جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
حماة الوحي « کتابخانه « صفحه اصلى  

<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>


(الصفحة21)

الموجود أو الكلمة هو عيسى ، وتوكل التفاصيل إلى محلّها(1) .
«الابتلاء» الامتحان والتمحيص ، ولمّا كان أصله هو البلاء ، فكلّ تمحيص وامتحان اشتمل على البلاء والمصاعب كان ابتلاءً .
«الإتمام»: الإكمال والإتقان .

الهدف من الامتحان:
الهدف من الامتحان هو دراسة قوى الشخص الممتحن والوقوف على استعداداته بالنسبة للمادّة التي تخضع للامتحان ، فلو امتحن شخص في مسألة رياضية ، فإنّه يكون موفّقاً في الامتحان ويُكتب له النجاح إذا تمكّن من حلّ المسألة بصورة صائبة ، أمّا إذا عجز عن حلّها وفشل عن الإتيان بالإجابة الصحيحة ، إلاّ أنّه كتبها بخطّ واضح جميل فإنّ درجته في الامتحان صفر رغم أ نّه أجاد كتابتها بخطّ لطيف .
لقد محّص إبراهيم بعدّة حقائق مريرة وقد اجتازها بقوّة ، وقد خرج مرفوع الرأس أمام الحقّ المطلق في هذا الاختبار والتمحيص .
نعم ما محّص به إبراهيم كان بعض الحقائق الصعبة المريرة ، أمّا الغرض من ذلك التمحيص فقد تمثّل بالوقوف على صموده وتجلّده تجاه تلك الحقائق ، وحيث نجح في الامتحان ، فقد اتّضح بأنّه عالم ثابت الجِنان صلب بالنسبة لمواد الامتحان .

النبي إبراهيم والتمحيص :
1 ـ لقد محّص إبراهيم بالإنابة إلى الله والتوكّل على الحقّ والحقيقة والتوحيد ، فخرج من هذا التمحيص مطمئنّ القلب ذا يقين خالص; وعليه فإبراهيم كان رجلاً


(1) اُنظر تفسير «كلام الحقّ» لآية الله الإشراقي .

(الصفحة22)

موقناً وثابت الجنان منقاداً للحق مسلماً للذات الإلهية المقدّسة .
2 ـ إنّ إبراهيم كان يعتمد على علم جمّ في إثبات مفهوم التوحيد ووجود واهب الوجود بحيث بهت خصمه ولفّته الحيرة من منطق إبراهيم وأدلّته وبراهينه المحكمة .
3 ـ كانت شخصية إبراهيم لا تعرف للقومية والوطنية والقبلية من معنى في قبال الذوبان والفناء في الله والثبات على العقيدة .
4 ـ أبدى إبراهيم غاية الصبر والصمود والمقاومة من أجل عقيدته ودافع عنها مستميتاً .
5 ـ كان خلع حبّ الدنيا عن قلب إبراهيم ـ وعدم اغتراره بزبرجها ـ هيناً عليه في جنب طاعة الله والتسليم لأوامره .
6 ـ كشف إبراهيم عن مدى شجاعته وعمق شخصيته الذاتيّة في إطار مواجهته لطاغوت عصره نمرود .
7 ـ أثبت إبراهيم باستجابته لذبح ابنه مدى زهده في الدنيا وعشقه للجمال الإلهي المطلق ، وأنّه لا يملك لنفسه من خيرة تجاه أمر الله سوى الطاعة والتسليم ، وليس هناك من علاقة أسمى من العلاقة بالله والرغبة بامتثال أوامره ، وليس هنالك من أثر يمكنه الحدّ من هذه العلاقة حتّى رابطة الأب بابنه وإن كان وحيده ، فقد ملئ قلبه بحبّ الله ولم يدع فيه مثقال حبّة من خردل لحبّ غيره .

مواد التمحيص :
يتبيّن من النقاط آنفة الذكر أنّ المواد التي مُحّص فيها إبراهيم ، وقد اجتازها بنجاح هي عبارة عن: اليقين التامّ والإدراك الكامل للحقّ والحقيقة وخالق العالم ،

(الصفحة23)

والصبر والاستقامة لإثبات وجود الله ، وامتلاكه الحجّة القاطعة والعلم الذي يدعو للحيرة والذهول ، والحلم والتضحية والزهد والتغاضي عن زخارف الدنيا وزبرجها ، والشجاعة والمروءة واحتمال الصعاب ، ومحاربة الأفكار الضالّة وعدم التأثّر بعواطف العوامّ إلى آخر ما هنالك .
أجل لقد مُحّص إبراهيم بهذه المواد وقد وفّق فيها جميعاً ، وهو نبيّ ، فلمّا مُحّص بهذا التمحيص وكُتب له النجاح والتوفيق جعله الله إماماً مُفترض الطاعة على الناس .
إذن: فالإمامة لا تتوقّف على قوميّة الشخصية أو روابطها النسبية ، وهي ليست تفويضية ، كما أنّها ليست خاضعة لآراء الأمّة ووجهات نظرها من أجل تحديد مصير البلاد والإسلام ، ولا يمكن لرأي أفراد الأمّة أن يعيّن الزعامة على الأمّة على ضوء النظرة الإسلامية ، بل الإمامة في عرض النبوّة وتابعة للإرادة الإلهية وهي منصب ربّاني رفيع لا يشغله إلاّ من كان له علم كاف ودراية بالأحكام والتعاليم الإلهية وإشاعة روح التوحيد ، ليتسنّى له الردّ على الشبهات والإشكالات التي تثيرها سائر الأديان ضدّ الله والدين ، وتفنيد النظريات والفرضيات الجديدة التي تهدف إلى زعزعة أساس التوحيد .
وعلى هذا فلابدّ أن يكون عالماً بأفكار الناس وعقائدهم واُسلوب تفكيرهم ، إلى جانب وقوفه على العلوم التي من شأنها تهديد الدين الإسلامي الحنيف .
بل الإمام هو الشخص الذي لا تأخذه في الله لومة لائِم ولا يخشى القِتال من أجل الإسلام ، وألاّ يُكلّف سوى نفسه في هذا الشأن .
والإمام هو الشخص الذي لا تزحزحه الشدائد والويلات والمصائب المروّعة عن الاستقامة والثبات على الحقّ ، فهو مثال الصبر والحلم .


(الصفحة24)

والإمام هو الشخص الذي ليس لزخارف الدنيا وزينتها من سبيل إلى روحه الآمنة ونفسه المطمئنّة .
والإمام هو الشخص المُستقيم والصامد المضحّي الذي ليس لأفكار العامّة وخرافاتها وانصياعها للأراجيف والأوهام أن تبعده عن الدفاع عن العقيدة ، ويعيش الاستقامة والصلابة تجاه العواطف الطائشة البعيدة عن التعقّل والمنطق .
وأخيراً فالإمام هو الشخص الذي يمتلك الشجاعة والإقدام الذي لا يدعه يصمت مقابل القوّة الجبّارة التي تناهض الله والحقّ ، بل تدفعه شجاعته لإحقاق الحقّ والإفصاح عن حقائق الدين .
ما مرّ معنا كان قبسات مقتضبة من شرائط الإمامة ، وسنخوض بصورة أكثر تفصيل في هذا الموضوع من خلال دراسة الآيات الأُخرى الواردة بهذا الشأن .


(الصفحة25)




الدليل الثاني من القرآن

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُولِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالْرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً}(1) .
كلمة «أمر» لفظ عامّ يشمل جميع الأقوال والأفعال ، ويمكن اعتباره هنا بمعنى أعمال المجتمع وشؤوناته .
ولا يُستبعد هنا أن يكون المُراد بالأمر المعنى الاصطلاحي ، فيكون المُراد بأولي الأمر في هذه الحالة الأفراد الذين لهم صلاحية الآمرية أو إصدار الأوامر ، وكأنّ أوامرهم على درجة من الاعتبارية ووجوب الاتّباع بحيث عرفوا في القرآن بهذه الصفة «اُولي الأمر» أي الأفراد المطاعون في كلّ ما يأمرون به ، فالصفة المذكورة ملازمة لهم ، وهي من قبيل الصفة التي ينعت بها بعض الناس الذين ينشطون في مجال الصناعة والاستثمار ، حتّى صارت صفتهم التي يعرفون بها فيطلق


(1) سورة النساء: الآية 59  .

(الصفحة26)

عليهم أصحاب الصناعة .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ هناك جماعة من الناس تميّزت في إسلاميتها بحيث وجبت طاعتهم فيما يأمرون وينهون ، ومنصبهم هو منصب إلهي يتميّز بالإمرة حتّى عرفوا بأنّهم «اُولي الأمر» .
وبالطبع فإنّ هنالك مسألة لم يلتفت إليها البعض من أولئك الذين خاضوا في مِصداق اُولي الأمر أو استغرقوا في مفهومه ، فذهبوا إلى أنّ الأمر بمعنى شأن من الأفعال والأقوال ، ففسّروا اُولي الأمر على أنّهم الأفراد الذين تكون كافّة الشؤون والاُمور تحت تصرّفهم وولايتهم .

بحث في الآية المباركة:
الطاعة هي اتّباع الأمر ، إذن فمفهومها يفيد صدور الحكم والأمر من المطاع ، طبعاً الأصل الأوّلي هو عدم وجود حكومة وإمرة لفرد على فرد آخر . فالإنسان كائن خُلِق حرّاً ، وينبغي أن يعيش الحرية في الفكر والعمل ، فالحرية جزء من فطرة الإنسان والأصل الابتدائي لخلقته الإنسانية ، وذلك لأنّه مجهّز بالفكر والعقل والإرادة ، ولا معنى لسلبه حرية التفكير والإرادة ، فهو إنّما يستطيع اتّخاذ القرار في تقرير مصيره وأعماله وأفعاله على ضوء العقل ، الفصل المميّز للإنسان ، فهو يشخص الأمور بقوّة العقل ثمّ تأتي إرادته في تحقيق الصالح من الطالح من الأعمال .
وبناءً على هذا فهو حرٌ ومختار في تقرير مصيره وأعماله وأفعاله على ضوء إدراكه وعقله ، وليس للآخرين من سبيل لأن يجرّدوه من حريته في الفكر والعمل واتخاذ القرار وأن يفرضوا قوّتهم على إرادته . أضف إلى ذلك أنّ الفرد الذي يرى نفسه خاضعاً لتشخيص الآخرين وامتثال أوامرهم ونواهيهم إنّما هو فرد ذليل ; لأنّه ليس هنالك من امتياز لأحد على آخر في الخلقة الاُولى حتّى يستسلم فرد

(الصفحة27)

لآخر، ولذلك نقول بأنّ الأصل الأوّلي هوعدم حكومة فرد لفردآخر أو عدّة أفراد.
وعلى ضوء ما تقدّم فإن كان هنالك بعض الأفراد الذين يتمتّعون ببعض السمات والامتيازات فهم يتمتّعون ببُعد الآمرية قطعاً .
كالأفراد الذين يضاعفون من قواهم العقلية إثر كثرة الدراسات والتحقيقات العلمية والتجارب في الحياة ، فتكون لهم قدرة تميِّزهم عن الآخرين في تشخيص الأمور وتحديد العناصر الأساسية التي تلعب دوراً في تحقيق سعادة الإنسان وفلاحه ، فمثل هؤلاء الأفراد وبفضل كونهم أكثر دراية وبصيرة وأعظم قوّة واقتداراً وملكة عقلية في إدراك الأمور بما لا يسع الآخرين دركه أن يكون لهم حقّ الإمرة والحكومة على الأفراد الذين يفتقرون لتلك المواصفات .
ولذلك نرى الفطرة تقود إلى هذا النهج والأُسلوب ، فالطفل الذي يقصّر عن تشخيص الأشياء أو يفتقر لهذا التشخيص يطيع والديه ويمتثل ما تقتضيه مشيئتهما ، وهذا ما عليه الحال بالنسبة للجاهل تجاه العالم ، والفرد الخام إزاء الناضج ، والقلق الخاوي حيال المستقرّ المحكم ، فهو يطيعه ويقتفي أثره في طريقة حياته .
إذن فالأصل الأوّلي يفيد عدم تميّز الأفراد على بعضهم البعض ، والحرّية في العمل ، وعدم حكومة فرد لآخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل قد يخرق في بعض الحالات ولا يمكن تطبيقه ، فإذا كان هناك شخص أو أشخاص يتمتّعون بقدرات فكريّة وعقليّة تفوق الآخرين ، فإنّ الفطرة تقتضي في هذه الحالة بضرورة تبعيّة الجاهل للعالم والناقص للكامل والضعيف للقوي .
أمّا الأمر المهمّ الذي لا ينبغي أن يغيب عنّا هنا هو أنّ طاعة الجاهل للعالم لاتقتصر على علمه فقط ، وانقياد الفرد البسيط للناضج الحكيم إنّما يختص بما له فيه الحكمة وهكذا دواليك .
ولكن إذا فرضنا فرداً كان نموذجاً للآخرين في تجاربه ، ويفوق جميع الناس

(الصفحة28)

علماً وعملا وقدرة وبصيرة وفكراً وإحاطة بدقائق الأُمور ، وكان وجوده علماً وإدراكاً ودراية وحكمة ، ولم يقصر ببصره على الدنيا ، بل امتدّ نظره إلى الآخرة بما يجعله قادراً على إرشاد الناس وهدايتهم إلى الفلاح والسعادة والفوز بالحياة الأبديّة ، بل إذا كان علمه خارقاً محيطاً بجميع الكمالات والسعادات الأبديّة ، وكان له عقل نوراني ليس معه ظلمة ، بل كان كائناً ملائكياً ومنبعاً للفضائل والخصال الحميدة ، فهل ترى الفطرة في هذه الحالة أن تكون طاعته محصورة في حدود معينة ، كأن يُطاع في مورد ويعصى في آخر؟ أم أنّ الفطرة تقتضي التسليم له واتّباعه حيثما حلّ والاستسلام إلى حكومته وتفويضه كافّة مقدّرات حياته ، ليتسنى له أن يبلغ الكمال الإنساني ، وبالتالي يكون المجتمع مجتمعاً مقتدراً فاضلا يسوده العدل والقسط حتّى تصبح البلاد في ظلّ طاعته بمثابة المدينة الفاضلة؟
لاشكّ أنّ حكم العقل واقتضاء الفطرة يرى أنّ طاعة مثل هؤلاء الرِجال العِظام لابدّ أن تكون طاعة مطلقة عمياء ، وسوف لن تعدّ هذه الطاعة مذمومة ، ولا   تتعارض مع الوجدان والعقل ولا تتضارب والطبيعة الأُولى في عدم أحقيّة حكومة فرد لآخر ، بل هي طاعة سليمة كما يراها العقل ويدعو إليها .
فالذي نخلص إليه ممّا سبق أنّ الأصل الأوّلي وإن أفاد عدم حكومة وإمرة فرد على آخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل لا يصدق في بعض الأحوال; لأنّ العقل يحكم بلزوم طاعة الأُمّة لأفرادها من ذوي الفضل والكمال ، لكن إذا كان فضله وامتيازه محدوداً كانت طاعته محدودة أيضاً ، وإن كانت امتيازاته مطلقة كانت طاعته مطلقة في كلّ شيء .

لمن الطاعة ؟
سؤال : إنّ ما قيل على سبيل الفرض هو عين الصواب; لأنّ العقل يقضي

(الصفحة29)

بالطاعة المطلقة للإنسان بالصيغة المذكورة سابقاً ، أي إذا كان المُطاع هو فرد أكمل من الجميع في كافّة الكمالات وأعلمهم في جميع العلوم الإنسانية وأعرفهم بسبيل سعادة الإنسان وفلاحه ، فإنّ العقل يحكم بجواز بل بوجوب طاعته ، ولكن أين مثل هذا الفرد؟ ولمن ينبغي أن يسند هذا المقام لنطيعه؟
جواب : لقد تكفّلت الآية القرآنية ـ آنفة الذكر ـ بحلّ إشكالية هذا السؤال ، فالطاعة المطلقة لله ، والله هو الذي عدّ طاعة الرسول كطاعته ، كما أنّ الله هو الذي أوجب طاعة أُولي الأمر .
وعليه فمصداق ذلك الفرد ليس سوى رسول الله وأُولي الأمر ، لكن يبدو أ نّ هناك نقطة مهمّة وردت في الآية لابدّ من الالتفات إليها ، فقد وردت لفظة «الطاعة» مكرّرة في الآية ، حيث قالت: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ونفهم من هذا التكرار أنّ طاعة رسول الله في طول طاعة الله ، فطاعة الله لا ينبغي أن يتخلّلها أيّ تأمّل ولا يشوبها أيّ توقّف ، أمّا طاعة الرسول الواقعة في طول طاعة الله فهي إنّما تنتهي إلى إرادة الله وتؤدّي إلى تحقّق التوحيد والعدل والفضائل ، وإلاّ فإنّ طاعة الرسول ليست لازمة قطّ إذا كانت على الخلاف من ذلك ، وكان السبيل الذي يسلكه لا ينتهي إلى الله والفضيلة وتحقيق السعادة للناس ولا يقود إلى الكمال ، بينما قال سبحانه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي أنّ ما يقوله إنّما هو الشيء الذي يجب أن يؤول إليه البشر ، والحكومة التي ينهض بها إنّما تمثّل الحكومة التي يجب أن تنضوي كافة الإنسانية تحت لوائها ، لتتمكّن الأُمّة في ظلّ تلك الحكومة وزعامة ذلك القائد أن تنال الحياة الآمنة والوادعة المستقرّة المشتملة على السعادة ، وأن تجعل دنيا الناس حرّة سعيدة متّصلة بالآخرة بعيدة عن كلّ خمول وتخلّف ، سواء في الحياة الدنيوية أو في كسب الفضائل والتزوّد للحياة الاُخروية الأبديّة .
ثمّ أردفت عبارة الآية {وأَطِيعُوا اللَّهَ} بقوله تعالى: {وَأُوْلِى الاَْمْرِ} ولم تتكرر

(الصفحة30)

كلمة «الطاعة» ويعود عدم تكرار الطاعة إلى تساوي ووحدة هدف طاعة الرسول وطاعة أُولي الأمر ، فكما أنّ طاعة الرسول تؤدّي إلى السعادة والفلاح وحكومته تبسط الاستقرار وتشيع الخير والصلاح فإنّ طاعة أُولي الأمر كذلك .
إذن فطاعة الرسول هي طاعة أُولي الأمر ، وليس هنالك أدنى تفاوت واختلاف في الآثار والفوائد التي تترتّب على كلّ طاعة ، سواء كانت طاعة الرسول أم طاعة أولي الأمر .
وعوداً إلى الآية الشريفة ، فإنّها ذكرت طاعة النبي وأُولي الأمر وأوجبتها بصورة مطلقة ، وحيث أوردتها على نحو الإطلاق ، فإنّ ذلك يعني أنّ طاعتهم لازمة في كلّ الأُمور .
وعلى ضوء هذا الإطلاق وما ورد في المقدّمة يتحصّل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولاة الأمر إنّما هم أفراد يتمتّعون بقوى وقدرات تفوق سائر البشرية ، كما يتبيّن أنّهم في قمّة السموّ وذروة الكمال الإنساني ، وهم أعظم من غيرهم في العقل والإدراك والبصيرة والخبرة بكافّة حوادث الدنيا وطرق السعادة والفلاح ، بحيث يحكم العقل وتقضي الفطرة بوجوب تسليم كافّة العُقلاء والعلماء والمجرّبين فضلا عن سائر شرائح الأُمّة لهم في كافّة شؤون حياتهم الدنيوية والأُخروية .

خلاصة البحث:
1 ـ الأصل الأوّلي يقتضي عدم أحقيّة حكومة فرد أو أفراد لفرد أو أفراد من الآخرين .
2 ـ المبنى الأساس لصحّة هذا الأصل هو عدم وجود التمايز بين شرائح الأُمّة من حيث قوى العقل والإدراك وسائر الصفات والخصائص المميزة ، وليس هناك من معنى للطاعة في هذه الحالة سوى صورة واحدة ، وهي «الترجيح بلا مرجّح» وهذا الترجيح مرفوض بحكم العقل .


(الصفحة31)

3 ـ يشذّ هذا الأصل في بعض الحالات ولا يصحّ تطبيقه ، أي في الحالات التي يكون فيها امتيازات لفرد أو بعض الأفراد على الآخرين من حيث الفضائل المعنوية والقوى العقلية والبصيرة بالأُمور ، فإنّ طاعة مثل هؤلاء الأفراد طبيعية بل ضرورة لازمة بحكم العقل والفِطرة ، إلاّ أنّ هذه الطاعة إنّما تكون بمقدار الامتياز ومورده .
4 ـ إذا كان هناك أفراد يتمتّعون بامتيازات مطلقة غير محدودة في كافّة الكمالات ، فإنّ طاعة الآخرين لهؤلاء الأفراد بحكم العقل مطلقة لا تعرف الحدود ، أي لابدّ من اقتفاء آثارهم في كلّ أمر والائتمار بأوامرهم ونواهيهم والتسليم والانقياد التامّ لهم .
5 ـ طالما أقرّت الآية الكريمة طاعة الرسول وأُولي الأمر في طول طاعة الله وأوجبت على الأُمّة مطلق الطاعة ، فالذي يتبيّن على هذا الضوء أنّ ولاة الأمر في الإسلام كرسول الله في أنّهم ممتازون مطلقاً في جميع الصفات الإنسانية والكمالات الروحية .
وهنا نقول بعد هذه الخلاصة: إنّنا نعرف رسول الله وهو محمّدبن عبدالله (صلى الله عليه وآله)  ، ونعلم أيضاً بأنّه محيط من خلال الوحي بكافّة الأسرار التي تتضمّن سعادة البشرية ، حتّى أوجب القرآن الكريم طاعته المطلقة فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الْرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1) .
ولكن من هُم اُولي الأمر الذين جعل الله طاعتهم في طول طاعته ، ثمّ قرنَ طاعتهم بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
فإن قُلنا ـ على ضوء ما تقدّم ـ : إنّ القرآن والإسلام لا يرى أنّ كلّ فرد يمكنه أن يكون من ولاة الأمر وإن تمّ اختياره مِن قبل الأُمّة فإنّنا لم نقل جزافاً; وذلك


(1) سورة الحشر: الآية 7 .

(الصفحة32)

لأنّناذكرنا سابقاً بأنّ لأُولي الأمر كما للرسول طاعة مطلقة ، كما قلنا بأنّ الطاعة المطلقة مساوقةوملازمة للاشتمال على الامتيازات المطلقة ، أي لابدّ من القول ـ  على ضوءهذه الآية دون تفسيرها وتعيين مصداقها ـ بأنّ اُولي الأمر لابدّ أن يكونوا أفراداًممّن يستندعلمهم إلى معدن الوحي ،وإلاّيكون علمهم جهلامركّباً ،وألاّ يقتصر على مائة آية أوأقلّ أوأكثر ،كمالايكون علمهم مستنداً إلى تجارب معينة أو دراسات وأبحاث اجتماعية محدودة ، بل لابدّ أن يكونوا قد نهلوا العلم ورضعوه من ثدي الوحي ، وأن يكونوا عالمين بالقرآن والسُنّة محيطين بجميع أسرار الدين ومصير المسلمينوسبل السعادةوطرق الشقاوة ، ولابدّ أن يكونوا أفراداً ذوي بصائر مطلقة وتامّة بأوضاع المجتمع وروحيّات الأُمّة وفي اُسلوبهم في الحكم وزعامة المسلمين .
ويجب أن يكونوا على درجة من الزهد والورع والتقوى بحيث لا تحرفهم زخارف الدنيا وزِبرجها وحلاوة رئاستها عن جادّة الصواب وسبيل الحقّ ، وينبغي أن يكونوا على درجة من التوسّم وقوّة التشخيص بما يحول دون خطأهم وزللهم ، حتّى لا يصدروا جِزافاً الأحكام الخاطئة والقوانين المخالفة للقرآن والسُنّة فيخرّبوا البلاد ويُهلكوا العباد ، كما لابدّ أن يكونوا معصومين من الذنب والخطأ والاشتباه ، وأخيراً ينبغي ألاّ يبخلوا بالتضحية بالغالي والنفيس والجود بالنفس من أجل عظمة الإسلام وتحقيق عزّة المسلمين ورفعتهم ، وألاّ تأخذهم في الله لومة لائم في إحقاق الحقّ واستيفاء حقوق المسلمين ، وألاّ يألوا جهداً في الدفاع عن القرآن والإسلام وتطبيق الأحكام والتعاليم الإسلامية .
إذن وعلى ضوء سياق الآية وما يفهم منها نعرف مَن هم أُولي الأمر؟ فالذي يمكن فهمه من قوله تعالى: {وَأُوْلِى الاَْمْرِ} أي وأطيعوا أُولي الأمر ـ فإنّ طاعتهم هي طاعة رسول الله ، وأ نّ طاعة رسول الله إنّما هي بمثابة طاعة الله ـ هو أنّ أُولي الأمر الذي أوجبت الآية الكريمة طاعتهم ليسوا إلاّ أُولئك الذين رضعوا من ثدي

(الصفحة33)

الوحي عرفوا كتاب الله ، وعلموا بما يجري على المسلمين من حوادث ، وأحاطوا بكافّة أحكام الإسلام استناداً إلى منطق الوحي .
نعم ، لا يمكن أن يكون ولاة الأمر سوى أولياء الله الذين يتّصفون بالورع والتقوى والزهد والبصيرة والدراية والزهد والعصمة والشجاعة والسماحة والمروءة والتضحية من أجل حفظ كيان الإسلام والذود عن أحكام القرآن .

مزيد من الضوء على آية أُولي الأمر:
ذكرنا آنفاً أنّ الآية الكريمة تفيد عدّة أُمور:
1 ـ كون الطاعة المطلقة ومطلق طاعة الله والرسول وأُولي الأمر واجباً وفريضة .
2 ـ هناك سنخية بين طاعة الرسول وطاعة الله ، أي أنّ الرسول لا يهدف في آمريته سوى رضا الله وتحقق التوحيد وسعادة الأُمّة ، وأنّ كلّ ما يأمر به إنّما يستند إلى حقيقة الوحي والبصيرة التامّة والعلم الشامل بمصير البشرية والصراط المستقيم الذي ينبغي أن تسلكه الإنسانية جمعاء .
3 ـ طاعة أُولي الأمر مساوقة لطاعة رسول الله ، وعليه فلابدّ من الإذعان لهذه الحقيقة ، وهي أنّهم يستندون في منطقهم على غرار رسول الله إلى الوحي ، وهم يحوزون على ذات البصيرة والعصمة عن الخطأ التي حاز عليها رسول الله ، وإلاّ لما جازت طاعتهم المطلقة في كافّة شؤون الحياة الدنيوية والأُخروية .
ولكن هناك نقطة لابدّ من عدم إغفالها ; وهي أنّ ولاة الأمر لا يتلّقون الوحي ـ كالرسول ـ إلاّ أنّ علمهم إنّما يأتي عن طريق مجاري الوحي وتعاليم رسول الله لهم ، ولكن حيث قرنت طاعتهم بطاعته فإنّ ذلك يوجب علمهم ومعرفتهم بكافّة الحوادث الخفيّة التي يعلمها الرسول ويحيط بها .


(الصفحة34)

أجل ، إنّ مغزى هذا الكلام هو تعيين مصاديق أُولي الأمر ، ولا نرى من حاجة إلى التعيين من خلال سائر الأدلّة ، وعلى هذا الضوء لابدّ من القول بأنّ جميع الأخبار والروايات المتواترة التي صرّحت بأنّ أُولي الأمر هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  ، لا تعتبر من قبيل الأدلّة التعبديّة التي تفرض علينا التعبّد بها دون الحاجة إلى إقامة البراهين العقلية; ولابدّ من القول أيضاً بأنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد أشاروا لما من شأنه أن يفيده التأمّل والتمعّن في مفاد الآية الكريمة ، ولم يستندوا في ذلك إلى علمهم بالمغيبات لعدم وجود ضرورة تدعو إلى مثل ذلك .
وبعبارة أُخرى: فإنّ كون الأئمّة الأطهار مصداقاً لعنوان «اُولي الأمر» إنّما هو تعيين قهري لا تعيينهم هم أنفسهم ، وإذا تتبّعنا الأخبار فهي ليست سوى إضافة وتصريح لما أفادته الآية الكريمة ، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نذكر بعض النماذج من الروايات التي صرّحت بولاة الأمر ، لعلّنا نتوقّف بصورة أعمق وأكثر جديّة على الحقائق ، وإليك ما ساقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بشأن هذه الآية وسائر الآيات المماثلة:

الحديث الأوّل:
ابن بابويه الصدوق قال: حدّثنا غير واحد من أصحابنا قالوا: حدّثنا محمّد ابن همام ، عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن أحمد ابن الحارث قال: حدّثني المفضّل بن عمر ، عن يونس بن ظبيان ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري يقول: لمّا أنزل الله على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ } قلت: يارسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أُولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟
فقال (عليه السلام) : هم خُلفائي يا جابر وأئمّة المسلمين من بعدي ، أوّلهم علي بن أبي

(الصفحة35)

طالب ، ثمّ الحسن ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ، وستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام ، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ سميّي محمّد وكَنِيّي حجّة الله في أرضه وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي»(1) .

ملاحظة:
في الرواية عدد من النقاط الجديرة بالاهتمام ، وهي:
1 ـ لقد فهم جابر من الآية الكريمة عين ما ذكرناه كراراً سابقاً ، كما ذهب إلى أنّ طاعة أُولي الأمر مماثلة ومشابهة لطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  .
2 ـ لقد عبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ولاة الأمر بخلفائه وأئمّة المسلمين بعد رحيله ، والحال ليس هنالك من معنى للخليفة سوى الخلافة في المناصب والوظائف الرسالية .
3 ـ لقد ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء الأئمّة من بعده الذين لم يلدوا ذلك الحين ، كما ذكر خصال إمامين منهم ، وأنّ تسميتهم بأسمائهم وذكر بعض صفاتهم والإخبار عن لقاء جابر للإمام الباقر (عليه السلام) إنّما يدلّ على أنّ ذلك الإخبار كان مستنداً للوحي ، وأنّ الوحي هو الذي صرّح بأسمائهم وولايتهم; فالذي نخلص إليه من هذه الرواية هو أنّ الله عيّن هؤلاء الأئمّة لا رسول الله (صلى الله عليه وآله)  .
بعبارة أُخرى : هناك فرض يصرّح بأنّ الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت متروكة له ، فالنبي يستخلف من يشاء ، حيث فوّض الله له ذلك . كما هناك الفرض الآخر الذي يذهب إلى أنّ الله سبحانه هو الذي عيّن الأئمّة وبيّن صفاتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)  ،


(1) كمال الدين: 253 ح 3، وعنه تفسير كنز الدقائق 2: 493.

(الصفحة36)

والرواية دليل على صحّة الفرض الثاني ، وبناءً على هذا فإنّ الأئمّة الأطهار هم خُلفاء النبي وقادة الأُمّة وزعماء الدين إلى يوم القيامة ، وأنّ خلافتهم تستند إلى نصب إلهي ، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يذكر أسماءهم وصفاتهم إلاّ عن طريق الوحي .

تحقيق آخر في الآية:
ما المُراد بالطاعة التي يؤخذ بنظر الاعتبار في مفهومها الأمر والآمر؟ هل تختصّ طاعة ولاة الأمر ببيان أحكام الله والحلال والحرام ، أي هل يجب على الأُمّة أن ترجع إليهم وتطيعهم في الواجبات والمحرّمات والمستحبّات؟
وبعبارة أُخرى : هل أنّ الأمر بالطاعة هو أمر إرشادي يقتصر على رعاية امتثال الأحكام الإلهية وتطبيقها على أقوال ولاة الأمر والأئمّة الأطهار  (عليهم السلام) ، وأن ليس هنالك أيّة طاعة خارج بيان الأحكام؟ فيكون معنى الآية الكريمة ، أن ارجعوا في تشخيص الواجبات والمحرّمات إلى النبي والإمام وأطيعوهما؟ أم أنّ ولاية الأمر تعني ولايتهم للمسلمين في كافّة الشؤون الاجتماعية والسياسية الفردية والجماعية التي تتعلّق بمصير وتعيين أُسلوب الحكم ، وأنّ ولايتهم في هذا الحكم إنّما ترتكز على تعاليم الإسلام؟
أم أنّ الطاعة المُفترضة أبعد من هذين الاحتمالين ، أي لابدّ من وجوب طاعتهم في الواجبات والمحرّمات والمستحبّات والمكروهات والمباحات ، كما تجب طاعتهم والإذعان لهم في كافّة الشؤون الاجتماعية والسياسية وشؤون الحكم وتطبيق الإسلام على أنّهم قادة المسلمين وزعماء الحكومة الإسلامية؟ .
يبدو أنّ الاحتمال الثالث هو الأقوى والأتمّ ، أي أنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زعماء وأدلاّء على الطريق مطاعون في الأحكام التعبديّة ، كما أنّهم رؤوساء الحكومة الإسلامية والحاكمون على مقدّرات العالم الإسلامي ومطبّقو الأحكام

(الصفحة37)

والتعاليم القرآنية; لأنّ ظاهر الآية {أُولى الأمر} يقول: وأطيعوا أُولي الأمر ، ولو اقتصرت طاعتهم على الأحكام التعبديّة لما كان هناك من انسجام بين هذا الأمر والتعبير عنهم بولاة الأمر ، فالأمر الذي يُعنى به الشأن أو ذلك المعنى الاصطلاحي لايمكن الاقتصار به على أحكام الإسلام ، بل يمكن القول: إنّهم ليسوا آمرين في تفسير أحكام القرآن وبيان السُنّة النبويّة ، إنّما هُم مفسّرون وشارحون .
ومن هنايتبيّن أنّ ولاية الأمر تشتمل على معنى أكثر شمولية من تفسير القرآن الكريم وتبيين الحلال والحرام . وعليه : فإنّ طاعة ولاة الأمر تعني الانقياد لهم في كافّة الشؤون الاجتماعية والمهامّ السياسية للبلاد الإسلامية ، وإذا أصبحوا هم القادة والزعماء وجب أن تكون للإسلام مؤسّساته وجمعياته وحكومته التي تستند إلى القرآن والسُنّة النبويّة ، فالأئمّة الأطهار هم رؤوساء هذه الحكومة ، وكما استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يشكّل الحكومة الإسلامية ويدير شؤون البلاد، فقد تزّعمها كذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) معتمداً نفس الاُسس والخطط التي اعتمدها النبي (صلى الله عليه وآله)  .
ولدينا بعض الروايات التي تؤكّد هذا الأمر:
فقد صرّحت بعض الروايات المعتبرة في كتاب الكافي وغيره بهذا المضمون: «نزلت: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . . . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي  (عليه السلام) : ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه»(1) .
إذن فالآية «أطيعوا الله . . . .» بانية دعامة الوحدة الإسلامية والحكومة الإسلامية ، ومعتبرة الأئمّة الأطهار زعماء هذه الحكومة .

الحديث الثاني:
محمّد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن


(1) الكافي 1: 286 ح 1، وعنه تفسير كنز الدقائق 3: 496 ـ 497.

(الصفحة38)

يونس ، عن حمّاد بن عثمان ، عن عيسى بن السري قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : حدّثني عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زكى عملي ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده ، فقال: «شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وحقّ في الأموال من الزكاة ، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمّد  (صلى الله عليه وآله) ـ إلى أن قال: ـ قال الله عزّوجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ} فكان عليّ (عليه السلام)  ، ثمّ صار من بعده حسن ، ثمّ من بعده حسين ، ثمّ من بعده علي بن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن علي ، ثمّ هكذا يكون الأمر ، إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام» (1).

الحديث الثالث:
محمّد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن عمر بن أُذينة ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزّوجل : {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}(2)جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة ، فكيف يقرّون في آل إبراهيم (عليه السلام) وينكرونه في آل محمّد  (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: قلت: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}؟ قال: الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة ، من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله ، فهو الملك العظيم(3) .
وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ «الملك» بمعنى البلاد بضمّ الميم وبكسرها يعني المال ، كما يُقال: المَلِك لصاحب البلاد; والمالك لصاحب المال; ولذلك فالله سبحانه هو ملك الوجود ومالكه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ . . .}(4) وحيث كانت مالكيّة الحقّ


(1) الكافي 2: 21 ح 9.
(2) سورة النساء: الآية 54.
(3) الكافي 1: 206 ح 5، وعنه تفسير كنز الدقائق 2: 482 ـ 483.
(4) سورة آل عمران: الآية 26.

(الصفحة39)

تبارك وتعالى على الإطلاق مالكية حقيقية لا اعتبارية; لذلك يُقال له: «مالك الملك» .
إذن فقولنا: صاحب المُلك وصاحب المِلك لا يتنافى والآية القرآنية الكريمة ، وهناك الآيات القرآنية الأُخرى التي تؤيد هذا المعنى في أنّ الملك بالضمّ يعنى به البلاد ، فقد صرّحت الآية قائلة: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}(1) إلاّ أنّ هذه الآيات التي تتحدّث عن الملك لا تقتصر على الإشارة إلى البلاد ، بل الأهمّ من ذلك: أنّها تتحدّث عن صاحب البلاد ، فمثلا هذه الآية التي تقول بخصوص نبي الله داود: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} تفيد أنّ البلد الذي يقوده داود (عليه السلام) قد أصبح بلداً قوياً إثر زعامته وقيادته ، وكأنّ الذي يتبادر من الآية أنّ قوّة البلاد إنّما تكمن في قيادته وزعامته القويّة والعالمة المقتدرة ، إذن فالملك العظيم هو البلد القوي الذي يحكم من قبل زعيم قوي ومقتدر وعالم ، بحيث إذا قيل: البلد الفلاني هو بلد قوّي وواسع وعامر ، كان لابدّ من الإذعان إلى أنّ هذه المَنَعة والقوّة إنّما تعود إلى زعامة ذلك البلد .
إذن فالملك العظيم من وجهة نظر القرآن إشارة إلى امتلاك الزعامة الناجحة ، وهذا بدوره يزيح السِتار عن أمر عظيم في العثور على بلد عامر وقوي ومستقلّ من شأنه أن يلعب دوراً عالمياً من خلال اِعتماده على ذاته ومقوّماته ، أي أنّ رمز ظهور مثل هذه البلدان ليس سوى امتلاكها لزعيم قوي مقتدر .
وبناءً على هذا فإنّ قول الباقر (عليه السلام) هو عين الصواب ، وحقاً إنّه لباقر علوم الأوّلين والآخرين إذ قال (عليه السلام) : «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة . . .» ومن هذه الجهة فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب كون الأئمّة الأطهار هُم زعماء البلاد وقادة الأُمّة ، فإذا ما كانوا قادة الأُمّة كانت بلاد المسلمين قويّة مقتدرة .


(1) سورة ص: الآية 20 .

(الصفحة40)

الحديث الرابع:
من الروايات المشهورة والمعروفة بين الفريقين التي لا يشكّ أحد في تواتُر صدورها عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) رواية الثقلين ، والتي يمكن الجزم بأنّ دلالتها صريحة في وجوب طاعة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  .
وقد صرّح العالم النحرير شيخ المشايخ واُستاذ الفُقهاء الشيخ مرتضى الأنصاري في كتاب الرسائل ـ الذي يعدّ من الكتب النفيسة في أُصول الفقه ـ في فصل حجيّة ظواهر الكتاب(1) قائلا: «ليس لخبر الثقلين من ظهور سوى في وجوب طاعة القرآن والعترة وحرمة مخالفتهما» .
وهنا لابدّ من القول: بأنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إنّما قال حديث الثقلين تأييداً وبياناً لقوله سبحانه: { أَطِيعُوا اللهَ } وعلى ضوء الخبر فإنّ العترة لابدّ أن تكون في عرض القرآن الكريم ، فالقرآن مُطاع والعترة مُطاعة كذلك . والقرآن كتاب سماوي محيط عليم بكافّة الحوادث والوقائع التي يعيشها المسلمون ، وقوانينه جارية إلى يوم القيامة ، وهي أساس تشكيل الحكومة الإسلامية على مدى التأريخ ، والعترة المُرادفة للقرآن كذلك ، ولذلك حين تطالعنا الأخبار المتظافرة التي تصف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بأنّه القرآن الناطق(2) والكتاب السماوي هو القرآن الصامت فبالالتفات إلى آية { أَطِيعُوا اللهَ } وحديث الثقلين ، ولا ينبغي أن يكون هناك شكّ وترديد في هذا الأمر .
ورغم كون هذا الأمر غنيّاً عن التوضيح وأنّ مفاد خبر الثقلين هو ذات مفاد آية { أَطِيعُوا اللَّهَ } ولحصول المزيد من الاطمئنان ، لابأس بتسليط الضوء على هذا الأمر، فنقول:هناك نوع من تجريد الفرد المطيع من الاختيار في حياته في ظلّ الطاعة


(1) فرائد الاُصول، المعروف بـ«الرسائل» 1: 119.
(2) بحار الأنوار: 39 / 272.
<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>