في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة81)

امتياز الفريق الثاني

الفريق الثاني المنشعب من الأسرة الكبيرة هو «أهل البيت(عليهم السلام) » وقد مرّ أن أيّاً من الآيات لم يشر إلى نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)ـ أي الفريق الأوّل ـ على أنّهنّ من {أهل البيت} إذ نسب بيوتهنّ إلى أنفسهنّ ، وركز القرآن الكريم هذا المعنى في آيتين من قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(1)  {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}(2) . ولعلّ الأمر كان على هذه الكيفية حتّى يفقدن في المستقبل ، أي انتساب أو إضافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)أو ارتباط به ، سوى كونهنّ أزواجه . وبملاحظة البرنامج الذي اُلزمن بتنفيذه والعمل به ، عليهنّ حفظ بيوتهنّ وفق البنود والشروط التي نصّ عليها البرنامج (اللائحة التنظيمية لهذه البيوت) بالبقاء فيها ، وتجنّب الخوض في القضايا الإسلامية العامّة ، إذ لا صفة ولا دور أو سمة رسمية تسمح لهنّ بالدخول في هكذا قضايا ، وفي حال التخلّف عن هذا البرنامج وعدم مراعاة شروطه ، فإنّ الانتساب والإضافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)ستسقط عنهنّ أيضاً .
من هنا كان جواب زيد بن صوحان لعائشة في الرسالة التي ذكرناها(3) واعتباره لها اُمّاً للمؤمنين ما دامت في بيتها ملتزمةً بالعمل بـ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، وكان كتاب اُمّ سلمة لعائشة المتضمّن للمعنى نفسه من توقّف تحلّيها بلقب اُمّ المؤمنين على التزامها البيت ، وعدم الخوض في القضايا السياسية العامّة وإثارة الفتن والحروب ، وخلع

(1) الأحزاب: 33.
(2) الأحزاب: 34 .
(3) في ص 28 ـ 29 .

(الصفحة82)

اللقب عنها عند تمرّدها ونكوصها عن (اللائحة التنظيمية الداخلية لبيوت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله))(1) .
أمّا الفريق الثاني
«أهل البيت»(عليهم السلام) فهو موكّل بمهمّة ودور ناهض بمسؤولية ووظيفة حفظ الإسلام وقيادة المسلمين وزعامتهم ، من هنا خلّيت النسوة (الفريق الأوّل) ومشيئتهنّ في عدم اجتراح الآثام وارتكاب الفواحش ، والالتزام بالبرنامج القرآني المرسوم لهنّ ، وبالتالي طهارتهنّ ونزاهتهنّ ، أمّا
{أهل البيت} صلوات الله عليهم فقد نزّههم الله وطهّرهم تطهيراً ، وأراد بأمره أن لا يعتري نفوسهم السامية كدر الذنب بل حتّى التفكير بالذنب ، أو ينال أرواحهم العالية لوث المعاصي ، فيبقون معادن خالصة مصفّاة يحقّ لها ويليق بها أن تتولّى دور الهداية وتخلف رسولَ الله(صلى الله عليه وآله) فيه(2) .
أمّا الآيات التي تحدّثت عن نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) فلا يستشم منها ريح التميّز والاصطفاء ، ولكنّك تجد تلك النفحة الإلهية في قمّة تجلّيها في {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ  . . .} وتجد كيف تسطع شمس الكمال وتتلألأ درر الفضيلة في صفوة محدّدة وثلّة مذكورة على وجه الحصر والتخصيص بـ  «إنّما» ، وبتقديم «عنكم» على أهل البيت(عليهم السلام) ، وبفتح «أهل» فالله أراد لهؤلاء ، لا للنساء ولا لغيرهنّ ، بل لهؤلاء الخمسة البعد عن الأهواء والأمراض الروحية ، أراد لهذه الطبقة المتميّزة وهذا النبع والجذر الطهارة والنزاهة والعصمة .


(1) راجع ص27 .
(2) يبقى بحث هنا حول فضل الأئمّة فيما أراده الله لهم تكويناً وما يُثار من شبهة الجبر ، وسيأتي الكلام في ذلك  .

(الصفحة83)

ويلاحظ من وقوع هذه الآية بين تلك الآيات أنّ السلبية التي تعاملت بها العناية الربّانية مع زوجات النبي اقتُطعت واستُثني منها الفريق الثاني «أهل البيت»(عليهم السلام) ، فإمكان صدور الذنب وارتكاب الفواحش ومعصية الرسول ، والخروج من البيت والتدخّل المنهيّ عنه والخاطئ في قضايا المسلمين العامّة ممّا كانت تطفح به الآيات التي خاطبت زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) ، قد اختفت واستُعيض عنها بإفاضة روحية ملكوتية تنزّه وتبرئ الفريق الثاني «أهل البيت(عليهم السلام)» من كلّ ذنب ونقص .
فنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهنّ الخيار في اتّخاذ طريق السعادة أو الشقاء ، أمّا أنشودة الرحمة الإلهية والعناية الربانية الخاصة وفيوضاتها القدسية فقد رتّلت ألحانها الغيبية في مسامع أهل البيت خاصة ، وناجتهم أن لا يظنّن أحد أنّكم كنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، اُرخي لهنّ عنان الشطح واُلقي حبل الأهواء على غاربه ، اللّهم إلاّ لمن أرادت الفوز والنجاة فاعتصمت بسبيله . إنّه ظنّ باطل وخيال زاهق . {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ . . .} .
وعلى هذا ، فإنّ مفاد آية التطهير يختلف كلّياً عن مفاد بقيّة الآيات ، فلا يمكن أن يتوجّه الخطاب فيها إلى زوجات النبيّ الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين .

العلّة في ترتيب وتدوين الآية في هذا الموضع

مع أنّ آيات البرنامج القرآني لزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) كانت تشير إلى عدم تمتّعهنّ بالخصوص بأيّ مقتض وأولوية ، ولم تكن تحكي أيّ نوع من الاستحقاق والكفاءة لهنّ ، ولم تمنحهنّ أيّ فضيلة أو مزيّة ، مع أنّ

(الصفحة84)

كلّ هذا نزل بخصوصهنّ ، كان من الممكن أن يتوهّم البعض أنّ هذا يشمل جميع أقرباء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وأنّهم جميعاً على هذه الشاكلة والنحو من الكفاءة والاستعداد والمنزلة والمقام . ولم يكن من سبيل لرفع هذا التوهّم ودفع هذا الاحتمال إلاّ بأن تُقحم جملة معترضة في وسط هذه الآيات على نحو الاستطراد ، لتبدو كأنّها عبارة مقتطعة وضعت بين قوسين لئلاّ يبقى أيّ هامش للاحتمال ، وهذا من شواهد البلاغة القرآنية التي تظهر في قدرته على نقل خطابه وتغيير مخاطبه بشكل مفاجئ وسريع ، ففي حين توجّه بالخطاب إلى فئة معيّنة (نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)) بالوعد والوعيد والتحذير من السقوط في المعصية والهوى ، ينتقل بتمام التأكيد وغاية الإتقان ليخاطب فئة اُخرى «أهل البيت»(عليهم السلام) ، وكأنّه يقول: كلاّ ، ليس الحال كذلك معكم أنتم ، ليست كلّ الأسرة من أصل واحد ، وليست نفوسهم من نسيج واحد ، لا ليس كذلك ، إنّما «أهل البيت»(عليهم السلام)مستثنون ، فقد طهّرهم الله من الدنس وعصمهم من الزلل .

حقائق كشفها البحث

1 ـ انتظام الآيات ، أي وجود ترابط بين آية التطهير وآيات نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)  .
2 ـ السرّ في وقوع آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} في آخر الآيات وأنّ آية {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} هي بمثابة ملحق بالبنود التي سجلتها الآيات السابقة لها .
3 ـ دلالة آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} على انصباب العناية الإلهية الخاصة ، وتعلّق الرعاية الربانية على تنزيه وطهارة وعلوّ شأن ثلّة

(الصفحة85)

خاصّة من أقرباء النبيّ(صلى الله عليه وآله) اُطلق عليهم «أهل البيت»(عليهم السلام) .
4 ـ وقوع الآية في نهاية تلك الآيات كان لدفع وهم قد يطرحه بعض من في قلوبهم مرض .

إشكال على الاستطراد :

إذا افترضنا أنّ آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ  . . .} مثلها مثل بقيّة الآيات تخاطب جميع عائلة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأسرته من نساء وذريّة وصهر ، فلن يعكر سياق الكلام ووحدة الموضوع شيء وستجده منساباً على رؤية واحدة ، ولكن إذا قلنا: بأنّ المعنيين في آية التطهير هم فئة خاصّة من أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) استُثنيت من عموم عائلته ، فهذا ممّا يلزمه الاستطراد (ويعني تخلّل عبارة خارجة عن كلام يحكي موضوعاً واحداً)(1) وحمل

(1) الاستطراد: هو أن يأخذ المتكلِّم في معنى ، وقبل أن يتمّه يأخذ في معنى آخر . ويسمّيه ابن المعتزّ «حُسن الخروج» ، وذلك كقول حسّان بن ثابت(1):
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرّة ولجام
فقبل أن يأتي بجواب الشرط استطرد ، فأخذ يحكي ما فعله الحارث بن هشام ، وبعبارة أخرى: خرج من الغزل إلى هجاء الحارث بن هشام .
والاستطراد أيضاً نوع من تجميل الكلام يتلخّص في إدخال مادّة لا تتصل بالموضوع إلاّ اتّصالاً غير مباشر ، وقد تكون وظيفتها الاستعطاف أو إثارة الغضب أو تفنيد حجج المعارضة . والاستطراد قد ينطوي على الاتهام أو النقد أو السخرية أو المدح أو إثارة الكبرياء أو أي موضوع آخر يستطيع أن يزيد اهتمام المستمعين أو يخفّف من قلقهم(2) .


(الصفحة86)

عبارة ما على الاستطراد هو خلاف الظاهر ، إذ الظاهر أن يبدأ المتكلّم بالحديث حتّى ينهيه بانتهاء موضوعه دون أن يتخلّله كلام خارج الموضوع الذي شرع فيه ، وإلاّ لخدش ذلك بفصاحته وبلاغته . من هنا (يزعم أرباب الإشكال) فإنّ عدم اعتبار آية التطهير مخاطبة لعامّة أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) يجعلها عبارة وجملة غريبة تخلّ بوحدة الموضوع وتناسق النصّ وانسجامه ، ولما كان القرآن الكريم في غاية البلاغة وقمّة الفصاحة فإنّه لا يمكن الجزم بأنّ آية التطهير لا تشمل جميع أفراد اُسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) لما يشكله فرض الاستطراد من مسّ وخدش بالكمال الأدبي والتمام البلاغي للنص ، وهو مبنى إشكال غالبية محقّقي العامّة وعلمائهم في دلالة الآية وزعمهم شمولها النساء .

ردّ الإشكال :

فضلاً عمّا ذكرناه سابقاً وأثبته التحقيق من أنّ الخطاب في هذه الآية خاصّ ، ولا يصحّ ولا يعقل إلاّ أن يكون موجّهاً لنفر معدود معيّن ، وما اعتبرناه من كونها استطراداً جاء في محلّه ومناسبته لرفع الاحتمال ودفع الوهم ، نقول: إنّ دخول الجملة الاعتراضية في الكلام لا يخدش ببلاغته ، وإذا ما تسالمنا وأذعنا أنّ القرآن الكريم غاية في البلاغة والفصاحة ، فها هي بعض الشواهد التي تُقرّ هذا الاستعمال الأدبي وتحسّنه ولا تراه مخلاًّ وخادشاً بتمام البلاغة والفصاحة:


(1) ديوان حسّان بن ثابت: 215 .
(2) معجم المصطلحات في اللغة والأدب/ مجدي وهبة ـ كامل المهندس ص18 .


(الصفحة87)

1 ـ {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُر قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ}(1) في هذا النصّ القرآني نجد أنّ الحديث يبدأ حول مكر النساء وينتهي بذكر ذنب زليخا وخطيئتها ، وقد تخلّلته جملة اعتراضية هي {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} .
2 ـ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ }(2) ونلاحظ هنا أنّ بداية الكلام ونهايته لبلقيس ، وبين تسلسل حديثها جاء كلام الله على نحو الجملة المعترضة {كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
3 ـ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاَْنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ* أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(3) بدأ الكلام في هذه الآيات الشريفة ببيان نفسيّة اليهود وروحيتهم وعنادهم وقسوتهم ،

(1) يوسف : 28 ـ 29  .
(2) النمل: 34 ـ 35  .
(3) البقرة: 73 ـ 75  .

(الصفحة88)

وختم ببيان زيفهم وحالة الملامة والتوبيخ المتبادلة بين أفرادهم ، ولكن بين مثل هذه البداية والخاتمة نرى عبارة (كأنّها بين قوسين) جاءت كتذكرة للمسلمين: أن لا تأملوا أبداً في إيمان هؤلاء واقطعوا الرجاء في ذلك . إذن فالقرآن الذي ينصب جزء من إعجازه على البُعد البلاغي فيه عمد إلى الاستطراد في كثير من المواضع بأن بدأ حديثاً وختمه في موضوع واحد في حين تخلّلته عبارات وجمل خارج الموضع وغريبة عنه ، ويكفينا ذكر هذه الشواهد الثلاثة ، ولننتقل للبحث في علل الاستطراد وأسبابه .

حول الاستطراد :

يُعدّ الاستطراد من الأساليب البلاغية المتداولة في الكتابة ، المعمول بها في الخطابة والتحدّث ، وهو إدراج عبارة أو إقحام جملة في موضوع غريب عنها أو لا يندمج فيها كلّ الاندماج ، ويهدف إلى التأكيد على تلك الجملة وإلفات النظر إليها ، بحيث ما كان لها هذا البريق والوقع على القارئ أو المستمع لو لم تكن نافرة عن سياق غريب عنها ، وهكذا قد يُراد بالاستطراد تأكيد المعنى فيؤتى بالجملة المقتطعة في وسط الحديث الغريب عنها ترسيخاً له وإمعاناً في بيانه . وممّا لا شكّ فيه أنّ آية التطهير الشريفة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} هي من هذا القبيل ، الذي يلجأ إليه المتحدِّث بهدف إلفات النظر إليه وتركيزه في الأذهان وبقائه في الذاكرة لأهمّيته وخصوصيّته . ففي سياق يلفّه الوعد والوعيد لزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ويحفّه إثارة إمكان انحرافهنّ وسقوطهنّ في المعصية والتمرّد على الرسول(صلى الله عليه وآله) ، كانت ذهنية المستمع ستخلط ـ على الأكثر ـ وتحتمل

(الصفحة89)

الفرض نفسه في «أهل البيت»(عليهم السلام)أيضاً ، هنا كان لابدّ من خطاب يأخذ وقع الهاتف والنداء الخالد الذي يمسح جميع الاحتمالات الباطلة ويقلب المعاني المحتملة ، وما كان لهذا الخطاب إلاّ أن يكون على نحو الاستطراد الذي يتخلّل موقع الشبهة نفسه ويقحمه في عقر داره! فيعلم الجميع أنّ هذه الثلّة مطهّرة منزّهة لا ينتابها شكّ ولا يعتريها باطل ، وأنّهم مقولة اُخرى من سنخية ونسيج آخر لا علاقة له بالنساء ولا ارتباط لهنّ به ، فلا ينبغي القياس ولا تصحّ المقارنة والربط ، ليعلم الجميع أن «لا يُقاس بآل محمّد(صلى الله عليه وآله) من هذه الاُمّة أحد»(1) وهكذا الأمر في آيات سورة البقرة التي تناولت وضع اليهود ونفسيّاتهم ، إذ كان القرآن في معرض بيان سُبل فلاح المسلمين وسعادتهم ، وكيف أنّ اليهود هم أكبر مانع في طريق تحقّق ذلك ، وأنّ الرجاء في هدايتهم إلى الدين رجاء عقيم والأمل في إذعانهم للحقّ أمل خائب ، من هنا جاءت عبارة في وسط العبارات التي تشرح أحوال اليهود ، وُجّه فيها الخطاب للمسلمين مباشرة تحثّهم على هذا المعنى ، وهو أفضل أسلوب وأتمّ صيغة لإلفات النظر إلى ذلك المعنى وترسيخه في نفوسهم .
وبالجملة إنّ إشكال كون «الاستطراد» مخلاًّ بالبلاغة خادشاً بالفصاحة ـ لتكون النتيجة بطلانه ودخول عموم عائلة النبيّ(صلى الله عليه وآله) أي زوجاته أيضاً في مدلول الآية بدليل وحدة السياق وعدم الإخلال به لقطع وغيره ـ مردود ، بل إنّه من الأساليب البلاغية المطلوبة

(1) نهج البلاغة: 25 ، الخطبة الثانية .

(الصفحة90)

والمستحسنة لما ثبت من استعمالاته القرآنية في عدّة موارد اُخرى(1) . هكذا يثبت أنّ الآيات محلّ البحث قسمت عائلة الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى قسمين: زوجاته وذريّته ، وثبت أنّ المقصود من «أهل البيت»(عليهم السلام) هم الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم أجمعين .


(1) عدّ صاحب جواهر البلاغة الاستطراد من المحسنات المعنوية ، وقال: الاستطراد هو أن يخرج المتكلّم من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما ، ثمّ يرجع فينتقل إلى إتمام الكلام الأوّل ، كقول السمؤل:
وإنّا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
فسياق القصيدة للفخر بقومه ، وانتقل منه إلى هجو قبيلتي عامر وسلول ، ثمّ عاد إلى مقامه الأوّل وهو الفخر بقومه . جواهر البلاغة للسيّد أحمد الهاشمي : 358 .

(الصفحة91)

النكتة الثالثة:

المقصود من الإرادة

في قوله تعالى : {إنّما يريد الله  . . .}

في هذا الفصل سنتناول دراسة معنى «الإرادة» والمقصود منها في الآية الشريفة ، وسنعرض في البداية لتوضيح معنى الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، ثمّ نبحث هل جاء في القرآن الكريم نوعا الإرادة هذان أم لا؟

الإرادة التكوينية

الإرادة التكوينية ـ كما هو ظاهر من اسمها ـ عبارة عن حقيقة الإرادة والحمل الشائع لها(1) ، بمعنى أنّ ذات الباري سبحانه وتعالى أو الفاعل المريد من البشر له إرادة واقعية على إنجاز عمل ما .
فالشخص له إرادة لتناول الطعام ، ومنشأ هذه الإرادة هو تصوّر الشيء المراد والتصديق بالفائدة والنتيجة ، ووجود الميل والرغبة ثمّ النيّة

(1) الشائع الصناعي: أي المتعارف في المحاورات والعلوم والصناعات ، مثل «الإنسان كاتب» ويكون عند اتحاد الموضوع والمحمول في المصداق وتغايرهما من جهة المفهوم ، ويقابله الحمل الذاتي الأوّلي: فالاتحاد بين الموضوع والمحمول في المفهوم ، لكن المغايرة اعتبارية كالإجمال والتفصيل ونحوه ، مثل «الإنسان حيوان ناطق» . . .

(الصفحة92)

والعزم ، وبعد ذلك الاندفاع وإرادة الشيء . فهو عندما تخطر في ذهنه فكرة تناول الطعام يستحضر فائدة هذا العمل ، من شبع أو لذّة أو غرض صحيّ وطبّي ، ثمّ يصدّق على صحّة ذلك أي يتحقّق من سلامة الفكرة ، وتأتي النيّة والعزم على إثر هذه الرغبة النفسية ، وحينما تبلغ الرغبة قمّتها ويصل الشوق(1) مداه فهو «يريد» الأكل . فـ «الإرادة» أمر يظهر بعد المقدّمات الخمسة المذكورة التي بعضها جزء من المبادئ التصوّرية ، والبعض الآخر هو جزء الغايات .
وحقيقة هذه الإرادة التكوينية أمر ممكن على الباري تعالى(2) ، ومن صفات تلك الذات المقدّسة . ونقول: إنّ الله مريد ، ولكن لا على تلك المقدّمات التي ابتنت عليها إرادة البشر ، إذ يلزم ترتّب الإرادة الإلهية على تلك المقدّمات إنفعال ذاته المقدّسة وتأثّرها ، وهو ممّا مردّه إلى النقص تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، ولكن حقيقة الإرادة التي هي عين العلم وعين الذات ـ على حدّ تعبير المحقّقين ـ فهي من صفات ذاته المقدّسة .


(1) وقد يتعلّق الشوق بنتيجة الفعل لا به ، كما في تناول الدواء المرّ جدّاً أو في تحمّل عملية جراحية خطرة .
(2) ذكر العلاّمة الطباطبائي في نهاية الحكمة ص361 : «وقد تحقّق أنّ كلّ كمال وجودي في الوجود فإنّه موجود للواجب تعالى في حدّ ذاته ، فهو (تعالى) عين القدرة الواجبية ، لكن لا سبيل لتطرّق الشوق عليه ، لكونه كيفية نفسانية تلازم الفقد ، والفقد يلازم النقص ، وهو تعالى منزّه عن كلّ نقص وعدم . (ثمّ يقول): وكذلك الإرادة التي هي كيفية نفسانية غير العلم والشوق ، فإنّها ماهية ممكنة والواجب تعالى منزّه عن الماهية والإمكان» .

(الصفحة93)

وفي الإرادة التكوينية تتعلّق الإرادة بفعل المريد والطالب نفسه لا الغير ، فالله يريد خلق العالم ، أو إحداث زلزال ، أو إفاضة الوجود على إنسان . والشخص يريد أن يأكل ، أو يمشي ، أو يتعلّم أو . . . ولكن هناك تفاوت بين إرادة الله وإرادة الإنسان ، ففي الإرادة الأزليّة للبارئ تعالى لا يتخلّف المُراد عن الإرادة ، ولابدّ من تحقّق كلّ ما أراده المريد ، أمّا في الإنسان فالإرادة والمراد قابلة للتفكيك ، وقد يتخلّف المراد عن الإرادة ولا يتحقّق لعلّة ما .

الإرادة التشريعية

الإرادة التشريعيّة هي إرادة شخص إنجاز عمل ما وفقاً لرضاه واختياره ، كأن يريد الأب من ابنه أن يدرس ، وحتّى يبلغ هذا الأمر مرحلة التطبيق والتنفيذ ، فإنّه يطوي مقدّمات ، فالأب تحكمه رغبة وشوق مؤكّد لأن ينشغل ابنه بالدرس ، أو يعيش هاجس المحافظة على ابنه من التسكع واللهو وبالتالي الفساد ، وصنع مستقلّ جيّد له ، هذه الرغبة تدفعه لإصدار أمر الانشغال بالدراسة والنهي عن التسكع واللهو المنجرّ إلى الفساد .
هذه الرغبة الملحّة وهذا الشوق المؤكَّد الذي يستتبعه الأمر والنهي هو الإرادة التشريعية ، وفي ضوء الدراسة التي تمّت حول الإرادة التكوينية للباري تعالى نقول: إنّ الإرادة التشريعية لله سبحانه هي الأوامر والنواهي الشرعية .


(الصفحة94)

الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية في القرآن الكريم

نلمح في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تضمّنت الإرادتين ، نستعرض بعضها باختصار ، ونذكر أوّلاً بعض التي تشير إلى الإرادة التكوينية:
1 ـ {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(1) . والإرادة في لفظة «يريد» في الآية الكريمة من قبيل الإرادة التكوينية ، والمعنى أنّ إرادة الباري غير قابلة للتخلّف ، وأنّ كلّ ما يريده الله سبحانه وتعالى متحقّق لا محالة .
2 ـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2) . وهذه الآية في غاية الوضوح على الإرادة التكوينية ، وكيف أنّ الشيء يرتدي حلّة الوجود ، والمراد يكتسب نور التحقّق بمجرّد توجّه العناية والرغبة الربّانية إليه .
3 ـ { . . . إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}(3) ، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}(4) . وجملة «فعّال لما يريد» من مصاديق الإشارة إلى الإرادة الربانية التكوينية ، إذ بمجرّد انبعاثها يتحقّق المراد ، وما يريده الباري فهو ما سيقع ويتحقّق .
كانت هذه نماذج من آيات مستفيضة تشير إلى وجود إرادة لله سبحانه ، وأنّ هذه الإرادة مُنجزّة ومُتحقّقة قطعاً .


(1) الحج : 14  .
(2) يس : 82  .
(3) هود : 107  .
(4) البروج : 15 ـ 16  .

(الصفحة95)

ومن الآيات التي تتضمّن وجود إرادة تكوينية للإنسان وإمكان تخلّف المراد عن الإرادة في هذه الحالة ، نذكر جملة منها:
1 ـ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(1) .
2 ـ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}(2) .
وفي هذه الآيات يتّضح معنى أنّ الإرادة التكوينية للبشر ورغبتهم لا تتحقّق دائماً ، وبطبيعة الحال فهي ليست نافذة بالضرورة ، ويستفاد كذلك من هذه الآيات أنّ هذه الإرادة البشرية محكومة ومقهورة بالإرادة الأزلية للباري تعالى ، وعندما تصطدم وتتعارض الإرادتان ، فإنّ ما يريده الله هو ما سيجري ويتحقّق لا ما يريده الناس .

أمّا الآيات التي تشير إلى الإرادة التشريعية ، فمنها:

1 ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج

(1) الصفّ : 8  .
(2) المائدة : 37  .

(الصفحة96)

وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1) . من المسلّم أنّ الإرادة في هذه الآية الشريفة {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إرادة تشريعية ، أي أنّ الهدف الإلهي من جعل هذه الأحكام هو تطهير الناس ، إذن فالإرادة التشريعية هنا هي وضع أحكام الطهارة من غسل ووضوء وتيمّم ، والهدف هو طهارة الناس من الحدث والخبث ، وبديهي أنّ البعض سيمتثل لهذه الأحكام ويعمل بها ، بينما سيعرض عنها آخرون ولا ينفذونها ، أمّا لو كانت إرادة إلهية على نحو التكوين لما أمكن لأحد أن يتخلّف عن تطهير نفسه .
وقد ذكرنا في معنى الإرادة التشريعية أنّها تتعلّق بفعل الغير ـ على ضوء إرادته واختياره ـ وفي هذه الآية اُضيفت إرادة الله سبحانه وتعالى إلى أفعال الناس ، وغايتها أن يقوم المؤمنون وفق اختيارهم بالوضوء والغسل والتيمّم ، وكون الإرادة هنا تعلّقت بفعل الإنسان ، إذن لا ترديد أنّ الإرادة في هذه الآية {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إرادة تشريعية لا تكوينية .
2 ـ { . . . فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ . . .}(2) . وممّا سبق بيانه في الآية السابقة يتّضح أنّ «الإرادة» في هذه الآية من قبيل سابقتها تشريعية أيضاً ، وأنّها بصدد وضع قانون الصيام وضوابطه المختلفة المتعلّقة بالسفر والحضر أو الصحّة والمرض ، بما يخفّف على المضطرّين ، ولا يوقعهم في العُسر والمشقّة ، ويجعل الصيام

(1) المائدة : 6  .
(2) البقرة : 185  .

(الصفحة97)

مفروضاً على الجميع دون مراعاة للحالات الخاصّة ، إذن الإرادة في الآية تتعلّق بتشريع الأحكام والفروض ، وليست هذه إلاّ الإرادة التشريعيّة بعينها .

الإرادة في آية التطهير

بعد بيان نوعيّ الإرادة  ، لننظر في آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من أيّ القسمين هي؟
ذهب بعض مفسِّري العامّة وكبار علمائهم إلى أنّ الإرادة في آية التطهير هي من قبيل الإرادة التشريعية ، ويرجع هذا الرأي إلى ما افترضوه في أنّ مخاطب الآية هو زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أو ما هو أعمّ من الزوجات وأهل البيت ، وذلك لوقوعها في سياق الآيات التي كانت تحثّ الزوجات وترغبهنّ بأعمال معيّنة وتحدّد لهنّ تكاليفهنّ تجاه الرسول(صلى الله عليه وآله) ، فافترضوا أنّ التطهير المشار إليه في الآية هو محصلة امتثالهنّ وقيامهنّ بما اُمرن به ، وعلى هذا يكون الغرض من هذا التشريع (في الآية) تطهير زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)وتنزيههنّ عن الذنب وعصيان الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه تطهير تشريعي يعقّب العمل الذي يقوم به المكلّف وفق اختياره ورغبته ، لا تكويني سيتحقّق بإرادة الباري عزّوجلّ وبصرف النظر عن فعل ورغبة المكلّف .

ماذا يقول سيّد قطب في ظلاله ؟

يقول في ذيل آية التطهير: «في العبارة تلطّف ببيان علّة التكليف وغايته ، تلطّف يشي بأنّ الله سبحانه ـ يشعرهم بأنّه بذاته العلّية ـ

(الصفحة98)

يتولّى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم; وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت ، وحين نتصوّر من هو القائل ـ سبحانه وتعالى ـ ربّ هذا الكون ، الذي قال للكون: كن فكان . الله ذو الجلال والإكرام ، المهيمن العزيز الجبّار المتكبِّر . وأخيراً فإنّه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت ، فالتطهير من التطهّر ، وإذهاب الرجس يتمّ بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي»(1) .
على هذا المبنى الذي يفرضه سيّد قطب في آية التطهير فلا سبيل أمامه إلاّ اعتبار الإرادة هنا تشريعية ، إذ هو يفرض العلّة في التكليف إزالة الرجس والتحلّي بالطهارة ، وعليه فإنّ الأوامر والنواهي التي جاءت بها الآيات السابقة للنساء كانت لتحقّق هذه الحالة ، الحالة التي لن توجد وتتحقّق إلاّ من خلال العمل بتلك التكاليف ، ومن ثمّ ليست إرادة الباري سوى تشريع الأحكام لهنّ ، وهذا التشريع جاء لمجرّد إزالة الرجس وإيجاد الطهارة . ومع أنّ سيّد قطب يصرّح في بعض عباراته بأنّ الله سبحانه وتعالى باشر بذاته المقدّسة تطهير أهل البيت وتولّى إذهاب الرجس عنهم ، (الله الذي يخلع الوجود على مخاطبيه بمجرّد «كن» فيكونون ، وهذه العبارات لا تليق ولا تناسب إلاّ شأن الإرادة التكوينية ، فالخطاب بـ «كن» من أبرز مصاديق الحالة التكوينية) لكن الرجل في بداية حديثه ونهايته جعل آية التطهير علّة وغاية لفرض واجبات وإلقاء تكاليف إلهية على نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ الامتثال لهذه


(1) في ظلال القرآن / سيّد قطب 5 : 2862  .

(الصفحة99)

التكاليف هو السبيل الوحيد للخلاص من الأرجاس والتحلّي بالطهارة ، وهذا التركيب لا ينطبق إلاّ مع الإرادة التشريعية التي تبيّن لنا أنّها متعلّقة بفعل المكلّف . على هذا يمكننا القول: إنّ سيّد قطب يذهب إلى أنّ الإرادة الإلهية في آية التطهير تشريعية لكنّه لم يصرّح بهذا المعنى ، كما أنّه جاء ببعض خصائص ومميّزات الإرادة التكوينية وطبّقها على الآية .

هل الإرادة في آية التطهير تشريعيّة ؟

بعدما اتّضح أنّ كلتا الإرادتين ـ التكوينية والتشريعية ـ مذكورتان في القرآن الكريم ، نقول: إنّ الإرادة في آية التطهير تكوينية بعدّة أدلّة:
1 ـ ينبغي في تحديد معنى «إرادة» وغيرها من الكلمات ملاحظة الظهور النوعي لها ، والمعنى الذي يشكّل الغلبة ويحقّق لنفسه حالة الأصل ، بحيث يفتقر صرفه لمعنى آخر إلى القرينة ، وعند خلوّ الذكر والإطلاق عن القرائن تُحمل الكلمة على معناها الظاهر . وممّا لا شكّ فيه أنّ ظهور «الإرادة» وشيوع استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم هو في المعنى التكويني ، بحيث يمكننا القول: إنّ المعنى المقابل ، أي
التشريعي (أي نفس التكاليف الشرعية من أوامر ونواه) لم يكن في القرآن إلاّ نزراً يسيراً ، ووفق ما تحرّيناه فإنّه من 138 مورداً ذكرت
فيه «الإرادة» فقد استعملت في 135 مورداً في المعنى التكويني (ونقصد ـ بطبيعة الحال ـ الإلهي منه والإنساني) ، واستعملت في 3 موارد فقط


(الصفحة100)

في المعنى التشريعي(1) .
من هنا نخلص إلى أنّه عند الشكّ في إحدى معنيي اللفظ ، فإنّه يُحمل على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة صارفة ، وهكذا عند الشكّ في مدلول «الإرادة» في آية التطهير ، وهل المراد منها التكوينية أم التشريعية ، فإنّها تُحمل على التكوينية لأنّه مقتضى الأصل ، لما ثبت من غلبة استعماله في هذا المعنى وبالتالي ظهوره فيه ، اللهمّ إلاّ أن يُؤتى بقرينة تصرفه عن هذا الظاهر والأصل ، ولا قرينة .
2 ـ وهاك دليل آخر أكثر وضوحاً يحدّد معنى «الإرادة» في الآية الشريفة ، وهو مبتن على الأساس الذي ذكرناه في التفريق بين نوعي الإرادة ، والفصل المميّز لقسمي الإرادة ـ التكوينية والتشريعية ـ أي تعلّق الفعل في الإرادة التكوينية بالمريد نفسه لا بغيره ، على عكس التشريعية التي تتعلّق فيها الإرادة بفعل الغير . وفي آية التطهير فإنّ المريد هو الله جلّ وعلا ، والمُراد هو إذهاب الرجس والتطهير ، والإذهاب والتطهير في الآية متعلّقان بالله ، وهما من فعله وعمله ، إذ يرجع الضمير في «ليُذهب» وفي «يطهِّركم» إلى الله سبحانه ، وهو فاعل هذين الفعلين ، وبناءً على هذا الأساس لابدّ أن يقال: عند تعلّق الإرادة على فعل المريد فهي تكوينية ، والمريد هنا هو الله جلّ جلاله ، فالإرادة إرادة إلهيّة تكوينية وليست تشريعية ، إذ تتعلّق التشريعية بفعل الغير لا بفعل المريد .


(1) أي بنسبة 2 % فقط ، وقد قمت بإحصاء الموارد التي ذكرت فيها «الإرادة» ومشتقّاتها في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن فوجدتها 138 كما ذكر المؤلف .
<<التالي الفهرس السابق>>