(الصفحة 321)

دلالة لفظ «الكفّ» عليها ; لأ نّه ليس مجرّد الترك والاجتناب كما هو ظاهر ـ قد عرفت أنه ليس المراد مجرّد الكفّ في بعض الحالات وبعض الأزمنة بل في جميعهما ، وهذا لا ينطبق إلاّ على وجود حالة مانعة عن ارتكاب الحرام وباعثة على الإتيان بالواجب . وعليه : فقوله(عليه السلام) بعد ذلك : «ويُعرف باجتناب الكبائر» إذا كان تخصيصاً بعد التعميم لابدّ وأن يكون المراد به هو ملكة الاجتناب .

وأمّا بناءً على ما أفاده الاُستاذ(قدس سره) من كون كلّ من الجملتين بعض المعرّف للعدالة ، فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في الجملة الاُولى واضحة . وأمّا الجملة الثانية ، فدلالتها عليه مبنيّة على ما ذكرنا من أنّ المعروفيّة باجتناب الكبائر في جميع الحالات لا يكاد ينطبق إلاّ على وجود حالة نفسانيّة وملكة راسخة مانعة عن ارتكابها ، مضافاً إلى أنّ اعتبار الملكة في ناحية المروءة يستلزم اعتبارها في طرف الاجتناب عن الكبيرة بطريق أولى ، فتدبّر .

كما أنّ تفسير الكبائر بالتي أوعد الله عليها النار يشعر بل يدلّ على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً لا عن عدم المقتضي ، ولا عن داع نفسانيّ ، بل عن إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها النار والخوف من ترتّب العقاب عليه ، وعلى ما ذكرنا فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في العدالة على كلا التقديرين واضحة .

ثمّ إنّه يشعر بل يدلّ على أنّ العدالة عبارة عن حالة نفسانيّة ، نصب الطريق والدليل عليه في هذه الرواية بقوله(عليه السلام) : «والدلالة على ذلك كلّه» الخ ، ومعناه أنّ الدليل الشرعي والكاشف عن وجود تلك الحالة ، بحيث يكون وجوده كافياً في مقام ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة والمرغوبة منها ، أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه على تقدير وجودها ، أعمّ من العيوب المنافية للمروءة ، وغير الجائزة شرعاً .

(الصفحة 322)

وثمرة سترها أ نّه معه يحرم على المسلمين تفحّص ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش خلف الساتر ، بل يجب عليهم حينئذ تزكيته وإظهار عدالته في الناس مع سؤالهم عن حاله .

وحيث إنّ المعاصي على قسمين : وجوديّة ; وهو ارتكاب شيء من المحرّمات . وعدميّة ; وهو ترك شيء من الواجبات ، والمعاصي الوجوديّة على تقدير تحقّقها تحتاج إلى الستر الذي به يرائى عدم تحقّقها ; لأ نّه يحرم على المسلمين التفتيش والتفحّص .

وأمّا المعاصي العدميّة ، فيكفي في تحقّقها مجرّد الترك وعدم صدور الفعل ، فلا محالة يحتاج في إراءة خلافها إلى إيجاد الفعل ، فلذا جعل الدليل على خلافها التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة .

وتخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات إنّما هو باعتبار كون ما عداها منها ، إمّا أن لايكون وجوبه مطلقاً ، بل مشروطاً بمثل الاستطاعة الماليّة أو البدنيّة ، أو كلتيهما ، أو ببعض الأُمور الاُخر . وإمّا أن لا يكون الشخص قادراً على مخالفته باعتبار إجبار الحاكم إيّاه عليه ، كالزكاة ونحوها ، وما عدا ما ذكر ينحصر في الصلوات الخمس ، فلذا جعل التعاهد عليها دليلا على العدالة ، مضافاً إلى أنّ الاهتمام بها من بين الواجبات بحيث يكون قبولها دائراً مدار قبولها أوجب تخصيصها من بينها ، ويؤيّده قوله(عليه السلام) في الرواية : «لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين» .

وهذا الذي جعله الإمام(عليه السلام) على طبق هذه الرواية طريقاً وأمارة شرعيّة ويرجع محصّله إلى حسن الظاهر مركَّب من أمرين ، كما انقدح ممّا ذكرنا :

(الصفحة 323)

أحدهما : كون الرجل ساتراً لعيوبه حتى لا يطّلع على المعاصي الوجوديّة والقبائح العرفيّة الصادرة منه ـ على تقديره ـ غيره من المسلمين ، بل كان طريق اطّلاعهم منحصراً بالتفتيش والتفحّص عمّا وراء الساتر وهو محرّم عليهم .

ثانيهما : كونه متعاهداً للصلوات الخمس ، ومعنى تعاهده لها إمّا الالتزام بالحضور في جماعات المسلمين حتى يصلّي معهم جماعة لأجل مدخليّتها في قبول الصلاة ، كما يستفاد من ذيل الرواية الدالّ على أ نّه لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين بعد الحمل على نفي القبول لا نفي الصحّة . وإمّا كون حضوره فيها دليلا على أ نّه لا يتحقّق منه ترك الصلاة ، لا لأجل مدخليّة الجماعة في قبولها ، فالملاك هو نفس الإتيان بالصلاة ، لا هي مع وصف الجماعة .

هذا ما يقتضيه التحقيق في معنى الرواية الشريفة من الجهة التي هي محطّ البحث ، وبه يظهر الخلل فيما أفادوه في هذا المقام ، ولا بأس بالتعرّض للبعض ، فنقول :

منها : ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه في الصلاة ، ومحصّله : أ نّ الظاهر من الرواية بيان معرفة العدالة في الخارج لا بيان مفهومها ، وظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة أن يكون مفهومها معلوماً معيّناً عند السائل ; لأنّها عرفاً هي الاستقامة والاستواء ، وإذا أطلق الشارع فلا يشكّ في أنّ مراده هو الاستقامة في جادّة الشرع الناشئة من الحالة النفسانيّة ; وهي التديّن الباعث له على ملازمة التقوى . وحيث لم يكن لهذا المعنى أثر خاصّ وكاشف قطعيّ ألجأ السائل إلى أن يسأل طريقه عن الإمام(عليه السلام) ، وهذا بخلاف سائر الملكات ، كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك ; فإنّها تُستكشف قطعاً عند وجود آثارها الخاصّة ، فعرَّفه الإمام(عليه السلام) الطريق إلى تشخيصها وأجابه بالستر والعفاف إلخ .

(الصفحة 324)

وهذه العناوين المذكورة في الجواب وإن كانت مشتملة على الملكة ، ولكن لا  تدلّ على الملكة الخاصّة التي هي التديّن والخوف من عقوبة الله ـ جلّت عظمته ـ التي هي عبارة عن العدالة ، فلا ينافي جعلها طريقاً تعبديّاً إلى ثبوت العدالة .

ثمّ إنّه حيث تحتاج معرفة الشخص بالستر والعفاف ، وأ نّه تارك للقبائح على وجه الإطلاق إلى معاشرة تامّة في جميع الحالات ، وهذه ممّا لا يتّفق لغالب الناس ، فجعل الشارع لذلك دليلا وطريقاً آخر ; وهو كونه ساتراً لعيوبه في الملأ وبين أظهر الناس ، وطريقاً ثالثاً نافعاً لمن ليس له معاشرة مع شخص مطلقاً إلاّ في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة ، فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته ، وأ نّه لا  يرتكب القبائح الشرعيّة مع الجهل بأحوال ذلك الشخص ، بل لحضوره في صلاة الجماعة ثلاث فوائد :

الاُولى : أنّ ترك الجماعة مع المسلمين بدون علّة بحيث يعدّ إعراضاً عنها من أعظم الذنوب ، فمن تركها كذلك فليس ساتراً لعيوبه ، بل هو مظهر لها .

الثانية : أنّ من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على أ نّه يصلّي .

الثالثة : أنّ حضوره للجماعة دليل شرعاً على كونه تاركاً لما نهى الله عنه وعاملا بكلّ ما أمر الله ـ تعالى ـ به ، وقد أشار إلى كلّ واحد من هذه الفوائد الصحيحة المتقدّمة ، فتدبّر فيها(1) .

ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جعل الأمارة المعرّفة للعدالة وبيانها للسائل ، مع جعل أمـارة لتلك الأمارة ومعرِّفاً لذلك المعرّف كما بيّنه(قدس سره) بعيد جدّاً ; لأ نّه لا  حاجة إلى جعل الأمارة المعرّفة حينئذ أصلا ، وإلى أنّ مجرّد الحضور لجماعة


(1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 517 ـ 518 .
(الصفحة 325)

المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه ، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب ، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب ، والحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً ودليلا ، لا كلّ واحد من الأمرين ـ : أ نّ ذلك كلّه خلاف ظاهر الرواية ; فإنّك عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ; لاختلاف المراجع في ذلك العصر في معناها ، وكان غرض السائل السؤال عمّا يُراد منها عند أئـمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، والجواب لا ينطبق إلاّ على ذلك كما حقّقناه .

ثمّ إنّ ظاهر هذا التفسير أ نّه جعل قوله(عليه السلام) «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» تتمّة للأمارة الأوّلية وجزءاً للمعرِّف والطريق ، وحينئذ يرد عليه : أنّ ظاهره كون الملكة المانعة عن اجتناب الكبيرة ناشئة عن الخوف والعقاب الذي أوعده الله تعالى على ارتكابها ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين العدالة ، وبين الأمارة الكاشفة عنها أصلا ، كما لا يخفى .

ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة العدالة في معنى قوله(عليه السلام) : «وتُعرف باجتناب الكبائر» من أنّ الضمير في «تُعرف» إمّا راجع إلى العدالة ; بأن يكون معرّفاً مستقلاًّ ، وإمّا راجع إلى الشخص ; بأن يكون من تتمّة المعرّف الأوّل ، وإمّا أن يكون راجعاً إلى الستر وما عطف عليه ليكون معرِّفاً للمعرَّف ، وقوله(عليه السلام) : «والدليل على ذلك . . .إلخ» معرِّفاً ثالثاً . واستظهر في ذيل كلامه أنّ أظهر الاحتمالات المتقدّمة هو كونه تتمّة للمعرِّف ; بأن يجعل المراد بكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، كفّها عن المعاصي الخاصّة التي تتبادر عند إطلاق نسبة المعصية إلى إحدى الجوارح . وحينئذ فيكون قوله(عليه السلام) : «وتعرف باجتناب الكبائر» من قبيل التخصيص بعد التعميم والتقييد بعد الإطلاق ، تنبيهاً على أنّ ترك مطلق المعاصي

(الصفحة 326)

غير معتبر في العدالة(1) .

ويرد عليه : أ نّه لا مجال لجريان الاحتمالات الثلاثة بعد كون قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» بصيغة المذكّر كما في الوسائل وغيرها . وعليه : فلابدّ من رجوع الضمير إلى الرجل ، وأن تكون الجملة عطفاً على الجملة الأُولى تتمّة للمعرّف وجزءاً للمعنى والمفهوم . نعم ، المغايرة بين الجملتين ـ بناءً على ما اخترنا ـ إنّما هو بالتخصيص والتعميم من جهتين : من جهة شمول الجملة الأُولى لملكة المروءة ، والاجتناب عن مطلق المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة ، واختصاص الثانية بخصوص المعصية الكبيرة .

ومنها : ما أفاده بعض الأعلام في الشرح على العروة ، ويرجع حاصله إلى أنّ الرواية لا دلالة لها بوجه على اعتبار الملكة في العدالة ، بل لا نظر لها إلى بيان حقيقة العدالة بنفسها أو بلازمها ، وإنّما أوكلته إلى الراوي نفسه ; لوضوح معناها عند كلّ من يفهم اللغة العربيّة ; أعني الاستقامة وعدم الانحراف ، وإنّما سيقت الرواية لبيان كاشفها ومعرّفها ، وقد جعلت الكاشف عنها هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ممّا ورد في الحديث ، إذن هي كواشف تعبديّة عن العدالة ، وحيث إنّ معرفة كون المكلّف معروفاً بالعفاف يتوقّف على الصحبة وطول المعاشرة ، فقد جعل(عليه السلام)الاجتناب عن الكبائر طريقاً وكاشفاً عن المعروفيّة بترك المحرّمات والإتيان بالواجبات .

ثمّ إنّ كونه مجتنباً عن الكبائر لـمّا لم يكن أمراً ظاهراً في نفسه ، وكان محتاجاً إلى طول المعاشرة احتاج ذلك أيضاً إلى طريق كاشف عنه ; وهو كون الرجل ساتراً


(1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 13 ، 15 و16 .
(الصفحة 327)

لجميع عيوبه ، وهذا هو المعبّر عنه بحسن الظاهر ، كما أ نّه جعل الإتيان بالفرائض في المجامع علناً وبمرئى ومنظر من الناس كاشفاً عن أنّ فاعلها مجتنب عن المحرّمات ، بحيث لو لم يتعاهد الفرائض في المجامع لم يحكم بعدالته ، وبعد ذلك لا دلالة في الرواية على اعتبار الملكة في العدالة بوجه ، بل هي بمعنى الاستقامة العمليّة في جادّة الشرع . نعم ، لابدّ وأن تكون مستمرّة وكالطبيعة الثانويّة للانسان حتى يصدق أ نّه مستقيم ; فإنّ الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة ، إنتهى ملخّصاً(1) .

وبملاحظة ما ذكرنا في معنى الرواية ينقدح الخلل في هذا الكلام من جهات كثيرة :

من جهة أنّ السؤال في الرواية إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ، لا عن الأمارة الكاشفة بعد وضوح معناها عند السائل . وعليه : فقوله(عليه السلام) في الجواب : «أن تعرفوه» بيان لحقيقة العدالة وماهيّتها في لسان الشارع .

ومن جهة أنّه على تقدير كون السؤال عن الأمارة ، تكون الأمارة هي نفس عناوين الستر والعفاف وأشباههما ، لا المعروفيّة بهذه العناوين ، وليت شعري أنّه ما معنى كون الكاشف هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ; فإنّ جعل مثل الستر كاشفاً في مقابل الاشتهار والمعروفيّة ممّا لا يتصوّر ; فإنّه إن كان الكاشف هو المعروفيّة ، فلا وجه لكون الستر بنفسه كاشفاً . وإن كان الكاشف هو الستر ، فلا معنى لكون المعروفيّة كاشفة في مقابل الستر . ثمّ إنّه بعد ما لا تكون الملكة معتبرة في العدالة ـ كما هو مدّعاه ـ لا يظهر وجه لكون مثل الستر والعفاف كاشفاً


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 268 ـ 270 .
(الصفحة 328)

عنها ; لعدم المغايرة بين الكاشف والمكشوف عنه أصلا .

ومن جهة دلالة عناوين الستر والعفاف وأشباههما على اعتبار الملكة ، كما عرفت .

ومن جهة أنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» تتمّة للمعرّف الأوّل وجزء لمعنى العدالة ومفهومها ، لا أمارة عليها ، بل لا وجه للأماريّة بعد عدم دخالة الملكة في شيء من المعرِّف والمعرَّف ; فإنّه أيّ فرق بين اجتناب الكبيرة ، وبين مثل الستر والعفاف . وإن أُريد بهما المعروفيّة ، فمن الواضح أنّ مجرّد الاجتناب لا دلالة فيه على المعروفيّة أصلا .

ومن جهة أنّ التعاهد للصلوات الخمس لم يجعل في الرواية طريقاً لخصوص الاجتناب عن الكبيرة ، بل هو جزء من الطريق المركّب منه ، ومن كونه ساتراً لجميع عيوبه بالنحو الذي ذكرنا .

ومن غير هذه الجهات الذي لا يكون مخفيّاً على المتأمّل فيما ذكرناه وما أفاده .

في الكبيرة والصغيرة

والكلام في هذا الباب يقع في أمرين :

الأمر الأوّل : صحّة تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، واختلاف المعاصي من هذه الجهة التي يرجع إلى اتّصاف بعضها بكونها كبيرة مطلقة ، وبعضها الآخر بكونها صغيرة كذلك ، فنقول :

غير خفيّ على الناظر في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) أنّها مشعرة


(1) في ص 313 ـ 314 .
(الصفحة 329)

بل دالّة على أنّ المعاصي الشرعيّة على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . كما أ نّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد الله تعالى عليها النار ، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، كما هو الظاهر .

ويدلّ على ذلك قبل الرواية قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ}(1) . وقوله تعالى  : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـلـِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَ حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}(2) . حيث إنّ الآيتين تدلاّن على اتّصاف بعض المنهيّات والآثام بوصف الكبر ، وبعض آخر بخلافه .

نعم ، تمكن المناقشة في الجميع ; بأ نّه لا دلالة لشيء منها على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفادها أنّ الأُمور التي تعلّق بها النهي ، وينطبق عليها عنوان الإثم على قسمين ، وحيث إنّ النهي على قسمين : تحريميّ ، وتنزيهيّ ، فيمكن أن يكون المراد بالكبيرة خصوص ما تعلّق به النهي التحريمي ، الشامل لجيمع المعاصي في قبال ما تعلّق به النهي التنزيهي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع منه أصلا ، كما أنّ انطباق الإثم عليه أيضاً كذلك ، ولا يكون في الرواية دلالة على أنّ المضاف إليه في قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» هو خصوص المعاصي ، فلعلّ المراد به المنهيّات التي تكون أعمّ من المعاصي .

ولكنّ الظاهر أنّ هذه المناقشة موهونة ، والاحتمال لا يقاوم ظهور الآيتين والرواية في كون المحرّمات والمعاصي على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . ويؤيّده ما عرفت من ظهور الرواية في كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، وأنّها بصدد إفادة


(1) سورة النساء : 4 / 31 . (2) سورة النجم : 53 / 32 .
(الصفحة 330)

الضابطة ، ومن المعلوم عدم جريانها في جميع المعاصي والمحرّمات ; لعدم إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها النار ; لأنّ الظاهر أنّ المراد به هو الإيعاد عليه بالخصوص ، لا الإيعاد بنحو العموم في مثل قوله تعالى : {وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و فَإِنَّ لَهُ ونَارَ جَهَنَّمَ}(1) الآية .

وأمّا الأصحاب ، فالقدماء منهم لا يظهر من كلماتهم هذا التقسيم أصلا . نعم ، ذكر ذلك الشيخ(قدس سره) في كتاب المبسوط ، حيث قال ـ بعد تفسير العدالة في الشريعة بأنّها عبارة عن العدالة في الدين ، والعدالة في المروءة ، والعدالة في الأحكام ، وبعد تفسير كلّ واحد من هذه الأُمور الثلاثة ـ : فإن ارتكب شيئاً من الكبائر ـ ثمّ عدّ جملة منها ـ سقطت شهادته ، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر ، مواقعاً للصغائر ; فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي ، وكان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي ، واجتنابه لذلك نادراً لم تقبل شهادته . قال : وإنّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ; لأنّا لو قلنا : إ نّه لا  تقبل شهادة من أوقع اليسير من الصغائر ، أدّى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي(2) .

ولكنّه أورد عليه ابن إدريس بقوله : «وهذا القول لم يذهب إليه(رحمه الله) إلاّ في هذا الكتاب ; أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ; لأ نّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلاّ بالإضافة إلى غيرها ، وما خرّجه واستدلّ به من أ نّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ;


(1) سورة الجنّ : 72 / 23 . (2) المبسوط : 8 / 217 .
(الصفحة 331)

لأ نّه قادر على التوبة من ذلك الصغير ، فإذا تاب قبلت شهادته ، وليست التوبة ممّا يتعذّر على إنسان ، ولا شكّ أنّ هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ونصره ، وأورده على جهته ولم يقل عليه شيئاً ; لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب(1) .

وذهب جماعة اُخرى من القدماء أيضاً إلى أنّ المعاصي كلّها كبيرة (2)، ولكنّ المشهور بين المتأخّرين ، بل المنسوب إلى أكثر العلماء ، أو إلى العلماء ، أو إلى المشهور المعروف ، هو اختلاف المعاصي (3) واتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته وبعضها بالصغر كذلك .

والتحقيق أ نّه لا مجال للمناقشة في أصل التقسيم ; لأ نّه ـ مضافاً إلى ما عرفت من دلالة الكتاب والسنّة عليه ـ يدلّ على ذلك أ نّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق ، وهذا الذي ليس له فوق ، كما أ نّه كبيرة بالإضافة إلى ما دونه من الذنوب ، كذلك كبيرة في حدّ نفسها وبقول مطلق ; إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه ـ كما هو المفروض ـ حتى يتّصف هذا الذنب بالصغر بملاحظته .

وهكذا الأمر في طرف الصغيرة ; فإنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب لم يكن دونه ذنب ، وهذا الذي ليس تحته ذنب ، كما أ نّه


(1) السرائر : 2 / 118 . (2) أوائل المقالات ، ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد: 4 / 83 ـ 84 ، العُدّة في اُصول الفقه: 1 / 139 ، مجمع البيان: 3 / 67، وراجع الكافي في الفقه: 435 ، والمهذّب: 2 / 556، كما حكى عنهما في مسالك الأفهام: 14 / 166 . (3) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 318 ـ 320 ، مصابيح الظلام : 1/444 ، مفتاح الكرامة : 3 / 89 ، جواهر الكلام : 13/305 .
(الصفحة 332)

صغيرة بالإضافة إلى ما فوقه ، كذلك هي صغيرة بقول مطلق ، إذ المفروض أ نّه ليس تحته ذنب أصلا ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام بوجود الكبيرة والصغيرة بقول مطلق . وعليه : فلا مانع من الأخذ بمقتضى الروايات الدالّة على وجود الكبائر وتعدادها .

غاية الأمر أنّ اختلافها ـ كما سيجيء(1) ـ محمول على اختلاف المراتب ، كما أ نّه في نوع واحد من الكبائر يتصوّر المراتب أيضاً ; فإنّ الظلم مثلا الذي هو من الكبائر له مراتب يختلف على حسب اختلافها من حيث شدّة المعصية وعدمها ، وكذلك غيره من الكبائر ، وهذا هو الذي يساعده الاعتبار أيضاً .

[كلام بحر العلوم في تعداد الكبائر، وإيراد صاحب الجواهر عليه]

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في عدد الكبائر ، والمحكيّ عن العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) أ نّه بعد اختياره ما عليه المشهور ـ من أنّ الكبائر هي المعاصي التي أوعد الله سبحانه عليها النار أو العذاب ; سواء كان الوعيد بالنار صريحاً أو ضمنياً ـ حَصَرَ الوارد في الكتاب في أربع وثلاثين ، منها : أربع عشرة ممّا صرّح فيها بخصوصها بالوعيد بالنار ، وأربع عشرة قد صرّح فيها بالعذاب دون النار ، والبقيّة ممّا يستفاد من الكتاب وعيد النار عليها ضمناً أو لزوماً .

أمّا ما صرّح فيها بالوعيد بالنار :

فالأوّل : الكفر بالله العظيم ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّـلُمَـتِ أُولَـلـِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا


(1) في ص347 ـ 348 .
(الصفحة 333)

خَــلِدُونَ}(1) . وغير ذلك ، وهي كثيرة .

والثاني : الإضلال عن سبيل الله ; لقوله ـ تعالى ـ : {ثَانِىَ عِطْفِهِ ى لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ و فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ نُذِيقُهُ و يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}(2) . وقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(3).

والثالث : الكذب على الله تعالى والافتراء عليه ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}(4) . وقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَـعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }(5) .

وقد أورد عليه في الجواهر بأ نّه ليس في الآية الثانية ذكر النار(6) .

والرابع: قتل النفس التي حرّم الله قتلها، قال الله ـ تعالى ـ : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ و جَهَنَّمُ خَــلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ و وَأَعَدَّ لَهُ و عَذَابًا عَظِيمًا}(7).

وقال ـ عزّ وجلّ ـ : {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَن يَفْعَلْ


(1) سورة البقرة : 2 / 257 . (2) سورة الحج : 22 / 9 . (3) سورة البروج : 85 / 10 . (4) سورة الزمر : 39 / 60 . (5) سورة يونس : 10 / 69 ـ 70 . (6) جواهر الكلام : 13 / 311 . (7) سورة النساء : 4 / 93 .
(الصفحة 334)

ذَ لِكَ عُدْوَ نًا وَظُـلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَ لِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(1) .

والخامس: الظلم ، قال الله ـ عزّوجلّ ـ: {إِنَّـآ أَعْتَدْنَا لِلظَّــلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَ إِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُواْ بِمَآء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَ سَآءَتْ مُرْتَفَقًا}(2) .

والسادس : الركون إلى الظالمين ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَـلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(3) .

والسابع : الكبر ; لقوله ـ تعالى ـ : {فَادْخُلُوا أَبْوَ بَ جَهَنَّمَ خَــلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }(4) .

والثامن : ترك الصلاة ; لقوله ـ تعالى ـ : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ*  قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}(5) .

والتاسع : المنع من الزكاة ; لقوله ـ سبحانه ـ : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم*  يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }(6) .

والعاشر : التخلّف عن الجهاد ; لقوله ـ سبحانه ـ : {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ


(1) سورة النساء : 4 / 29 ـ 30 . (2) سورة الكهف : 18 / 29 . (3) سورة هود : 11 / 113 . (4) سورة النحل: 16 / 29 . (5) سورة المدّثر : 74 / 42 ـ 43 . (6) سورة التوبة : 9 / 34 ـ 35 .
(الصفحة 335)

خِلَـفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَـهِدُواْ بِأَمْوَ لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ }(1) .

والحادي عشر : الفرار من الزحف ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـلـِذ دُبُرَهُ و إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة فَقَدْ بَآءَ بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَلـهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(2) .

والثاني عشر : أكل الربا ; لقوله ـ عزّ وجلّـ : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـنُ مِنَ الْمَسِّ ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا فَمَن جَآءَهُو مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِى فَانتَهَى فَلَهُو مَاسَلَفَ وَأَمْرُهُو إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَـلـِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَــلِدُونَ}(3) .

والثالث عشر : أكل مال اليتيم ظلماً ; لقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَ لَ الْيَتَـمَى ظُـلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(4) .

والرابع عشر : الإسراف ; لقوله ـ عزّ وجلّـ : {وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـبُ النَّارِ }(5) .

وأمّا المعاصي التي وقع التصريح فيها بالعذاب دون النار فهي أربع عشرة أيضاً : الأوّل : كتمان ما أنزل الله ; لقوله ـ عزّ وجلّـ : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ


(1) سورة التوبة : 9 / 81 . (2) سورة الأنفال : 8 /16 . (3) سورة البقرة : 2 / 275 . (4) سورة النساء : 4 / 10 . (5) سورة غافر : 40 / 43 .
(الصفحة 336)

الْكِتَـبِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِى ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـلـِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَ لاَ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) .

الثاني : الإعراض عن ذكر الله ; لقوله ـ عزّ وجلّـ : {وَ قَدْ ءَاتَيْنَـكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا* مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ و يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وِزْرًا* خَــلِدِينَ فِيهِ وَ سَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ حِمْلاً}(2) .

هذا ، والظاهر أنّ المراد بالذكر في الآية هو الكتاب العزيز ، الذي عبّر عنه بالذكر في بعض الآيات الأُخر أيضاً ; كقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُو لَحَـفِظُونَ}(3) .

وقد فصّلنا القول في تفسير هذه الآية ، وإثبات أنّ المراد بالذكر فيها هو القرآن المجيد ، في رسالتنا في مسألة عدم التحريف (4)، وبالجملة : فالآية المستدلّ بها لا  تنطبق على عنوان الإعراض عن ذكر الله ، إلاّ أن يكون المراد بالذكر في العنوان أيضاً هو القرآن بقرينة الاستدلال بالآية ، فتدبّر .

الثالث : الإلحاد في بيت الله عزّ وجلّ ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ مَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِم بِظُـلْم نُّذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم}(5) .

الرابع : المنع من مساجد الله ; لقوله ـ تعالى شأنه ـ : {وَ مَنْ أَظْـلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ و وَ سَعَى فِى خَرَابِهَآ أُولَـلـِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن


(1) سورة البقرة : 2 / 174 . (2) سورة طه : 20 / 99 ـ 101 . (3) سورة الحجر : 15 / 9 . (4) مدخل التفسير: 197 وما بعدها . (5) سورة الحج : 22 / 25 .
(الصفحة 337)

يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآلـِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1) .

الخامس : أذيّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)  ; لقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَ الاَْخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}(2) .

السادس : الاستهزاء بالمؤمنين ; لقوله ـ عزّ وجلّـ : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَـتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(3) .

السابع والثامن : نقض العهد واليمين ; لقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَـنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـلـِكَ لاَ خَلَـقَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4) .

التاسع : قطع الرحم ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنم بَعْدِ مِيثَـقِهِى وَ يَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِى أَن يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ أُولَـلـِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(5) .

وقال ـ عزّوجلّ ـ : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ* أُولَـلـِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمَى أَبْصَـرَهُمْ}(6) .

وأورد عليه في الجواهر بأنّ «أُولئك» في الآية الأُولى لم يعلم كونه إشارة إلى كلّ


(1) سورة البقرة 2 : 114 . (2) سورة الأحزاب : 33 / 57 . (3) سورة التوبة : 9 / 79 . (4) سورة آل عمران : 3 / 77 . (5) سورة الرعد : 13 / 25 . (6) سورة محمّد(صلى الله عليه وآله) : 47 / 22 ـ 23 .
(الصفحة 338)

واحد من النقض والقطع والإفساد ، والآية الثانية ـ مع ذلك ـ لم تشتمل على وعيد بالعذاب ، إلاّ أن يقال : إ نّه يفهم من اللعن وما بعده(1) .

العاشر : المحاربة وقطع السبيل ، قال الله ـ تعالى ـ : {إِنَّمَا جَزَ ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ و وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الاَْرْضِ ذَ لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2) .

وأورد عليه في الجواهر ، بأ نّه قد يرجع ذلك إلى الكفر والوعيد على الأمرين  معاً(3) .

الحادي عشر : الغناء ; لقوله ـ تعالى ـ : { وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـلـِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(4) .

الثاني عشر : الزنا ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَ لِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَـعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِى مُهَانًا }(5) .

الثالث عشر : إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ، قال الله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(6) .

الرابع عشر : قذف المحصنات ، قال الله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـتِ


(1) جواهر الكلام : 13 / 314 . (2) سورة المائدة : 5 / 33 . (3) جواهر الكلام : 13 / 314 . (4) سورة لقمان : 31 / 6 . (5) سورة الفرقان : 25 / 68 ـ 69 . (6) سورة النور : 24 / 19 .
(الصفحة 339)

الْغَـفِلَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَ الاَْخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1) .

وأمّا المعاصي التي يستفادمن الكتاب العزيزوعيدالنارعليهاضمناًولزوماًفهي ستّة :

الأوّل : الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، قال الله ـ عزّوجل ـ : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـلـِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ}(2) .

الثاني : اليأس من روح الله عزّوجلّ ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَايْـَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ و لاَ يَايْـَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَـفِرُونَ}(3) .

الثالث : ترك الحجّ ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَــلَمِينَ}(4) .

الرابع : عقوق الوالدين ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَ بَرَّ ما بِوَ لِدَتِى وَ لَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا}(5) . مع قوله ـ تعالى ـ : {وَ خَابَ كُلُّ جَبَّار عَنِيد* مِّن وَرَآلـِهِى جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآء صَدِيد }(6) .

وقوله ـ تعالى ـ : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ}(7) .

الخامس : الفتنة ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}(8) .

السادس : السحر ، قال الله ـ تعالى ـ : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُواْ الشَّيَـطِينُ عَلَى مُلْكِ


(1) سورة النور 24 : 23 . (2) سورة المائدة : 5 / 44 . (3) سورة يوسف : 12 / 87 . (4) سورة آل عمران : 3 / 97 . (5) سورة مريم : 19 /32 . (6) سورة إبراهيم : 14 / 15 ـ 16 . (7) سورة هود : 11 / 106 . (8) سورة البقرة : 2 / 191 .
(الصفحة 340)

سُلَيْمَـنَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَـنُ وَ لَـكِنَّ الشَّيَـطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ مَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـرُوتَ وَ مَـرُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِى بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِى وَ مَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِى مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لاَ يَنفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَ لـهُ مَالَهُو فِى الاَْخِرَةِ مِنْ خَلَـق وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِى أَنفُسَهُمْ لَوْكَانُوا يَعْلَمُونَ}(1) .

انتهى محكيّ ما أفاده العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) في هذا الباب(2) ، وظاهره أنّ الملاك هو إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ في خصوص الكتاب العزيز .

وأورد عليه صاحب الجواهر(قدس سره) ستّة إيرادات :

أحدها : أ نّه يلزم على ما ذكر من حصر الكبائر في هذا العدد أن يكون ما عداها صغائر ، وأ نّه لا يقدح في العدالة فعلها ، بل لابدّ من الإصرار ، وبدونه تقع مكفّرة لا  تحتاج إلى توبة ، فمثل اللواط ، وشرب الخمر ، وترك صوم يوم من شهر رمضان ، وشهادة الزور ، ونحو ذلك من الصغائر التي لا تقدح في العدالة ، ولا تحتاج إلى توبة ، بل تقع مكفّرة ، ولا يثبت بها جرح ، وهو واضح الفساد ، وكيف يمكن الحكم بعدالة شخص قامت البيّنة على أ نّه لاط في غلام في زمان قبل زمان أداء الشهادة بيسير ، كما لا يخفى على المخالط لطريقة الشرع ؟!

وإن شئت فانظر إلى كتب الرجال وما يقدحون به في عدالة الرجل ، على أ نّ في رواية ابن أبي يعفور السابقة(3) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج


(1) سورة البقرة : 2 / 102 . (2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 3 / 92 ـ 94 وجواهر الكلام : 13 / 310 ـ 316 . (3) في ص313 .