في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة161)

بلحاظ وجود كلمة (على) في الآية وبلحاظ كون كلمة (حرج) صفة للتكليف بالنحو الذي قلناه ، هو أ نّ الله لم يجعل عليكم تكليفاً إلزاميّاً حرجيّاً ، فإذن قاعدة (لا حرج) تنفي الإلزام والوجوب والتكليف الحرجي .
ومن جهة اُخرى فإنّ القاعدة كما يستفاد من الآية نفسها ، ويستفاد أيضاً من الروايات واردة في مقام الإمتنان ، ومنشأ هذه القاعدة ومستندها هي المنّة التي تفضّل بها الله تعالى على الاُمّة الإسلاميّة ، وعندها إذا جعلنا هذين الإثنين إلى جانب بعضهما ، فمن جهة نشاهد ظهور (لا حرج) في نفي الإلزام والوجوب ، ومن جهة اُخرى فإنّ منشأ هذه القاعدة عبارة عن الإمتنان على الاُمّة ، فماذا يقتضي الإمتنان على الاُمّة والمسلمين؟
إنّ الإمتنان يقتضي أن نقول: إنّ الصوم الحرجي غير واجب ، ولا نجعلك أيّها المسلم تقع في حرج من ناحية التكليف بالصوم ، فلا يجب عليك الصوم ، ولا يقتضي أنّ هذا المسلم المسكين إذا صام من شدّة الورع والإحتياط والتعبّد أن يكون عمله هذا باطلاً ، إذ أنّ بطلان هذا العمل لايتناسب مع الإمتنان ، إنّ الإمتنان يجري فقط في حدود نفي اللزوم ، أمّا أنّه علاوة على نفي اللزوم يقوم أيضاً بنفي المشروعية والمقرّبية والصحّة ، فإنّه لايتناسب أصلاً مع المنّة .
والآن لابدّ من الإلتفات إلى الأدلّة التي ذكرها هؤلاء ، فإذا لم تكن هذه الأدلّة سليمة وبقينا نحن ومفاد (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وأنّه وارد في مقام الإمتنان على الاُمّة ، فلازم ذلك هو أنّ العبادة الحرجيّة تقع صحيحة ، وفيها مشروعيّة ومقرّبية ، خاصّة وقد سمعت (أ نّ أفضل الأعمال أحمزها) فيستبعد أنّ الشخص الذي يصوم بشكل اعتيادي يكون صومه صحيحاً ، وأمّا الذي يأتي ويتحمّل الحرج فيقال له: إنّ صومك باطل ، إنّه مستبعد جدّاً ، علاوة على أنّه خلاف ظاهر الدليل ، إلاّ أنّ هذا ليس كافياً ، فلابدّ لنا أوّلاً أن نلاحظ أدلّة القائلين

(الصفحة162)

بالبطلان ، فإذا أمكننا الإجابة عنها ، عندها يمكننا الأخذ بهذا الظاهر ونقول بصحّة العبادة الحرجيّة .

أدلّة القائلين بالبطلان:
الدليل الأوّل: خلاصة ما أفاده المرحوم المحقّق النائيني مع توضيح مختصر انّه قال: ماهو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وبين قاعدة (لا حرج)؟ وفسّر (لا ضرر) بأنّه لم يُشرّع في الإسلام حكم ضرري ، إلاّ أنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يرد على شكل دليل حاكم ، والدليل الحاكم وظيفته التفسير والتبيين والنظر إلى الدليل المحكوم ، وأمّا باطنه فإنّه يضيّق وأحياناً يوسّع ، فهنا الدليل الحاكم يقوم بتضييق دائرة الدليل المحكوم ، ويقول: إنّ آية الوضوء لغير مورد الحرج ، وعندما نضع (ما جعل عليكم في الدين من حرج) إلى جنب آية الصوم نستفيد أ نّه لو كان في وجوب الصوم حرج على شخص فإنّ الوجوب غير مجعول أصلاً من قبل الشارع ، وإن كانت الآية (كتب عليكم الصيام) تشمل من ناحية الدلالة والإرادة الإستعمالية حتّى المورد الحرجي ، إلاّ إنّه حينما تطرح مسألة المراد الجدّي نفهم من (ما جعل عليكم في الدين من حرج) أنّ الصوم لا يتعلّق بذمّة من كان الصوم حرجيّاً له ، وفي الحقيقة نفس المسألة التي تجرونها في التخصيص تجري هنا أيضاً وإن كان اللسان لسان الحكومة ، إلاّ إنّها تعود بالتحليل إلى التخصيص والتقييد ، فكيف تتعاملون مع موارد التخصيص والتقييد؟
عندما يقول أحد الدليلين: (أكرم كلّ عالم) والآخر يقول: (لا تكرم زيداً العالم) فبضمّ الدليل المخصّص إلى جانب الدليل العامّ يتّضح أنّ زيداً لم يتّصف بوجوب الإكرام من البداية حتى لو كان في دليل الإكرام بحسب الإرادة الاستعماليّة عموم . وهكذا الحكم في مسألة الإطلاق والتقييد فلو قال أحد الدليلين: (أعتق رقبة)

(الصفحة163)

كدليل مطلق ، والآخر يقول: (لا تعتق رقبة كافرة) فحينما نضع هذا الدليل المقيّد إلى جانب الدليل المطلق ، لا يمكن أن نستنتج من البداية أنّ الواجب هو عتق كلّ رقبة ، بل أراد من الأوّل جعل وجوب متعلّق (بالرقبة غير الكافرة) ، وأمّا العنوان المطلق فاستخدمه فقط في الإرادة الإستعمالية لا في الإرادة الجدّية .
ففي الأدلّة الحاكمة التي تقتضي التضييق ، من قبيل قاعدة (لا حرج) في قبال الأدلّة الأوّليّة يرد هذا المعنى أيضاً وإن كان اللسان لسان الحكومة لا التخصيص أو التقييد ، إلاّ أنّه في النتيجة يجري نفس معنى التخصيص والتقييد ، فنحن من خلال وجود قاعدة لا حرج نستفيد من البداية عدم جعل وجوب الوضوء الحرجي ، وانّه من الأوّل لم يقع وجوب الصوم الحرجي متعلّقاً للجعل ، وكذلك بالنسبة إلى سائر الأحكام ، وعندها يقول المرحوم المحقّق النائيني : إنّه كما قلنا في قاعدة (لا ضرر) أ نّها حاكمة على الأدلّة الأوّليّة ، ومع أنّ مفاد (لا ضرر) نفس مفاد (لا حرج) فلسانهما واحد ، هذا يقول: لم يجعل حكم حرجي ، وهذا يقول: لم يجعل حكم ضرري ، فالفرق بينهما فقط في الحرجيّة والضرريّة ، وأمّا لسانهما فواحد ، وكلاهما في مرتبة واحدة ، وكلاهما حاكم على الأدلّة الأوّليّة والمطلقات والعمومات ، ويقول (رحمه الله): كيف نحكم بالبطلان في باب الوضوء والغسل الضرريّين ، ولا نحكم بالبطلان في الصور الحرجيّة ، فما الفرق بينهما؟
وطبعاً هناك في باب الوضوء والغسل الضرريين نكتة لابدّ من الإلتفات إليها ، وقد إلتفت إلى هذه النكتة المرحوم السيّد صاحب العروة ، وهو أنّ المراد من الوضوء والغسل الضرريّين أن يكون الوضوء بنفسه ضرريّاً لا مقدّماته ، فلم يقل أحد بأنّ الشخص المسكين الذي باع فراش بيته وأشترى ماء وتوضّأ به: إنّ وضوءه باطل ، لأنّه وضوء ضرري ، كلاّ فإنّ المراد من الوضوء الضرري هو ما كان في نفس أعمال الوضوء ضرر ، مثل من يكون الماء مضرّاً به ضرراً جسميّاً ، فهنا

(الصفحة164)

أفتى المرحوم السيّد (قدس سره) ، بل المشهور في الوضوء والغسل الضرريّين بالبطلان ، وعندها يستفيد المرحوم المحقّق النائيني (قدس سره) من هذه المقايسة ويقول: نحن لم نفهم ما هو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) ، فإذا كان الوضوء والغسل الضرريان موجبين للبطلان كما أفتى به المشهور ظاهراً ، فإنّ الوضوء والغسل الحرجيّين فيهما نفس الملاك والمناط ، فلابدّ أن يحكم عليهما بالبطلان أيضاً .

الجواب على دليل المحقّق النائيني:
هذا هو الطريق الذي سلكه المحقّق النائيني ، ولكن أشكل عليه ، وفي الحقيقة اُجيب من نفس هذه المقايسة ، وهو: إنّنا لماذا نحكم ببطلان الوضوء والغسل الضرريين؟ لأنّ الإضرار بالنفس أحد المحرّمات ، وطبعاً فإنّ للإضرار بالنفس مراتب ، فلو لم تكن بأجمعها حرام ، فإنّ تلك المرتبة التي ترفع وجوب الوضوء هي رفع في مورد الإضرار المحرّم ، أمّا إذا كان في الوضوء ضرر جزئي ، وقد أفترضنا أ نّ هذا المقدار من الضرر لا حرمة فيه ، فهنا لم يرفع وجوب الوضوء ، فإنّ وجوب الوضوء فيما يتعلّق بالإضرار يدور مدار الإضرار المحرّم ، فكلّما اتّصف الإضرار بالحرمة يرتفع وجوب الوضوء ، فإذا كان الإضرار محرّماً فإنّ الحرمة لا تتناسب مع العباديّة ، والمحرّم الذي هو مبغوض للمولى وما يبعّد عن المولى لا يمكنه أن يكون مقرّباً إلى المولى بوصفه عبادةً ، ويكون فيها ملاك العبادة ، لذا فنحن في الوضوء الضرري نحكم بالبطلان لحرمة الإضرار .
وأ مّا في باب الوضوء الحرجي ، فهل هو حرام؟ وهل لدينا دليل على حرمة تحمّل الحرج؟ إذا كان كذلك فقد قلنا في باب المستحبّات: إنّ لدينا الكثير من المستحبّات الحرجيّة ، فصيام السنة بأجمعها ماعدا العيدين مستحبّ ، ولو كان واجباً لكان حرجيّاً ، إلاّ إنّه مادام بنحو الإستحباب ، فلا منافاة بين الحرجيّة

(الصفحة165)

والإستحباب ، فإذا كان تحمّل الحرج حراماً ، فكيف يمكن أ نّ يتّصف بالإستحباب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المحرّم مستحبّاً وراجحاً شرعاً؟ فمن هنا نفهم أن تحمّل الحرج لا يتّصف بالحرمة أبداً ، ولا يوجد فيه أيّ عنوان للمبغوضيّة والمبعديّة .
ومن هنا يفترق الوضوء الحرجي عن الوضوء الضرري ، إذ في الوضوء ترد مسألة حرمة الإضرار وعدم إجتماع الحرمة مع العباديّة ، وأمّا في الوضوء الحرجي فلا يرد هذا المعنى أبداً ، فلذا فقياس الوضوء والغسل الحرجيّين على الوضوء والغسل الضرريّين باطل .



جواب آخر على دليل المحقّق النائيني:
ونحن ضمن قبولنا لهذا الجواب ندّعي علاوةً على ذلك أنّنا لا نرتضي أساساً كون الوضوء والغسل الضرريّان باطلين ، حتّى وإن كان الإضرار فيهما من نوع الإضرار المحرّم ، فمع ذلك نقول بصحّة هذا الوضوء ، لماذا؟ لما اعتقدناه في مسألة إجتماع الأمر والنهي ، وهو أنّ متعلّق الحرمة غير متعلّق الأمر العبادي ، ومغاير لذلك الشيء الذي تعلّقت به المقربيّة ، أي يوجد هنا عنوانان:
أحدهما: عنوان الإضرار بالنفس ، ولا ربط للإضرار بالنفس مع الوضوء ، فإنّك لو أجريت الماء على يدك لا بنيّة الوضوء ، أو صببت الماء على جسمك لا بنيّة الغسل أيضاً يتحقّق الإضرار ، فإنّ الإضرار لا دخل له بالوضوء ، وإنّما هو نتيجة ملامسة الماء البارد للجسم ، بأيّ كيفية كانت هذه الملامسة ، لذا يوجد لدينا هنا عنوان باعتبار الإضرار بالنفس ، وعنوان آخر وهو عبارة عن الوضوء ، والوضوء

(الصفحة166)

مقرّب إلى الله ، وعبادة ، وفيه رجحان ذاتي ، والآن قد اجتمع هذا العنوانان في الوضوء الضرري ، فيطرح هنا بحثان وعنوانان ، مبعديّة بشأن أحد العنوانين ، ومقربيّة بشأن عنوان آخر ، مبعديّة بشأن الإضرار بالنفس ، ومقربيّة بشأن الوضوء ، فيعاقب هذا الشخص بسبب الإضرار بالنفس ، كما أ نّه يعطى ثواباً لأنّه توضّأ ، ومجرّد إجتماعهما في عمل واحد لايمنع أن يتعلّق بكلّ جهة عنوانها الخاصّ بها ويؤثّر في جهته ، ولا نستطيع ذكر تفصيل هذه المسألة هنا ، وإنّما محلّها في مسألة إجتماع الأمر والنهي ، لكن إذا لم يكن لدينا دليل خاصّ على بطلان الوضوء والغسل الضرريّين ، فنحكم عليه أيضاً بالصحّة .
وعلى هذا فإنّ الطريق الذي سلكه المحقّق النائيني (قدس سره) ، لا يمكنه إثبات بطلان العبادة الحرجيّة ، وقد ذكرت طرق اُخرى ، علينا أن نلاحظها حتّى نرى ما هي النتيجة التي سنصل إليها في المجموع .

الدّليل الثاني على البطلان:
إنّه لابدّ في وقوع العبادة صحيحة أن يرد فيها أمر فعلي ، سواءً كان وجوبيّاً ، أو إستحبابيّاً ، أو إذا لم يرد فيها أمر فعلي ، فلابدّ أن يكون فيها ملاك أو مناط ، حتّى وإن زالت فعليّة الأمر لسبب من الأسباب ، كالكلام الذي طرحه المرحوم الآخوند في الكفاية في مسألة الإزالة والصلاة ، عندما يكون عندنا واجب أهمّ وواجب مهم ، وفرضنا أنّ الواجب الأهمّ هو الإزالة ، والواجب المهمّ هو الصلاة ، الآن لو أنّ هذا المكلّف مع أنّه ينبغي عليه في الأمرين المتزاحمين ترجيح الأهمّ وامتثاله ، إلاّ أ نّه عصى ولم يراع الأمر بالأهم واشتغل بالمهم ، فانشغل بالصلاة بدلاً من الإزالة ، فهذه الصلاة كانت واجباً مهمّاً ، ومع الإبتلاء بالأهمّ ارتفع عنها الوجوب .
إلاّ إذا قلنا بالترتّب ، وأساساً إنّ الذين طرحوا مسألة الترتّب كان رأيهم على

(الصفحة167)

أنّ العبادة تحتاج إلى أمر فعلي حقيقي ، ولا يكفي الملاك والمناط في صحّة العبادة ، ولذا اضطرّوا من أجل تصحيح الأمر الفعلي وتثبيته إلى طرح مسألة الترتّب ، وقالوا: ما هو المانع من أن نتصوّر هنا أمرين: أمرٌ متعلّق بالأهمّ بنحو الواجب المطلق وغير المشروط ، وأمر متعلّق بالمهمّ معلّقاً على عصيان الأمر بالأهمّ ، ويأخذ بالعصيان بنحو الشرط المتأخر ، أو معلّقاً على نيّة عصيان الأمر الأهمّ بنحو الشرط العقلي والشرط المتقدّم ، إلاّ أ نّ الذين أنكروا الترتّب كالمرحوم الآخوند قال هنا: إنّ المكلّف خالف الأمر الأهم واشتغل بالصلاة ، نقول في نفس الوقت بصحّة صلاته مع انّه لا يوجد أمرٌ بها ، ولكنّ الملاك موجود ومتحقّق ، فلذا نصحّح العبادة ، ولا يلزم هناك أمرٌ فعلي بالعبادة ، فيكفي تحقّق الملاك والمناط أيضاً ، ولكن ينبغي إحراز الملاك ، ولابدّ أن يكون المناط قطعيّاً ، ولا يكفي احتمال الملاك والمناط .
ونحن في مسألة الصلاة والإزالة ـ وفي كلّ متزاحمين بشكل عامّ ـ لدينا يقين بتحقّق الملاك فيهما ، إلاّ أنّ ضيق وقت المكلّف وعدم قدرته قد أوجب ذلك ، فإنّ المكلّف لا يستطيع عملاً الجمع بين الصلاة والإزالة في آن واحد ، ولايمكنه في آن واحد إنقاذ زيد من الغرق وإنقاذ عمرو ، إلاّ انّ مصلحة وجوب الإنقاذ موجودة في كلا الإنقاذين ، فعدم قدرة المكلّف صار سبباً في أن يرفع المولى يده عن أحد أمريه ، وإلاّ لو أ نّ المكلّف كان قادراً على الجمع بين الضدّين وإمتثالهما في آن واحد يكون أمر المولى محفوظاً فيهما معاً ، وامّا رفع المولى يده عن أحد التكليفين على سبيل التخيير فيما إذا كان التزاحم بين متساويين ، فسببه أنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين وهذين العملين الواجبين .

الجواب على الدليل الثاني:
ونتساءل فيما نحن فيه: أيّ واحد من هذين الطريقين تتمسكون كملاك لصحّة

(الصفحة168)

العبادة من العبادة الحرجيّة؟ فهل يوجد هناك أمر؟ فلو كان المفاد الأوّلي لقاعدة الحرج هو نفي الوجوب وعدم الإلزام ، فلا معنى لأن يكون هناك أمر في العبادة الحرجيّة ، لأنّ معناه طرح قاعدة (لا حرج) ، فإذا لم يكن هناك أمر فمن أين تأتون بالملاك .
ففي مسألة المتزاحمين كنّا نعلّم أنّ المسألة لا إرتباط لها بالمولى أبداً ، وإنّما الإشكال يرتبط بالمكلّف وضعف قدرته ، فإنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين الإنقاذين ، ولا يتمكّن في آن واحد أن يجمع بين الصلاة والإزالة ، وهنا بلحاظ عجز المكلّف قام المولى ورفع اليد عن أحد الأمرين ، وهذا لا يقتضي أن لا تكون في الصلاة عند ترك الإزالة أيّ مصلحة وأن تختلف هذه الصلاة عن البقية الصلوات ، حتى تكون الصلوات بأجمعها معراج المؤمن إلاّ هذه الصلاة ، وأ نّ بقيّة الصلوات تنهي عن الفحشاء والمنكر إلاّ هذه الصلاة ، فهنا نحرز مسألة الملاك والمناط بشكل كامل ، ولذا فإنّ المرحوم الآخوند من أجل هذا المناط قام بتصحيح العبادة وحكم بصحّة الصلاة .
ولكن فيما نحن فيه من أين لنا أن نعرف انّه في العبادة الحرجيّة رفع التكليف فقط ، وامّا الملاك فلا يزال محفوظاً ، وأ نّ المناط في الصوم الحرجي وغيره واحد؟ فعلى هذا لابدّ من إحراز هذا المعنى ، ولا يكفي مجرد الإحتمال ، فلو أحرزنا أنّ تلك المصلحة التامّة الموجودة في الصوم غير الحرجي موجودة أيضاً في الصوم الحرجي ، فبإمكاننا أن نحكم بصحّة الصوم الحرجي ، وأمّا إذا لم نحرز ذلك ، ولم نتمكّن من إثباته ، فلا طريق لنا حينئذ إلى تصحيح العبادة الحرجيّة .
وربّما يأتي شخص ويقول: نحن نثبته بأن نقول: إنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) واردة في مقام الإمتنان ، والإمتنان يقتضي أنّ الله لم يجعل وجوباً للصوم الحرجي ، لكن هل يقتضي الإمتنان أن يقول: إنّ الصوم الحرجي لا قيمة له أصلاً؟

(الصفحة169)

فهل هذا داخل في الإمتنان؟
ربّما يقال: إنّ هذا مخالف الإمتنان ، فنحن نستفيد من نفس كون قاعدة (لا حرج) واردة في مقام الإمتنان أنّ الإمتنان يرفع اللزوم فقط واللاّبديّة ، ولا ترفع المصلحة عن الفعل ، ولذا فنحن من خلال ضمِّ قاعدة (لا حرج) إلى دليل: (كُتب عليكم الصيام) نفهم وجود الملاك والمصلحة في الصوم الحرجي ، رغم عدم وجوب التكليف .

تحقيق المسألة:
ولكنّ هل يحصل من هذا الكلام إطمئنان لدى الإنسان؟ علينا أن نرى هل إذا ضممنا هذين الدليلين ، فهل يدلّ أحد الدليلين على وجوب الصوم ، وهو (كتب عليكم الصيام) من دون أن تطرح مسألة الحرج وعيّن الحرج فيها ، ويكون مقتضى إطلاقه ثبوت وجوب الصوم حتّى إن كان حرجيّاً؟ إذا لم تكن هناك قاعدة (لا حرج) لكنّا قد استفدنا هذا المعنى من (كتب عليكم الصيام) ولكن عندما جعلنا إلى جانب آية الصوم هذه القاعدة ، وإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) في مقام الإخبار ، تخبر عن ماذا وعن أي شيء؟ المخبريّة هي أنّ وجوب الصوم الحرجي لم يشرّع أصلاً ومن أوّل الأمر ، ولو أنّكم تصورتم من خلال الإرادة الإستعماليّة ومقتضى الإطلاق في (كتب عليكم الصيام كما . . .) أ نّ وجوب الصوم جعل بشكل مطلق ، إلاّ إنّني أنا الشارع ومقتضى قانون الصوم الذي جئت بـ(كتب عليكم الصيام) أقول لكم : إنّه من البداية لم يجعل وجوب الصوم الحرجي ، وإنّما كان في الحقيقة فقط تصوّر للجعل .
فلو قال ذلك من الأوّل ، وأورد مثل هذا التعبير ، فمن أين لنا أن نعرف أنّ الصوم الحرجي مشتمل على مصلحة ، فلو قيل (أكرم العلماء إلاّ زيداً) على نحو

(الصفحة170)

الإستثناء والتخصيص المتّصل ، فما هو مقدار الإستثناء الذي يستفاد من ذلك؟ هل تقولون : إنّ زيداً لا وجوب في إكرامه مع وجود ملاك وجوب الإكرام فيه؟ أو تقولون لا حكم فيه ، وربّما لم يكن فيه ملاك أيضاً ، والقاعدة إنّه لا ملاك له ، فهل أنّ ضمّ قاعدة نفي الحرج إلى الأدلّة الأوّليّة تفيد غير هذا المعنى؟
وبعبارة أوضح: إنّه وإن كان لسان قاعدة (لا حرج) لسان الحكومة ، أي حكومة هذه القاعدة على الأدلّة الأوّليّة ، ولكن هل أ نّ الحكومة مختلفة عن التخصيص من هذه الناحية؟ فلو قال المولى في موضع: (أكرم العلماء) وفي موضع آخر: (لا يجب إكرام زيد العالم) ، فهناك أثبت الوجوب ، وفي الدليل المخصّص نفى الوجوب ، فإذن هنا أيضاً توجد مسألة الحكومة ، ولسانها أقوى من لسان التخصيص ، فهو أيضاً في موضع التشريع يقول بعدم الوجود من أوّل الأمر ، فإذا لم يكن تكليف حرجي من أوّل الأمر في موضع التشريع فمن أين لي أن أعلم أنّ هذا الصوم الحرجي واجد للملاك؟

إشكال وجواب:
أمّا الاشكال: قد يقال: إنّ لدليل وجوب الصوم في الحقيقة دلالتان: دلالة مطابقيّة ، ودلالة إلتزاميّة ، امّا الدلالة المطابقية فهي عبارة عن وجوب الصوم هذا ، وأ مّا الدلالة الإلتزاميّة ، أو بتعبير آخر: لازمه ، فهو أنّ الصوم بشكل كلّي فيه مصلحة تامّة ، فلنقل بوجود دلالتين لدليل وجوب الصوم ، ومن ثمّ نقول: إنّ المقدار الذي ترفعه قاعدة الحرج من دليل وجوب الصوم يختص بدلالته على الوجوب ، وامّا فيما يختص بإشتمال الصوم على المصلحة التامّة فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنافيه ولا تغايره .
ثمّ نأتي بعد ذلك ونطبّق المسألة على بحث موجود في باب التعادل

(الصفحة171)

والتراجيح ، وهو: هل أنّ الروايتين المتعارضتين (بغضّ النظر عن الأخبار العلاجيّة) التي تقتضي القاعدة تساقطهما ، فهل يحصل التساقط بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي فقط ، أو يعمّ حتّى المدلول الإلتزامي؟ بعبارة أوضح: لو أ نّ رواية تقول: (صلاة الجمعة واجبة) ، ورواية اُخرى تقول: (صلاة الجمعة حرام) فالقاعدة تقتضي سقوط هاتين الروايتين ، فإنّ التعارض يؤدّي إلى التساقط ، ولكن ما هي حدود التساقط؟ فهل يكون بمقدار رفع الحرمة والوجوب مع احتمال بقاء الإستحباب وهو حكم ثالث ، أو أ نّ تساقط هاتين الروايتين في نفي الوجوب والحرمة ، وأ مّا فيما يختصّ بنفي الإستحباب فهما مشتركان ولا يتحقّق التساقط ، وفي الحقيقة فإنّ الروايتين المتعارضتين حجّة في نفي الثالث وإن كانا ساقطتين عن الحجيّة بالنسبة إلى مفادهما .
فنأتيونقول: إنّ مانحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليلوجوب الصوم له دلالتان: دلالة على الوجوب ودلالة على المصلحة ، والمقدار الذي ترفعه قاعدة (لا حرج) من هذا الدليل هو دلالته على الوجوب فقط ، أمّا فيما يختص بالدلالة على المصلحة فإنّها لا ينافي قاعدة (لا حرج) حتّى تقوم هذه القاعدة برفع المصلحة أيضاً .
الجواب: ولكن هذا الكلام محلّ مناقشة؟ لأنّ دلالة دليل وجوب الصوم على المصلحة دلالة فرعيّة وطوليّة ، أي انّها تدلّ أوّلاً على الوجوب ، وعن طريق الدلالة على الوجوب يدلّ على المصلحة ، لا أ نّ الوجوب والمصلحة يكونان في عرض واحد ، فيدلّ على الوجوب ويدلّ على المصلحة ، حتّى يقال: إنّ قاعدة (لا حرج) تعارض الدلالة على الوجوب ، ولا تعارض الدلالة على المصلحة أبداً ، كلاّ ، إنّ الدلالة على المصلحة في طول الدلالة على الوجوب ، وإلاّ فأيّ موضع من (كُتب عليكم الصيام) يدلّ على مسألة المصلحة؟
قد تأتي وتقول بأنّ هذه الآية تقول: إنّ الصوم واجب ، ونحن من الخارج نعلم

(الصفحة172)

أ نّ كلّ واجب فيه مصلحة تامّة ، فإذن هناك أمر خارجي نضمّه إلى هذا الدليل ، فإنّ دلالة الدليل على وجوب الصوم تطرح بعنوان أنّها دلالة أصليّة ، ودلالته على المصلحة تطرح بعنوان أنّها دلالة تبعيّة وفرعيّة .
ولكنّ الصحيح أنّه إذا جاءت قاعدة (لا حرج) وحذفت مقداراً من الدلالة الأصليّة وقالت: لا تحقّق للوجوب في حالة الحرج ، فمن أين لنا حينئذ أن نحصل على مسألة المصلحة في العبادة الحرجيّة؟ فنحن عن طريق الوجوب نفهم على أنّ كلّ واجب يشتمل على المصلحة ، ولكن قد قامت قاعدة (لا حرج) وقالت إنّه لا وجوب في الأمر الحرجي من الأساس ، فإذا لم يكن هناك وجوب فمن أين نحصل على وجود المصلحة؟
وهكذا في المقارنة بين الخبرين المتعارضين ، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف ، فإنّ المحقّق النائيني لايرتضي ذلك أيضاً ، فإنّه لا يقول: إذا تساقطت الروايتان بالتعارض تبقى الحجيّة محفوظة بالنسبة إلى نفي الثالث ، بل يقول بسقوط كلا الدليلين المطابقي والإلتزامي .
وثانياً: لو فرضنا أ نّنا سلّمنا بقاء الحجيّة بالنسبة إلى نفي الثالث في الخبرين المتعارضين ، إلاّ إنّ الفرق بين المسألتين; أ نّ المسألة هناك مسألة عقليّة ونريد فيها أن نرى كيف يتعامل العقل مع الخبرين المتعارضين؟ وطبعاً يقوم العقل بالتجزئة والتحليل ، فالعقل محلّل ، فيأتي هناك ويقول: إنّ نزاع هذين الخبرين قائم في المدلول المطابقي ، فلابدّ أن يتساقطا ، وأ مّا في المدلول الإلتزامي فلا نزاع بينهما ، فلا داعي إلى تساقطهما ، لأنّ المسألة مسألة عقلية .
أمّا فيما نحن فيه فليست المسألة مسألة العقل ، وإنّما المسألة هي لسان قاعدة نفي الحرج في قبال دليل وجوب الصوم ، ولا مجال للعقل هنا حتّى نقول: لو أدرك العقل من الأوّل أنّ الصوم الحرجي فيه مصلحة فلا حاجة لنا بهذه البحوث . إلاّ

(الصفحة173)

أنّنا نفترض أ نّ عقلنا لم يتوصّل إلى إدراك شيء ، فعلينا أن نستفيد حكم المسألة من هذه الأدلّة ، فإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول : إنّ الصوم الحرجي لم يُجعل من البداية ، فكيف علمنا بأنّ الحرجي يشتمل على المصلحة؟ خاصّة مع وجود المؤيّد الذي ذكرته ، وهو أنّ في آية الصوم نفسها تجري (لا يريد بكم العسر) الذي هو عبارة عن قاعدة نفي الحرج عن المسافر ، في حين أ نّه لا توجد مصلحة في صوم المسافر حتّى بمقدار رأس الإبرة ، وإنّما صومه محكوم بالبطلان .

نتيجة البحث
فعليه رغم إنّني فكّرت طويلاً في المسألة من أجل العثور على طريق مطمئنّ لاكتشاف الملاك ووجود المصلحة في العبادات الحرجيّة ، إلاّ أنّني لم أجد مثل هذا الطريق ، بل علاوة على ذلك توجد مؤيّدات اُخرى أيضاً ، فمن جملة المؤيّدات أ نّنا إلى الآن لم يطرق أسماعنا ممّا سمعناه أو شاهدنا وقرأناه من أن الإنسان حينما يريد أن يصلّي فعليه إمّا أن يتوضّأ أو يتيمّم ولا وجود لشيء ثالث ، فقد يستفيد الإنسان هذا المعنى من آية الوضوء ، في حين أ نّنا لو قلنا بصحّة الوضوء الحرجي ، فلازم ذلك من الناحية العلميّة أن يكون مخيّراً ، فإذا شاء توضّأ وصلّى ، وإذا لم يشأ يتيمّم ويصلّي عن تيمّم ، وقلنا في الواجبات التخييرية: إذا كان أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً فلا يوجد إشكال ، ويكون كالمستحبّ الحرجي ، ويكون مخيّراً بين الوضوء والتيمّم .
وإذا قلت: لدينا دليل على عدم وجود الوجوب التخييري ، فنقول: ضع آية (لا حرج) إلى جانب (آية الوضوء) يتولّد عندنا الوجوب التخييري ، وما هو الإشكال في أن يكون الوجوب تخييريّاً؟ فإنّ الحرجيّة تنفي التعيين إلاّ أنّها لا تنفي التخيير ، فحينئذ لابدّ أن نلتزم في مورد العبادات الحرجيّة (طبعاً ليس في كلّ

(الصفحة174)

العبادات الحرجية فإنّ هذا الكلام لايجري في الصوم وإنّما يجري في مسألة الوضوء والتيمّم ، والغُسل والتيمّم) أ نّ المسألة تطرح بعنوان الواجب التخييري: (أيّها المكلّف إمّا يجب عليك الوضوء مع كونه حرجيّاً ، وامّا عليك التيمّم) ولا مانع من أن يكون أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً .
ولكن هل يمكننا أن نلتزم بهذا المعنى؟ وهل نستطيع أن نقول فيما يتعلّق بمثل هذا الشخص : إنّ مسألة الوضوء والتيمّم تطرح بعنوان الواجب التخييري؟ طبعاً ليس لدينا دليل عقلي على خلافه ، إلاّ إنّه في ذهننا بما أ نّنا متشرعة ونتناول شؤون الفقه ، نستبعد في الجملة أ نّ مسألة الوضوء والتيمّم مع كونهما في طول الآخر أن يكونا في مورد في عرض بعضهما وعلى هيئة الواجب التخييري ، لذا يبدو في نظري ـ ولا أقطع بهذا المعنى ـ إنّني لم أجد طريقاً لتصحيح العبادة الحرجيّة بحسب ما يستفاد من الأدلّة ، فبناءً على القاعدة فإنّ العبادات الحرجيّة محكومة بالبطلان .
بقي بحث أو بحثان في قاعدة (لا حرج) نبحثهما بشكل مختصر .

التعارض بين «لا ضرر» و «لا حرج»
أحدهما: إذا تعارضت قاعدة (لا حرج) مع قاعدة (لا ضرر) وطبعاً هذا البحث نبيّنه على المعنى الذي بيّنه المرحوم الشيخ في قاعدة (لا ضرر) ، أو المعنى الذي أفاده المرحوم الآخوند في قاعدة (لا ضرر) ، وأ مّا على بيان المرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني أعلى الله مقامه ، أو على بيان الاُستاذ الأعلم الإمام مدّ ظلّه العالي فلا يرد هذا البحث ، وإنّما يرد على المبنى الذي يفسّر (لا ضرر) كما يفسّر (لا حرج) ويرى شأنهما واحداً ، أي كما أ نّ (لا حرج) يطرح كدليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة فكذلك ، (لا ضرر) أيضاً يطرح بعنوان أ نّه دليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة ، غاية الفرق بينهما أ نّ هذا ينفي التكليف الحرجيّ ، وذلك ينفي

(الصفحة175)

التكليف الضرريّ ، فهما يختلفان في عنوان الضرر والحرج ، وأمّا من حيث الدرجة والمرتبة فكلاهما حاكم ومتقدّم على الأدلّة الأوّليّة .
إنّ مبنى المرحوم الشيخ والمرحوم الآخوند (قدس سره) هو في الحقيقة مبنى المشهور في (لا ضرر) ، وأمّا بيان المرحوم الشريعة الأصفهاني وبيان الإمام مدّ ظله العالي فمنحصر بهما ، أي على خلاف نظريّة المشهور في قاعدة (لا ضرر) .
فالآن لو حصل تعارض ـ بناء على نظريّة المشهور ـ بين قاعدة (لا ضرر) و (لا حرج) في مورد ، ومثاله أن نفرض أنّ الإنسان لو احتاج احتياجاً مبرماً في أن يحدث بالوعة ، وإحداث مثل هذه البالوعة أضرّ بجاره بشكل مباشر ، فهنا تجويز إحداث البالوعة بناءً على قاعدة (الناس مسلّطون على أموالهم) يؤدّي إلى تضرّر الجار بشكل كامل ، كما أنّ في منعه من حفر البالوعة حرج عليه ، فإنّه سيضطرّ إلى حمل الفضلات إلى خارج بيته باستمرار وإلقائها في محلّ بعيد ، وهذا فيه حرج وضيق واضح . فهنا يتحقّق التعارض بين قاعدة (لا حرج) وقاعدة (لا ضرر) ، فإنّ قاعدة لا ضرر تقف إلى جانب الجار ، وبعنوان أ نّها حاكمة على (الناس مسلّطون على أموالهم) تقف بوجه تسلّط المالك على ماله وتمنعه من حفر البالوعة ، ومن جهة اُخرى فإنّ منع المالك من التصرّف في ماله مع حاجته المبرمة للبالوعة فيه أيضاً حرج شديد عليه ، فتأتي قاعدة (لا حرج) وتجيز له ذلك .
يقول المرحوم الشيخ في كتاب الرسائل في أواخر بحث قاعدة (لا ضرر) نحن لابدّ أن نعطي الحقّ إلى المالك ، لأنّ قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) كدليلين حاكمين وفي مرتبة واحدة ، فبين هذين الدليلين الحاكمين تتحقّق المعارضة ، وعندما تقع المعارضة بينهما يتساقطان مع كونهما في مرتبة واحدة ، فإذا تساقطا يبقى الدليل المحكوم باقياً على حاله ، والدليل المحكوم هو (الناس مسلّطون على أموالهم) وهذا يجيز للمالك أن يحفر بالوعة في ملكه ، إذ لا يوجد دليل حاكم في قبال

(الصفحة176)

(الناس مسلّطون على أموالهم) .
إلاّ أ نّ المرحوم الشيخ (قدس سره) يطرح طريقاً آخر وهو أ نّه من الممكن أن نقول: إنّ قاعدة (لا حرج) فيها حكومة على قاعدة (لا ضرر) ، فكما أنّ قاعدة (لا حرج) حاكمة على الأدلّة الأوّليّة فهي حاكمة أيضاً على قاعدة (لا ضرر) ، فلو فرضنا صحّة هذه الحكومة ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تجري هنا ، ونسمح للمالك أن يحفر البالوعة .
إلاّ أنّ البحث أ نّه من أين جاء إحتمال الحكومة هذا؟ وما هو منشؤه؟ وهل بإمكاننا ـ حتّى كإحتمال ـ أن نجعل قاعدة (لا حرج) حاكمة على قاعدة (لا ضرر) ، أو أنّه لا يوجد أصلاً محلّ لمثل هذا الإحتمال؟ إذا فسّرنا (لا ضرر) كما فسّرها الشريعة الأصفهاني من أنّ (لا ضرر) مطروح بعنوان أ نّه دليل للحكم الأوّلي ، وأ نّ (لا ضرر في الإسلام) مثل (لا تشرب الخمر) يطرح كحكم أوّلي ، فإذن يصحّ لقائل أن يقول: إنّ قاعدة (لا حرج) كدليل حاكم على سائر الأدلّة الأوّليّة ، يتقدّم على قاعدة (لا ضرر) ، إلاّ أنّ الشيخ لايقول بهذا المبنى ، لأنّ (لا ضرر) و (لا حرج) في عرض واحد ، لا بتلك الكيفيّة التي طرحها المرحوم الشريعة الأصفهاني .
عندها نقول للشيخ: ما هو المنشأ لإحتمال حكومة (لا حرج) على (لا ضرر)؟ ليس بإمكاننا أن نذكر أيّ منشأ لهذا الإحتمال ، وإذا أردنا توضيحاً أكثر في هذا الخصوص نذكر كلام المرحوم المحقّق النائيني (الذي له أيضاً رسالة في موضوع «لا ضرر») وقد كتبها بنفسه ، بقلمه ظاهراً ، وفيها عندما يذكر خلاصة إشكاله على المرحوم الشيخ يقول: إنّ كلام الشيخ مبتن على مقدّمتين ، كلتاهما باطلتين وفاسدتين ، فإحدى المقدّمتين هي: أنّنا أصلاً لايمكننا أن نتصوّر التعارض بين قاعدة (لا حرج) و (لا ضرر) ، لماذا؟ يقول: لأنّ قاعدة (لا ضرر) تخبر عن نفي الحكم ، فإذا أراد شيء أن يعارض الدليل النافي ، فلابدّ أن يقوم هذا المعارض

(الصفحة177)

بإثبات التكليف ، وأمّا إذا كان لسانهما معاً لسان النفي والعدم ، فكيف بإمكان العدمين أن يتعارضا؟
والمقدّمة الثانية: أن تكون قاعدة (لا حرج) متأخّرة عن قاعدة (لا ضرر) حتّى تكون ناظرة إليها وحاكمةً عليها ، كما أ نّها متأخّرة عن دليل وجوب الصوم ، لكونها ناظرة إليه وحاكمة عليه ، مع أ نّه لا يمكن أن يلتزم بأ نّ قاعدة لا حرج متأخّرة عن قاعدة لا ضرر ، بل كلتا القاعدتين حاكمتان على الأدلّة الأوّليّة في مرتبة واحدة وعرض واحد .
فيردّ على الشيخ أ نّه لا وجه لاحتمال حكومة قاعدة (لا حرج) على قاعدة (لا ضرر) .

جريان القاعدة فيما إذا تحقّق الموضوع من ناحية المكلّف
ثمّ إنّه لا شكّ في أنّ قاعدة لا حرج نافية للأحكام الحرجيّة الثابتة للشيء في حدّ نفسه ، إنّما الإشكال في ما إذا كان للشارع حكم شرعي ، ولكن موضوع ذلك الحكم إنّما يتحقّق من ناحية المكلّف ، بحيث إذا لم يمكن فعله اختياراً لم يترتّب عليه حكمٌ ، كما هو الحال في النذور ووجوب الوفاء به ، فإنّ وجوب الوفاء بالنذر وإن كان حكماً شرعيّاً ، إلاّ أ نّ موضوعه يتحقّق بيد المكلّف وباختياره ، فهل تجري قاعدة (لا حرج) في مثله إذا كان العمل بالنذر حرجيّاً ؟
الظاهر عدم جريان القاعدة في مثله ، لمّا تقدّم من صاحب الفصول في الجواب عن النقض بوجوب تمكين النفس للقصاص من أنّه إنّما نشأ الحرجيّة من نفس المكلّف واختياره لا من الحكم الشرعي .
إلى هنا تمّ ما أفاده دام ظلّه في قاعدة لا حرج ، وقد بحثه في شهر رمضان المبارك .   والسلام


(الصفحة178)






(الصفحة179)




الفجر في الليالي المقمرة




(الصفحة180)

<<التالي الفهرس السابق>>