جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
حماة الوحي « کتابخانه « صفحه اصلى  

<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>


(الصفحة61)

فهناك بعض الآيات القرآنية التي وردت بصيغة الرمز والإشارة والكناية ، بل وردت مُبهمة متشابهة بحيث قد تكون أحياناً أقرب إلى خلاف المراد في دلالتها اللفظية ، وهذا ما أشارت إليه الآية: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(1) .
فالقرآن شأنه شأن سائر القوانين ، حيث وردت بعض نصوصه مجملة ، وواضح أنّ المجمل يحتاج إلى ما يُفسّره ويوضّحه .والقرآن كسائر القوانين ، قد يصدر أحكامه على نحو العموم ثمّ يخصّصها بينما يصدرها على نحو الإطلاق لكنّها تتضمّن التقييد . فأحكامه على أنواع من قبيل العام والخاص والمطلق والمقيّد و . . . .
والقرآن يتطرّق أحياناً إلى قصص الاُمم الماضية من أجل تحقيق بعض الأهداف الكُبرى وإثبات دعوى النبوّة ، فيورد حقبة تأريخية عميقة في جملة قصيرة مقتضبة ، بالشكل الذي يتطلّب الوقوف على تلك الحقائق إلى مؤرّخ عالم بنشوء الأديان وقصص سالف الاُمم ومتخصّص بلغة القرآن ، والقرآن قد يصدر حكماً معيناً لمدة استناداً للمقتضيات السياسية والمصالح الإسلامية العليا ثمّ ينسخه بحكم حقيقي آخر لابدّ من مراعاته وتطبيقه ، والقرآن قد عيّن المقنن والمنفذ من أجل بسط العدل والقسط وتحقق الوحدة والتضامن والمجتمع الإسلامي ، ليتسنى للاُمّة أن تقيم الحكومة العادلة في ظل ولاية وزعامة هؤلاء الأفراد .
وأخيراً فإنّ بعض الآيات القرآنية تحمل رسالة دعوى الناس إلى الصراط المُستقيم الذي يؤدّي إلى السعادة الأبديّة والجنّة الخالدة ، إلى جانب كسب الفضائل الإنسانية وبلوغ السموّ والكمال .


(1) سورة آل عمران: الآية 7 .

(الصفحة62)

إذن فدستور الإسلام هو القرآن ، وإنّ الحياة الحرة الكريمة المقرونة بالرفاه والسعادة في القرآن . والقرآن طائفة من الآيات التي تشكّل موادها أساس النظام الداخلي للحياة ، غير أنّنا رأينا أنّ آياته قد تكون مجملة وأحياناً مُتشابهة كما قد تكون أحياناً أُخرى مُطلقة أو مقيّدة وناسخة أو منسوخة ، كما فهمنا أنّ القرآن هو دعامة حكومة العدل والقسط بالنسبة للاُمّة الإسلامية ، وعليه شئنا أم أبينا ; فإنّ القرآن يتطلّب اُستاذاً ماهراً ودليلا عليماً ليوضّح مجمله ويحلّ معضله ويبيّن مطلقه من مقيّده ويفسّر متشابهه ، وأن يكشف النُقاب عن قصص الاُمم السابقة بما يخرجها عن حالة الإجمال التي أوردها القرآن ، وبالتالي عليه أن يميط اللثام عن أسراره ويميّز ناسخه من منسوخه ، ليجعل الأُمّة تقف بما لا يقبل الشكّ على مفردات دستور الإسلام من أجل تشكيل الحكومة الإسلامية ، ليتمكن المسلمون في ظل حكومة العدل القرآني من العيش بأمن وسلام في حياتهم الدنيويّة ، بالشكل الذي يمهّد السبيل أمامهم لنيل سعادة الآخرة .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ إدراك جميع حقائق القرآن ـ بغضّ النظر عن آياته الصريحة أو الظاهرة ـ بحاجة إلى معلّم ودليل ، وكذلك الحكومة الإسلامية المستندة للقرآن بحاجة إلى إمام وولي أمر .
فالذي نخلص إليه هو أنّ القرآن محتاج إلى مرشد ، والمسلمون أيضاً محتاجون إلى الإمام ، وهنا لابدّ أن نسأل: من هو المرشد إلى القرآن وإمام الإسلام؟
لقد دلّت الآيات والروايات التي أوردناها في هذا الفصل أنّ المرشد الأبدي والإمام الواقعي للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وفي ظلّ تعاليمه هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) كما صرّحت الأخبار بأنّ الزعامة قد فوّضت إليهم إلى يوم القيامة (1)، وعليه فلن يسع


(1) الكافي 1: 265 ـ 268.

(الصفحة63)

المسلمون قطّ أن يشكّلوا الحكومة العادلة والمدينة الفاضلة دون هؤلاء الهداة الذين لهم ولاية الأمر .
فإن قال قائل: لسنا بحاجة لهذه المدينة الفاضلة الإنسانية ، كما لا نريد الحكومة القائمة على أساس القرآن ، فالبشرية قد شكّلت الحكومة على أساس قدراتها العلمية والعقلية والتي حقّقت لها السعادة .
فإنّا نقول: لابدّ ـ على ضوء هذا القول ـ من غضّ الطرف عن القرآن واعتبار الإسلام دين العزلة والرهبنة ، في حين لابدّ لمن يؤمن بالقرآن والإسلام أن يذعن بأنّ القرآن والإسلام من شأنهما فقط إدارة شؤون الحياة الإنسانية ، وأن يقرّ أيضاً أن ليس هنالك من زعامة للحكومة الإسلامية وهداية بالقرآن وإحاطة بحقائقه ومعارفه سوى للأئمة الأطهار (عليهم السلام)  ، ولا يمكن للقرآن ـ بما أوردناه من خصائص ـ أن يكون هادياً للبشرية دون أولئك الهُداة الذين يهدون بأمر الله ، كما لا يمكن القول بأنّ الحكومة العادلة مطلوبة ، لكن دون الحاجة إلى زعماء الدين ومجسِّدي أحكام وقوانين القرآن ; لأنّ الأخبار والآيات دلّت على أنّ أئمّة الدين وهُداة المسلمين هم تلامذة الرسالة وربيبي مدرسة النبوّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  .
إذن ، فلا يمكن ألاّ يكون هؤلاء ممن توفّرت فيهم شرائط الهداية بالقرآن واِمامة الأُمّة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وبناءً عليه فلابدّ أن يكونوا محيطين بجميع رموز القرآن وأسراره ، عارفين بمحكمه ومُتشابهه ومطلقه ومقيّده ، عالمين بجميع الحوادث التي تواجه المسلمين; وإلاّ فأنّى لهم أن ينأوا بالمجتمع بعيداً عن آفات تلك الحوادث؟ فهل يسع ربّان السفينة أن يتكفّل بضمان سلامة ركّابها وهو يشقّ عباب البحر دون علم بأمواجه وجزره ومدّه والحوادث التي يمكن أن تطرأ عليه ؟!


(الصفحة64)

خلاصة البحث:
يمكن خلاصة ما مرّ منّا خلال البحث في ما يلي:
1 ـ لا يستغني الدين الإسلامي عن إمام ، كما لا يستغني القرآن ـ الذي يُعتبر دستور وقانون المجتمع الإسلامي ـ عن شارح ومفسّر .
2 ـ لا يقتصر الإسلام على كونه سلسلة من الصفات الأخلاقية والمعنوية المكملة للخصائص الإنسانية السامية فحسب ، بل هو دين ينطوي على تعاليم شاملة تستهدف بناء المجتمع الإسلامي المقتدر في ظلّ الحكومة الإسلامية التي تنشد تربية الإنسان الصالح .
3 ـ تستند الحكومة الإسلامية إلى اُسس القوانين والتعاليم القرآنية ومبادئ السنّة النبويّة الشريفة .
4 ـ يتعذّر التعامل مع النصوص القانونية القرآنية دون توضيحها وشرحها من قِبل ذوي الاختصاص من زعماء الدين .
5 ـ تفيد الآيات والأخبار أنّ للأئمّة صلاحية وأهلية الخوض في التعاليم والبرامج القرآنية وتوضيحها وسبر أغوارها .
6 ـ أنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زُعماء الأُمّة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله)  ، وأنّهم مكلّفون بالنهوض بمسؤولية هذه الزعامة إلى يوم القيامة .
7 ـ نتيجة هذه الخلاصة هي أنّ الأئمّة يملكون شرائط الزعامة والإمامة ، وحيث إنّ أحد شروط زعامة المسلمين إلى يوم القيامة يتمثّل بالعلم التام والوقوف على جميع الحوادث والأخبار الخاصّة ، والإحاطة بأسرار القرآن ، والمعرفة بما غاب عن فهم الأُمّة وإدراكها من الاُمور ، كان من اللازم القول بأنّ للإمام علماً وإحاطة تامّة بخفايا القرآن والسُنّة ، وبخلافه فليس بوسعه أن يكون زعيماً للأُمّة إلى الأبد ومفسّراً للقرآن هادياً به .


(الصفحة65)



{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة البقرة : الآية 127)

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (سورة البقرة : الآية 128)

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (سورة البقرة : الآية 129)



(الصفحة66)






(الصفحة67)



الدليل الرابع من القرآن

لم نتعرّض في الآيات السابقة إلى جذور الإمامة ولا إلى الصفوة من بني هاشم التي تتمثّل بشكل واضح بالأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  ، بل أشرنا إلى أنّ «أُولي الأمر» هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  ، كما ذهبنا إلى أنّهم مصداق قهري لهذا العنوان من خلال التأمّل في آيات القرآن الكريم ، وقلنا في خصوص الآية «والذين آمنوا» : إنّها تشير إلى شكل الزعامة والإمامة ، ثمّ خلصنا إلى أنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو مصداق هذه الزعامة ، بالاستعانة بالروايات وأسباب النزول ، أمّا الآيات التي نعرض لدراستها الآن فهي تتناول أصالة الإمامة وتجذّرها في القرآن الكريم إلى جانب تأريخ تبلور ونشأة إمامة أئمّة الإسلام منذ زمان إبراهيم الخليل (عليه السلام)  .
أجل ، إنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل الله أن يرزقه من ذريّته إماماً يتزعّم شؤون الأُمّة الإسلامية ، وذريّة صالحة تتولّى من بعده زعامة الأُمّة . وبعبارة أوضح: فإنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألا الله أن يبعث رسولا من بني هاشم ، وأن تكون لهذا النبي ذريّة تتولّى هداية الأُمّة وإمامتها .


(الصفحة68)

إذن ، فالآية القرآنية المُباركة قد خاضت بوضوح في أصالة الإمامة وضخامة ثقلها في المجتمع ، وأشارت بصراحة إلى صفوة من بني هاشم من شأنها زعامة وإمامة الأُمّة الإسلامية .
يبدو أنّ إثبات هذا الإدّعاء يتطلّب مزيداً من الدقّة والتأمّل في عدّة آيات من سورة البقرة وردت بهذا الشأن ، راجين من القُرّاء الأعزّاء الالتفات إلى النقاط التي بحثت سابقاً ، ليصدروا بعدها أحكامهم المنصفة بهذا الخصوص .

دعوة النبي إبراهيم (عليه السلام) :
ماالذي أراده إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) من الحقّ تبارك وتعالى؟
يقول القرآن: إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) هما رافعا قواعد بيت الله والكعبة ، فقد كان إبراهيم يبني البيت وكان إسماعيل يساعده في هذا البناء ، بينما كان إبراهيم منهمكاً بالبناء ـ يساعده في ذلك إسماعيل ـ سأل الله تعالى أن يتقبّل منهما هذا العمل .
إذن فالبنّاء هو إبراهيم ، والعامل إسماعيل ، والمقاول هو الله جلّ وعلا . فالبناء كان يهدف إلى إنشاء مركز التوحيد والعبادة وهذا المركز هو الكعبة ، ويصرّح القرآن بأنّ لإبراهيم وإسماعيل خمس دعوات سألاها الله سبحانه ، وهي:
1 ـ ربّنا اجعلنا مسلمَين لك .
2 ـ ومن ذرّيتنا أُمّة مسلمة لك .
3 ـ أرنا مناسكنا وتُب علينا .
4 ـ وابعث فيهم رسولا منك .
5 ـ يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم .


(الصفحة69)

الآيات والالتفاتات:
تطالعنا في هذه الآيات عدّة أُمور ، منها:
1 ) فنّدت الآية مزاعم اليهود بشأن الكعبة وقبلة المسلمين حين كثر اللغط الذي يصرّح بعدم صحّة نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله) فهو يصلّي الصبح صوب بيت المقدس ، ثمّ يستقبل الكعبة في صلاة العصر ، وإنّ مثل هذه الأعمال لا تصدر من عاقل ، وإلاّ لما غيّر القبلة ، فقد كان الهدف المهم هو بيان أصالة الكعبة ; لأنّ إبراهيم هو الذي بناها ورفع قواعدها ، وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد اِستقبل بيت المقدس لمدّة قصيرة فإنّما كان ذلك طبقاً لمقتضيات المصالح الإسلامية العُليا لا على أساس عدم العلم والإحاطة بالمغيبات .
2 ـ نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) شخصية أصيلة متجذّرة تستند رسالته ونبوّته لدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)  ، إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) الّذان أعادا بناء مركز التوحيد ، وهما عبْدا الله ، الذين أخلصا له العبوديّة والطاعة ، فسألاه تبارك وتعالى أن يبعث من ذريّتهما رسولا ينطلق من قاعدة الإخلاص والعبودية والطاعة ، وعليه فاليهود ينظرون أعمق من غيرهم إلى أصالة محمّد (صلى الله عليه وآله)  .
3 ـ أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) الذي ينتمي إلى ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) هو من طائفة بني هاشم ، وقد سألا الحقّ سبحانه أن يبعث هذا النبي من تلك الطائفة لينهض بمسؤولية تعليم وتزكية هذه الطائفة: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ  . . .} .
وبعبارة اُخرى: أنّهما سألا الله أن يبعث رسولا من بني هاشم يتولّى تعليم وتزكية جماعة من بني هاشم ، أمّا كيف ندّعي أنّ الرسول المطلوب من بني هاشم وأنّه يعلّم ويزكّي جماعة من بني هاشم ، فممّا لاشكّ فيه أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) طلبا رسولا من عقبهما لتعليم وتزكية ذريّتهما ، حيث سألا أن يكون

(الصفحة70)

ذلك الرسول المبعوث هو معلّم تلك الذريّة ، فقد قالا: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ  . . .} وحيث استجيب الدعاء المطلوب ; وهو بعث محمّد (صلى الله عليه وآله) كنبيّ ، ومحمّد من نسل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ومن نسل بني هاشم ، فالطائفة التي يتوجّه إليها التعليم والتزكية لابدّ أن تكون تلك الطائفة الصالحة المُنقادة لله من نسل بني هاشم .
فالخلاصة ، تفيد الآية: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ. . .} أنّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) يجب أن يتلو آيات القرآن على بني هاشم ويعلّمهم القرآن وأسرار الدين ، لينتهي بهم إلى التزكية والطهر والنزاهة .

دليل حي:
قلنا: إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألا الله سبحانه أن يبعث من ذريّتهما رسولا من بني هاشم ، ثمّ سألاه أن يعلّم هذا الرسول طائفة من بني هاشم خفايا الدين وأسرار القرآن ومعالم الإسلام .
أمّا شاهدنا على ذلك فرواية وردت في تفسير العياشي وهو من الكُتب المعتبرة ، ففيه : عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من هم؟ قال: أُمّة محمّد بنو هاشم خاصّة ، قلت: فما الحجّة في اُمّة محمّد أ نّهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال: قول الله عزّوجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ  . . .}(1) فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما اُمّة مسلمة ، وبعث فيها رسولاً منها ـ يعني من تلك الاُمّة ـ يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة (2).


(1) سورة البقرة: الآية 127 .
(2) تفسير العيّاشي 1: 60 ح 101.

(الصفحة71)

مزيد من التوضيح:
نورد مزيداً من الإيضاح رغم أنّ الحديث المذكور صريح في ما ادّعيناه ، فالواو في الآية المُباركة: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(1) عاطفة ، أي واجعل من ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ نسألك لبعض هذه الذريّة ما سألناك لأنفسنا أن اجعلنا مسلمين لك ، فاجعلهم مسلمين لك ، وبناءً على هذا فكلمة «من» في قوله : «ومن ذريّتنا» تفيد التبعيض ، أي بعض هذه الذريّة .
إذن ، فسنخ تسليم هذه الطائفة من سنخ تسليم إبراهيم وإسماعيل ، ومن هنا يعلم أن عطف طلب إبراهيم وإسماعيل ، يعود إلى ظهور طائفة مصطفاة من الأُمّة الإسلامية تكون في مصاف آبائها إبراهيم وإسماعيل في الخشوع والطاعة والتسليم .
وعليه : فدعاء إبراهيم وإسماعيل لا يشمل كافّة ذريّة إسماعيل ليكونوا على هذه الدرجة من التسليم ، ليصدق ذلك على جميع قريش ، وذلك لأنّنا أشرنا إلى أنّ «من» تفيد التبعيض لا التبيين ، أضف إلى ذلك ـ كما ذكرنا ـ أنّ الرسول المبعوث من ذريّة هاشم ، وذلك الرسول هو معلّم هذه الذريّة طبق ظاهر الآية ، وهذا ما ذكّر به الإمام الصادق (عليه السلام)  .

كشف النقاب عن أصالة الإمامة:
قلنا: إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألا الله سبحانه طائفة من الذريّة تكون بمستوى آبائها في الإخلاص والطاعة والتسليم ، كما قلنا: إنّ هذه الطائفة ليست إلاّ الصفوة من بني هاشم ، وهنا تتضّح حقيقة اُخرى ; وهي أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) كما سألا الله بعث رسول لهداية الاُمّة ، قد سألاه أيضاً مثل هذه الهداية لطائفة من بني هاشم ، سألاه أن يبعث رسولاً من بني هاشم ، وأن تتربّى وتتلمّذ على يديه


(1) سورة البقرة: الآية 128 .

(الصفحة72)

هذه الطائفة المتّصفة بالعبوديّة والإخلاص والتسليم الكامل لله ، لتكون جديرة مؤهّلة وصالحة لزعامة الإسلام وإمامة المسلمين ، وإلاّ لما كان هناك من هدف لسؤالهما الله ظهور تلك الطائفة التي تضاهي آباءها في الطاعة والتسليم ، وسؤال الله تعليمهم وتزكيتهم من قِبل الرسول المبعوث .

ما نخلص إليه من هذه الآيات :
بعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت بأمر الله ومن أجل الله وإعادة بناء مركز التوحيد ، سألا الله ثلاثة اُمور أساسية مهمّة من أجل تحقيق السعادة والفلاح لذريتهما على مدى التأريخ ، وهي:
1 ـ سألاه أن يبعث رسولا من ذريّتهما .
2 ـ أن يكون هذا الرسول من بني هاشم ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) : أنا دعوة إبراهيم (عليه السلام) (1) .
3 ـ أن تكون طائفة من بني هاشم مطيعة ومسلمة تنهض بزعامة وإمامة الأُمّة الإسلامية ، وأن تستند في إمامتها إلى تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله) وتعليمه وتزكيته لهم وإلى القرآن وآياته الحكيمة .

نتيجة هذه الدراسات:
كما أنّ رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) أصيلة متجذّرة ليست حادثة طارئة; فإنّ إمامة الأئمّة هي الأُخرى أصيلة متجذّرة ، وهي استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)  . وعلى ضوء هذا المشروع الذي تضمنه الدُعاء ، كان لابدّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخضع تلك الطائفة من بني هاشم لتعليمه المُباشر ويحيطهم علماً بكافّة أسرار وخفايا القرآن ،


(1) الفقيه 4: 369، بحار الأنوار 38: 62.

(الصفحة73)

بفضل ما منحهم الله من أهلية واستعداد ، ليعدّهم لإمامة المسلمين ، وعليه : فإنّ هذه الطائفة حائزة على شرائط الإمامة من خلال تعليم النبي وما أفاض الحقّ عليهم من إخلاص وتسليم .
فالذي نخلص إليه من هذه الأبحاث هو أنّ الإمامة أصيلة متجذّرة كالرسالة ، وليست الإمامة سوى للطائفة المصطفاة من بني هاشم .

سؤال يطرح نفسه :
هنالك سؤال يطرح نفسه على ضوء الشرح الذي أوردناه على الآيات ، وهو هل أنّ رسول الله مبعوث لبني هاشم فقط ليجتهد في إرشادهم وهدايتهم وتزكيتهم؟ وهل سأل إبراهيم الله سبحانه نبياً عائلياً لتعليم وتربية أولاده وذريّته؟ حتّى يقال: إنّ الله استجاب دعوة إبراهيم من أجل تعليم وتربية أولاده ، إذن فهو معلّم خصوصي من أجل طائفة خاصّة من ولد إسماعيل .

جواب :
لاشكّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) إنّما بعث لكافّة الناس إلى يوم القيامة ، فقد اعتبره القرآن الكريم خاتم الأنبياء(1) ، ومنذر من بلغ(2) . فما الذي حدث ليدعو إبراهيم بأن يكون النبي المبعوث من ذريّة إسماعيل لتزكية وتعليم طائفة من ذريّتهما؟ فإبراهيم (عليه السلام) يعلم بأنّ رسول الله محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) سيبعث بالرسالة ، وأنّه من ذريّته وهو خاتم الأنبياء ، ودينه ناسخ لكافّة الشرائع ومكمّل لكافّة الأديان ، وأنّه سيصبح إماماً للبشرية جمعاء ، وهذه ليست من الاُمور التي لا يعرفها إبراهيم (عليه السلام)  ، فالقرآن


(1) سورة الأحزاب : الآية 40  .
(2) سورة الأنعام: الآية 19  .

(الصفحة74)

يصرّح بأنّ موسى وعيسى (عليهما السلام) يعلمان بأنّه النبي الخاتم ، وهذا ما تشهد به سائر الكُتب السماوية ، بل أبعد من هذا هو أنّ الاُمم الماضية ـ وبغضّ النظر عن الأغراض ـ تعلم بوضوح كافّة خصائص آخر قائد للعالم ، فلِمَ كانت هذه الدعوة من إبراهيم وإسماعيل؟
الجواب على هذا السؤال هو ما أوردناه سابقاً من أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألاالله أن يبعث نبياً من ذريّتهما ، وأن يقوم هذا المبعوث بتربية وتزكية طائفة ليبلغ بها السموّ والكمال الذي يؤهّلها لزعامة الأُمّة الإسلامية ، وعليه فقد بلورا وأسَّسا مبدأ الإمامة، وسألا تحقيق وتفعيل هذا المبدأ الحيوي من أجل الزعامة الإسلاميّة.
وبناءً على ما تقدّم لم يكن هناك ما يستدعي لأن يكون هذا المبعوث لطائفة معيّنة ، بل كان ذلك يستدعي أن يكون مبعوثاً للعالم كافّة ، يكون من ذريّتهما ، وأن يعدّ طائفة معيّنة من تلك الذرّية لبعض الأهداف والغايات العليا السامية .
وبعبارة اُخرى: فإنّ الدعوة كانت لجعل النبوّة والإمامة في ذريّة بني هاشم ، وهي في ذات الوقت تفيد كون النبوّة والإمامة زعامة عالمية إلى الأبد .
جدير بالذكر أنّ دعوة إبراهيم (عليه السلام) ليست جديدة ، فقد سأل الله بشأن منصب الإمامة في ذريّته لما استكمل شرائط الإمامة وبشّره سبحانه: {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، فردّ الله سبحانه هذا المنصب عمّن لا يستحقّه من تلك الذريّة {لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ}(1) . حيث استثنى سبحانه الظلمة من النهوض بهذه المسؤولية العظيمة .

حديث مع صاحب تفسير المنار:
أعتقد أنّ صاحب «تفسير المنار» قد التفت إلى ذلك الأمر المهمّ في الآيات


(1) سورة البقرة: الآية 124 .

(الصفحة75)

الشريفة ودعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)  ، فهو يستند في فهمه للقرآن إلى ظواهر الألفاظ وخصائص الكلمات ، إلاّ أنّ روح التعصّب إذا استولت على عالم تدفعه إلى ما يأباه الذوق السليم والطبع القويم ، بحيث أخذ يتخبّط تخبط عشواء ليموّه على الحقائق التي انطوت عليها الآية الكريمة .
فقد علّق صاحب تفسير المنار على عبارة «إنّك أنت العزيز الحكيم» بأنّها وردت لتزيل إشكالا قد يتبادر إلى الأذهان بأنّ دعوة إبراهيم تتنافى والطبع العربي ; لأنّ العرب تقولبت بالبداوة وأنست بالغلظة والخشونة ، وعليه فالأقوام العربية لا تأنس بالعلم والحكمة ، بل هي عدوة للتهذيب والتربية ، فالبداوة العربية لا تخضع قطّ للنظم الاجتماعية وهي بعيدة عن الحضارة والمدنية ، فطبيعتهم البداوة ، ولمّا كان تعليم الكتاب والحكمة وتهذيب الأخلاق لا يعني سوى التسليم للنظام الاجتماعي وتقبّل الحضارة والمدنية والتطبّع بالعادات الإنسانية ، فأنّى لإبراهيم أن يدعو الله بأن يبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) ليعلّم أولئك العرب الكتاب؟ ويعلّمهم الحكمة ويزكّيهم ويهذّب أخلاقهم .
فقد حصر صاحب «المنار» هذا السؤال في زاوية حرجة ، ثمّ قال للهرب منه: نعم ، إنّ هذا الوهم وارد لو لم يكن الله عزيزاً وحكيماً ، وحيث إنّ إبراهيم (عليه السلام) يعلم بأنّ الله عزيز وحكيم ، فإنّ ذلك الوهم ليس بوارد . أجل ، فالله عزيز وحكيم وبيده حلّ جميع المشاكل ، وليس هنالك من شيء يمكنه أن يقف حائلا أمام إرادته ، إذن ، صحيح أنّ العرب تعادي العلم والحكمة والمدنية ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) يعلم بأنّ الله عزيز وحكيم ، وعليه فدعوته ليست مستحيلة ، فللقادر العزيز أن يبلغ بهذه الأُمّة منتهى العلم والتمدّن ويجعلها مستعدّة لحمل أعباء الرسالة (1).
كانت هذه بعض العبارات التي ذكرها صاحب المنار بشأن الآيات الكريمة ،


(1) تفسير القرآن الحكيم، الشهير بـ«تفسير المنار»: 1 / 465 ـ 473.

(الصفحة76)

والحقّ أنّ صاحب المنار قد عمد إلى اُسلوب التورية بما فهمه من الآيات الكريمة ، وأعرض عن بيان حقيقة الأمر ، كما حاول أن يموّه على المطلب الأساسي أثناء إيراده لذلك الوهم ، فقد أدرك مدلول الآية ، إلاّ أنّه وبذكره لذلك الوهم قد عدل عن السبيل الصحيح .
ولنا أن نسأل صاحب المنار هذا السؤال: هل استنبطت من الآيات أنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل الله أن يبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) ليعلّم العرب الكتاب والحكمة والانصياع للنظم الاجتماعيّة؟ وتريد أن تقول بأنّ الدين الإسلامي ليس ديناً عالميّاً ، ولم يبعث محمّد (صلى الله عليه وآله) إلاّ للعرب البدو ليجرّهم إلى المدنية والحضارة والالتزام بالقوانين السماوية للقرآن . وبعبارة أُخرى : فإنّك استفدت التعليم العام من الآية ، إلاّ أنّك تعتبر هذا العموم مقتصراً على فئة خاصّة من الأُمّة الإسلامية ، وهم العرب البدائيّون؟ فإن كان هذا هو الذي فهمته ، كان عليك أن تقرّ بأنّ المراد الأصلي من بعثة محمّد (صلى الله عليه وآله) هو الاقتصار على تعليم وتزكية العرب ، وبالذات العرب البعيدين عن الحضارة والمدنية الذين لم يألفوا التعليم والتربية ويأنسون بالغلظة والخشونة; وهل يمكنك على ضوء هذا الإقرار أن تزعم بأنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) قد بعث للناس كافّة على مدى التأريخ؟
وإذا زعمت بأنّ هذه الآيات تستهدف تعليم النظم الاجتماعيّة الإسلامية وتعليم وتزكية جماعة معينة ، دون أن يتنافى هذا الأمر وكون الدين الإسلامي ديناً عالمياً ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل الله ليقوم محمّد (صلى الله عليه وآله) بتزكية ذريّته ، وما ذريّته سوى العرب البدو الذين لا يأنسون بالعلم والحكمة . ففي هذه الحالة لا تكون هذه الآيات بصدد إثبات عالمية الدين المقدّس ، بل هي عبارة عن دعوة تضمّنت تعليم وتزكية وإعداد طائفة خاصّة ، الأمر الذي أوردناه سابقاً . . .
إذن ، فالدعوة لم تكن بعث رسول من ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) إلى طائفة

(الصفحة77)

معيّنة ، بل كانت تفيد بعث رسول عالمي من ذريّتهما ، ويقوم بتعليم صفوة معيّنة من خاصّة القرآن وأسرار الخلقة ، ويبلغ بروحهم الطاهرة أقصى درجات السموّ والطهارة والكمال .
وبناءً على هذا فإنّنا وإيّاكم نتّفق على معنى واحد أفادته الآيات الكريمة ، وهي أنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) تفيد تعليم النبي (صلى الله عليه وآله) وتزكيته وإعداده لطائفة خاصّة من ذريّتهما ، إلاّ أنّنا نختلف بخصوص هذه الطائفة الخاصّة ، فنحن نقول بأنّ هذه الطائفة الخاصّة هي الصفوة من بني هاشم ، بينما ذهبتم إلى أنّها العرب البدائيّين المعادين للعلم والمعرفة . فسلكتم إثر ذلك طريقاً مسدوداً ، لم يسعكم الخروج منه سوى بتفسيركم للعزيز الحكيم الذي يفيد أنّ الله قادر على أن يبلغ بالعرب البدائييّن قمّة التمدّن ، ويجعلهم يتناولون العلم ولو كان في الثريا بعد أن كانوا أعداءً حقيقيّين لهذا العلم ، وأخيراً يجعل أخلاقهم إنسانية ملكوتية تفيض بالطهر والعفاف .
والآن نسألك هذا السؤال: أيّ دلالة في الآيات جعلتك تستند إلى هذا المعنى؟ فقد أراد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يُبعث رسول من ذريّتهما وقد بُعث محمّد (صلى الله عليه وآله)  ، أو ليس محمّد (صلى الله عليه وآله) الذي ينتمي إلى ذرّيّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) من بني هاشم؟ أولم يسأل هذان النبيّان أن يبعث نبي من ذريّتهما؟ {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} فإذا كان محمّد (صلى الله عليه وآله) من بني هاشم ، فهل هناك غير بني هاشم مرادون بالضمير «هم» في كلمة «منهم»؟ قطعاً ليس لك الاّ أن تجيبنا بالإيجاب . وعليه فالنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) هاشمي ، مبعوث من بني هاشم ، وهذه هي دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)  .

سؤال آخر :
إذا سلّمنا بأنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) قد بعث بدلالة الآية من بني هاشم ، فمن هم الأفراد

(الصفحة78)

الذين سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يقوم هذا النبي الهاشمي بتعليمهم وتربيتهم؟ فقد صرّح القرآن قائلا: {رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}(1) أو ليست الآية صريحة بأنّ هذا الرسول الهاشمي منتخب من بين الهاشميين ، أي أنّه يعلم ويزكّي فريقاً منهم؟ وهل من الصواب القول أنّ معنى الآية هو أن يقوم هذا النبي الهاشمي المبعوث من بني هاشم بتعليم وتزكية عامّة البدو من العرب؟ سنترك الجواب للقُرّاء الأعزاء بعيداً عن التعصّب واللفّ والدوران .
وعليه : فإنّنا سنخرج صاحب المنار من ذلك الطريق المسدود ، فنقول: إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألا الله أن يبعث رسولا من طائفة من ذريّتهما . ولمّا كانت الطائفة التي بعث منها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي بني هاشم ، فإنّ المبعوث من هذه الطائفة ـ بنصّ الآية ـ لابدّ أن يقوم بتعليم وتزكية هذه الطائفة ، وأمّا الطائفة التي كانت تدور في ذهنك والتي تستلزم الدعوة الخاصّة لمهمّة خاصّة ، ليست إلاّ طائفة من بني هاشم ، ولذلك نقول: إنّ آباء محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سألا الله أمرين أساسيين: ظهور رسالة النبي العالمي للإسلام في طائفة من ذرّيتهما ، والإمامة العالمية للدين في نفس تلك الطائفة ، الإمامة التي يتلّقى الأئمّة علومها على يد رسول الله ودروسه الخاصّة لينهضوا بزعامة المسلمين إلى الأبد .
وعلى ضوء ما تقدّم لا يرد ذلك الوهم في أنّه كيف سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) الله أمراً مشكلاً بل محالاً عادياً لكي يجاب عليه من خلال عزّة الله وحكمته .
وهنا يبرز هذا السؤال: هل نهض النبي (صلى الله عليه وآله) بوظيفة تزكية وتعليم هذه الطائفة المعيّنة؟ والجواب سيكون بالسلب ; لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) مارس وظيفته من أجل تعليم وتزكية الجميع بما فيهم البدو من العرب والعجم والأُوربيين وغيرهم . والقرآن لم


(1) سورة البقرة ،: الآية 129 .

(الصفحة79)

يصرّح بأنّه معلّم خاص ، بل صرّحت الآيات بعموميّة تعليمه للجميع ، من قبيل الآية: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين}(1) .
فالآية الكريمة صريحة في عمومية تعليم وتربية رسول الله للاُمّة ، وكذلك الآية الكريمة من سورة الجمعة ، رغم أنّها خصّت تعليم الرسول بالاُميّين وعرب مكّة وأُمّ القرى ، إلاّ أنّها أزالت تلك الخصوصية ومنحت ذلك التعليم بعداً عمومياً ، فقالت: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُْمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) .
كما صرّحت الآية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}(3) .
وبناءً على هذا فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) معلّم عام للناس كافّة ، ولا نريد أن نقول بأنّ التعليم إنّما يقتصر على طائفة محدودة هي طائفة من بني هاشم ، بل نقول: إنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) هي قيام النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) من أجل تربية وإعداد هذه الصفوة من أهل بيت النبوّة ، وهذا ما لم يتحفّظ عليه جملة من مفسّري العامّة التي أوردت في تفاسيرها لهذه الآيات كلمة «أهل البيت» . وقد كان حديث أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي أوردناه سابقاً صريحاً في هذا المعنى .
ولا بأس بدراسة سائر الآيات بهذا الخصوص من أجل توضيح المراد بما


(1) سورة آل عمران: الآية 164 .
(2) سورة الجمعة: الآية 2 ـ 3 .
(3) سورة البقرة: الآية 151 .

(الصفحة80)

لايبقى معه مجال للشكّ ، ففي الوقت الذي يعتبر فيه القرآن الكريم تعليم الكتاب والحكمة لكافّة الناس ، نراه قد صنّف مثل هذا التعليم لينتقل به من الاختصاص إلى العموم; أي أنّه خصّ التزكية والتعليم بالأنبياء ومن الأنبياء إلى طائفة خاصّة ومن هذه الطائفة إلى عامّة الناس ، ولا يسعنا هُنا إلاّ أن نستعرض هذا التصنيف كما صرّح به كتاب الله:
1 ـ قال الله تعالى بشأن عيسى (عليه السلام) : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالاِْنجِيلَ}(1) ، وخاطب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قائلا: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}(2) . فالآيتان الكريمتان وأمثالهما مختصّتان بأنبياء الله ، فالله هو معلم عيسى ومحمّد (صلى الله عليه وآله)  ، وقد تولّت الذات الإلهيّة المقدّسة تعليم الأنبياء الكتاب والشرائع وأسرار الحكمة ، فالله هو المربّي والنبيّ هو التلميذ وعلم الكتاب والحكمة هي المواد الدراسية .
2 ـ قام الأنبياء في بعض الأحيان بوظيفة التعليم الخصوصي ، فأعدّوا طائفة من المتخصّصين في علم الكتاب والحكمة وتزكية النفس وتهذيبها ، فقد علّم الخضر موسى (عليه السلام)  ، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) التلميذ الممتاز الخاصّ للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)  ، حيث قال: «علّمني ألف باب»(3) وقد تتلمّذ هارون على يد أخيه موسى (عليه السلام)  ، كما تتلمّذ الحواريون على يد عيسى (عليه السلام)  . وأوضح آية يمكننا الاستشهاد بها بشأن تعليم النبي الخاصّ لتلامذته وخاصّته من أهله ، هي التي نخوض في بحثها {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} .
3 ـ أمّا الآيات التي تدلّ على عمومية رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) وكون التهذيب


(1) سورة آل عمران: الآية 48 .
(2) سورة النساء: الآية 113 .
(3) الإرشاد للمفيد 1: 34، إعلام الورى 1: 318، بحار الأنوار 40: 144 ح 50.
<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>