في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة81)

الأخلاقي والتعليم والتزكية عامّة للجميع ، فهي الآية الثانية من سورة الجمعة والآية 151 من سورة البقرة والآية 164 من سورة آل عمران التي ذكرناها سابقاً .
فالذي تفيده الآيات الواردة في هذا الباب هي:
1 ـ أنّ الأنبياء تلامذة مدرسة الوحي .
2 ـ الأنبياء أساتذة المجتمعات البشرية .
3 ـ تلامذة الأنبياء على قسمين: تلامذة متفوّقون يتعلّمون ويتزكّون مباشرة من قبل النبي وتعليمه الخاصّ ، وتلامذة اعتياديون يتلّقون تعليم النبي وهدايته وإرشاده العام .
4 ـ المهمّ في جميع هذه المدارس هو تعليم كتاب الله والحكمة ، فالله يعلّم أنبياءه كتابه من خلال الوحي كما يعلّمهم أسرار الخلقة والدين ، فيقوم الأنبياء بتعليم هذه الأُمور بصورة خاصّة إلى التلامذة المتفوّقين الذين يضاهون الأنبياء بلطف الله في إخلاصهم وطاعتهم وتسليمهم لله ، كما يقومون بأنفسهم أو بواسطة هؤلاء التلامذة الأكفّاء بتعليم هذه المواد العلمية إلى عامّة التلامذة .

إشكال مهمّ:
كان البحث في أن تستنبط قضية الإمامة من الكتاب ، وقد استشهدنا بالآيات المرتبطة بدعوة إبراهيم (عليه السلام) على أنّ مبدأ الإمامة قد طرح منذ زمان إبراهيم (عليه السلام)  ، والشرائط التي ينبغي أن تتوفّر وتكتمل في الإمام هي الوقوف التام على كتاب الله وأسرار الدين ، واشتماله على النفس الزكية والروح السامية ، التي لا يشوبها أدنى دنس أو سابقة من شرك وظلم ورجس أخلاقي وعبادة للهوى والهوس والخرافات . وقد تمسّكنا ـ لإثبات هذا الأمر ـ بذيل الآية التي قالت: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ . . .} والحال أنّ هذه الآية وردت بشأن تعليم وتزكية

(الصفحة82)

عامّة المسلمين ، وقد ورد في القرآن قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْعَلَيْهِمْ آيَاتِهِوَيُزَكِّيهِمْوَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(1) .
وبناءً على هذا فكما يتمتّع الإمام بتعليم وتزكية النبي ، فإنّ هذا التعليم والتزكية يشملان عامّة المسلمين ، فأيّ امتياز للأئمة ورد في هذه الآيات؟ فكما أنّ النبي معلّمهم ومواده الدراسية هي الكتاب والحكمة والتزكية ، فهو معلّم الجميع ويعلّمهم ذات المواد ، فليس هنالك أيّ مزيّة للأئمّة على غيرهم ، في أنّهم تلامذة مدرسة الوحي ، وأنّ لهم اطّلاعاً وإحاطة بجميع كتاب الله وأسرار الشريعة ويشتملون على كافّة الكمالات الإنسانية ، فلو كانوا كذلك ، لكان كلّ تلميذ في هذه المدرسة كذلك أيضاً ; لأنّ الآيات لم تثبت سوى كون النبي (صلى الله عليه وآله) معلّماً لهم بصورة خاصّة ولعامّة الناس بصورة عامّة وكون المواد الدراسيّة نفسها .
هذه خلاصة الإشكال الذي قد يقتدح في ذهن مَن ليس له معرفة بالقرآن الكريم ، وهنا لابدّ من الالتفات إلى أصل القضية ليتّضح الأمر .
فقد سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أمرين مهمّين هما:
1 ـ بعث نبيٍّ من ذريّتهما من طائفة بني هاشم .
2 ـ قيام النبي المبعوث من هذه الطائفة بتعليم وتزكية طائفة من أهل بيت النبوّة ، بحيث ينهض رسول الله بهذه الوظيفة مُباشرة دون واسطة .
وبناءً على هذا فإنّ مثل هذا التعليم الخاص كان غاية ودعوة إبراهيم وولده إسماعيل (عليهما السلام)  ، وقد أُجيبت دعوتهما ، أي قد بعث نبي من هذه الطائفة ، كما قام الرسول بوظيفته التعليمية مُباشرة ، ولا تعني استجابة الدعاء أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يريدان فيقوم النبي ويمارس وظيفته التعليميّة دون أن يكون للأئمّة من دور في هذا الأمر ، بل معنى استجابة الدعاء هو ظهور أفراد أشدّاء وأزكياء


(1) سورة آل عمران: الآية 164 .

(الصفحة83)

وعُلماءبكتاب اللهوآيات الرحمن ،ومن ذوي البصائر بفلسفة الدين وأسرار الخليقة .
ودليل هذا الظهور أنّهم في الوقت الذي يعيشون الإخلاص والتسليم ، وتنبض قلوبهم بالتوحيد وعشق الحق ، فقد كانوا يتضرّعون لأن يظهر مثل هؤلاء الأفراد في هذه الطائفة يتّصفون بالإخلاص في العبودية لله ، ويعيشون الانقطاع والتسليم لله والطهارة من كلّ رجس ودنس ، وعليه : فهذه الطائفة المخلصة كانت تمتلك الاستعداد الروحي ، وقد تعلّمت وتزكّت بفضل هذا الإستعداد في مدرسة الرسالة تحت إشراف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتعليمه الخاصّ .
ولعلّ كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بشأن كيفيّة ترعرعه في حضن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسموّ والكمال الذي بلغه في ظلّ العناية التي أولاها إيّاه النبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلته الخاصّة لديه إشارة إلى هذا المعنى ، فقد قال (عليه السلام) : «وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره . ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً يأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحر فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير»(1) .


(1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 436 ـ 437 .

(الصفحة84)

فكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تجيب عن كلّ دعوات إبراهيم (عليه السلام) وتوضّح استجابة دعائه .
فقد سأل إبراهيم (عليه السلام) الله أن يتصدّى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتعليم وتزكية طائفة من ذريّته ،فيقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :وضعني في حجرهوأناولديضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشهويُمسّني جسده ، ويُشمّني عَرفه ، وكان . . .  يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ،ويأمرني بالاقتداء به ، وقد جهد نفسه في تربيتي وتزكيتي حتّى أصبحت أرى مايرى وأسمع مايسمع ،ولم يعدهناك من فارق بيننا سوى في النبوّة وحقيقة الرسالة ، فلما رأى ذلك منّي قال (صلى الله عليه وآله) : إنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير .
فهؤلاء ـ أي بني هاشم ـ هم مفاد الآية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . . .} . أمّا سائر الآيات فليست لها من دلالة على قيام النبي بمثل هذه الوظيفة تجاه سائر الناس ، وذلك لأنّ سائر الآيات لا تفيد أنّ كافّة الناس يملكون استعداداً لتقبّل هذه التعليمات ، أو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان مجبراً على أساس وظيفته الشخصيّة على إيصال كافّة الناس إلى تمام مراحل الكمال وتهذيب النفس وأسرار الدين ، بل كانت الوظيفة في أن يلقي النبي (صلى الله عليه وآله) دروسه العلمية التربوية ، ويحيط الآخرين علماً بالآيات القرآنية والأحكام والتعاليم الإسلامية والأسرار الدينية ، ولكن هل تبلغ الأُمّة تمام هذه المراحل وتحيط بكافّة أسرار القرآن وتسلّم لتعليمات محمّد (صلى الله عليه وآله) وآيات القرآن؟
لم تبحث مثل هذه الأُمور في الآيات القرآنية ، كلّ ما هنالك هو أنّ القرآن الكريم قد أكّد في أكثر من آية أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) تجاه الناس ليست بإيصالهم إلى آفاق العلم والتهذيب والكمال ، بل وظيفته إضاءة الطريق والتعريف بمعالم الدين والطرق التربوية العلمية ، فمن أراد أن يبلغ هذه الحقائق وجب عليه أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في اتّباع المبادئ الإسلامية ، ومن لم يرد فعلى نفسه {لاَ إِكْرَاهَ فِى

(الصفحة85)

الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1) .
بل القرآن يؤكّد أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) هي بيان الحقائق ، والأُمّة مكلّفة بالتفكير في هذه الحقائق واتّباعها: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2) .
وأخيراً فإنّ القرآن لم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بحمل الناس بالقوّة على التعليم والتهذيب ، بل وظيفته الإبلاغ والإنذار ، ووظيفة الأُمّة التدبّر في التعاليم ، فقد صرّحت الآية قائلة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ} (3)، بل سلب القرآن عن النبي (صلى الله عليه وآله) القيام بهذا الأمر: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر}(4) .
وعليه : فالآيات لا تصرّح بأكثر من وظيفة عامّة للنبي (صلى الله عليه وآله) في إبلاغ القرآن والأحكام وسبل التعليم والتربية والتزكية ، والأُمّة مخيّرة بين الاتّباع وعدمه .
أمّا الآيات التي نحن بصددها وبقرينة أنّ طائفة بني هاشم بدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أنّها تمثّل العبودية والتسليم المحض لله ، وبقرينة وظيفة النبي بتعليمهم وتزكيتهم مُباشرة دون واسطة ، إلى جانب تصريح أمير المؤمنين (عليه السلام) بقيام النبي بهذه الوظيفة المهمّة ، وبقرينة ماهو أهم من دعاء الأجداد وهو إرساء مقام الإمامة ، فإنّ هؤلاء عُرفاء بفنون القرآن، وخبراء بفلسفة الأحكام ، وبُصراء بأسرار الكتاب ، وعلماء بحكمة الخليقة والكون ، وعليه فإنّنا نستطيع أن نقول بأنّ


(1) سورة البقرة: الآية 256 .
(2) سورة النحل: الآية 44 .
(3) سورة ص: الآية 29.
(4) سورة الغاشية الآيتان 21 ـ 22 .

(الصفحة86)

الآية الكريمة تفيد أنّ هؤلاء زُعماء وقادة وفقهاء في الدين ، وعُلماء بتعاليم الإسلام ، وخُبراء ببرامج وخطط القرآن ، وعُرفاء بالسياسة والنظم الاجتماعيّة وبكافّة خفايا ومغيبات العالم . فالآية الشريفة بصدد بيان مقام وشخصية الإمام وشرائط إمامة المسلمين من وجهة نظر القرآن الكريم .
وعليه : فالفارق في النتيجة هو أنّ النبيّ ـ المعلّم الأوّل ـ هو مربّي طائفة من بني هاشم ، ونتيجة هذا الأمر مفيدة للغاية وقيّمة ، ونفس هذا النبي معلّم لعامّة الناس ، إلاّ أنّ نتيجة هذا الأمر تعتمد على نفس المسلمين ، ومعلوم أنّ توقّع النبي من الطائفة الأُولى لا يمكن أن يكون كتوقعّه من عامّة الناس أبداً .
وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ قال: «لا يُقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة»(1) .
وقال (عليه السلام) : «آل النبي عليه الصلاة والسّلام موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه ومؤئل حكمه وكهوف كتبه وحبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه» (2).
فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيد أن ليس هنالك سوى أهل البيت الذين لهم الإحاطة بالدين ، وهم عيبة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ، وملاذ المسلمين في النوائب والمصائب ، وهذا دليل على صحّة ما أوردناه سابقاً بشأن الآيات التي صرّحت بهذا الأمر ، حيث أثبتنا حينها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وبفضل التعليم المُباشر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم معرفة واطّلاع كامل على جميع أسرار القرآن وكافّة شؤون الإسلام والحوادث الغيبية والخفايا الكونية ، كما يؤكّد على أنّ تعليمات النبي وإن كانت عامّة


(1) (2) نهج البلاغة لمحمّد عبده : 82 ـ 83  .

(الصفحة87)

وللمسلمين أن يغترفوا من هذه العلوم والمعارف القرآنية والأسرار الدينية ، غير أنّه لا يمكن مقارنتهم قط بآل محمّد (صلى الله عليه وآله)  ، فهم معدن العلم والحكمة ، وإليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، ولا يستند أحد إلى علمه بشأن الدين إلاّ أن يخرج عن الاعتدال أو يتخلّف عن قافلة المسلمين ، وبناءً على هذا فالإشكال السابق الذي يُطرح بشان مزية الأئمّة (عليهم السلام) ليس بوارد ، حيث دلّتنا الآيات الكريمة على فضلهم وسبب ترجيحهم .

فهرس الكتاب إلى هنا:
ما مرّ معنا لحد الآن بعض الأُسس المتينة في الإمامة ، نشير إلى فهرسها بصورة مختصرة:
1 ـ الدين الإسلامي دين خالد وعلى هذا الدين أن يعتمد السبل التي من شأنها الإبقاء على أبديّته .
2 ـ يقتضي حكم العقل أن يوفّر كلّ ذي هدف إذا أراد لهدفه الإتقان كافّة العلل والأسباب التي تؤثّر في تحقيق الهدف وثباته ، ولمّا أراد الحقّ الخلود للدين الإسلامي فبحكم العقل قد أعدّ موجباته ، وبخلافه سينتقض الغرض ، وتتصدّع عرى الدين واُسس الإسلام .
3 ـ لقد تكفّل الحقّ بنصب الأئمّة على ضوء الآيات القرآنية والأخبار التي صرّحت بهذا الأمر ، بغية الحيلولة دون فناء الدين وبقاء كلمة التوحيد ، وإعداد العناصر والأفراد الذين بلغوا قمّة الكمال الإنساني والذين يعدّون الخلق إلى العالم الأُخروي الأبدي .
4 ـ الأئمّة على ضوء تصريح ونصّ رسول الله هم اثنا عشر ، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا الأمر ، وسيأتي تفصيله في المجلد الثاني من الكتاب .


(الصفحة88)

5 ـ لأئمّة الإسلام وظيفة في زعامة الأُمّة وهدايتها ، وهدفهم إقامة النظام الاجتماعي على ضوء القرآن والسُنّة النبويّة .
6 ـ إمامة أئمّة الإسلام خالدة أبديّة .
7 ـ واجب الأُمّة تجاه هؤلاء الأئمّة هو الانقياد والطاعة والتسليم ، وذلك بفضل مزاياهم في كافّة شؤون الزعامة والإمامة .
8 ـ الإمام كما يصفه أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام) من يقوم لله بهذه الوظيفة، ويعمل بالعدل والقسط والانتصار للمظلوم وإنقاذ الضعفاء وإعمار البلاد وضمان حقوق الأفراد، وإحياء معالم الدين وسنن القرآن، وعدم الاغترار بالدنيا وزخارفها.
ونخوض الآن في شرائط الإمامة رغم اتّضاح هذا الأمر من خلال الأبحاث السابقة ، ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذا الأمر ، لابدّ من التعرّض إلى:

سؤال يثير الأسف:
لقد ذكرتم بأنّ القرآن الكريم أشار إلى مكانة ومنزلة الإمام ، وأنّه يستند في تشكيله للحكومة إلى القرآن الذي يعتبر هو الدستور ، وقلتم بأنّ القرآن يرى الأئمّة هم زعماء الأُمّة الذين يقيمون حكم الله ويعملون على إحقاق حقوق الأُمّة وإعمار البلاد ، وقلتم وقلتم . . . وهنا يرد هذا السؤال الذي يثير الأسى والأسف ، فإذا كان الإمام بهذه المنزلة التي رسمها القرآن وحدّد معالمها ، لِمَ لم يصبح الأئمّة الأطهار زُعماء للاُمّة؟ وإذا كانت وظيفة الإمام تكمن في القيام من أجل ضمان مصالح المجتمع وبسط العدل والقسط في ربوع البلاد ، لماذا لم ينهض أئمّة الإسلام واعتزلوا الساحة ، ولم يتزعّم أحد منهم الحكومة سوى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ؟ أفلم ينصّبهم الله أئمّة؟ والقرآن يدعو لقيام الحكومة الإسلامية بزعامة هؤلاء

(الصفحة89)

الصفوة! وهل هذا النصب الذي لم يكن له من يشغله وهذه الحكومة التي نهض بها من ليس لها بأهل! أفلا يدعو هذا الأمر إلى أنّ ذلك النصب والتصريح بزعامة هؤلاء للحكومة كان لغواً وعبثاً؟

الجواب :
هذا السؤال مؤسف ، مؤسف في أنّه لِمَ لم يتزعّم أولياء الله الحكومة ، في حين وقعت بيد بني أُميّة وبني العباس!
وهنا لابدّ من القول بأنّ المراد لم يكن حتمية تزعّم الصفوة للحكومة ، بل كان الحديث في أنّ القرآن يرى أنّ هذه الصفوة هي الجديرة بمقام الإمامة وزعامة الحكومة الإسلامية . هذا هو مشروع الإسلام وتخطيط القرآن ، أمّا المنفّذ لهذا المشروع فهو الأُمّة ، الأُمّة كانت موظّفة بإقصاء بني أُميّة عن الحكم والانقياد لأولياء الله من بني هاشم ، إلاّ أنّها لم تفعل ولم تنفّذ الخطّة القرآنية ، كما ولّت ظهرها لسائر أحكام القرآن وتعاليم الإسلام ، فهل يعتبر قانون تحريم المسكّرات لغواً إذا ما تفشّت هذه المسكّرات في أوساط المجتمع؟ أم أنّ التحريم صائب لكن الأُمّة شقية ، مع ذلك لابدّ من القول بأنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد نهضوا وقاموا وسيأتي اليوم الذي تشكّل فيه حكومة العدل الإلهي العالمية ، وسنترك تفاصيل هذا الأمر إلى المجلد الثاني ، ليعلم حينها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) قد نهضوا بالأمر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وقد شكّلوا الحكومة الحقّة أو كشفوا للآخرين عن معالمها ، وأخيراً رسموا طريق الحقّ حتّى في حكومة الآخرين . . .
سنتابع الإجابة عاجلاً .


(الصفحة90)







(الصفحة91)




قبسات من شرائط الإمامة

هنالك عدّة أُمور من شأنها كشف النقاب عن شرائط الجهاز الحاكم والنهوض بمهمّة الزعامة والإمامة مِن قبيل: خلود هذه الزعامة واعتماد القرآن دستوراً للحكومة الإسلامية ، وإيصال الأُمّة إلى بغيتها وطموحها ، وتحقيق أهدافها الإنسانية العُليا ، وبسط العدل والقسط ، وإشاعة مفاهيم الإيمان ، والقضاء على الفتن والمفاسد والانحرافات ، وتحقيق استقلال البلاد ، والقيام بكلّ هذه الاُمور لله وفي الله ، والابتعاد عن زخارف الدنيا وزبرجها وعدم الاغترار بها ، والشفقّة والرأفة بالرعية، بحيث لا يسلب نملة جلباب شعيرة ، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (1) والاغتمام والتألّم من الاعتداء على حقوق المسلمين ، إلى جانب پذلك نرى ضرورة التعمّق في القرآن الكريم من أجل الوقوف على هذه الشرائط ، وما أورده علماء الكلام بهذا الشأن .


(1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 495.

(الصفحة92)

خلاصة شرائط الإمامة :
1ـ العصمة
2ـ الأفضلية والأرجحية
3ـ عدم الاشتمال على الظلم والشرك
4ـ العلم التامّ والإحاطة بالقرآن والأحكام الإسلامية
5ـ الكرم
6ـ الزهد
7ـ الحلم
8ـ سداد الرأي
9ـ الفصاحة
10ـ الشجاعة
11ـ المروءة والشهامة
12ـ طهارة المولد
13ـ سلامة البدن وعدم النقص في الخلقة .
هذه نبذة من الصفات التي ينبغي توفّرها في الإمام ، وهناك صفات أُخرى يمكن إيجازها في هذه العبارة: «أفضليته في جميع الكمالات النفسية على سائر الأفراد واشتماله على كافّة الشرائط ، وتمتّعه بالسلامة الجسمية التامّة الخالية من النقص والعيب» .

بحث في تفاصيل هذه الشرائط:
علل الزعامة: لا تعتبر الزعامة بطبعها أمراً تعاقدياً ولو تقدّمت جماعة على أُخرى ; فإنّ هناك عناصر توجب مثل هذا التقدّم ، من قبيل التمتّع ببعض المزايا التي

(الصفحة93)

تجعل البعض يتقدّم على البعض الآخر الذي لا يتحلّى بمثل هذه المزايا ، الأمر الذي يحتّم على الفاقد اتّباع الواجد والخضوع له . فلو كان هناك طفل أعقل وأفضل وأرأف وأكفأ من سائر الأطفال ; فإنّه يلفت نظرهم إليه ويُشار له بالبنان في محلّته بما يجعله رئيساً لهم في اللعب مثلا . ولو كان هناك في السوق فرد ذو كفاءة ودراية ، وكان بعيداً عن الغشّ والتدليس في معاملاته وذا أفكار تفيد الآخرين في التجارة ، ويعتمد العفو والشجاعة والأخذ بيد الضعفاء وإعانة الفقراء من أهل السوق ، فممّا لاشكّ فيه أنّه سيصبح قدوة للآخرين الذين يرون أنفسهم مضطرّين لاتّباعه واقتفاء أثره ، وبالتالي سيحتلّ موقعاً يجعله مرشداً وهادياً لزملائه في العمل . وهكذا سائر الموارد . وتصدق هذه القضية بالنسبة للشرائط التي يرى الإسلام إيجابها لنهوض بعض الأفراد بقيادة الاُمّة .
والذي نريد أن نخلص إليه هو عدم وجود القيود المفروضة من قِبل الإسلام على إشغال هذا المنصب ، بل هنالك شرائط مطلوبة يقتضي الطبع السليم والفطرة الطاهرة توفّرها في الإمام ، فطبيعة فطرة الإنسان تقوده إلى اختيار مثل هؤلاء الأفراد الذين يتمتّعون بهذه المزايا .

سؤال :
يمكن أن يُطرح سؤال ، وهو إذا كانت هذه الشرائط متوافرة في شخص فمن الطبيعي على الأُمّة أن تختاره زعيماً ولا ترى لغيره مثل هذا المقام ، فكيف اعتبرت ـ فيما مضى ـ قضيّة الإمامة انتصابية ، وأثبتَّ أنّ الإمامة من المناصب الإلهية المرادفة للنبوّة والتي تتعيّن من خلال الوحي؟ فهل هناك من حاجة لهذا النصب الإلهي إذا كانت الشرائط المذكورة متوفّرة؟ فإنّه من الطبيعي لواجد هذه الشرائط أن ينتخبه الناس .


(الصفحة94)

الجواب :
أوّلا: كما قيل سابقاً فإنّ الانتخاب الصائب أمر فرضي ، ولا يمكن لهذا الإنتخاب أن يتحقّق في المجتمعات التي يقودها الظلمة الذين يتلاعبون بمقدّرات الأُمّة ، وهذا ما لمسناه في التجربة الإسلامية التي هبّ فيها الظلمة لحرفها عن مسارها الصحيح .
ثانياً: على فرض إمكانية حدوث الانتخاب الصائب فهناك مشكلة عويصة تكمن في تعذّر تشخيص الأُمّة للفرد الجامع لهذه الشرائط ، بل مثل هذا الأمر محال على الأُمّة ، بسبب ضعف قدرة تشخيصها ، ولذلك كانت هذه المهمّة لله المحيط بكافّة خصائص الأفراد {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (1).
والآن لابدّ أن أنّه نرى هل تعرّض القرآن الكريم لهذه الشرائط المعتبرة في الإمام؟ وعلى فرض استعراض القرآن لهذه الشرائط ، هل اعتبر النجاح والموفقيّة كامنة في هذه الشرائط؟
وبعبارة أُخرى : هل يحكم القرآن بما تحكم به الفطرة بالنسبة لمقام الإمامة ويمضي هذا الحكم ، أم يفرض إرادته في هذا النصب بما لا ينسجم والعقل والفطرة السليمة؟

القرآن وشرائط الإمامة
قلنا ـ سابقاً ـ بأنّ إبراهيم (عليه السلام) قد أصبح إماماً بعد أن اجتاز الاختبارات السبع ، وقد تمثّلت مواد الاختبار بامتلاك القدرة العميقة من أجل الزعامة والمنطق القوي الاستدلالي والشجاعة والزهد والمروءة ، وفي مقدّمتها الشجاعة في مجابهة


(1) سورة غافر: الآية 44.

(الصفحة95)

الأفكار السائدة القائمة على أساس الجهل والخرافة ، فقد كان إبراهيم (عليه السلام) شديداً في التنمّر للحقّ مضحّياً في سبيل الله . كلّ هذه الاُمور أعدّت إبراهيم (عليه السلام) للإمامة ، حتّى أفاضها الله عليه ، وعليه فقصّة إبراهيم (عليه السلام) قد ركّزت على شرائط الإمامة ، مع ذلك سنحاول دراسة سائر الآيات الواردة بهذا الشأن .


(الصفحة96)






(الصفحة97)



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلاَِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهْ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ} (سورة البقرة: الآيات 246 ـ 248 ).



(الصفحة98)






(الصفحة99)



طلب قائد للجيش

تتحدّث هذه الآيات عن قصّة نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وطلب أتباعه منه بعث ملك وقائد من أجل استعادة الأراضي السليبة ، ونتعرّف في هذه القصة على شخص باسم طالوت الزعيم المصطفى من قِبل الله ، وجالوت الدكتاتور الغاشم ، فقد نزح بنو إسرائيل عن وطنهم من جرّاء قهر جالوت وجبروته ، وقد تركوا أموالهم وأبناءهم في قبضة جيش جالوت ليعيشوا بعيدين عن وطنهم ، فسألوا نبيّهم أن يبعث لهم قائداً لمقاتلة جالوت واستعادة أراضيهم والعودة إلى ديارهم وأبنائهم فاستجاب لهم نبيّهم ، فاصطفى لهم الله طالوت قائداً . ولكن لم يصمد للقتال إلاّ فئة قليلة من تلك الجماعة العظيمة ، وأخيراً تمكّنت تلك الفئة القليلة بعد الاتّكال على الله والصبر والصمود من إلحاق الهزيمة بالعدو والانتصار عليه . ونحاول الآن تسليط الضوء على هذه الآيات للوقوف على بعض الأُمور:
فقد طلبت جماعة عظيمة من نبيّها أن يختار لها قائداً من أجل التخلّص من الأسر والنزوح وخوض معركة مقدّسة (في سبيل الله) فأراد ذلك النبي أن يعرف

(الصفحة100)

مدى استعدادهم للقِتال ، فطرح عليهم هذا السؤال: هل أنتم مستعدّون لخوض القتال إذا كُتب عليكم؟ فأجابوه جميعاً: ومالنا ألاّ نُقاتل في سبيل الله ، بعد أن فقدنا كلّ شيء!

ملاحظة مهمّة:
لقد استعدّت تلك الجماعة وتأهّبت للقِتال من أجل استعادة وطنهم وتحريره من المحتلّين الظلمة ، وقد فوّضوا لنبيّهم اختيار قائد يقودهم . وهنا ورد التعبير عن هذه المعركة بالقتال في سبيل الله ، وعليه : فإنّ القتال من أجل استقلال البلاد وتطهيرها من دنس الأعداء يعتبر قتالا في سبيل الله ، ولمّا كان الهدف الأصلي في مثل هذه المعارك إحياء معالم الأنبياء ومعارف الدين وتحقق كلمة التوحيد ، فإنّ أبطال هذه المعركة إنّما يُقاتلون في سبيل الله ، وهذا هو سبيل المجد والعظمة وتنظيم شؤون المجتمع وتحريره من براثن المستعمرين ، أي أنّ المقاتلين وباتّكائهم على الله والقرب منه لابدّ أن يكون هدفهم الأصلي هو تقوية الأسس الدينية والتعاليم الإلهية; وسيضاعف هذا الهدف من قدرتهم القتالية بما يجعلهم يخرجون منتصرين من تلك المعركة .
وبناءً على هذا لا ينبغي أن يقتصر دافع القتال على استعادة الأراضي المحتلّة ، ولابدّ أن يكون الدافع الرئيسي هو القتال في سبيل الله ، وهو الدافع الذي يتضمّن الاستقلال والتحرير أيضاً ، وبالنتيجة فإنّ مثل هؤلاء المقاتلين سينتصرون ويهزمون الأعداء .
إذن ، فالاستقلال والنصر وطرد الأعداء لا يقتصر على دافع حبّ الوطن فحسب ، بل ينبغي أن يكون حبّ الله هو الهدف ، والذي تتمكّن البشرية من خلاله تحقيق الانتصارات الباهرة والحصول على الاستقلال .
<<التالي الفهرس السابق>>