوة ، ومثل ما إذا انحصر طريق استيفاء الحقّ على الرّشوة ، فإنّها تصير حينئذ جائزة للدافع وإن كانت محرّمة على الآخذ ، وقد تقدّم ما يدلّ على جواز الحلف كاذباً لمن يريد حفظ ماله وإن لم يكن حرجيّاً .
الثالثة : ما إذا لم يكن الطريق منحصراً إلى ذلك ، ولكن كان الدافع محقّاً في ذلك ربّما يقال كما عن الفاضلين وصاحب المسالك بالجواز(1) ، نظراً إلى اختصاص عنوان الرشوة بالحكم بالباطل ، ولكن عن مفتاح الكرامة أنّ الرشوة عند الأصحاب ما يعطى للحكم حقّاً وباطلا(2) ، وإنّ المتفاهم العرفي أيضاً من الرشوة هو الأعمّ ، نعم عن مجمع البحرين قلّما تستعمل الرشوة إلاّ فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل(3) .
ومن الروايات التي يستفاد منها عموميّة الرشوة حتى لغير باب القضاء صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال : لابأس به(4) ، فلا ينبغي الإشكال في صدق عنوان الرشوة عليه ، فيشمله مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مروان

(1) تحرير الأحكام : 2 / 180 ، قواعد الأحكام : 2 / 205 ، شرائع الإسلام : 4 / 869  ، المسألة السادسة عشرة ، مسالك الأفهام : 13 / 421 .
(2) مفتاح الكرامة : 10 / 33  .
(3) مجمع البحرين مادة (رشا) .
(4) التهذيب : 6 / 375 ح1095 ، الوسائل : 17 / 278 ، أبواب ما يكتسب به ب85 ح2 .

(الصفحة33)



المتقدّمة: فأمّا الرشاء يا عمّار في الأحكام الخ . والتعبير بقوله : «في الأحكام» يفيد  أمرين:
أحدهما : عدم اختصاص الرشوة بباب الأحكام .
ثانيهما : النظر إلى الآخذ ، وإلاّ لكان المناسب أن يقول للأحكام لا في الأحكام ، وهو لا ينطبق إلاّ على الرشوة .
بقي في المسألة أمران :
الأوّل : أنّه مع فرض عدم جواز الأخذ وعدم صيرورة الرشوة ملكاً له لابدّ له من الإعادة إلى صاحبها أو التصرّف بوجه شرعيّ ، وهذا واضح .
الثاني : أنّه لا فرق في حرمة الرّشوة بين أن تكون بعنوانها أوّلا وبالذات أو بالعناوين الاُخر ، مثل : الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي أو الصلح أو نحو ذلك ، فتدبّر . ويؤيّده مضافاً إلى أنّ عنوان الرشوة لا يكون من العناوين القصديّة غير المتحقّقة بالمقصد ، ورد في خبر أبي حُميد السّاعدي : أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) استعمل رجلا من الأزد على الصدقة يقال له : ابن اللُّتبيّة ، فلمّا جاءه قال للنبي (صلى الله عليه وآله) : هذا لكم وهذا اُهدي لي ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال العامل نستعمله على بعض العمل من أعمالنا فيجيء فيقول : هذا لكم وهذا اُهدي لي؟ أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمّه؟ فينظر هل يهدى له شيء أو لا؟ والذي نفس محمّد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة له خوّار أو شاةً تيعرُ ، ثمّ رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه ، فقال : اللهمّ هل بلّغت ، اللّهمّ هل بلّغت(1) .


(1) السنن الكبرى للبيهقي : 6 / 88 ح7758 .

(الصفحة34)

مسألة 7 : قيل : من لا تقبل شهادته لشخص أو عليه لا ينفذ حكمه كذلك ، كشهادة الولد على والده ، والخصم على خصمه ، والأقوى نفوذه ، وإن قلنا بعدم قبول شهادته1.


وهنا شبهة
وهو أنّ المفروض الثلاثة وإن كانت مختلفة من جهة الحكم بالباطل والحكم بالحقّ كما عرفت ، وفي الجواز بالإضافة إلى الدافع وعدمه ، إلاّ أنّها مشتركة في حرمة الأخذ بالنسبة إلى الحاكم والقاضي ، وعليه فيخرج القاضي عن العدالة بسبب ذلك بعد أن كانت مرتّبة الحرمة عالية بالغة حدّ الكفر والشرك، ومع الخروج عن العدالة لا يصير حكمه نافذاً ، وإن كان بالحقّ فضلا عمّا إذا كان باطلا، وهو عالم ببطلانه، فهو أيضاً سبب لعدم العدالة وإن كان حاصلا بنفس الحكم. وعليه فكيف يتوصّل الرّاشي إلى مقصوده من الحكم له بالباطل أو مطلقاً؟ نعم لو تاب بعد الأخذ ثمّ حكم بالحقّ بعد التّوبة صحّ ونفذ ، ولكن لا تحصل التوبة في مثل ذلك من حقوق الناس، إلاّ برفع اليد عنها والاداء إلى صاحبها عيناً أومثلا أوقيمة مع التمكن.
والأولى أن يقال : إنّ الحكم الذي يريد الراشي التوصّل إليه ليس هو الحكم الشرعي ، بل العرفيّ العقلائيّ المجتمع مع وجود الشرائط .

1 ـ القائل هو المحقّق في الشرائع وعبارته هكذا : كلّ من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه ، كالولد على الوالد ، والعبد على مولاه ، والخصم على خصمه . ويجوز حكم الأب على ولده وله ، والأخ على أخيه وله(1) . وقد علّله في الجواهر بأنّه شهادة

(1) شرائع الإسلام : 4 / 864  ، المسألة الحادية عشرة .

(الصفحة35)

مسألة 8  : لو رفع المتداعيان اختصامهما إلى فقيه جامع للشرائط ، فنظر في الواقعة وحكم على موازين القضاء ، لا يجوز لهما الرفع إلى حاكم آخر ، وليس للحاكم الثاني النظر فيه ونقضه ، بل لو تراضى الخصمان على ذلك


وزيادة ، فيشترط في نفوذه ما يشترط في نفوذ الشهادة في الطرفين أو أحدهما ، وحينئذ لايقبل حكم الخصم على خصمه ، ويقبل له مع عدم منافاة الخصومة للعدالة .
وأورد عليه بأنّه إن تمّ إجماعاً كان هو الحجّة ، وإلاّ كان للنظر فيه مجال ، ضرورة إمكان منع كون الحكم شهادة على وجه يلحقه حكمها المعلّق عليها من حيث كونها شهادة(1) .
ويؤيّده اختلاف القاضي والشاهد في الشرائط المعتبرة فيهما في غير هذا المورد كالرجوليّة والانوثيّة والاجتهاد وعدمه .
وبالجملة : النسبة بين الشرائط عموم وخصوص من وجه; ولأجلها لا يمكن دعوى الأولويّة أيضاً . لكن الذي يوجب الريب والشكّ عدم إشعار كلامه بكون المسألة اختلافيّة ، بل أرسلها إرسال المسلّمات ، وكذا حكي عن الشهيد الثاني صاحب المسالك(2) ، والدليل الوحيد المحتمل هو الإجماع ، والظاهر عدم تحقّقه أيضاً; لأنّه حكى عن بعضهم اختصاص المنع بقاضي التحكيم ، والتحقيق ما أفاده في المتن من أنّه لا يكون عدم قبول شهادتهم بمحرز ، وعلى تقديره لا ملازمة بين الشهادة وبين الحكم .


(1) جواهر الكلام : 40 / 71  .
(2) مسالك الأفهام : 13 / 363 ـ 364 .

(الصفحة36)

فالمتّجه عدم الجواز . نعم لو ادّعى أحد الخصمين بأنّ الحاكم الأوّل لم يكن جامعاً للشرائط ـ كأن ادعى عدم اجتهاده أو عدالته حال القضاء ـ كانت مسموعة ، يجوز للحاكم الثاني النظر فيها ، فإذا ثبت عدم صلوحه للقضاء نقض حكمه ، كما يجوز النقض لو كان مخالفاً لضروري الفقه بحيث لو تنبّه الأوّل يرجع بمجرّده لظهور غفلته . وامّا النقض فيما كان نظرياً اجتهادياً فلا يجوز ، ولا تسمع دعوى المدعي ولو ادّعى خطأه في اجتهاده1.


1 ـ قال المحقّق في الشرائع  : ليس على الحاكم تتبّع حكم من كان قبله ، لكن لو زعم المحكوم عليه أنّ الأوّل حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه(1) .
أقول : لو رفع التنازع والتخاصم بعد رفع الأمر إلى الحاكم الأوّل ، الذي يكون واجداً للشرائط باعتقاد المتخاصمين ، ونظره في الواقعة ، وحكمه على طبق موازين القضاء الشرعي ، لا يجوز لهما رفع هذا النزاع إلى الحاكم الشرعي الثاني; لعدم كون دعواه مسموعة بعد الحكم له أو عليه .
كما أنّه لا يلزم على الحاكم الثاني النظر في الواقعة ، ونقض حكم الحاكم الأوّل; لأنّ حكم الأوّل محمول على الصحّة بمقتضى أصالتها ، هذا ولكن أصالة الصحّة الشرعيّة المجعولة في موارد يكون مقتضى الاستصحاب عدمها من دون فرق بين باب المعاملات بالمعنى الأعمّ ، والمعاملات بالمعنى الأخصّ ، بل وحتى العبادات التي تكون مشكوكة الصحّة إنّما يكون أثرها عدم لزوم ترتيب آثار الفساد .
وأمّا لزوم ترتيب آثار الصحّة بحيث لم يكن ترتيب آثار الفساد بجائز فلا ، فلا يجب عقد جديد في النكاح الذي يشك في صحّته مع وقوعه سابقاً . وامّا حرمة

(1) شرائع الإسلام : 4 / 867  .

(الصفحة37)

مسألة 9 : لو افتقر الحاكم إلى مترجم لسماع الدعوى أو جواب المدعى عليه أو الشهادة يعتبر أن يكون شاهدين عدلين1.


إيجاد عقد جديد واجد للشرائط والخصوصيّات المحتملة مثلا فلا ، ومنه يظهر أنّ تعبير المحقّق الظاهر في عدم اللزوم أنسب من تعبير الماتن الظاهر في عدم الجواز .
نعم لا يجوز للحاكم الثاني نقض حكم الحاكم الأوّل بعد كونه مجتمعاً للشرائط; لأنّه لم يبق اختصام وتنازع حتى يرفعه ، ولأنّ حكم الأول لم يكن فاقداً لشيء ممّا يعتبر في الحكم ، والمحكوم عليه لا يكون راضياً على القاعدة ، وهذا من دون فرق بين تراضي الخصمين بذلك وعدمه .
نعم يجوز للحاكم الثاني النقض في موردين :
الأوّل : ما لو ثبت عنده عدم صلاح الأوّل للقضاء ، فإنّه باعتقاده يكون التنازع باقياً لم يرتفع ، فيجوز له الحكم والنقض .
الثاني : ما إذا كان حكمه مخالفاً لضروريّ الفقه بحيث كان الحكم الصادر من الأوّل اشتباهاً ، وقد وقع غفلة بحيث لو تنبّه يرجع بمجرّد التنبّه; لظهور غفلته ووضوح اشتباهه حتى عند نفسه مع التنبّه . وأمّا فيما إذا كان غير ضروري الفقه ، ولكن كان خلافاً للاجتهاد واجتهاداً في المسألة الفقهيّة غير الضرورية فلا يجوز ، وإن كان معتقداً لخطئه في الاجتهاد من دون فرق بين أن يكون المحكوم عليه موافقاً للثاني في هذه الجهة أو مخالفاً له ، كما أنّه لا تسمع دعواه فيما إذا ادّعى ذلك ، فتدبّر .

1 ـ قال المحقّق في الشرائع : إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلاّ شاهدان عدلان ، ولا يقتنع بالواحد عملا بالمتّفق عليه(1) .


(1) شرائع الإسلام : 4 / 867  .

(الصفحة38)



أقول : الوجه في ذلك أنّ الترجمة بحكم الشهادة على الشهادة لا أصل الشهادة; ولذا يكتفى بالعدلين في ترجمة شهود الزنا المعتبر فيه أربعة ، ولا مجال لأن يقال : بأنّه من باب الرواية التي يكتفى فيها بالواحد ، ولا لأن يقال : بأنّه يكفي في الموضوعات خبر العدل الواحد . أمّا الثاني فلما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه آنفاً : أنّ الدليل على حجّية البيّنة في الموضوعات ينفي كفاية أقلّ من العدلين فيها ، وإلاّ لا مجال لهذا الدليل بعد كون العادل الواحد من سنخ البيّنة . وأمّا الأول فلأنّ الشهادة أمر والخبر أمر آخر ، ولا تكون حجيّة الشهادة من باب الخبر وإن اتّحدا في الجنس ، ضرورة أنّهما نوعان عرفاً ومتغايران كذلك ، وأدلّة أحدهما لا تشمل الآخر بوجه ، فإذا كانت الوحدة كافية في الخبر فلا تلازم كفايتها في الشهادة ، فحجّية خبر العادل الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره لا تلازم حجّية مطلق الشّهادة ، ولو كان الشاهد واحداً .
نعم هنا شبهة وهي : أنّ آية النبأ التي ربّما يستدلّ بمفهومها على حجّية خبر العادل في علم الاصول يكون موردها من أفراد الشهادة، وهوارتداد بني المصطلق ، فيقال حينئذ : إنّه لِمَ قد عبّر عن الشهادة فيه بالنبأ الذي معناه الخبر ، مضافاً إلى أنّ شهادة الفاسق لا تبين فيها أصلا ، بل تكون مطرودة مطروحة من أوّل الأمر .
ودعوى أنّ المراد من المفهوم فيها عدم وجوب تبيّن نبأ العدل في موضوعي الشهادة والرّواية على معنى كونه مقبولا في الجملة ، وإن كان قبوله في الشهادة على معنى أنّه جزء البيّنة ، وقبوله في الرواية العمل به من غير حاجة إلى التعدّد ، مدفوعة بضعف هذا التوجيه ، وإن صدر من مثل صاحب الجواهر (قدس سره)(1) فراجع .


(1) جواهر الكلام : 40 / 108  .

(الصفحة39)





القول في صفات القاضي وما يناسب ذلك

مسألة 1 : يشترط في القاضي البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والاجتهاد المطلق ، والذكورة وطهارة المولد ، والأعلميّة ممّن في البلد أو ما يقربه على الأحوط ، والأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان ، بل لو كان نسيانه بحيث سلب منه الاطمئنان ، فالأقوى عدم جواز قضائه . وأمّا الكتابة ففي اعتبارها نظر ، والأحوط اعتبار البصر ، وإن كان عدمه لا يخلو من وجه1.


1 ـ فيما يعتبر في القاضي أو قيل أو احتمل اعتباره ، وهي اُمور :
الأوّل : البلوغ ، فإنّ اُمور الصّبي وإن كانت شرعيّة والحقّ صحّتها ، كما حقّقناه في قواعدنا الفقهيّة التي منها شرعيّة عبادات الصبيّ(1) ، ولا مجال لأن يقال : إنّ بطلانه لعدم وجوب القضاء عليه لا كفاية ولا عيناً لرفع قلم التكليف الإلزامي عنه(2) ، وإن كان الحكم الوضعي ثابتاً بالإضافة إليه ، مثل الضمان فيما إذا أتلف مال

(1) القواعد الفقهيّة : 1 / 341 ـ 356  .
(2) يراجع الوسائل : 28 / 22 ، أبواب مقدّمات الحدود ب8  .

(الصفحة40)



الغير وهكذا ، وذلك لأنّ نفوذ الحكم غير وجوبه ، والدليل على اعتباره هو أنّ ولاية القضاء والحكومة مجعولة لعنوان الرجل ـ الذي فيه خصوصيّتان : الرجوليّة وعدم كونه انثى ، والبلوغ وعدم كونه صبيّاً ـ في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال في قوله (عليه السلام) : اِجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر(1) ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكم أحد على أحد ، ولا مجال لأن يقال : بإلغاء الخصوصيّة من عنوان الرجل ، كما في سائر الموارد ، مثل قوله : رجل صلّى فلم يدر أفي الثالثة هو أم في الرابعة(2) ، حيث إنّه لا يختصّ أحكام الشكوك في باب الصلاة بالرجل ، ولا لأن يقال : بأنّ التعبير في الصحيحة وإن كان بالرجل ، إلاّ أن التعبير في ذيل المقبولة أي مقبولة عمر بن حنظلة بـ «من» الموصولة ، وهي شاملة للصبي في قوله (عليه السلام) : ينظران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فانّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخفّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، الحديث(3) .
أقول : وجه عدم جواز إلغاء الخصوصيّة كما في سائر الموارد العلم بعدم الخصوصيّة فيها دون المقام ، خصوصاً بعد كون التعبير صادراً من الإمام العالم بالخصوصيّات ، وخصوصاً مع أهمّية منصب القضاء ، وعدم نفوذ حكم أحد بالإضافة إلى غيره بدون الدليل عليه .


(1) الوسائل : 27 / 139 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
(2) الوسائل : 8 / 218 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب10 ح7  .
(3) الوسائل : 27 / 137 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
<<التالي الفهرس السابق>>