في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة61)

البيت وإنكار حقّهم؟!
نعم ، لا ريب في أنّ هدف النبيّ(صلى الله عليه وآله) من جمع تلك الثلّة تحت الكساء وتعقيب ذلك بعبارة «هؤلاء أهل بيتي» كان سلب أيّة صفة وعنوان يفيد التعميم من الآية ، وأنّ زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعموم أقربائه وعشيرته لا نصيب لهم في هذه الآية ولا اختصاص لهم بها ، ومن هنا جاء قول الصادق(عليه السلام): «لو سكت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يبيّن مَنْ أهلُ بيته لادّعاها آل فلان وآل فلان . . .»(1) وهذا ممّا يؤكّد اهتمام النبيّ(صلى الله عليه وآله)وحرصه على حسم هذا الأمر ، فما اكتفى بالقول بل عمد إلى أسلوب مبتكر في تحديد المراد من أهل البيت(عليهم السلام) ، بحيث أخرج اُمّ سلمة ـ صاحبة البيت ـ قولاً وعملاً من ذلك النطاق المقدّس ، وحصره بالخمسة(عليهم السلام) .
7 ـ إنّ آية التطهير تشمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) أيضاً ، ورواية أبي الجارود ، عن الإمام الباقر(عليه السلام) وأبي سعيد الخدري ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)تصرّح بهذا المعنى ، وهذه النقطة ممّا يهمّنا التركيز عليها لدورها في بيان معنى أهل البيت الذي سنتناوله لاحقاً .

2 ـ موقع الآية في التدوين :

هنا سؤال يطرح نفسه ، بعد إثبات إنفصال آية التطهير واستقلاليتها في النزول وشأنه والدلالة وما إلى ذلك ممّا مرّ فيه الحديث ، وهو: لماذا جاء تدوينها في هذا الموضع بالذات ، في ذيل الآية الثالثة

(1) الكافي 1: 287 ، البرهان في تفسير القرآن 1: 382 .

(الصفحة62)

والثلاثين من سورة الأحزاب ؟
قبل الدخول في جواب هذا السؤال والبحث في هذه النكتة الهامّة ، لابدّ من ملاحظة المنهج القرآني والقواعد التي تمّ وفقها تدوين القرآن الكريم وترتيب آياته .

ترتيب الآيات :

ممّا لا شكّ فيه أنّ الصورة الفعلية لنظم القرآن الكريم وتأليفه تمثّل القمّة والكمال المطلوب في هذا المقام ، وهي مطابقة لما أمر به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه دُوّن وجُمع بهذا الشكل الموجود عليه اليوم في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحياته .
وهناك شواهد كثيرة على هذا المدّعى ، وهو ممّا يقول به كبار العلماء من الشيعة والسنّة ، من قبيل شيخ الطائفة الطوسي ورئيس المحدّثين الشيخ الأقدم الصدوق القمّي والسيّد الجليل علم الهدى وصاحب مجمع البيان ، بل يصدق أنّ جميع القائلين بعدم تحريف القرآن ، الذين يشكّلون الأكثرية المطلقة من العلماء المحقّقين يذعنون لهذا المعنى ، أي أنّ القرآن الكريم جُمع واُلّفت آياته وسوره على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، كما يظهر من بعض استدلالاتهم ، وللوقوف على تفاصيل الموضوع نحيل القارئ إلى كتاب «البيان في تفسير القرآن» وإلى كتابنا «مدخل التفسير في علوم القرآن» . ولإثبات المطلوب نكتفي هنا بذكر مسألة ودليلين:


(الصفحة63)

مسألة هامّة :

هناك حقيقة مشهودة وأمر ملموس في القرآن الكريم يكتشفه المتدبّر في آياته ، وهي أنّ لهذا الكتاب السماوي بدايةً وجذراً أصيلاً ومنبعاً واحداً ، وأنّ الآيات الكريمة تترى الواحدة تلو الاُخرى باتجاه هدف معيّن ، وتعود لتصبّ في مصبّ واحد ، بحيث يبتني منهج الاستدلال وكيفيّته ـ إلى حدّ ما ـ في كلّ آية على الآية التي سبقتها .
يبدأ كتاب الله العظيم ، القرآن الكريم بسورة الحمد ، التي تعرف بـ «فاتحة الكتاب» ، وهذا العنوان يكشف عن أنّ للقرآن بداية ونهاية ، وإذا لم يكن تدوين القرآن وجمعه قد تمّ على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله)فلا محلّ ولا معنى لإطلاق هذه الصفة على سورة الحمد ـ التي احتلّت في عملية التدوين بداية هذا الكتاب السماوي ـ وأن يذكرها النبيّ(صلى الله عليه وآله)بهذا العنوان «الفاتحة» .
ولعلّ السرّ في البدء بهذه السورة وافتتاح القرآن بها أنّها تمثِّل فهرساً وقائمةً مركزةً ومختصرةً لمطالب ورسالة القرآن الكريم .
فالقرآن الكريم بصدد رسالتين أساسيّتين في طريق هداية البشرية وسعادتها: «الإيمان بالله والإقرار بالمعاد ويوم الجزاء» وتأتي قصص الأنبياء في القرآن مثلاً لتحكي وتبيّن ردود فعل الاُمم السابقة ، وكيف أنّ الرقي الإنساني والسعادة والنعم الربانية كانت قرينة الاستجابة لدعوات الأنبياء والإيمان بهم ، وأنّ التعاسة والشقاء والانحطاط كان حليف الكفر وإنكار الرسالات والنبوّات ، وإنّ سورة الحمد تضمّ خلاصة مواضيع أساسية من هذا القبيل ، وتشكّل عصارة الأهداف المقدّسة للقرآن الكريم .


(الصفحة64)

ولمّا كانت هذه السورة فهرساً لمواضيع الكتاب ، وتمثّل أبرع مستهلّ ، حقّ أن تكون لها الصدارة وأن يبدأ بها الكتاب ، ولا يمكن فرض احتمال أن يكون ذلك من قبيل الصدفة ، ودون إرشاد ممّن اُرسل بالكتاب الكريم صلوات الله عليه وآله ، إذ هو الوحيد الذي يمكنه الوقوف على جميع أسرار هذا السفر المقدّس ورموزه الغيبية ، ونترك متابعة البحث في هذا الموضوع لمقام آخر .

الدليل الأوّل

الدليل الأوّل على أنّ القرآن الكريم جُمع واُلّف على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله)عموم الأحاديث النبويّة الشريفة ، التي أرجعت المسلمين إلى القرآن ، مثل حديث الثقلين ، والأحاديث التي أرشدت المسلمين وطالبتهم بعرض ما يُنسب لرسول الله(صلى الله عليه وآله) على القرآن ، ودلالتها على وجود كتاب محدّد يحوي بين دفتيه ما أنزل من القرآن الكريم ، هناك روايات يرتكز ظهورها في خصوص تأليف القرآن وجمعه ووجوده على عهد رسول  الله(صلى الله عليه وآله) .
منها: ما نقله صاحب تفسير «البيان»(1):
روى الطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال: جمع القرآن على
عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)
ستّة من الأنصار: اُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت

(1) المرحوم آية الله العظمى السيّد أبو القاسم الخوئي .

(الصفحة65)

ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبادة وأبو زيد(1) . وروى قتادة قال: سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟ قال: أربعة كلّهم من الأنصار: اُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (2) . وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبدالله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة ، فبلغ النبيّ(صلى الله عليه وآله)فقال: اِقرأه في شهر(3) . ويذهب مؤلّف البيان ، استناداً لهذه النصوص إلى أنّ القرآن جُمع في عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)  ، وللمزيد من التفاصيل يُراجع هذا الكتاب(4) .
ويظهر من مفاد بعض الروايات أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يحدّد لكتّاب الوحي موضع ومكان كلّ آية بعد نزولها ، ويعيّن ترتيبها في السور وبين الآيات ، فقد ورد في تفسير الدرّ المنثور: أخرج أحمد ، عن عثمان بن أبي العاص قال:
كنت عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) جالساً إذ شَخَصَ بصرُه ثمّ صوّبه حتّى كاد أن يلزقه بالأرض . قال: ثمّ شخص ببصره فقال: أتاني جبريل(عليه السلام) فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} إلى قوله {تَذَكَّرُونَ}(5) ، وروى جماعة ، منهم: أحمد والترمذي والنسائي وابن حبّان والحاكم والبيهقي عن ابن

(1) المعجم الكبير للطبراني 2 : 261 ح2092 ، كنز العمّال 2: 589 ح4797 .
(2) صحيح البخاري 6: 125 ، باب القرّاء من أصحاب النبيّ ح5003 .
(3) الإتقان (للسيوطي) النوع 20 ج1 : 72 ، لم نجده في سنن النسائي ، بل وجدناه في حلية الأولياء 1: 285 .
(4) البيان في تفسير القرآن: 269 .
(5) المسند لأحمد بن حنبل 6: 272 ح17940 ، الدرّ المنثور 4: 128 ، الميزان في تفسير القرآن 12: 349 .

(الصفحة66)

عبّاس أنّ عثمان قال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان ممّا يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده ، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا(1) .
يتّضح من هذين الحديثين أنّ القرآن في عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان على شكل سور ، والسورة عبارة عن مجموعة متتالية من الآيات تبدأ بـ «بسم الله» وتمضي على ترتيب معيّن ، ويتّضح أيضاً أنّ الآيات المختلفة النازلة في مختلف السور إنّما أخذت مواقعها الخاصّة ، بناءً على أوامر من رسول الله(صلى الله عليه وآله) عيّن فيها هذه المواقع وحدّدها . وعلى هذا فإنّ تحديد السور ومواضع الآيات وترتيبها كان ممّا تمّ واُنجز على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهذان الأمران يشيران إلى أنّ تدوين الكتاب تمّ بإشراف النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعلمه .
أضف إلى ذلك أنّ التاريخ والروايات تؤكّد أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يتلو في صلواته سوراً معيّنةً ، ممّا يعني أنّ هذه السور كانت قد أخذت شكلها وإطارها الذي تحدّدت فيه بدايتها ونهايتها وتتالي الآيات فيها ، ويؤيّد ذلك الأحاديث المرويّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في فضيلة قراءة السور(2) ، بل إنّ القرآن الكريم ذاته يذكر أحياناً هذا العنوان «سورة» كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}(3) والمقصود بها سورة النور ، وفي معرض التحدّي

(1) كنز العمّال 2: 579 ح4770 ، البيان في تفسير القرآن: 268 .
(2) راجع بحار الأنوار ج92  .
(3) النور : 1  .

(الصفحة67)

والإعجاز يقول عزّ من قائل: {فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ}(1) أو {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ}(2) فإن لم تكن «السورة» معيّنة وآياتها وبدايتها ونهايتها محدّدة ومشخّصة ، وكانت آيات مبعثرة على جريد النخل والصحائف واللحف والعسب وصدور الرجال ، كيف صحّ أن يقول القرآن: فأتوا بسورة من مثله ، أو عشر سور مثله؟
وهناك شواهد كثيرة على هذه الحقيقة ، وإذا ما اُمعن النظر في الروايات وأقوال كبار المحقّقين لتبدّدت جميع الشكوك ، وقُطع بأنّ هذا القرآن الموجود بين أيدينا اليوم هو ذاته المصحف الذي جمعه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وألّف بين آياته وسوره ، وكمثال على هذه الشواهد ننقل كلام أحد أعاظم الشيعة ، السيد المرتضى علم الهدى أعلى الله مقامه .
ينقل الشيخ الطبرسي ـ وهو من أجلّة علماء الإمامية في القرن السادس الهجري ـ في مقدّمة تفسيره «مجمع البيان» وهو من التفاسير الشيعيّة القيّمة ، عن السيّد الأجلّ علم الهدى مقالة في جمع القرآن وتدوينه ، وذكر أنّ المقالة جاءت في جوابه المعروف عن «المسائل الطرابلسيات» ، ونحن نذكر منه هنا مقدار الحاجة ممّا يتعلّق بموضوعنا فقال: «إنّ القرآن ـ الموجود بين ظهرانينا اليوم هو نفسه القرآن الذي ـ كان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن ، ودليل ذلك أنّه كان يدرس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض

(1) البقرة : 23  .
(2) هود : 13  .

(الصفحة68)

على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ(صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات . وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث ، ومن خالف في ذلك من الإمامية والحشَوية لا يُعتد بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته»(1) .
كان هذا قول عالم محقّق جليل يعود لألف سنة خلت ، وبملاحظة مبنى هذا العَلَم (السيّد المرتضى) في عدم حجّية أخبار الآحاد ، وتصريحه بأنّ دليله في القول على جمع القرآن وتأليفه في حياة رسول  الله(صلى الله عليه وآله) وجود روايات مقطوع بصحّتها ، فمن المؤكّد أنّ هذه الروايات لا ينالها أيّ شكّ وترديد ، من هنا فنحن نتعامل مع رأي هذا السيّد الجليل كمستند معتبر ، ونكتفي بهذا المقدار من البحث في الدليل الأوّل .


الدليل الثاني :

الدليل الثاني على جمع القرآن وتأليفه على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، دليل اعتباري يمكن تعقّله وقبوله:
لا يمكن احتمال وتصوّر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي كان يبذل غاية جهده ، ويولّي كلّ اهتمامه للآيات القرآنية الشريفة سواء في نزولها أو حفظها ،

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن ، المقدّمة: 15 ـ 16  .

(الصفحة69)

كان سلبياً تجاه تنظيم هذه الآيات القرآنية وجمعها ، وأنّه ـ والعياذ بالله ـ كان مهملاً لذلك! وهو المعجزة الخالدة لبعثته والكتاب السماوي الخاتم وآخر رسالات الله للبشرية .
إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين»(1) ثم اعتبر «الكتاب» الثقل الأكبر والأوّل ، لا يمكن القول: بأنّه(صلى الله عليه وآله) كان يقصد من الثقل الأكبر تلك الآيات المبثوثة في الصحائف أو المحمولة في الصدور ، وأنّه أوكل جمعها وفوّض تنظيمها في مصحف مرتّب يعني تمام «الكتاب» إلى غيره ، فيخضع الأمر للأمزجة والرغبات والاجتهادات الخاصّة ، إن لم نقل للميول والأهواء والأغراض والمصالح الخاصّة! إنّ هذا التوكيل والتفويض يستلزم المساس بالقرآن والإخلال به ، ممّا يعني التفريط بأمر حيوي وأساسي يوقع الأمّة في فوضى وضياع ، ومنع ذلك والحؤول دون وقوعه هو دور ومهمّة المرسل بالكتاب ، وحاشا أن يخلّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) بواجباته ووظائفه . وعلى هذا فإنّ العقل يأبى بشدّة فرضية عدم جمع وتدوين القرآن على عهد النبيّ ، وأنّه(صلى الله عليه وآله) لم ينهض بهذا الدور بل أوكله إلى غيره .
وإن قلنا: بأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) أناط هذه المهمّة بأمير المؤمنين(عليه السلام)وهو ربيب بيت الرسالة ورضيع درّ الوحي ، والعليم بمواقف التنزيل ومواضع الآيات ومواقع السور ، وأنّ عليّاً(عليه السلام) نفسه كان يعلن أنّه يحتفظ لديه

(1) الكافي 1: 233 ، الخصال 1: 65 ح97 ، المسند لأحمد بن حنبل 4: 30 ح11104 ، المعجم الكبير للطبراني 3: 65 ح2679 ، ورواها المجلسي بطرق عديدة في بحار الأنوار 23: 106 ـ 152 .

(الصفحة70)

بالقرآن النازل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأنّه مودّع عنده . فإنّ مقصود عليّ(عليه السلام) هو القرآن المحتوى على التفسير والتأويل ، المشتمل على تحديد أسباب النزول وكشف الغوامض والأسرار ، وبيان حقائق ما أرادتها مجملات الآيات وتخصيص عموماتها ، ممّا خصّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) به ابن عمّه وخليفته من بعده من علوم . وبعبارة أخرى: أنّ قرآن عليّ(عليه السلام)ما هو إلاّ شرح للقرآن المؤلف المجموع على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومثل هذا الكتاب لا يوجد إلاّ عند عليّ وأئمّة الهدى(عليهم السلام)من بعده ، وهو من شأن «الذين عندهم ما نزلت به رسل الله وهبطت به ملائكته وإلى أخيه أوجدّهم بُعث الروح الأمين»(1) الذين لا يمكن لغيرهم حمله ، يتوارثونه كابراً عن كابر مع بقية ودائع النبوّة ومواريث الإمامة ، وهو اليوم محفوظ عند إمام العصر المهدي من آل محمّد الحجّة ابن الحسن عجّل الله تبارك وتعالى فرجه ، الذي سيملأ الأرض بعدل الكتاب وهو يطبقه آية بآية ويحكمه حرفاً بحرف .

كلام علي(عليه السلام) حول القرآن :

ولبيان صحّة ما ذهبنا إليه آنفاً ، نحيل القارئ الكريم إلى كتاب «الاحتجاج» للطبرسي ، وفيه حديث مفصّل لحوار بين عليّ(عليه السلام)وطلحة حول هذه الوديعة السماوية ، ننقل مختصراً منها ممّا نحن بصدده . يقول(عليه السلام):
«يا طلحة ، إنّ كلّ آية أنزلها الله جلّ وعلا على محمّد(صلى الله عليه وآله) عندي

(1) راجع عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2 : 276 ، بحار الأنوار 102 : 132 ح4 .

(الصفحة71)

بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد(صلى الله عليه وآله) وكلّ حرام وحلال ، أو حدّ أو حكم أو شيء تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة ، مكتوب بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي حتّى أرش الخدش . قال طلحة: كلّ شيء من صغير وكبير أو خاصّ أو عام كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو عندك مكتوب؟ قال: نعم ، وسوى ذلك ، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أسرّ إليّ في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب ، ولو أنّ الاُمّة منذ قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله)اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . . . ثمّ قال طلحة: فأخبرني عمّا في يدك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام إلى من تدفعه ومن صاحبه من بعدك؟ قال: إنّ الذي أمرني رسول  الله(صلى الله عليه وآله) أن أدفعه إليه وصيّي وأولى الناس بعدي بالناس ابني الحسن ، ثمّ يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين ، ثمّ يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتّى يرد آخرهم حوضه»(1) .
إذن فالكتاب الذي لدى عليّ(عليه السلام)يحمل مواصفات ، هي:

1 ـ مدوّن فيه كلّ ما نزل على النبيّ(صلى الله عليه وآله) بخط عليّ(عليه السلام) .
2 ـ فيه تأويل كلّ آية .
3 ـ فيه جميع الأحكام من الحلال والحرام: الواجبات والمستحبّات ، والحدود ، وكلّ ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة ، وهو من الدقّة والتفصيل بحيث فيه حتّى أرش الخدش .
4 ـ لا ينبغي لهذا الكتاب أن يقع في أيدي عامّة الناس ، ولا أن

(1) الاحتجاج للطبرسي 1 : 223 ـ 225 .

(الصفحة72)

يطّلعوا عليه ، بل إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أوصى عليّاً(عليه السلام) وأمره بالاحتفاظ به عنده وتسليمه إلى ابنه الحسن(عليه السلام) من بعده ، ومن ثمّ إلى الحسين(عليه السلام)وهكذا حتّى آخر الأئمّة والأوصياء ، أي الإمام المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
بعد بيان هذه الأوصاف ، هل يمكن لأحد الزعم بأنّ هذا الكتاب هو ذاته القرآن الواقعي المنزّل على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ من الواضح أنّ جواب هذا السؤال منفيّ ـ بناءً على قول أمير المؤمنين(عليه السلام)ـ لأنّ في هذه المجموعة تفصيل كلّ حكم ، أعمّ من الخاصّ والعام ، الكلّي والجزئي ، فأنت لا تشاهد في هذا الكتاب الآيات المنزلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله)فحسب ، بل تجد تأويلها أيضاً ، إنّه وديعة يجب أن تبقى بأيدي أوصياء النبيّ; ليكونوا محيطين مطّلعين على جميع أسرار الدين ومآل الأمور ونتائجها .
فالقرآن هو مجموع الآيات التي نزلت على قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، بينما كتاب عليّ(عليه السلام) يحوي إضافة إلى ذلك تأويل الآيات ، وهو شيء آخر غير الآيات نفسها بطبيعة الحال ، والقرآن ينبغي أن يكون في متناول عامّة الناس ، حيث كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتلوه ويعلّمه الناس ، كما أخبر القرآن نفسه بذلك في قوله تعالى: {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . . .}(1) ، بينما يجب أن تبقى آيات الكتاب المستودع عند عليّ(عليه السلام) وأحكامه محفوظة لديه ولدى الأوصياء من ولده(عليهم السلام) ، بعيدة عن تناول الناس . وعلى هذا لا يمكن القول: إنّهما كتاب واحد ، ولا مناص من القول: إنّ

(1) آل عمران: 164 .

(الصفحة73)

مقصود أمير المؤمنين(عليه السلام) من «القرآن» شيء آخر غير كتاب الله المعهود والمجموع بين الدفتين .

خلاصة هذه الاستدلالات :

قلنا : إنّ كتّاب الوحي قاموا بجمع وبتدوين الآيات وتأليف المصحف على عهد رسول الله وبأمره وإشرافه ، وتعرّضنا في ضمن مسألة ودليلين إلى إثبات صحّة رأي من ذهب من العلماء والمحقّقين إلى أنّ القرآن اُلّف وجمع كاملاً مرتّباً في السور والآيات في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهو القرآن الفعلي المتداول بين المسلمين .
وعلى هذا ، فإنّ ما نراه اليوم من مواقع السور وترتيب الآيات في المصحف الشريف المتداول بأيدي المسلمين هو نفسه الذي كان في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) كلّ آية في مكانها وكلّ سورة في موضعها ، الذي عيّنه النبيّ(صلى الله عليه وآله) ودوّنه كتّاب الوحي بأمره وإشرافه . إذن فإنّ آية التطهير يجب أن تكون في ذيل الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب ، ومحلّها هذا كان بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع ما أثبتناه من كونها آية مستقلّة منفصلة في دلالتها وشأن نزولها والمخاطبين والمعنيين فيها ، لكنّها يجب أن تكون في هذا الموضع ويجب أن تتخلّل آيات النساء!

شبهة وتساؤل :

إنّ الأدلّة والبراهين التي ساقها البحث حتّى الآن إنّما أثبتت أنّ القرآن جُمع ودوّن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبإشرافه ورقابته ، ولكن يبقى هنا سؤال عن القرآن الموجود بين ظهرانينا اليوم ، هل هو ذاك

(الصفحة74)

الذي جمعه النبيّ(صلى الله عليه وآله) ؟ ألا يحتمل أنّ الأيدي عبثت وتصرّفت في ترتيب الآيات ومواقع السور خلال هذه الفاصلة الزمنية الممتدّة ، خصوصاً وأنّ المشهور اليوم هو أنّ عثمان هو الذي جمع كتاب الله ، حتى أصبح يُشار ويُقال: «المصحف العثماني»؟ فإذا فرضنا أنّ عثمان بن عفّان قام أيضاً بجمع القرآن ، فمن أين نعلم أنّ القرآن الموجود بين أيدينا اليوم هو الذي نهض رسول الله(صلى الله عليه وآله) بجمعه لا الذي جمعه عثمان؟ وعليه فإنّ الاستدلال على عدم التصرّف في ترتيب الآيات من منطلق تصدّي النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهذه المهمّة وانجازها في حياته يبقى ناقصاً!

ردّ الشبهة :

يتسالم المحقّقون ويتّفقون على أنّ دور عثمان كان منحصراً في معالجة قراءات القرآن المختَلَف فيها ، لعلل وأهداف لا داعي لذكرها ، فهو جمع القرآن لا بمعنى جمع الآيات والسور في مصحف واحد ، بل جمع الناس على قراءة واحدة ، وقد اختار عثمان القراءة المشهورة المتواترة بين المسلمين ، القراءة التي أخذوها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكتب القرآن على تلك الصورة .
إذن ، ما فعله عثمان هو أنّه أشاع ونشر نفس الكتاب الذي ألّف رسول الله بين آياته ، وفق القراءة المعروفة المتداولة ، وثبّتها من بين بقيّة القراءات الاُخرى المختلفة ـ ويرجع سبب اختلاف القراءات إلى حدّ كبير إلى تفاوت اللهجات وبيئات القبائل ـ وقد كان أمير المؤمنين(عليه السلام)يحوط العملية بالرقابة اللازمة كما جاء في رواية سُويد بن غفلة: أنّ عليّاً(عليه السلام) قال: «والله ما فعل ـ عثمان ـ الذي فعل في المصاحف إلاّ عن

(الصفحة75)

ملأ منّا»(1) ، إذن فعثمان لم يجمع المصحف على هواه ووفق رغبته ، وقد أقرّه الجميع على ذلك ، ولم يعترض عليه أو ينتقد فعلته أحد من المسلمين(2) .
ولعمري ما كان عثمان ولا غيره قادراً على مس القرآن ، وتبديل مواضع السور والآيات فيه ، إذ كان المسلمون يحوطون القرآن الذي جمعه ونظّمه رسول الله(صلى الله عليه وآله) باهتمام وعناية ما كانت تسمح بإسقاط «واو» أو تغيير مكانها في الآية! ففي «الدرّ المنثور»: أخرج ابن الضريس ، عن علباء بن أحمر أنّ عثمان بن عفّان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال لهم اُبي (بن كعب): لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ، فألحقوها(3) .
نعم ، إنّ وجود حماة أشدّاء يقفون كالليوث مترصدة مراقبة ، على رأسهم أمير المؤمنين(عليه السلام) ، يحوطون القرآن بالرعاية والمتابعة لم يكن ليسمح بالعبث والتحريف ، أو بتغيير الترتيب والنظم .
ويبقى الحكم التاريخي ، كما ذهب بعض المحقّقين ، على فعلة عثمان هذه يتأرجح بين إثبات حسنة له واُخرى سيّئة: فهو من جهة أنهى النزاع والاختلاف في القراءات ، وجمع المسلمين على قراءة واحدة متواترة . ولكنّه من جهة اُخرى أقدم على إحراق بقيّة المصاحف ، وأمر

(1) كنز العمّال 2: 583 ح4777 ، الميزان في تفسير القرآن 12: 123 .
(2) البيان في تفسير القرآن: 277 .
(3) الدرّ المنثور 3: 232 ، الميزان في تفسير القرآن 12: 123 .

(الصفحة76)

أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترف على عثمان في ذلك جمع من المسلمين حتّى سمّوه «حرّاق المصاحف»!(1) .
وعلى أيّ حال فهو لم يُدخل ميوله ويُعمل أهواءه في عملية الجمع هذه ، وعلى تقدير إقدامه على شيء من هذا فإنّ عمله كان سيُرفض تماماً ، وكان سيُواجه خصوصاً من قبل أهل الخبرة والمعرفة بالقرآن الكريم ، وكانوا كثيرين ، وعلى الأخصّ مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) ، الذي كان محيطاً بجميع خصائص وجزئيات القرآن ، منها ترتيب آياته ومواقعها . إذن فإنّ عمل عثمان لم يتعدّ إحياء ذلك المصحف الخالد نفسه الذي خلّفه النبيّ(صلى الله عليه وآله)  .
من هنا يتقرّر: أنّ الكتاب الموجود بين ظهرانينا هو نفسه الذي وضعه النبيّ(صلى الله عليه وآله) وخلّفه بيد المسلمين قبل ما يربو على ألف وأربعمائة عام ونيف ، وهكذا يتقرّر أنّ آية التطهير جاءت في سياق آيات سورة الأحزاب المشار إليها ، وأنّ محلّها هو نفسه الذي نعهده في المصاحف الشريفة .

مؤيّد آخر لموضع الآية

يدعم كون آية التطهير جاءت تلو آيات النساء ، وأنّ موقعها هذا كان بأمر خاصّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله)  . فبعدما فرغنا من إثباته من استقلالية الآية وانفصالها من حيث شأن النزول و . . .  ، يتّضح أنّ تدوين هذه الآية في هذا الموقع ينطوي على سرّ لا يحيط به إلاّ من خوطب بالقرآن

(1) البيان في تفسير القرآن: 277 .

(الصفحة77)

ومن اُنزل عليه واُوحي إليه ، أي الرسول(صلى الله عليه وآله) نفسه ، إذ لو كان أمر الجمع والتدوين قد أوكل إلى الناس لما أخذت الآية هذا المكان (في ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب) ولما توانى القائمون على التدوين ـ وهم يرون أنّ الخطاب في أوّل الآية يتوجّه لنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)ـ من فصلها في آية مستقلّة ووضعها في موضع يتناسب وسبب النزول والمخاطب فيها ، لا أن تدمجان بحيث تحسبان في المجموع من أوّل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ـ إلى آخر ـ تَطْهِيرَاً} آية واحدة! وهذا ممّا يدلّ على حكمة وسرّ خاصّ أراده النبيّ(صلى الله عليه وآله) من هذا الأمر ، سنعرض له قريباً .
نستعيد هنا خلاصة ما ذكرناه في المسألة الثانية :
1 ـ آية {إنّما يريد الله} نزلت في دار اُمّ سلمة وبصورة مستقلّة .
2 ـ كان في دار اُمّ سلمة خمسة أشخاص دخلوا تحت الكساء عند نزول الآية ، ولم تكن اُمّ سلمة من هؤلاء الخمسة ، وأنّ هذا المعنى متسالم ومتّفق عليه لدى العامّة والخاصّة ، حتّى أنّ زوجتي النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) اُمّ سلمة الفاضلة وعائشة الفتاة الشابّة اعترفتا بخروجهنّ عن هذا المجمع المقدّس وملتقى الفيض الرحماني .
3 ـ المتطفّلون ، «القيصريون أكثر من قيصر» ، الحاسدون ، الذين بذلوا كلّ ما في وسعهم لطمس الحقائق وتحريفها بجعل الآية شاملة أو مقتصرة على نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ذهبت جهودهم أدراج الرياح .
4 ـ إنّ آية التطهير جاءت لتخلع على «أهل البيت(عليهم السلام)» حلّة من الفخر والشرف والفضل الذي يميّزهم عن غيرهم ويمهّدهم للدور الذي سيُناط بهم في المستقبل ، دور زعامة الأمّة وهدايتها ، والهيئة الخاصّة التي اقترنت بنزول الآية (التدثّر بالكساء اليماني) كان بمثابة الإشعار

(الصفحة78)

والعلامة المميّزة التي تقرن النزول بالشأن ، وتزيل اللبس عن أيّة مداخلات تحاول طمس حقيقة مدلول ورسالة الآية ، إنّها تحديد عملي وتطبيق خارجي لمفهوم الآية والمراد بها ، وإنّ حركة دخول الخمسة تحت الكساء ونزول الآية ودعاء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وهم على هذه الهيئة الخاصّة ، هي حركة شبيهة بما فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله) في يوم غدير خم عندما رفع يد أمير المؤمنين ـ حتّى بان بياض إبطيهما ـ وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»(1) .
5 ـ القرآن كتاب منظم يبدأ بسورة الحمد ، وقد اُنجز تدوينه وتمّ تأليف آياته وسوره على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه لم يتعرّض لأيّ تلاعب ، ومواضع الآيات في المصحف الحالي هي ذات المواضع ونفس المواقع التي رتّبها النبيّ(صلى الله عليه وآله) في عهده دون تغيير أو تبديل .

6 ـ على ذلك ، إنّ موضع آية التطهير هو سورة الأحزاب في سياق الآيات التي خاطبت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وعلى التحديد في ذيل الآية الثالثة والثلاثين التي تبدأ بـ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} والتي كانت بصدد رسم منهج وتحديد دور وتكليف زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) . وأنّ هذا موافق ومنطبق مع التأليف والجمع الأوّل للقرآن .

اُسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعائلته فريقان :

بملاحظة النظم في هذه الآيات يتجلّى لنا البرنامج الحكيم ، والخطة

(1) الكافي 1: 294 ، سنن ابن ماجة 1: 88 ح116 ، المستدرك على الصحيحين 3: 118 ، كنز العمّال 13: 105 ح34343 .

(الصفحة79)

الإلهية التي وضعها القرآن الكريم لاُسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعائلته ، ذلك البرنامج الذي سيعمّ الإسلام البلاد عند تطبيقه ، وهذه الخطّة التي سيحتلّ الإسلام على إثر العمل بها مكانته بين الاُمم كمشعل هداية للبشرية جمعاء . هذه الخطّة التي سبق أن أشرنا إليها ، نقف بعد المزيد من التدقيق والتحقيق على تفاصيلها .
تُصوّر لنا هذه الآيات شكل أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله)  ، وهي في نطاقها العائلي الكبير تُدخل جميع دُور رسول الله ومن فيها من نسائه في عضويتها ، وهكذا ذريّته وأقرباؤه من ابنته وسبطيه إضافة إلى صهره العظيم(عليهم السلام) . ولكن هذه الاُسرة الكبيرة تنقسم في الآيات إلى قسمين وتنشقّ إلى فريقين:
فريق باسم نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)  ، ولكن لم تذكر بيوتهنّ باسم بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، بل بنفس البيت الذي يسكنّ فيه فاُطلق {بُيُوتِكُنَّ} .
والفريق الثاني اُطلق عليه وسمّي بـ {أَهْلَ الْبَيْتِ} وقلنا: إنّ أعضاء هذا الفريق خمسة مع صاحب البيت ، رئيسهم النبيّ(صلى الله عليه وآله) .
وبينما نرى أنّ الآيات قد وضعت خطّة وبرنامج عمل من أجل السعادة والنجاة للفريق الأوّل ، نجدها ميّزت الفريق الثاني وخصّته بخصوصية انفرد بها .

البرنامج القرآني للفريق الأوّل

1 ـ عدم التعلّق بالدنيا وزينتها ، وعند التخلّف عليهنّ الانفصال عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتطليقهنّ .
2 ـ الانقطاع إلى الله والإخلاص لذاته المقدّسة ، والطاعة

(الصفحة80)

والخضوع المطلق لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والأجر الجزيل المضاعف الذي ينتظرهنّ عند تنفيذ هذا البند .
3 ـ اجتناب الفواحش وقبائح الأعمال والمنكرات الفاضحة .
4 ـ عدم الاختلاط بالرجال واجتناب الغرباء والحيطة ، حتّى في أسلوب الكلام ولحن الحديث بما يحصنهنّ عن أغراض الذين في قلوبهم مرض .
5 ـ القول المتّزن ، واجتناب القول المشين والحديث الجارح .
6 ـ عدم التبرّج وإظهار الزينة والجلوس في أماكن مشرّفة ، أو تطلّ على الطريق بحيث يكنّ على مرأى من الأجانب .
7 ـ الاستقرار في البيوت ، وعدم الخروج والتجوال في الطرق والتفسّح المريب ، ثمّ اجتناب الدخول في القضايا السياسية والشؤون العامّة للمسلمين .
كانت هذه نماذج من الاستنتاجات الحاصلة على ضوء الآيات المبيّنة لبرنامج نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وما عليهنّ التقيّد به وفق تلك الآيات ، ونرى مدى الحرص والتأكيد القرآني على تنفيذ هذا البرنامج وإعمال هذه الخطّة يظهر متجلّياً واضحاً بتأمّل الآية الأخيرة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيرَاً}(1) وهي تذكرهنّ بالتعاليم والإرشادات التي أمرهنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) بها وما تلاه عليهنّ من آيات الله .


(1) الأحزاب : 34  .
<<التالي الفهرس السابق>>