في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة21)

والاضطراب . وفي ظلّ هذه الأوضاع عمد عمرو بن العاص لشنّ هجومه على مصر .
عمرو معروف بدهائه ومكره وخداعه ، وقد تصدّى لمعاداة علي (عليه السلام)ولم يتورّع عن ممارسة أبشع الأساليب وطرق الغدر والحيلة من أجل إشعال فتيل الحروب وسفك دماء المسلمين . كُلّف من قبل معاوية بمحاربة محمّد بن أبي بكر ـ والي الإمام علي (عليه السلام)على مصر ـ حتّى انتهى الأمر بقتل محمّد ، كما أمر بقتل مالك الأشتر فتمّ له ذلك عن طريق الغدر والحيلة .
لقد اتّجه عمرو بن العاص مع القوافل التجارية ـ إبّان شبابه ـ إلى مصر وسورية ، وعليه فقد كان على علم بأوضاع مصر الداخلية وغناها من حيث الموارد والثروات الطبيعية; ولذلك ما إن تسلّم الخليفة الثاني زمام الاُمور حتّى اقترح عليه ابن العاص عدّة مرّات إصدار أوامره بفتح مصر ، إلاّ أنّه لم يجبه إلى ذلك .
كان والي مصر آنذاك «المقوقس»(1) الذي قدم مصر من القوقاز ، ولذلك كانت تسمّيه العامّة القوقازي . لقد ورد المقوقس أرض مصر بأمر من هرقل الامبراطور البيزنطي فكان نائبه في إدارة شؤون مصر(2) . وكان يتمتّع بقوّة وسطوة هناك . وهو الذي كتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام ، فاستقبل مبعوث النبي (صلى الله عليه وآله)استقبالا حارّاً وبعث ببعض الهدايا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنها «مارية القبطية» التي ولدت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إبراهيم الذي توفّي ولمّا يتمّ الرضاعة(3) .
ولمّا تسلّم الخليفة الثاني بعض التقارير بشأن إسراف معاوية وبذخه

1 . بامداد اسلام: 84 .
2 . تاريخ عرب: 208 .
3 . بامداد اسلام: 36 ، 55 ، 84 .

(الصفحة22)

وإجحافه بالناس عزم على المسير إلى الشام لمعالجة الأمر . أمّا عمرو بن العاص الذي كان يتحيّن الفرص فقد سار خلف الخليفة ليلتقيه سرّاً في بيت المقدس . وهناك أيضاً طرح عليه قضية فتح مصر بعد أن شجّعه على ذلك . فقد قال للخليفة: «أتأذن لي في أن أصير إلى مصر ، فإنّا إن فتحناها كانت قوّة للمسلمين ، وهي من أكثر الأرض أموالا ، وأعجزها عن القتال»(1) . أضف إلى ذلك فقد كان عمرو بن العاص يعظم قيمة مصرفي نظر الخليفة ويحاول إقناعه بسهولة فتحها .
كان عمرو بن العاص لا ينفكّ عن التأكيد على تنامي شوكة الإسلام واتّساع قدرته; إلاّ أنّه كان يهمّ بنفسه في اكتساب المقام والشهرة ، لاسيّما أنّه كان يكنّ مزيداً من الحسد لخالد بن الوليد ويتمنّى أن يكون مثله فينهض بإمرة الجيش ويبدي شجاعته وبسالته في المعارك ، حتّى تحدّث صاحب «تاريخ العرب» عن هذا الأمر في أنّ «عمرو بن العاص كان يتحيّن الفرص ليتفوّق على منافسه اللدود خالد بن الوليد .
فلمّا قدم الخليفة الثاني إلى بيت المقدس ، اغتنم الفرصة ليحقّق أمنيته القديمة ، أي زعامة الجيش في قتال مصر»(2) . طبعاً كان الخليفة يرفض مثل هذا الاقتراح كلّما طرحه عليه عمرو بن العاص ، ويقول بأنّ مصر خاضعة لسيطرة الروم الذين يمتلكون العدّة والعدد ، وسيهبّون للدفاع والمقاومة ، ولا نأمل بفتحها من قبل جند الإسلام بهذه السهولة ، إلاّ أن عمرو بن العاص تمكّن أخيراً من تجهيز جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليتأهّب لشنّ المعركة دون علم الخليفة . فلمّا بلغ الخليفة الخبر إستاء استياءً بالغاً بحيث بعث فوراً بعقبة بن عامر ليسلّمه كتابه الذي وصف فيه ابن العاص بأنّه آثم بن آثم ، ثمّ يقرّعه قائلاً: «لم هجمت بهذا العدد القليل من الجنود

1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 147 ـ 148 .
2 . تاريخ عرب : 206 .

(الصفحة23)

على مصر وجيوشها الرومية الكثيرة العدّة والعدد؟ فإذا بلغك كتابي هذا ولم تكن وصلت مصر فارجع; وأمّا إن كنت دخلت مصر فتوكّل على الله وتقدّم»(1) .
فأدركه عقبة بن عامر الجهني في مدينة «رفح» ـ التي تبعد مسافة يومين عن عسقلان ـ التي تبعد مسافة شاسعة عن مصر ، فلمّا رآه عمر بن العاص أدرك أنّه رسول الخليفة ويحمل كتابه بعدم الهجوم على مصر ، فلم يكترث له وواصل مسيرته حتّى وطىء قرية في ساحل بحر الروم قرب منطقة «العريش» ـ وهي منطقة على حدود الشام وتعدّ جزءاً من الأراضي المصرية ـ ، وهنا دعا بعقبة فتناول الكتاب وفضّه . فلمّا اطّلع على مضمونه جمع طائفة من جنوده واُمرائه ثمّ سألهم قائلاً: أين نحن الآن؟ أجابوا: في منطقة من مصر . فقال عمرو بن العاص: إذن لابدّ لنا من مواصلة حركتنا ، فالخليفة «أمرني إن أتاني كتابه وقد دخلت شيئاً من أرض مصر ، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله» .
فما كان منه إلاّ أن واصل زحفه ودخل مصر ، فاشتبك مع الجيوش الخاضعة لسلطة حاكم مصر . لقد استمر القتال لشهر دون ظفر جيش عمرو بن العاص; فقد كانت الجيوش التي هبّت لمحاربته ـ وكما تكهّن بذلك الخليفة ـ قويّة مجهزة بالعدّة والعدد .
فاضطرّ ابن العاص لأن يكتب إلى الخليفة ويطالبه بالإمدادات ، فجهّز الخليفة جيشاً قوامه اثني عشر ألف مقاتل بقيادة الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلّد .
وقد اشتدّت عزائم الجيش بحضور أربعة عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)من المهاجرين بإمرة الزبير بن العوام وستّة عشر من الأنصار بقيادة عبادة بن

1 . تاريخ عرب : 207; تاريخ يعقوبي : 2/148 .

(الصفحة24)

الصامت ، فاستمر القتال ثلاثة شهور تمكّن بعدها جيش المسلمين من الانتصار والسيطرة على قلاع البلاد . فاضطرّ والي مصر المقوقس لمفاوضة المسلمين ودفع الجزية ، فكانت دينارين لكلّ رجل .(1) ثمّ انطلق الجيش الإسلامي صوب الاسكندرية .
الاسكندرية كانت تضمّ ثلاث قلاع مستحكمة ، كما كان معسكرها يضمّ ما يناهز الخمسين ألف مقاتل ، بينما لم يكن يبلغ عدد المسلمين سوى عشرين ألف مقاتل ، ولم تكن لديهم العدّة والوسائل الحربية الكافية لمحاصرة المدينة . مع ذلك فقد تمّ فتح المدينة سلميّاً ، فقد دفعت الأحداث والاختلافات الداخلية بالناس إلى قبول الجزية وتجنّب القتال . وهكذا استسلمت هذه المدينة المتميّزة في حضارتها ومدنيّتها والتي وصفها عمرو بن العاص بأنّها تشتمل على أربعة آلاف قصر وأربعة آلاف حمّام إلى جانب أربعة آلاف يهودي يدفعون الجزية و . . .(2)
وهكذا وقعت مصر هذه البلاد الغنية بثرواتها ونيلها الكبير في يد المسلمين ليحكمها عمرو بن العاص مدّة أربعة سنين وبضع شهور بعد ذلك الفتح .

حادثتان مهمّتان بعد فتح مصر
لابدّ من الإشارة إلى حادثتين مهمّتين من أجل الوقوف على الموقع الحسّاس لمصر من الناحية السياسية ، والذي حظي باهتمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
الحادثة الاُولى : أنّ أهل مصر أدركوا منذ البدء أنّ الوالي الجديد ـ عمرو بن العاص ـ وعمّاله وأعوانه الذين دخلوا البلاد فاتحين ، إنّما يعاملون الناس معاملة سيّئة تهدف إلى تحقيرهم والحطّ من شأنهم ، الأمر الذي أجّج مشاعر الناس

1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 148 ، بامداد اسلام: 85 .
2 . تأريخ العرب: 211 .

(الصفحة25)

وجعلهم يشعرون بالاستياء والتذمّر . ومن جانب آخر فإنّ البيزنطيين ـ بعد ثلاث سنوات من فتح الاسكندرية ـ بعثوا بقوّاتهم البحرية على أمل خوض الحرب واستعادة تلك المنطقة ، فما كان من أولئك الناس المتذمّرين إلاّ أن ولّوا ظهورهم للفاتحين المسلمين وفتحوا أبواب المدينة بوجه القوّات البيزنطية وقد سلّموها لهم لقمة سائغة .
طبعاً لم تتمكن القوات البيزنطية من إحكام سيطرتها ، حيث تمكّن عمرو بن العاص بعد مدّة قليلة من استعادة المنطقة ، إلاّ أنّ النتيجة المهمّة التي ينبغي التوصّل إليها هي أنّ مصر أصبحت في الحقيقة بؤرة للتوتّر وكأنّها برميل من البارود يخشى انفجاره في كلّ آن; لأنّ الناس الذين خضعوا لسلطة اليونانيين والرومان وعانوا منهما الأمرّين ، قد عقدوا آمالهم اليوم على هذا الدين الجديد ، ويشقّ عليهم أن يروا ما يسيء إليهم من عمّال وولاة هذا الدين الجديد الفاتح .
الحادثة الثانية: تتعلّق بثورة بعض أهالي مصر الذين تركوا ديارهم إبّان خلافة عثمان ، وجاءوا إلى المدينة ليعربوا عن غضبهم واستيائهم لممارسات عمّاله وولاته ، فقد قام هؤلاء المصريّون بمحاصرة دار عثمان حتّى قتلوه في نهاية الأمر . وهذه الحادثة تشكّل القرينة الثانية على الحسّاسية القصوى للأوضاع السائدة في مصر .

تزايد دور وأهمّية مصر كلّ يوم
بعد فتح الاسكندريّة ثانية سقطت تدريجيّاً كلّ الأراضي المصريّة الخصبة والغنية بيد المسلمين ، ولكنّ هناك أمر جدير بالإشارة إليه ، وهو أنّ كلّ مناطق مصر تقريباً دخلها المسلمون بيسر ودون أيّ صعوبة أو مقاومة تُذكر . وقيل : إنّ السبب في ذلك راجع إلى الاختلافات والصراعات المذهبيّة بين اليعقوبين

(الصفحة26)

المصريين والملكانيين ، والتي دامت لسنوات عديدة تسبّبت في حروب وقتل وأذى وآلام للناس . وكان للمسلمين دور كبير في تسريع عمليّة التسليم والفتح ودخول مصر من غير مقاومة .
وبعد فتح مصر بكاملها استطاع المسلمون ـ بالاستفادة من حدودها وطرقها ـ أن يحقّقوا تقدّماً ملحوظاً في مدّة قصيرة ، حيث حقّقوا فتوحات عظيمة من جهة المغرب العربي إلى أرض ليبيا ، ومنها انطلقوا إلى الأندلس .
ومن هذه الجهة اُخذت أهمّية مصر تتعاظم وتبرز يوماً بعد يوم في نظر المسلمين ، وذلك لأنّه بعد فتح مصر لم تستطع كلّ ولايات الروم والأراضي التابعة للحكومة البيزنطية من الدفاع ، وأضحى فتحها ميسوراً للمسلمين ومهمّاً .
لقد تقدّم المسلمون سنة 32هـ من ناحية «بنتاپوليس» وأخضعوا مدينة برقة ، ثمّ تمكّنوا من إخضاع قبائل البربر في طرابلس ، ومن جملة تلك القبائل قبيلة «لواته» .
وأيضاً استطاع عبدالله بن أبي سرح ـ الذي حلّ محلّ عمرو بن العاص وأصبح والياً على مصر ـ أن يحرز تقدّماً ملحوظاً في إخضاع قسم مهمّ من أفريقيا ، وتصالح مع أهل «كارتاج» عاصمة أفريقيا آنذاك على عهد يتضمّن دفع الجزية للمسملين(1) .
ومّما مرّ يُعلم سبب توجّه المسلمين وإدراكهم لموقع مصر وأهمّيتها في العالم الإسلامي ، والإحاطة بأوضاع وأحوال أرض مصر وأهلها . لكن مع هذه الجهود المبذولة والاهتمام المزيد للمسلمين حول مصر ، فقد أهمل الخليفة الثالث كلّ تلك الجهود أيّما إهمال ، الأمر الذي أثار حفيظة المصريّين فأبدوا استياءهم وغضبهم من

1 . تاريخ عرب : 215 .

(الصفحة27)

الأوضاع التي عاشوها ، وأخذت نفوسهم تمتلئ غيضاً ونقمة على الخليفة وولاته ، فقد أمر عثمان بن عفّان شخصاً مثل عبدالله بن أبي سرح بتولّي اُمور مصر والتصدّي لقيادة أهلها ، حيث كان يسوّغ الظلم والتعدّي على حقوق الناس كيف ما اتّفق ; ذلك إنّ عبدالله بن أبي سرح كان معروفاً بسوء الأخلاق وخبث السريرة ، وكان من العشرة الذين غضب عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكّة وأمر بإهدار دمائهم(1) .
ومع كلّ هذه الصفات التي يتمتّع بها ابن أبي سرح فقد أرسله عثمان إلى أكثر البلدان حسّاسيّة وأهمّية ، وجعله مبسوط اليد يفعل ما يشاء من دون رقيب أو حسيب ، لكنّ النهاية كانت في طرد ابن أبي سرح من مصر على يد محمّد بن حذيفة الذي كان مخالفاً لعثمان ومحرّكاً رئيسيّاً في قيام المصريّين ودفعهم لقتل عثمان بن عفّان ، وكان محمّد بن حذيفة بعد طرد عبدالله يريد أن يتولّى مقاليد اُمور مصر ، ولذلك توجّه ابن حذيفة مباشرة إلى المسجد ودعا الناس للصلاة وأعلن عن تولّيه شؤون مصر وولايتها .

أميرالمؤمنين (عليه السلام) يهدّئ أوضاع مصر
لقد آلت خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) بعد خمس وعشرين سنة من الصبر والسكوت والجلوس في البيت ـ بعد أن صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجا(2) ـ من أجل حفظ كيان الإسلام . كان ذلك بعد أن تغيّرت كلّ الأشياء; ومن ذلك أنّه كان يولي أهمّية قصوى لأوضاع مصر بالاستناد إلى موقعها وخصائصها

1 . تاريخ اليعقوبي : 2/174 .
2 . نهج البلاغة : 48 ، الخطبة 3 .

(الصفحة28)

آنذاك ، ولذلك ما إن استقرّت حكومته حتّى بذل جهده من أجل تنظيم أوضاع مصر وإعادتها إلى مجاريها الطبيعية .
فكانت أوّل خطوة اتّخذها علي (عليه السلام) بهذا الشأن أن اختار أحد ثقاته وهو «قيس بن سعد بن عبادة» ليولّيه مصر، ولم يكد قيس يصل مصر ويتصدّى لولايتها، حتّى رأى معاوية ـ الذي كان يطمع بمصر و يحلم بضمّها إلى نفوذه ، إلى جانب عدائه المعروف لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومحاولته إثارة الفتن والبلابل ـ الفرصة مناسبة ، فانتهزها ليكتب رسالة إلى قيس يقترح عليه فيها التخلّي عن علي (عليه السلام)ومبايعته .
وقد نمّق معاوية رسالته بمختلف الحيل والخدع والأساليب الرذيلة الرخيصة ، فقد أغرى قيساً من جانب ومنّاه بوعود ضخمة معسولة ، كما اتّهم من جانب آخر عليّاً (عليه السلام) بالضلوع في قتل عثمان و لم يتورّع عن وصفه بالقاتل في رسالته .
إلاّ أنّ هذه الترّهات لم يكن لها أدنى تأثير على قيس ولم تحرفه عن طريقه قيد أنملة ، غير أنّ قيساً الذي ورد مصر لتوّه ولم يكن على علم بأوضاعها ولم يتمكّن من السيطرة عليها ، إلى جانب حداثة حكومة علي (عليه السلام) ، فهو كان لا يعلم بكيفية التعامل مع مثل هذه الخدع بغية عدم زلزلة أركان الحكومة الإسلامية ، الأمر الذي جعله لا يردّ بصراحة على اقتراح معاوية ، فكتب له رسالة جوابية ذات وجهين كي لاتكون ذريعة تمكّن معاوية من استغلالها ، فما كان من معاوية إلاّ أن كتب رسالة ثانية لجأ فيها إلى الترهيب بدلا من الترغيب فقد توعّد قيساً وهدّده بالبيعة له . فلم يكن أمام قيس من سبيل سوى أن ردّ على رسالته بشدّة وأعلن فيها عن مدى وفائه لعلي (عليه السلام)حيث خاطبه قائلاً: «أمّا بعد ، فإنّما أنت وثن من أوثان مكّة ،

(الصفحة29)

دخلت في الإسلام كارهاً وخرجت منه طائعاً»(1) . فلمّا وصلت رسالته إلى معاوية واطّلع عليها ويئس من قيس ، عاود حيلته مرة اُخرى ، فزوّر رسالة نسبها إلى قيس وضمّ إليها الرسالة السابقة ، ثمّ أعلن أمام الملأ من الشام: أنّ قيساً رسول علي إلى مصر قد انصرف عن مولاه وبايعني(2) .
فبلغ الخبر أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحزنوا حزناً شديداً وكثر اللغط بينهم ، فأصرّ بعض أصحابه ـ ولا سيما عبدالله بن جعفر ـ على إخماد نار الفتنة وعزل قيس عن ولاية مصر ، إلاّ أنّه لم يوافقهم (عليه السلام) قائلاً: هناك خدعة ، وإنّي لأعرف قيساً ولا يصدر منه مثل هذا الكلام ، ولا أراه سوى تهمة . مع ذلك فقد دفعت الأجواء والضجيج آنذاك بالإمام ـ رغم ثقته بقيس ـ إلى عزله عن مصر واستبداله بمحمّد   بن أبي بكر(3) فلمّا بلغ محمّد بن أبي بكر مصر وتولّى ولايتها ، كتب لأميرالمؤمنين (عليه السلام)رسالة طلب فيها من الإمام أن يكتب له كتاباً يبّين له فيه وظائفه ويضمّنه الأحكام الإسلامية والحلال والحرام ليعتمدها في حكومته دون الخروج عن هذه الأحكام . فكتب (عليه السلام)رسالة مفصّلة ضمّنها توجيهاته ومواعظه ، وهي

1 . تاريخ اليعقوبي 2 : 187 .
2 . تاريخ الطبري : 3/64 ـ 66 .
3 . لعلّ هنالك من يقول: أفيمكن للإمام (عليه السلام) أن يعزل قيساً من منصبه الذي يستحقّه رغم علمه ببراءته واتّهامه بالباطل استجابةً للأجواء التي أثارها بعض أصحابه؟ نقول: بلى ، هذه هي السياسة الصائبة والجدّية بغية حفظ كيان الإسلام ، والحيلولة دون الفوضى التي من شأنها أن تؤدّي إلى الفساد والانحراف ، فقد يضطرّ القائد أحياناً للقيام بعمل على أساس الظرف المحيط به بهدف إعادة الهدوء إلى المجتمع رغم عدم إيمانه بذلك العمل .
وقد رأينا شبيه ذلك في تجربتنا في الجمهورية الإسلاميّة بشأن بني صدر الذي اُبقي لزمان في منصبه رغم عدم استحقاقه وأعماله المناهضة للثورة ، فلمّا عُزل ، قال الإمام الخميني (قدس سره): «كنت أعلم قبل عام تقريباً أنّ هذا الشخص يتحرك ضدّ الثورة» إلاّ أنّ الظروف المحيطة آنذاك والمجتمع لم تكن مناسبة لطرح قضية بني صدر وفضحه; الأمر الذي جعل الإمام يتحمّله لسنة في منصبه . ويمكننا من هذه القرينة أن نتحسّس صعوبة الأجواء والظروف التي أحاطت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

(الصفحة30)

الرسالة القريبة المضامين من عهده الذي عهده إلى مالك ، ومن أراد المزيد فليراجع نهج البلاغة ويتدبّر رسالته إلى محمّد بن أبي بكر(1) .

شهادة محمّد بن أبي بكر
لم يكتب لولاية محمّد بن أبي بكر الدوام ، فلم تمرّ مدّة طويلة حتّى بعث معاوية بمستشاره الماكر عمرو بن العاص إلى مصر لإثارة الفتن والقلاقل ، ويتمكّن في خاتمة المطاف من قتل محمّد بن أبي بكر . ولمّا استشهد محمّد ظفر عمرو بن العاص على ما كان بحوزة محمّد من كتب ورسائل وعهود ومواعظ ، بما فيها رسالة الإمام (عليه السلام) له حين ولاّه مصر ، فلمّا اطّلع عليها بعث بها إلى معاوية ، فذهل معاوية لما شاهد فيها من علوم ومعارف عرضها على أصحابه . فأشار عليه الوليد بن عقبة ـ الذي اعتلى المنبر مخموراً إبّان خلافة عثمان وصلّى بالمسلمين الصبح أربع ركعات ثم التفت إليهم ساخراً وهو يقول: أفأزيدكم(2) ـ بإحراقها .
إلاّ أنّ معاوية رفض إحراقها وقال: لست من أهل الرأي; أو تحرق مثل هذه الرسالة ، لابدّ أن نحفظها ونستفيد من مضامينها ، فإن أحرقناها سوف لن نجد من يحسن كلمة من هذه العلوم والمعارف فيعلّمناها .
فقال الوليد: أَمِنَ الصواب أن تفهم الاُمّة أنّك تقتدي بكتب علي وتعمل بمقتضاها؟ فأجابه معاوية: أفتشير عليّ بإحراق علم فريد كالذي ورد في هذه الرسالة؟ والله لم أر حتّى الآن علماً جامعاً ونافعاً كالذي رأيته في هذه الرسالة . فقال الوليد: إنّك لا تتمالك نفسك أمام رسالة من رسائل علي التي تحكي جزءاً من شخصيته فما لك تهبّ لقتاله ولا تمدّ يدك لبيعته؟


1 . نهج البلاغة : 383 ، الكتاب 27 .
2 . شرح نهج البلاغة : 3/18 .

(الصفحة31)

فلم ير معاوية من جواب منطقي لهذا السؤال سوى أن لجأ إلى الهروب من الحقيقة وتبرير قتاله لعلي (عليه السلام)باتّهامه بدم عثمان و المطالبة به ، ثمّ قال: طبعاً سوف لن أخبر الناس بأنّ هذه رسالة علي (عليه السلام) ، بل سأقول لهم بأنّ أبابكر قد كتب هذا الكتاب لولده محمّد وضمّنه هذه التعاليم العظيمة(1)!!
أمّا كيفيّة شهادة محمّد بن أبي بكر ، فهي أنّه قد حذّر عقب ولايته لمصر طائفة من أولئك الذين لم يبايعوا عليا (عليه السلام)بالبيعة أو الجلاء من مصر . فلم يستجيبوا للبيعة وأخذوا يستعدّون للقتال حتّى نشب بينهم وبين محمّد بن أبي بكر . فلمّا سمع معاوية بذلك اقتحم الميدان ، سيّما أنّه كان يطمع بمصر ويهمّ بالسيطرة عليها ، بغية مواجهة علي (عليه السلام) والقضاء على حكومته العادلة; وقد ترسّخ عزمه على اجتياح مصر إثر اختتام معركة صفّين بالتحكيم الذي تمّ لصالح معاوية . أمّا صحبه فقد أشاروا عليه بالقتال ، فجهّزوا جيشاً بإمرة عمرو بن العاص ، فالتحق ابن العاص بمعسكر المتمرّدين واشتبك مع محمّد بن أبي بكر في معركة طاحنة أسفرت عن شهادة محمّد .
وفي ظلّ هذه الظروف الصعبة والأوضاع المتوتّرة اختار عليّ (عليه السلام) مالك الأشتر لولاية مصر; ومن هنا نقف على مدى حسّاسيّة مصر وخطورة موقعها; فهي تمتاز بكبر مساحتها وازدحام سكّانها ، حيث يقطنها مختلف الأقوام والقبائل ذات الثقافات المختلفة والأساليب الفكرية المتعدّدة ، إلى جانب كونها منطقة بعيدة عن مركز الخلافة ، الأمر الذي يعني صعوبة الإشراف على شؤونها وتسيير الاُمور فيها ، كما أنّها المنطقة التي عرفت بتمرّدها بُعيد ثلاث سنوات من استسلامها أمام المسلمين ، حيث ولّت ظهرها من جديد للإسلام وأسلست قيادها للبيزنطيين

1 . شرح نهج البلاغة : 6/72 .

(الصفحة32)

أعدى أعداء الإسلام آنذاك . وهي التي ثارت على الخليفة الثالث وقتلته بعد أن نقمت من عمّاله وولاته ، وأخيراً هي التي وقفت بوجه مبعوث الإمام (عليه السلام) وخليفته عليهم واشتبكت معه في معركة أدّت إلى قتله ، إلى غير ذلك .
نعم ، إنّ حسّاسية هذه المنطقة اقتضت أن يكون واليها فرداً كمالك الأشتر ، ولابدّ له من اعتماد مثل ذلك العهد التأريخي بغية إدارة شؤون الحكومة; وهذا ما قام به الإمام علي (عليه السلام) .




(الصفحة33)




الدولة الإسلامية

شرح لعهد الإمام علي (عليه السلام)

إلى مالك الأشتر النخعي





(الصفحة34)






(الصفحة35)





التعامل مع نهج البلاغة


يعدّ القرآن ونهج البلاغة وسائر آثار أئمّة العصمة (عليهم السلام) في الثقافة الشيعية المثل الأعلى بالنسبة للاتّجاهات الفكرية الإنسانية ، والسبيل الوحيد الذي من شأنه تمييز الحقّ من الباطل . وعلى ضوء هذه النظرة فإنّ العلماء والمفكّرين على الصعيد الفكري على حقّ في أقوالهم وكتاباتهم في المعارف الإسلامية إذا ما عزّزوا ذلك بما ورد في القرآن ونهج البلاغة وكلمات المعصومين (عليهم السلام) ، وإلاّ فهم على الباطل .
ولذلك ورد عنهم (عليهم السلام) حديث العرض الذي يميّز صحيح الحديث من سقيمه وغثّه من سمينه ، فصرّحوا بأنّه : «إذا جاءكم عنّا حديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فخذوه ، وإن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»(1) . أمّا هذا العرض والاستنتاج بشأن القرآن ونهج البلاغة فإنّما يتمّ من خلال أمرين:
الأوّل : أن يتعامل مع هذه الكلمات القدسية بذهنية صافية دون إصدار الأحكام المسبقة .


1 . اُنظر عدّة الاُصول: 1 / 146 ، الوسائل: 27 / 118 ، أبواب صفات القاضي ب9 .

(الصفحة36)

الثاني : أن ينطلق في تعامله مع القرآن ونهج البلاغة وسائر كلمات المعصومين (عليهم السلام) من خلال الأحكام المسبقة والاقتداء السابق والعقائد الفكرية التي نشأ عليها .
ومن البديهي ألاّ نمتلك رؤية عن القرآن ونهج البلاغة في ظلّ الصورة الثانية بقدر ما سنحمّل القرآن عقائدنا وأفكارنا بما يدعو لاستغلال القرآن أو نهج البلاغة .
ويبدو أنّ مثل هذه النظرة للقرآن و نهج البلاغة ليس فقط لا تجرّ علينا أيّة فائدة ولا تعلّمنا أيّ مفهوم من المفاهيم السامية الموجودة في القرآن ونهج البلاغة ، بل من شأنها أن تقود الإنسان إلى الفساد والانحراف . أولسنا نؤمن بأنّ القرآن هو كلام الوحي وأنّ نهج البلاغة وكلمات المعصومين (عليهم السلام) مستوحاة من ذلك الكلام؟ إذن فنحن مطالبون بأن نجعل أنفسنا في مسار كلمات الوحي وترشّحاته : كلمات المعصومين (عليهم السلام) ، لا أن نمارس العكس و نجعل تلك الكلمات خاضعة لأفكارنا وعقائدنا ، فنبحث هنا و هناك في هذه الكلمات المقدّسة عَلَّنا نظفر بما يجعلنا نؤيد أفكارنا وعقائدنا الشخصية .
وبناءاً على ذلك فالاُسلوب الذي ينبغي اعتماده في الاستفادة من القرآن وكلمات المعصومين هو أن لا يرى المتتبّع لنفسه من رأي بالنسبة لهذه الكلمات تجاه المسائل المطروحة ، بل عليه أن يطرح جانباً كلَّ ما يعلمه بهذا الشأن ـ أو ما يظنّ أنه يعلم ـ ويدور حول محور هذه الشموس النيّرة بذهنية خالية صافية دون الاستناد إلى أيّ حكم سابق عقائدي وأفكار أوّليّة .
فقد رأينا نموذجاً لهذا التعامل الخاطئ والنظرة المنحرفة مع القرآن الكريم التي أدّت إلى الضلال والفساد في مسيرة ثورتنا الإسلاميّة المباركة ، فالكلّ يعلم بأنّ الفئات المناهضة للثورة والإسلام قد اعتمدت على هذا الاُسلوب الخاطئ . أي أنّ

(الصفحة37)

هؤلاء يتمسّكون ظاهرياً بالقرآن كما يسعون للاستدلال بالقرآن وآياته فيما يوردون من مواضيع ، لكن ما ينبغي الالتفات إليه هو التفسير والمعنى الصحيح للآية القرآنية ، فأيّ معنى وأيّ تفسير هو الصحيح؟ الواقع هو أنّ هذه الفئات لا تكلّف نفسها عناء التحرّي في القرآن ليعلموا ماذا يريد أن يقول ، بل يمتلكون العقائد السابقة ثمّ يتصفّحوا المصحف ليروا الآية القرآنية التي من شأنها تحميل أفكارهم وعقائدهم عليها .
وبالنتيجة ترى مثل هذه الفئات تمتلك استنباطات عجيبة من القرآن ويصيغون بعض المحامل والمعاني لكلام الله المجيد التي تدعو إلى الأسى والأسف وفي نفس الوقت إلى الضحك والسخرية . فهم يفترون على الله وكتابه بدلا من الاستفادة منه ، وبالتالي سوف لن يكونوا إلاّ مصداقاً لقوله سبحانه: { وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}(1) .
لقد ذهب أغلب المفسرين ـ وبالاستناد إلى كافّة الشواهد والقرائن ـ إلى أنّ معنى الغيب الوارد في الآية { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(2) هو الله سبحانه ، في حين تطالعك هذه الفئات المنحرفة ـ واستناداً إلى أسلوبها المنحرف في التعامل مع القرآن ـ لتقول بأنّ المراد بالغيب هنا هو ما تحت الأرض ، الخفاء والمقاومة السرّية . إذن فالقرآن يدعوكم إلى المقاومة السرّية والمخفية!!
والطريف في تلبية هذه الفئات للدعوة الإلهية التي حمّلوها القرآن من يهبّون لمقاومته سرّاً! أو ليست هذه الفئات تهبّ لمقاومة القرآن والإسلام سرّاً؟!
وهنا نقول : إنّ السبب الذي يكمن وراء هذا الانحراف الخطير هو أنّ مثل

1 . سورة الإسراء ، الآية 82 .
2 . سورة البقرة ، الآية 3 .

(الصفحة38)

هؤلاء الأفراد لم يجعلوا أنفسهم في مسارّ القرآن ليتدبّروا ماذا يقول ، بل جعلوا القرآن تابعاً لهم فحمّلوه أفكارهم وعقائدهم . أي أنّهم آمنوا بشيء أول الأمر ثمّ اتّجهوا صوب الآيات القرآنية ليروا هل هناك من آية تشبه ظاهرياً ما يؤمنون به من أفكار ، ليخلصوا إلى نتيجة مؤدّاها أنّ القرآن يبيّن في هذه الآية ما نؤمن به من أفكار!
وعليه فإنّ مثل هذه النظرة والتعامل مع القرآن والاستنتاج من كلام الله لا يقود سوى إلى الفساد والانحراف ، وهي نفس النتيجة بشأن التعامل مع كلمات المعصومين (عليهم السلام) والتي يدور حولها هذا البحث . ومعناه أنّنا إذا اتّجهنا صوب نهج البلاغة فلا ينبغي أن نملأ أذهاننا بالأفكار المسبقة ، كما لا ينبغي التأمّل فيه بهدف العثور على ما يؤيّد الموضوع الذي نروم بحثه ، ولا ينبغي أخيراً أن نؤمن بشيء ثمّ نتصفّح نهج البلاغة لنرى هل هنا لك من كلام للإمام (عليه السلام) يمكننا أن نحمّله أفكارنا وعقائدنا ، بل بالعكس لا بدّ أن نرد النهج بذهنية خالية وليس لنا من هدف سوى التدبّر فيه ، لنرى ما الذي أورده الإمام علي (عليه السلام) بشأن الموضوع الذي نروم بحثه . وعليه سوف نجني عدّة فوائد إذا تعاملنا مع هذا الكتاب بذهنية صافية بغية الوقوف على موضوعاته وتعاليمه ، وإلاّ فسوف لن نعيش سوى الفساد والانحراف .
«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاّهُ مِصْرَ» .
ذكرنا آنفاً أنّ كلمات المعصومين (عليهم السلام) خالية من المبالغة والإفراط والتفريط المتعارف لدى عامة الناس ، ولا ينطوي كلامهم سوى على المعاني الخاصّة والمفاهيم الواضحة دون أن تتطرق إليه الزيادة والنقيصة .
وعلى هذا الضوء يبدو أنّ الإمام علي (عليه السلام) أراد أن يبيّن أمرين أساسيّين في الثقافة الإسلامية في قوله: «ما أمر به عبد الله»:


(الصفحة39)

* الأوّل: إزالة الغفلة
إنّ أعظم آفة لأصحاب القدرة والسطوة ـ الذين تحفل قواميس معظمهم بالفساد والظلم والجور والسلب والنهب والقتل ـ تكمن في غفلتهم عن أنفسهم ونسيانهم لماضيهم ، فلو علم الحاكم ومهما كانت قدرته ومنصبه بأنّ هناك من أفاض عليه كافّة قدراته واستعداداته الجسمية والنفسية ، وأنّ هذا الفيّاض قادرٌ على سلبه إيّاها متى شاء ، فإنّه لن يعدّ يفكِّر في ظلم أحد ، كما لا يهمّ بالتمرّد وإشعال فتيل الحروب . أمّا إذا لم يلتفت لهذه الآفة ، ولم يكترث لعظمة خالقه وزهادة شخصه ، فإنّ الطغيان والفرعنة ستتجذّر في شخصه يوماً بعد آخر .
وهذا هو الذي ربّما خاطب به علي (عليه السلام) نفسه حين جلس على كرسي الحكم وتولّى مقاليد الاُمور ، بأنّ كلّ مالدينا من الله; ومن هنا ندب الشارع إلى القول: «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»(1) في قيام وقعود الصلوات اليومية الخمس ، أي أنّ الإنسان لابدّ أن يعلم بأنّ هذه القدرة على القيام والقعود ليست مستقلّة نابعة من قدرة الإنسان ، بل هي إفاضة من إفاضات الحقّ تبارك وتعالى . وهنا نقول : هل سيكون هنا لك من ظلم و جور لو اكتفى الحكّام و الزعماء بهذا الأمر فقط وجعلوا الله أمام أعينهم في أنّه هو الذي وهبهم كلّ هذه القوّة والقدرة؟!

* الثاني: العزّة في العبودية:
يرى الإمام علي (عليه السلام) ـ وهي الرؤية الإسلامية الحقّة ـ أنّ القدرة والرئاسة والسلطة المعنوية وبالتالي العزّة والسيادة ـ بمعناها الصحيح لا بمعنى الغطرسة والقوّة الغاشمة ـ إنّما تتحقّق في ظلّ العبودية . فالإمام (عليه السلام) ولبيان هذا الهدف ـ عدم

1 . الوسائل : 6/361 ، أبواب السجود ب13 .

(الصفحة40)

تحقّق السيادة دون العبودية ـ قد طرح مسألة «عبدالله» إثر كلمة «أمر» التي تفيد العلوّ والرفعة ، فقال: «هذا ما أمر به عبدالله» وهو عين ماورد في القرآن { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصَى} (1) فالله سبحانه وتعالى لم يقل : «سبحان الذي أسرى برسوله . . .» بل قال : «سبحان الذي أسرى بعبده» ، أي هنالك علاقة بين العبودية والمعراج ، كما ورد في تشهّد الصلوات اليومية «أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله»(2) ، فتقديم العبودية (عبده) على الرسالة (رسوله) دليل على العبودية الخالصة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) من أجل الرسالة .

دائرة الحكومة والولاية

«جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلادِهَا» لقد أوجز الإمام (عليه السلام) دائرة حكومة وولاية مالك الأشتر في أربعة محاور رئيسيّة هي: ـ

* الأوّل: جباية الخراج
المراد بالخراج الضرائب ـ الضرائب الخاصة كما سيأتي لاحقاً ـ فأهل مصر لم يُسلموا طوعاً ، بل أسلموا تحت طائلة السيف والقوّة . ويصطلح الفقه على الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالقوّة دون الصلح بالأراضي المفتوحة عنوة ، ومثل هذه الأراضي ملك لجميع المسلمين .
وعلى ضوء ذلك فإنّ الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي يقوم ـ وطبقاً

1 . سورة الإسراء ، الآية 1 .
2 . الوسائل : 6/393 ، أبواب التشهّد ب3 .
<<التالي الفهرس السابق>>