في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة261)

فقد نقل مؤلّف كتاب القاموس ـ من الكتب الرجالية الموثّقة الذي طبع أخيراً قصّة عند ذكر إسم حبيب ، وقد ذكرت هذه القصّة في سائر كتب التأريخ والرجال ـ أنّه «روى الكشّي عن جبرئيل بن أحمد ، عن محمّد بن عبدالله بن مهران ، عن أحمد بن النصر عن عبدالله بن يزيد الأسدي ، عن فضيل بن الزبير ، قال: مرّ ميثم التمار وحبيب بن مظاهربمجلس بني أسد وهما فارسان ، فجعلا يتحدّثان حتّى قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع قد صلب في حبّ أهل بيت نبيّه (عليهم السلام)  . . .  فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلاًأحمرله ظفيرتان يخرج لينصرابن بنت نبيّه (صلى الله عليه وآله) ،فيقتلويجال برأسه بالكوفة» (1).
لقد أصيب مجلس بني أسد بالذهول لما سمعوا من حوار هذين الوليّين حتّى أجمعت كلمتهم على أنّهم لم يروا أكذب منهما! وهنا وصل رشيد الهجري فسأل عن ميثم وحبيب ، فقال له بنو أسد: كانا هنا ، ثمّ أخبروه بما سمعوه منهما ، فقال رشيد: لقد قالا حقّاً ، إلاّ أنّ ميثم نسي أن يقول ويُزيد: من يأتي برأس حبيب مائة درهم! فما كان من أهل المجلس إلاّ أن قالوا: إنّ رشيد أكذبهما!(2)

بُكاء محمّد بن الحنفية :
نقل الطبري عن أبي مخنف: أنّ الحسين بن علي أقبل بأهله ومحمد بن الحنفية بالمدينة، قال: فبلغه خبر وهو يتوضّأ في طست قال : فبكى حتى سمعت وَكَفَ دموعه في الطست(3) . ولنا أن نسأل: مِمَ بُكاء ابن الحنفية؟ لو كان يأمل النصر كالإمام! لم يكن لذلك الخبر أن يبكيه ، فالقضية قضية فتح ونصر والتحاق بالقوى الشعبية الموالية في الكوفة ، وليس في الأمر ما يدعو إلى البُكاء!


(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ«رجال الكشي»: 78 رقم 133 .
(2) قاموس الرجال 3: 96 رقم 1768 ، وماذكر نقل بالمضمون .
(3) تاريخ الطبري 4: 297 .

(الصفحة262)

نعم ، بكاء ابن الحنفيّة إعلام للمؤلّف الذي اعتقد أنّ الإمام (عليه السلام) سوف لن يسقط حكومة يزيد ، بل سيتعرّض لظلم جيش الكوفة ، وهذه هي كربلاء التي ستستضيف الإمام!
بُكاء محمّد بن الحنفية تذكير بحادثة يعرفها كافّة قرابة أهل البيت ، أفيكون الإمام غافلا عنها لا عِلمَ له بها؟! لقد كانت قصّة كربلاء وفصولها الدموية أشهر لاتحتاج إلى بيان ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ التحاق زهير بن القين كان بسبب حديث سلمان الفارسي أو الباهلي ، حيث أورد الطبري وابن أثير أنّ سلمان بشّر زهيراً بإدراكه لشباب آل محمّد ، وذلك اليوم هو يوم فرح بالنسبة لزهير .

حديث رائع :
قال مؤلّف كتاب الأربعين الحسينيّة: «ما رواه في الكامل بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا همّ الحسين (عليه السلام) بالشخوص من المدينة أقبلت نساء بني عبدالمطلب فاجتمعن للنياحة حتّى مشى فيهنّ الحسين  (عليه السلام) ، فقال: أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله ، فقالت له نساء بني عبدالمطلب: فلمن نستبقي النياحة والبُكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة ورقيّة وزينب واُمّ  كلثوم ، فننشدك الله جعلنا الله فداك من الموت»(1) .
إنّ الحسين (عليه السلام) قرّر الخروج إلى مكّة فما معنى اجتماع الهاشميات من نساء بني عبدالمطلب للنياحة والبُكاء! يخرج إلى مكّة لتنظيم الجيش والقيادة بغية الحركة إلى الكوفة وبالتالي السيطرة على الحكومة ، ومثل هذه الحركة ينبغي أن تدخل الفرح والسرور على الهاشميات وأهل بيت الرسالة ، فقد تمهّدت الأرضية المناسبة لقيام الحكومة ، فما هذا البُكاء!


(1) الأربعين الحسينيّة: 57 ح6  عن كامل الزيارات: 195 ح 275 .

(الصفحة263)

نعم ، إنهنّ يعلمن أنّ الإمام (عليه السلام) إنّما يتّجه نحو مصرعه الذي ليس فيه أيّ أمل بالنصر ـ النصر الذي يقول به مؤلّف «شهيد جاويد» : لقد سمعن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرّاً أنّ ولده الحسين (عليه السلام) سيُقتل في كربلاء . نعم ، لم يطقن سماع حركة الإمام ولم يتمالكن أنفسهنّ ، أمّا الإمام فقد خاطبهنّ: أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر فهو معصية لله ولرسوله ، وهل لمثل هذه النصيحة أن تسكّن من روع تلك القلوب الوالهة المضطربةوالعيون العبرى لنساءالرسالة!فهنّ نساءوقلوبهنّ تنبض بحبّ الحسين  (عليه السلام) ، ويعلمن أنّ هذه الحركة ستعيد مرارة رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وغربة الزهراء  (عليها السلام) ، فأجبنه والدموع جارية على خدودهنّ: إنّنا نعلم أن لا رجعة من هذه الحركة . نعم ، يمكن أن يهدأ روعنا وتسكن فورتنا إن جعلنا الله فداك لتنجو من الموت . فهل يسعنا بعد هذا أن نقول بأنّ الإمام لبّى دعوة الناس أملا في النصر ، أم لابدّ من القول أنّه انطلق أملا في انتصار الإسلام من خلال الشهادة .

السرّ الأكبر :
لقدوردت حادثة كربلاء في سائر الأديان ، ولا أُريد أن أخوض في هذا المجال ، إلاّ أنّي أكتفي بما أورده الطبري بهذا المجال ، قال: «حدّثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدّثني رأس الجالوت ، عن أبيه قال: ما مررت بكربلاء إلاّ وأنا أركض دابّتي حتّى أخلف المكان ، قال: قلت: لِمَ ؟ قال: كنّا نتحدّث أنّ ولد نبيّ مقتول في ذلك المكان . قال: وكنت أخاف أن أكون أنا ، فلمّا قُتل الحسين قلنا: هذا الذي نتحدّث»(1) .
فهل يسعنا ـ أيّها القُرّاء الأعزاء ـ أن نقول بأنّ الإمام لم يكن عالماً بحادثة كربلاء وحين بلغ كربلاء احتمل . . . بينما يتحدّث الآخرون عن هذه النهضة وأنّ كربلاء ستضمّخ بدم الحسين (عليه السلام) ؟!


(1) تاريخ الطبري 4: 296 .

(الصفحة264)

الكتاب والخطأ الرئيسي الثاني :
الخطأ الرئيسي الثاني الذي ارتكبه مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» هو الضرر الذي ألحقته حادثة كربلاء بالإسلام ، ونورد هنا بعض نماذج الكتاب التي تفيد هذا المعنى:
1 ـ قال في جوابه لما قاله محبّ الدين الخطيب من أنّ حركة الحسين بن علي (عليهما السلام) قد حاقت خسارة بالحسين والإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة: «حكومة يزيد لا الحسين بن علي (عليهما السلام) هي التي وجّهت تلك الضربة للإسلام» . وعليه : فهو يقرّ بموضوع الخسارة ، إلاّ أنّه ينسبها فقط إلى يزيد .
2 ـ لوّح في النقاط 1 ، 2 ، 3 ـ في عنوان «هل كان قتل الإمام (عليه السلام) بنفع الإسلام أم لا ـ إلى أنّ قتل الحسين (عليه السلام) لم يكن له أثر مطلوب على الإسلام ، وقال: لقد قويت شوكة بني أُميّة وظنّوا أنّ النفع الوحيد الذي جناه الإسلام هو أنّ حكومة يزيد أصبحت ضعيفة لبضعة أيّام إثر قتل الإمام الحسين  (عليه السلام) .
3 ـ قال في ص378 «وإذا كان المراد هو أ نّ الشيعة قد انتظمت بقتل الإمام فلابدّ من القول بأنّ الشيعة قد قويت شوكتهم من جانب بعد شهادة الإمام الحسين  (عليه السلام) ، وضعفت من جانب آخر . . . إلى آخره ، ثمّ تابع هذا الموضوع في ص379 .
4 ـ ثمّ قال في ص382 ـ في بحث بعنوان زبدة الكلام ـ : «لا يمكن قبول الفكرة القائلة بأنّ الإسلام قد انتعش بقتل الحسين (عليه السلام) » ولا يمكنه أن يقول: مرادي أنّ قتل الحسين (عليه السلام) أدّى إلى الإضرار بالإسلام ، من حيث إنّ الجريمة قد ارتكبت من قِبل قاتلي الحسين  (عليه السلام) ; لأنّنا لا نرى عاقلا ينكر أنّ قتل الحسين (عليه السلام) ضرر جسيم وجريمة لا تُغتفر ، بل مرادك أنّ حادثة كربلاء وقتل الحسين (عليه السلام) كانت ضرراً على الإسلام ، وهذا ما أوردته في ردّك على محبّ الدين في الدفاع عن هذا الضرر بأنّ

(الصفحة265)

يزيد قد وجّه هذه الضربة للإسلام ، فهل يمكن نسبة قتل الإمام لنفسه؟ حتّى نتّهم يزيد في مقام تبرئتنا للإمام ، وعليه : فقصدك من قتل الإمام شهادته وأنّ تلك الشهادة كانت بضرر الإسلام ، حيث قلت: يزيد هو الذي أضرّ بالإسلام .
والشاهد الآخر ما ذكرته في قولك: «لا نفهم ما يُقال من أنّ الإسلام قد استعاد حياته بقتل الحسين (عليه السلام) »; لأنّك لم تفترض الضرر من أجل نفس القتل ، بل من أجل القتل وحادثة كربلاء ، وهذا ما صرّحت به في ص383 حين قلت: «لا يسعنا أن ندرك هذا الأمر ،فكيف للإسلام بالاستقرار والتماسك في فقدانه لزعيمه وناصره» .
فالتعبير كان بالفقدان ، والفقدان غير القتل ، وعلى هذا الضوء فقد ألغيت فريضة الجهاد بالكامل ; لأنّ المعركة لا تستتبع دسومة ، وغالباً ما يؤدّي الجهاد إلى إزهاق أرواح القادة الصلحاء ، أو ليس فقدان مثل هؤلاء القادة يضرّ بالإسلام؟ فَلِمَ الجهاد؟ ولعلّ هناك من يقول في الجواب: إنّ فقدان مثل هؤلاء القادة هو دفاع عن الإسلام وهذا الدفاع مفيد .
نعم ، قد نقول في الجواب: إنّ الهدف هو الدفاع ، ولكنّه يتطلّب التضحية فلا يتحقّق إلاّ في فقدان الزعماء الصلحاء ، الدفاع هو الذي يروي شجرة الإسلام ويبقي على حياتها ، وعليه : فالإسلام يمكن أن يستعيد حياته بقتل الإمام الحسين  (عليه السلام) ، وهذا ليس بممتنع ، لنتساءل لاحقاً هل تحقّق هذا الإمكان ؟ نعم لقد تحقّق هذا الأمر ، شريطة أن لا يقتصر بالنظر على عصر حكومة بني أُميّة وبني العباس ، فالحادثة ـ وكما سنتطرّق إليها لاحقاً ـ قد انطوت منذ يومها الأوّل على آثار قيّمة وفوائد جمّة .
5 ـ قال في ص 393 ـ 394 تحت عنوان ذلّة الاُمّة: «وهنا لابدّ من القول بأنّ الاُمّة الإسلامية بعد قتل الحسين (عليه السلام) أصبحت أكثر ذلّة و خنوعاً تجاه

(الصفحة266)

حكومة  يزيد» .
وواضح أنّ هذه العبارة تُفيد أنّ نهضة الحسين وشهادته قد أذلّت الإسلام ، غير أنّ الإمام (عليه السلام) لا ذنب له . نعم ، الواقع أنّه لا يمكن إنكار تجبّر يزيد وتنامي شوكته عدّة أيّام بُعيد الحادثة ، إلاّ أنّها لم تجلب الذلّ والهوان على الناس ، بل كانت الاُمّة تعيش حالة من الذلّ والهوان التي تبددت بفضل تضحية الحسين (عليه السلام) ودمه الشريف .
هذه بعض النماذج من عبارات الكتاب الذي يعتقد مؤلّفه كالآخرين بأنّ حادثة كربلاء كانت خسارة .

حادثة كربلاء نفخت الروح في جسد الإسلام:
من المُسلّم به أنّ الإسلام أو أيّ قانون يهدف إلى إشاعة الحرّيات والمساواة وإيصال الإنسان إلى الكمال إنّما يرتطم ببعض العوائق والعراقيل المؤلمة ، التي لا يمكن تفاديها ألبتّة في هذه المسيرة الشاقّة . فالقوانين الإلهية القائمة على أساس العدل والعلم ومساواة الضعيف بالقوي وكون الجميع سواسية في الحقوق والواجبات ، لا مناص لها من الاصطدام بمصالح الطغاة من أصحاب الطمع والشهوة والعناد والجهل . فهذه القوانين السماوية لا تنسجم والشهوات الطائشة والقدرة الزائفة والعاتية التي تسحق الضعفاء والتي تستند إلى هضم حقوق الاُمّة والتلاعب بمقدّراتها ، وعليه : فالمعركة بين الطرفين قائمة على قدم وساق .

الجهاد في الإسلام :
يسعى الإسلام بادئ الأمر ـ وعلى هامش الحرية الفكرية والإرادة في العمل ـ في التزام منهج الوعظ والنصح للأعداء أملا في إعادتهم إلى جادّة الصواب ،

(الصفحة267)

إلاّ أنّ البعض لا يستجيب لمثل هذا الاُسلوب ويوغل في الغيّ والعدوان ، وهذا ما تلمسه بوضوح في القرآن الكريم في سرده لقصص الأنبياء مع اُممهم ، ثمّ يندفع هؤلاء الأفراد أبعد من ذلك ليخطّطوا لتفنيد تعاليم الأنبياء ونظمهم الاجتماعيّة ، وبالتالي إرعاب الاُمّة وزعزعة دعائم الأديان والشرائع . فإذا ما أغلقت جميع الأبواب بوجه الدين وغاب الأمل في هدايتهم ، كان لا مناص له من اللجوء إلى القوّة وبروز فلسفة الجهاد بالأموال والأنفس .
نعم ، لقد بني الدين على العفو والرحمة والتساهل والمرونة ، إلاّ أنّ هذه المفردة مؤطّرة بأطر لا ينبغي أن تتجاوز حدودها ، وهذا ما عبّرت عنه الآية الشريفة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ}(1) .
إذن ، فالجهاد في الإسلام وسيلة من أجل الدفاع عن حياض الدين وتحرير الاُمّة من براثن القوى السلطوية الغاشمة ، بل الجهاد من الفرائض الواجبة التي يتوقّف عليها وجود الإسلام والمسلمين .
أمّا الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الدفاع يشمل كافّة الوسائل ولا يقتصر على القتل ، لابدّ من القيام مهما كانت النتائج ، ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ الإسلام أكّد على قتل الكفّار ، ففي قتلهم نفع الإسلام وأنّ فقدان الأولياء ضرر والقتل فيهم ليس بمطلوب .
فهذا القرآن يتبنّى مواقف الشهداء ويشيد بهم ويصرّح بدرجاتهم ، فالشهيد قيمة حيّة ، والشهيد من يقتل دفاعاً عن الدين . إذن فالقتل من أجل الدفاع


(1) سورة البقرة : الآية 109  .

(الصفحة268)

مطلوب ، {وَلاَتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً  . . .}(1) فهل الآية الكريمة تأمر بالقتل أم تحضّ على الشهادة في سبيل الله وإشاعة التوحيد والعبودية؟
نعم ، الشهادة محبوبة لدى الله والقرآن ، ليس هنالك من سبيل للظفر بشيء دون ضريبة ، فالبذرة تدفن نفسها في التراب لتصبح شجرة ، وذلك يقتل لتحيا اُمّة وتنعم بالحرّية والسعادة ، ولذلك ترى أولياء الله توّاقون للشهادة ، فعدمهم يمنحهم ويمنح الآخرين الوجود ، فأملهم الدائم «وقتلا في سبيلك»(2) ، كما تراهم يتسابقون إلى الموت في المعارك وقد مشى إليه بعضهم عن علم بالشهادة . أجل ، أولياء الله يعشقون الشهادة ، فشجرة الإسلام قد تتطلّب أحياناً سقيها بالدماء ، وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يُصرّح في عهده الذي عهده إلى مالك الأشتر: «وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة» (3).
لا يسع البعض أن يستوعبوا حياة الإسلام وتنامي شوكته بسبب فقدان زعمائه وحماته ، فهذا القول لا ينطوي سوى على إنكار فلسفة الحروب والمعارك ، وهل الحرب لعبة أو نزهة فلمَ الأمر بالجهاد؟ لِمَ كان الرسول يشترك بنفسه في المعارك؟ لِمَ برز علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن عبد ودّ؟ ولِمَ ضُرّج أولياء الله كعمّار  بن ياسر بدمائهم في معركة صفّين؟ ولِمَ كان الشهداء في مصاف الأنبياء؟ لِمَ كان الحسين (عليه السلام) يأذن لفتيته في القتال؟ لِمَ كلّف أخيراً ذلك الصبي الذي لم يكن له سوى ثلاث عشرة سنة بالقتال؟ يُقال: دفاعاً عن الإسلام ، فنقول: إذا كانت هذه عاقبة الدفاع عن الإسلام بحيث يؤدّي إلى فقدان الإمام فهذه هي وظيفته ، والإسلام عزيز منيع بهذه الوظيفة . أو لم يُقتل أنبياء بني إسرائيل {وَقَتْلِهِمُ اْلأَنْبِيَاءَ


(1) سورة آل عمران: الآية 169 .
(2) إقبال الأعمال 1: 143 ، قطعة من دعاء ليالي شهر رمضان .
(3) نهج البلاغة لمحمد عبده: 625 .

(الصفحة269)

بِغَيْرِ حَقٍّ}(1) ، أولم يفكّر الأنبياء بأنّ في قتلهم ضرراً على المسيرة ، كان عليهم أن يسلكوا سبيلا لا يؤدّي إلى فقدانهم ، فيبقى الدين عزيزاً بحياتهم ووجودهم ، لكنّا نعلم بأنّهم خاطروا بأنفسهم ووقفوا بوجه المشركين والكافرين حتّى ضحّوا بأنفسهم .
لا يمكن افتراض الحسين (عليه السلام) إماماً ظاهرياً للمسلمين ، وأنّه مبسوط اليد ليخلص إلى نتيجة مفادها: عدم إدراك وقبول إحياء الإسلام بفقدان الزعيم ، فالحسين (عليه السلام) لو هادن يزيد لما عاد إماماً ، ولو أكبّ مسيرة يزيد وأضفى الشرعية عليها ، فهل في مثل هذا الإمام نفع للإسلام؟ وهل من سبيل أمام الإمام لو لم يهادن ويداهن سوى الشهادة؟ لقد كان عزم يزيد أن يبايعه الحسين (عليه السلام) لتكون النتيجة اضمحلال الدين ، وإلاّ حمل إليه رأسه الشريف ، الأمر الذي لا يجعل لحياة الإمام من نفع للإسلام .
من هنا كانت وظيفة الإمام التي تكمن في إحياء الإسلام والدفاع عن الحقّ تعني التضحية وعدم مسايرة حكومة بني اُميّة ، وسقي شجرة الإسلام بالدماء الطاهرة الزكية .

بنفسه اشترى حياة الدين فيالَها من ثمن ثمين(2)

لقد ظنّ بأنّ حركة الحسين (عليه السلام) كانت تتجه صوب الكوفة والأخذ بزمام الاُمور والسيطرة على الحكومة ، وهذا الهدف لا ينسجم والعلم بالشهادة ، بل لم يكن الإمام يظنّ بأنّه يرد كربلاء ويقتل فيها ، وذلك لأ نّ هذه الشهادة لم تكن لصالح الإسلام ، بينما ليس هناك من منافاة عقلائية بين الحركة إلى الكوفة والعلم بالشهادة ، كان عنوان الحركة هو الكوفة والأخذ بزمام الاُمور ، كي لا ينبري


(1) سورة النساء : الآية 155  .
(2) من مراثي آية الله الكمپاني .

(الصفحة270)

أحدهم ويتخرّص بأنّ الاُمّة تأهّبت لامامة الحسين (عليه السلام) فرفضها ، ولا يتسرّب الشكّ إلى النفوس بأنّ الزعامة لو كانت حقّاً ثابتاً له لما رفضها ، فقرّر الإمام أن يخرج إلى الكوفة من أجل إحياء الإسلام ، فقد ماتت السُنّة وأُحييت البدعة ، ولما كان يعلم بشهادته وعدم درك هدفه ، استعدّ للتضحية والفِداء ، أمّا الكوفة ومقاومة حكومة يزيد ليكتب في التأريخ بأنّ الحسين (عليه السلام) ثار من أجل إحياء الإسلام وإمامة الاُمّة وإنقاذها من بؤسها وشقائها ، وهذا ما سيؤدّي إلى قتله وفوزه بلقب سيّد الشهداء  (عليه السلام) ، ولو صرّح الإمام بأنّي أذهب لاُقتل في كربلاء ، لما استطاع التأريخ أن يصيب في تقييم الحادثة وأنّ الهدف هو إحياء الإسلام ، في حين يعلم الإمام أنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ في ظلّ التضحية والشهادة .

المعطيات الخالدة للحادثة :
لقد فتحت حادثة كربلاء منذ انبثاقها الباب على مصراعيه أمام انبعاث الإسلام من جديد ، أمّا وقوع الحادثة فقد أفرز حقّانية الحسين وكونه الإمام الحقّ ، وبطلان حكومة يزيد وكونه إمام الضلالة الذي يهدف إلى القضاء على الإسلام ، لقد جهدت الأجهزة الإعلامية لحكومة معاوية وابنه يزيد على تقديم الإمام كفرد خارجي لا  يمت بصلة إلى الدين ، وقد تفاجأ أهل الشام لخبر قتل أمير  المؤمنين (عليه السلام) في محراب العبادة ، ليتساءلوا مع أنفسهم: أفيصلّي علي حتّى يُقتل في المحراب!
كان معاوية ينفق الأموال الطائلة دون حساب من أجل وضع الأحاديث ضدّ أهل البيت  (عليهم السلام) ، في حين أثبت الحسين (عليه السلام) في كربلاء أنّ أهل البيت أصحاب حقّ ، وقد بلغوا كربلاء مظلومين للدفاع عن الدين ، يزيد شارب الخمور وهو الفاسق عبد الدنيا والشهوة ، الذي لا يتحرّج عن سفك دم الرضيع ، ويعمد بعد

(الصفحة271)

القتل والفتك إلى إحراق خيام النساء وسلبهنّ ما عليهنّ ، لقد أحبطت حادثة كربلاء في أوائل أيّامها كافّة دعايات معاوية ، كما أفهمت عسكر يزيد أنّ الحسين (عليه السلام) ضحيّة شهوات يزيد والحقد الدفين لعلي (عليه السلام)  .
لقد كشفت خطبه ذلك اليوم عن كمالات الإمام  (عليه السلام) ، عن ولايته وإمامته وصلاحيته وزعامته وعلمه ودرايته وشجاعته وفصاحته وتضحيته وحقّه ، بما لا يدع مجالا لرواسب دعايات الجهاز الأموي . وهذا يزيد الذي جيّش الجيوش وشقّ وحدة الاُمّة الإسلامية في قتاله للحسين (عليه السلام) ! بحيث اندفع البعض لقتاله وهو «يتقرّب إلى الله بدمه»! إلاّ أنّ نفس الحادثة والخطابات الحماسية للإمام أزالت الإبهام والغموض وأوضحت الأمر ، بما جعل بعض عسكر يزيد يلتحق بركب الإمام ، ويرتفع صوت البعض الآخر بالاعتراض والاستنكار .
لقد أثبت الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم أنّ الباغي هو يزيد ، كان لا ينفكّ عن إيراد خطبه وكلماته التي عرّت التيار الأموي وكشفت زيفه للناس ، الذين ليس لهم سبيل سوى تصديق ما كان يقوله الإمام .
لقد اذعن العدوّ لصحّة ما أورده الإمام (عليه السلام) : «إنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة»(1) .
وهو الذي هتف عالياً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(2) .
وأخيراً هو الذي جعل العدوّ يشهد بأنّ حسيناً إنّما يقتل ثأراً من علي (عليه السلام) وهو الذي جعل الحرّ بن يزيد الرياحي يعيش الخيار بين الجنّة والنار فيلتحق بركب الحسين  (عليه السلام) .


(1) الأمالي للصدوق: 223 مجلس 30 قطعة من ح 239، وعنه بحار الأنوار 44: 318 قطعة من ح 1 .
(2) مسند أحمد بن حنبل 4: 8 ح 10999 و ص 125 ح 11954 و ص 129 ح 11618 .

(الصفحة272)

إذن ، فقد ذهبت أدراج الرياح جميع تلك المدّة المديدة من الدعايات المسمومة خلال المرحلة الاُولى من حادثة كربلاء ، ثمّ اتّضح ظلم يزيد وجوره ، وما زالت الحادثة الحسينيّة إلى يومنا هذا تدمع العيون وتجدّد الأحزان كلّ عام كما تجنّد الطاقات وتعبّئها باتجاه العدل والحرّية .

النظرة السطحية :
قد يظنّ البعض بأنّ حادثة كربلاء قد ضاعفت قدرة بني اُميّة ، وأنّ فقدان القائد قد أدخل اليأس على قلوب الناس ، كما أدّت بعيالات الحسين (عليه السلام) إلى الأسر والسبي ، دون الالتفات إلى أ نّ هذه الحادثة قد هزّت عرش يزيد وقلبت خططه وأفكاره رأساً على عقب ، فكلّنا نعلم أنّ يزيد قد هَمّ بتقويض صرح الإسلام وهدم معالم الدين ، وكان يتحيّن الفرص للثأر من بدر وحنين ، في حين دفعت كربلاء بيزيد لأن يتظاهر بالدين ويلقي باللائمة على ابن مرجانة في تعجيله بقتل الحسين  (عليه السلام) .

يأس الاُمّة:
أمّا الاُمّة فلم تشعر باليأس بقدر ما عاشت حالة من الثورة والغليان والغضب والنقمة ، الأمر الذي تمخّض عن قيام المختار ، ولم تستطع الزعامة الغاشمة مواصلة حكومتها إلاّ بقوّة الحديد والنار .
نعم ، لقد آتت تلك الحادثة أُكُلها منذ لحظاتها الاُولى ، ثمّ أعقبتها تلك الحملة الإعلامية التي قادها أهل البيت بعد الحادثة بيومين ، لتشهد الكوفة من جديد الهدير العلوي المدوّي على لسان كريمته زينب الكبرى ، ففضحت يزيد وأسقطت الأقنعة عن وجهه الكريه ، كيف يزعم أنّ سبي زينب لم يكن من ضمن أهداف

(الصفحة273)

الإمام (عليه السلام) ؟ يا له من زعم أجوف; ما الذي حدا بالإمام لاصطحاب النسوة وهو يعلم بقتله في كربلاء؟ ليس هنالك ما يدعو إلى القلق فيما لو بقين في الحرم المكّي الآمن؟ ألا يشعر الإمام بالقلق على عيالاته بالإتيان بهنّ إلى كربلاء وهو يعلم بقتله ، فهل هنالك مثل هذا القلق لو بقين في مكّة؟ لو بقين في مكّة لما كان لهنّ من ملاذ بينما يتمتعنّ بالحصانة السياسية لو رافقن الحسين (عليه السلام) !! أو لم يبق ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في مكّة أو المدينة؟ لو لم يكن الأسر والسبي من ضمن الأهداف ، أفلا يعتبر الحسين (عليه السلام) مُقصّراً؟ فالحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّه مقتول ، أفلم يحتمل أنّ ذلك القتل سيؤدّي إلى سبي عيالاته ؟ وعلى فرض هذا الإحتمال فهل هو احتمال منجّز؟ اللهمّ إلاّ أن يُقال: إنّ الإمام لم يكن قد تكهّن بعاقبة الأمر!
طبعاً إن كنت ممّن يؤمن بأنّ الإمام معصوم بعيد عن الزلل والخطأ فكيف تحلّ هذا الإشكال؟ وكيف توفّق بين هذه التناقضات؟ نفترض أنّك تعتقد بأنّ الإمام لم يكن عالماً بعاقبة الأمر منذ البداية ، ولكن حين اعترضه الحرّ وقد اتّضحت عواقب الاُمور كما ذكرت فلِمَ لَمْ يقترح رجوع نسائه؟ هل كان الحرّ مأموراً بتسليم عيالات الحسين (عليه السلام) إلى عبيدالله أيضاً؟ لو كان الحسين (عليه السلام) اقترح على الحرّ رجوع عيالاته ألم يكن ذلك كافياً في قبول عذر الحرّ عند عبيدالله؟ لقد أقررت بعذره حيث قلت: لو ترك الحرّ الإمامَ يرجع لما آخذه عبيدالله ، فلم لم يقترح الإمام رجوع عيالاته؟ ولما شعر بأنّ الخطر قد أحدق به ـ كما زعمت ـ فهل الإصرار على اصطحاب أولئك الأعزّة يُفيد عدم التنبؤ بوقوع الأحداث؟ إذن لا يمكن القول بأنّ الأسر لم يكن من الأهداف المرسومة ، بل من المتيقّن كان جزءاً مكمِّلا للشهادة ، فكان لابدّ لتلك القافلة من القيام بمهمّتها الإعلاميّة .
فوظيفة الحسين (عليه السلام) التضحية من أجل الإسلام ، بينما كانت مهمّة زينب تكمن

(الصفحة274)

في تغطية وقائع كربلاء والتعريف بشخص الإمام وفضح يزيد والحيلولة دون ضياع دم الإمام وسائر الشهداء .

خطبة زينب الكبرى :
لقد فهمت الاُمّة من خطبة زينب في الكوفة أنّ حكومة يزيد إنّما استهدفت القضاء على الإسلام ومحو آثار الرسالة ، وقد حال الحسين (عليه السلام) بدمه الشريف دون هذا الهدف ، فالحسين (عليه السلام) لم يمت ، فهو قتيل في سبيل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1) بل يزيد هو الذي قتل وقذف بنفسه في الهاوية ، فالإسلام باق ويزيد زائل .
وهذا هو المنطق الذي نهجه علي بن الحسين (عليه السلام) في مسجد الشام ، لـمّا سمع الأذان وأقرّ الشهادة الثانية بلحمه ودمه وجسمه وكلّ شيء في جسده ، ليثبت حياته من خلال حياة الرسالة والشهادة بالنبوّة لجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ، ولم يفلح يزيد في محوه للرسالة ، وعليه : فقد كانت حادثة كربلاء ـ منذ انعقاد نطفتها ومروراً بأحداثها وما أعقبها من سبي وأسر ـ عنصر فاعل يفيض حيويّة على الإسلام .

المنطق الغاشم :
طبعاً ، يمكن لمنطق القوّة ـ الذي يستند إلى القمع وكَمّ الأفواه والتلويح بالحديد والنار ـ أن يشيع الخوف والهلع والرعب والاضطراب كسحابة في سماء الاُمّة ، إلاّ أنّ فجر الحرية والعدالة إنّما يشقّ لا محالة عباب هذه السحب الزائفة ، فينهض حماة الدين ليحطّموا تلك القوى الفارغة .
وعوداً على بدء فإنّ المؤلّف قد ساء فهم وجود الإمام وعدمه ، فقد افترض


(1) سورة آل عمران : الآية 169  .

(الصفحة275)

أنّ الإمام لو كان حيّاً وأصبح زعيماً للمسلمين ودارت القيادة الإسلاميّة حول محوره ، لساد العدل والقسط ربوع العالم الإسلامي ، وبالتالي لتحقّقت حكومة العدل التي نتطلّع إلى تشكيلها من قِبل إمام العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فتزول الفرقية الطارئة على الدين ولا تبقى إلاّ الطائفة الإمامية الحقّة التي تمثّل الدين ، وحين افترض فقدان الإمام وعدمه ظنّ بأنّ هذا العدم يتضمّن زوال كلّ شيء بما فيه الإسلام واستفحال الظلم والجور والطغيان اليزيدي!
وعليه : فيخلص من خلال الفرضين إلى أنّ شهادة الإمام قد أدّت إلى ضرر عظيم لحق بالإسلام العزيز . وهنا يكمن الخطأ الذي ارتكبه المؤلّف في إطلاق العنان لخياله في أن يسرح ويمرح كما يشاء .
لنفترض أنّ الحسين (عليه السلام) قد انتصر ـ عسكرياً ـ على يزيد وتولّى الحكم ، فهل ستسود الأحكام الإسلامية والتعاليم القرآنية حقّاً على جميع أنحاء المعمورة ، بحيث يشهد العالم الإسلامي المترامي الأطراف اندحار الجهل والاضطراب والظلم والفوضى وسيادة العدل والمواساة والمساواة والأمن والاستقرار و . . . ؟
لا نعتقد بأنّ الأمر كذلك . وبالطبع فإنّ هذا ليس بمتعذّر على الإمام الحسين (عليه السلام) في أن يملأ العالم بهذه المفاهيم السامية ، إلاّ أنّ هذا الأمل مشروط باندحار الأشقياء والجهّال والطغاة وإزالة كافّة العراقيل التي تعترض سبيل الإمام ، ولا نرى لحدّ الآن مَن تمكّن من مثل هؤلاء الزعماء من اجتثاث جذور الظلم والجور وإبادة صروح الجهل والحمق وتطهير المجتمع من دنس الأرذال والأوباش والأشقياء وإخضاعهم لمنطقهم وسلطنتهم .
فأيّ من أنبياء الله طبّق مثل هذه المفاهيم والأهداف؟ هل استطاع موسى (عليه السلام) بيده البيضاء وعصاه أن يخلق من بني إسرائيل مجتمعاً دينياً متطوّراً ويجتثّ جذور الوثنية والسامرية؟ فلم تجفّ أرجلهم من الماء حتّى طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل

(الصفحة276)

لهم إلهاً كما كان للآخرين ، وفي نهاية الأمر يخبر القرآن عنهم بقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْذِلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1) .
وهذا نبيّ الإسلام أعظم زعيم عرفه العالم الإنساني ، فرغم جهوده الجبّارة ونجاحه في نشر رسالة السماء في أنحاء العالم ، إلاّ أنّه لم يستطع أن يجعل الإسلام بكماله وتمامه هو الحاكم المطلق للعالم . هل استطاع نبيّ الإسلام إبّان حياته أن يضع الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) صراحة في مواقعهم؟ نعم ، بعد كلّ تلك المدّة من الزعامة والجهود المضنية في رفع مستوى الاُمّة وتعويدها على ممارسات الدين ومفاهيمه وربطها بعجلة الحضارة والرقيّ والتمدّن وإنقاذها من الجهل والوثنية والتعنّت والتعصّب والمنطق الغاشم لأمثال أبي سفيان وصنمية أمثال أبي جهل ، طرح أواخر حياته الشريفة قضية الغدير التي صرّحت بخلافة علي (عليه السلام)  ، فأطلق ذلك الرجل الذي كان قربه ـ وقد تغذّى على مفاهيم الإسلام ـ عبارته المعروفة «إنّ الرجل ليهجر»(2)!
هل استطاع الإسلام آنذاك إجتثاث جذور اليهود؟ هل استقطب إليه النصارى؟ هل استطاع إفهام تلك البشارة الصريحة والميثاق الغليظ الذي اشتملت عليه التوراة والإنجيل بشأن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ويجعلهم يذعنون لصحّة ما يقول؟ وهل استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخضع كافّة تلك الحكومات الجبّارة لحكومته ويجعلها تنضوي تحت لواء الإسلام؟
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)  ، ألم يتزعّم الاُمّة ويأخذ بزمام الاُمور؟ ألم تندفع إليه الجماهير وتضطرّه لقبول الخلافة؟ وعليه : فقد امتلك الجيش الجرّار والإمكانات وما من شأنه أن يجعل الحكومة تطبّق الأهداف القرآنية


(1) سورة البقرة: الآية 61 .
(2) مسند أحمد 1: 760 ح 3336 .

(الصفحة277)

المقدّسة ، أمّا زعامته وعلمه بأوضاع العالم الإسلامي وشجاعته واقتداره وارتشافه من ثدي الوحي وتتلمّذه على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فحدّث ولا حرج ، ولكن ألم تشهد هذه الزعامة منذ انبثاقها ذلك التمرّد والعصيان ، ولاسيّما من أولئك الذين لم يروق لهم عدل علي (عليه السلام)  ، فرفعوا لواء المعارضة حتّى زجّوا بالإمام إلى ميادين القتال ، فكانت أوّلها معركة الجمل ، ألم يقل القرآن: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ}(1) فهل قرّت عائشة في بيتها أم تزعّمت العسكر لقتال علي (عليه السلام)  ، فخاطبها بكلّ حزن وأسى «أهكذا أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»(2) .
وأخيراً رأينا كيف امتدت زعامة معاوية واتّسعت رقعتها ومدى الدماء الزكيّة التي أُريقت من أجل تلك الزعامة .
والذي نريد أن نخلص إليه هو بطلان تصوّر الموفّقية والنجاح التامّ لأئـمّة الدين في الزعامة ، ولو تزعّم الحسين (عليه السلام) الأمر لعانى ما عانى منه من قبله من الزعماء الربّانيين .

سر عدم النجاح :
لا شكّ أنّ السرّ في عدم موفقيّة هؤلاء القادة هو أنّ الاُمّة ليست توّاقة جميعها للعدالة ، كما أنّ الأفكار هي الاُخرى ليست مطهّرة من الشوائب ، فسنّة الله لم تجر بأن تبقى البشرية على فطرتها ولا تتأثّر بعوامل الانحراف ، بل غالباً ما تسيطر الشهوات والأطماع والخرافات والجهل على العقول ، وهذه هي العناصر التي تهدّد الحكومات ، ولذلك ليس لقوانين السماء حكومة عادلة موفّقة تماماً من أجل بسط العدل والقسط ، فهي لا تستطيع أن تقطع دابر المخلّين بالأمن والاستقرار وتحول


(1) سورة الأحزاب: الآية 33 .
(2) المناقب للخوارزمي: 189، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 161 ، وعنه بحار الأنوار 32: 182 .

(الصفحة278)

دون جهلهم وأنانيّتهم ، بل هذا هو حال الأكثرية دائماً ، القوانين السماوية تتضمّن كافّة مفاهيم العدل والكمال والجلال ، إلاّ أنّها لا تفرض مفاهيمها على الناس قسراً ، فهي تطرح مشاريعها على الناس «وَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(1)، ولا يلومنّ إلاّ نفسه .
إنّ هدف الأنبياء هو جمع الناس على الدين والعبادة التي تكفل الفلاح والسعادة ، إلاّ أنّ هذا الهدف لم يدخل حيّز التطبيق أبداً: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيِهمْ مِن رَسُول يَأْتِيهِمْ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2) .
فالدين الإسلامي الذي جاء لتكامل الإنسان إنّما يمتلك الجهاز القيادي الكامل الذي لا يألو جهداً في إشاعة مفاهيم القرآن ، إلاّ أنّهم وبدءاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما اصطدموا بجمّ من الحوادث التي تعرقل مشاريعهم وأهدافهم ، وقد بلغت هذه الحوادث ذروتها حتّى صوّرها أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا»(3) .
وحين تدافعت الاُمّة لإمارته ، ولم يكن له بدّاً من قبولها رغم نفرته منها قال: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا  يقارّوا على كظّة ظالم ولاسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها . . .»(4) ألم ينتصر المسلمون في ظلّ قائدته ، ويتّسع نور الإسلام في أطراف الدنيا؟ أو يمكن تصوّر تقاعس الإمام عن القيام بوظيفته في الزعامة؟ الواقع هو أنّ الدافع الذي كان يقف وراء رفض الإمام (عليه السلام) للزعامة هو علمه بهذه الصدور التي ملأت حقداً وغيضاً وطمعاً ، فما أكثر أمثال طلحة والزبير ومعاوية ، ولم تكن سيرة علي (عليه السلام)


(1) اقتباس من سورة الكهف: الآية 29 .
(2) سورة يس : الآية 30  .
(3) نهج البلاغة : 83 .
(4) نهج البلاغة : 90 .

(الصفحة279)

تنسجم وتأمين الطلبات اللامشروعة ، ولذلك كان يعلم بأنّ هذه الخلافة التي تطالبه بالتزام جانب الحقّ والعدل وتطبيق الأحكام الإسلامية والمفاهيم القرآنية ستؤلّب عليه أعداء الدين ، وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فقد قبل الخلافة وسار بالعدل وربط الاُمّة بدينها وقرآنها إلاّ أنّ ثمن ذلك كان باهضاً .
وخلاصة القول هو أنّه لا ينبغي أن يظنّ المؤلف بأنّ الحسين (عليه السلام) لو أطاح بحكومة يزيد وأخذ بزمام الاُمور فإنّه سيتمكّن تماماً من إشاعة الحرية والفضيلة ومفاهيم القرآن وبسط العدل والقسط والمساواة والإنصاف ، فلو انتصر الحسين (عليه السلام) واندحر يزيد ، فهناك مئات الأفراد من أمثال يزيد الذين تلبّسوا بلباس الإسلام ، وهذا ليس ذنب الأئـمّة (صلى الله عليه وآله)  ، بل ذنب هؤلاء المهووسين الذين يمثّلون عقبة كؤودة في طريق أئـمّة الدين وزعماء المسلمين .
وما عليك إلاّ أن تتأمّل صرخات الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ، كان نداء مظلوميّة الإمام: علامَ تقاتلونني ، ما ذنبي؟ أو يكون ذنبي في دعوتكم لي ورسائلكم التي وردتني أن أقدم علينا فليس لنا من إمام ، فقدمت إليكم؟ لقد صوّرتم برسائلكم مدى الظلم والجور بما يجعلني لا أتريّث في القدوم إليكم ، أولم ير المؤلّف أنّ جواب هذه الصرخات المظلومة كان قد تمثّل بالتهليل والتصفير والسخرية والسبّ والشتم .

فغدوا حيارى لا يرون لوعظه سوى الأسنّة والرماح جواباً(1)

فليوقن المؤلّف العزيز بأنّ الإمام (عليه السلام) حتّى لو فتح الكوفة ، لما واجه من أولئك الأقزام سوى ذلك الجواب ، طبعاً ستقف الطائفة المؤمنة الغيورة إلى جانب الحسين (عليه السلام) وتهبّ للدفاع عنه ، غير أنّ ناهبي بيت المال وقطّاع الطرق واللصوص


(1) أعيان الشيعة 7: 26، والقصيدة بكاملها للسيّد رضا بن هاشم الرضوي الموسوي اللكهنوي .

(الصفحة280)

سوف لن يقفوا مكتوفي الأيدي .
إذن ، فالصورة الاُولى التي رسمها المؤلّف ـ والتي تمثّل حلماً لذيذاً ـ لايمكن قبولها بأيّ شكل من الأشكال .

الصورة الثانية :
نريد أن نرى هل أنّ حادثة كربلاء وفقدان القائد ووقوع الاُمّة في قبضة يزيد كانت ضرراً على الإسلام أم نفعاً ؟ ولو كانت نفعاً فهل نبارك للأفراد الذين صنعوا هذه الحادثة المؤلمة ، أم لابدّ أن ندينهم ونلعنهم إلى يوم القيامة؟
لقد أشرنا باختصار إلى أنّ حادثة كربلاء قد انطلقت لصالح الإسلام منذ ولادتها ، وقد فشلت كافّة مخططات معاوية ومؤامراته وأمواله الطائلة التي أنفقها في إطار معاداة عليّ وأهل بيت النبوّة والرسالة  (عليهم السلام) ، وكان الفضل في ذلك لركب الأسرى والسبايا الذي خاطب الرأي العام في كلّ مكان وفضح يزيد و كشف مظلومية الحسين  (عليه السلام) ، والأهمّ من ذلك ما لعبته هذه الحادثة آنذاك من دور في التسلّل إلى أفكار يزيد ، فيزيد كان عازماً ـ منذ اليوم الأوّل لتربّعه على عرش السلطة ـ على القضاء على الإسلام وإبادة القرآن ، والتذكير والاعتزاز بعصر الآباء والأجداد، والتغنّي بالأصنام والأوثان ، فكان شعاره المشؤوم .

لَعبت هاشمُ بالملك فلا خَبَرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نَزَل(1)

إلاّ أنّ يزيد نفسه قد استوقف تنفيذ هذه الخطّة بصورة موقّتة ، وقد علم بأنّ عليه أن يتحمّل الضربات تلو الضربات وينتظر زعزعة حكمه إذا أراد أن يقضي على الإسلام ويقتل الحسين  (عليه السلام) ، ولاشكّ أنّ ذلك التوقّف كان معلولا لحادثة


(1) تقدم في ص 207 .
<<التالي الفهرس السابق>>