جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
مدخل التفسير - الطبعة المحققة « کتابخانه « صفحه اصلى  

<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>


صفحه 26


صفحه 27

وجوه إعجاز القرآن

آيات التحدّي

ليس في الكتاب العزيز ما يدلّ بظاهره على توصيفه بالإعجاز الاصطلاحي بهذه اللفظة ، بل وقع فيه التحدّي به ، الذي هو الركن الأعظم للمعجزة ، وتتقوّم به حقيقتها ، والآيات الدالّة على التحدّي بمجموع القرآن أو ببعضه لا تتجاوز عن عدّة آيات:

أوّلها : الآية الكريمة الواردة في سورة الإسراء : (قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوابِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِوَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا) (1) .

والظاهر من الآية الكريمة الإخبار عن عدم الإتيان بمثل القرآن ; لأجل عدم تعلّق قدرتهم به ، وأنّ القرآن يشتمل على خصوصيّات ومزايا من جهة اللفظ والمعنى لا يكاد يقدر عليها الإنس والجنّ ، وإن اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً ، فاتّصاف القرآن بأنّه معجز إنّما هو من جهة الخصوصيّة الموجودة في نفسه ،


(1) سورة الإسراء 17 : 88 .


صفحه 28

البالغ بتلك الخصوصيّة حدّاً يعجز البشر عن الإتيان بمثله .

وعليه: فما ذهب إليه من وصف بأنّه شيطان المتكلِّمين(1); من القول بالصرف في إعجاز القرآن ، وأنّ الله صرف الناس عن الإتيان بمثله مع ثبوت وصف القدرة لهم ، وتوفّر دواعيهم عليه (2) ، مناف لما هو ظاهر الآية الشريفة ، المعتضد بما هو المرتكز في أذهان المتشرّعة من بلوغ القرآن علوّاً وارتفاعاً إلى حدٍّ لا تصل إليه أيدي الناس ، ولا محيص لهم إلاّ الاعتراف بالعجز والقصور والخضوع لديه .

فهذا القول باطل من أصله وإن استصوبه الفخر الرازي في تفسيره ، واختاره ،


(1) وهو أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام ، شيخ الجاحظ; وهو من زعماء المعتزلة ، ونسبت إليه الفرقة النظاميّة ، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين في خلافة المعتصم العباسي أو الواثق . ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي 9 : 213 ـ 214 الرقم 1710 . وذكر الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : 101 ، بأنّ النظّام شيطان المتكلّمين ، وأنّه من شياطين أهل الكلام .
(2) فقد ذهب إلى القول بالصرفة عددٌ من علماء المعتزلة وغيرهم وإن اختلفوا في المقصود منها . فأبو إسحاق النظّام ، ذهب إلى أنّ إعجاز القرآن إنّما كان بـ «الصِّرفة» أي: أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ صرف البشر عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها ، وخلق فيهم العجز عن محاكاته في أنفسهم وألسنتهم ، ولولا أنّ الله صرفهم عن ذلك لاستطاعوا أن يأتوا بمثله; أي كان مقدوراً لهم ، ولكن عاقهم أمر خارجيّ . . . وقد بالغ النظّام في القول بالصرفة حتى عُرِفت به ، فصوّبه فيه قوم وشايعه عليه آخرون فيما خالفه جمع كثير ، وكان من ردودهم عليه واعتراضاتهم أنّ قوله هذا يستلزم كون القرآن ليس معجزاً بذاته بل بأمر خارجي ، بل الصرفة هي المعجزة لا القرآن . . . .[  اُنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ت 671 هـ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الجزء الأوّل: 75 ـ 76 ]  ، الإتقان في علوم القرآن 4 : 7 ، إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 101 ، التبيان في علوم القرآن للصابوني: 149 . وممّن ذهب إلى هذا القول الشيخ المفيد; وهو من علماء الإماميّة ، حيث قال في جهة إعجاز القرآن: إنّ جهة ذلك هو الصّرف من الله ـ تعالى ـ لأهل الفصاحة واللّسان عن المعارضة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بمثله في النّظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم ـ دليلاً على نبوّته (صلى الله عليه وآله)  ، واللطف من الله ـ تعالىـ مستمرّ في الصّرف عنه إلى آخر الزمان ، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان ، وهو مذهب النظّام ، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال .[ أوائل المقالات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد 4: 63 ]  .


صفحه 29

خصوصاً بالإضافة إلى السور القصيرة ، كسورتي العصر والكوثر ; زاعماً أنّ دعوى خروج الإتيان بأمثال هذه السور عن مقدور البشر مكابرة ، والإقدام على أمثال هذه المكابرات ممّا يطرق التّهمة إلى الدين(1) . وسيأتي(2) البحث معه في اتّصاف السورة القصيرة بالإعجاز .

ثانيها : ما ورد في سورة يونس من قوله ـ تعالى ـ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ قُلْ فَأْتُوابِسُورَة مِّثْلِهِوَ ادْعُوامَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ) (3) .

ثالثها : ما ورد في سورة هود من قوله ـ تعالى ـ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ قُلْ فَأْتُوابِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِمُفْتَرَيَـت وَ ادْعُوامَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُواأَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (4) .

وهذه السور الثلاث على ما رواه الجمهور نزلت بمكّة متتابعات (5) ، وفي رواية عن ابن عبّاس: أنّ سورة يونس مدنيّة ، والرواية الاُخرى عنه الموافقة لقول الجمهور ولاُسلوبها ; فإنّه اُسلوب السور المكّية(6) .

وها هنا إشكال ، وهو: أنّ الترتيب الطبيعي في باب التحدّي يقتضي التحدّي أوّلاً بالقرآن بجملته ، ثمّ بعشر سور مثله ، ثمّ بسورة واحدة مثله ، مع أنّه على رواية


(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 349 .
(2) في ص36 ـ 38.
(3) سورة يونس 10 : 38 .
(4) سورة هود 11 : 13 ـ 14 .
(5) السور الثلاث (يونس وهود والإسراء) مكيّة إلاّ بعض الآيات على قول ، لاحظ كتب التفاسير ، منها: التفسير الكبير للفخر الرازي: 6 / 183 تفسير سورة يونس ، و ص 312 تفسير سورة هود، و ج 7: 291 تفسير سورة الإسراء . والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8 / 304 تفسير سورة يونس ، و ج 9 / 1 تفسير سورة هود ، و ج10: 203 تفسير سورة الإسراء .
(6) عمدة القاري: 13 / 41 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 47 ، روح المعاني: 11 / 79 .


صفحه 30

الجمهور وقع التحدّي بالعشر متأخّراً عن التحدّي بسورة واحدة . نعم ، لا مجال لهذا الإشكال بناءً على إحدى روايتي ابن عبّاس من كون سورة يونس بتمامها مدنيّة .

وحكي عن بعض(1) في مقام التفصّي عن هذا الإشكال أنّ الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور ، فكم من آية مكّية موضوعة في سورة مدنيّة وبالعكس ، فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدّي من هذا القبيل ; بأن تكون آية التحدّي بعشر سور نازلةً بعد آية التحدّي بالقرآن في جملته ، وقبل آية التحدّي بسورة واحدة ، بل جعل الفخر الرازي في تفسيره مقتضى النظم والترتيب الطبيعي قرينةً على هذا التقديم والتأخير(2) .

ويرد على هذا البعض: أنّ مجرّد الاحتمال لا يحسم مادّة الإشكال ، وعلى الفخر : أنّ صيرورة ذلك قرينة إنّما تتمّ على تقدير عدم إمكان التوجيه بما لا يخالف الترتيب الطبيعي ، وهو لم يثبت بعد .

وحكي عن بعض آخر(3) في مقام الجواب عن أصل الإشكال ما حاصله ـ على ما لخّصه بعض من مفسِّري العصر ـ : أنّ القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمّنه من المعارف ، والأخلاق ، والأحكام ، والقصص وغيرها ، وينعت به من الفصاحة والبلاغة وانتفاء الاختلاف ، وإنّما تظهر صحّة المعارضة والإتيان بالمثل عند إتيان عدّة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف ، وخاصّة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات ، كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها .


(1) الحاكي هو الشيخ محمّد رشيد رضا في تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 12 / 30 والعلاّمة الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن: 10 / 168ـ 169 .
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 349 ، الآية 23 ـ 24 من سورة البقرة .
(3) وهو الشيخ محمّد رشيد رضا في تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 12 /30ـ 34 .


صفحه 31

وإنّما يتمّ ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشؤون المذكورة ، وتتضمّن المعرفة والقصّة والحجّة وغير ذلك ، كسورتي الأعراف والأنعام .

والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية ممّا يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود ـ على ما ورد في الرواية(1) ـ هي: سورة الأعراف ، وسورة يونس ، وسورة مريم ، وسورة طه ، وسورة الشعراء ، وسورة النمل ، وسورة القصص ، وسورة القمر ، وسورة ص ، فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود ، وهذا هو الوجه في التحدّي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات(2) .

واُورد عليه ـ مضافاً إلى عدم ثبوت الرواية التي عوّل عليها ـ بأنّ ظاهر الآية أنّ رميهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالافتراء قول تقوّلوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنيّة ، طويلتها وقصيرتها ، فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادّة الشبهة بالنسبة إلى كلّ سورة قرآنيّة ، لا خصوص الإتيان بعشر سور طويلة جامعة للفنون القرآنيّة ، مع أنّ الضمير في «مثله» الواقع في الآية الشريفة إن كان راجعاً إلى القرآن ـ كما هو ظاهر هذا القائل ـ أفاد التحدّي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقاً ; سواء في ذلك الطوال والقصار ، فتخصيص التحدّي بعشر سور طويلة جامعة; تقييد من غير مقيّد ، وإن كان عائداً إلى سورة هود كان مستبشعاً من القول ، خصوصاً بعد عدم اختصاص الرمي بالافتراء بسورة هود ; لأنّه كيف يستقيم في مقام الجواب عن الرمي بأنّ مثل سورة الكوثر من الافتراء أن يقال: ائتوا بعشر سور مفتريات مثل سورة هود؟ كما هو واضح(3) .


(1) لم نعثر عليه عاجلاً .
(2) هذا ما لخّصه صاحب تفسير الميزان: 10 / 169 ـ 170 .
(3) المورد هو العلاّمة الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن: 10 / 170 .


صفحه 32

وقد تفصّى عن هذا الإشكال بعض الأعاظم في تفسيره الكبير ، المعروف بـ «الميزان في تفسير القرآن» بكلام طويل يرجع حاصله إلى: «أنّ كلّ واحدة من آيات التحدّي تؤمّ غرضاً خاصّاً في التحدّي ; لأنّ جهات القرآن وما به تتقوّم حقيقته وهو كتاب إلهيّ ـ مضافاً إلى ما في لفظه من الفصاحة ، وفي نظمه من البلاغة ـ إنّما ترجع إلى معانيه ومقاصده ، لا ما يقصده علماء البلاغة من قولهم: «إنّ البلاغة من صفات المعنى» ; لأنّهم يعنون به المفاهيم من جهة ترتّبها الطبعيّ في الذهن ; من دون فرق بين الصدق والكذب والهزل والفحش وما جرى مجراها ، بل المراد من المعنى ما يصفه تعالى بأنّه كتاب حكيم ، ونور مبين ، وقرآن عظيم ، وهاد يهدي إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم ، وما يضاهي هذه التعبيرات .

وهذا هو الذي يصحّ أن يتحدّى به بمثل قوله ـ تعالى ـ : ( فَلْيَأْتُوابِحَدِيث مِّثْلِهِ) (1); فإنّا لا نسمّي الكلام حديثاً إلاّ إذا اشتمل على غرض هامّ يتحدّث به ، وكذا قوله ـ تعالى ـ : ( فَأْتُوابِسُورَة مِّثْلِهِ) (2); فإنّ الله لا يسمّي جماعة من آيات كتابه ـ وإن كانت ذات عدد ـ سورةً إلاّ إذا اشتملت على غرض إلهيّ تتميّز به عن غيرها .

ولولا ذلك لم يتمّ التحدّي بالآيات القرآنيّة ، وكان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عدداً ذا كثرة . . . ثمّ يقابل كلاًّ منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض .

فالذي كلّف به الخصم في هذه التحدّيات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن ، مضافاً إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهيّة .

والكلام الإلهي ـ مع ما تحدّى به في آيات التحدّي ـ يختلف بحسب ما يظهر من


(1) سورة الطور 52: 34 .
(2) سورة يونس 10: 38 .


صفحه 33

خاصّته ، فمجموع القرآن الكريم يختصّ بأنّه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصليّة ، وأخلاق كريمة ، وأحكام فرعيّة ، والسورة من القرآن تختصّ ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهيّة . . . وهذه خاصّة غير الخاصّة التي يختصّ بها مجموع القرآن الكريم ، والعدّة من السور كالعشر والعشرين منها تختصّ بخاصّة اُخرى ، وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوّع فيها ; فإنّها أبعد من احتمال الاتّفاق ، إلى أن قال:

إذا تبيّن ما ذكرنا ظهر أنّ من الجائز أن يكون التحدّي بمثل قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ) (1) الآية وارداً مورد التحدّي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهيّة ، ويختصّ بأنّه جامع لعامّة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِّثْلِهِ) (2) لما فيها من الخاصّة الظاهرة ، وهي: أنّ فيها بيان غرض تامّ جامع من أغراض الهدى الإلهي بياناً فصلاً من غير هزل . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ) (3) تحدّياً بعشر من السور القرآنيّة; لما في ذلك من التفنّن في البيان ، والتنوّع في الأغراض من جهة الكثرة . والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة والألف ، قال الله ـ تعالى ـ : ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة) (4) . إلى أن قال:

وأمّا قوله ـ تعالى ـ : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ) (5) فكأنّه تحدٍّ بما يعمّ التحدّيات الثلاثة السابقة ; فإنّ الحديث يعمّ السورة ، والعشر سور ، والقرآن كلّه ، فهو تحدٍّ


(1) سورة الإسراء 17: 88 .
(2) سورة يونس 10: 38 .
(3) سورة هود 11: 13 .
(4) سورة البقرة 2: 96 .
(5) سورة الطور 52: 34 .


صفحه 34

بمطلق الخاصّة القرآنيّة ، وهو ظاهر(1) .

ويرد عليه: أنّ ما أفاده وحقّقه وإن كان في نفسه تامّاً لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه يصلح وجهاً لأصل التحدّي بالواحد والكثير ، والتفنّن والتنوّع في هذا المقام . وأمّا التحدّي بالعشر بعد الواحد ، المخالف للترتيب الطبيعي الذي يبتني عليه الإشكال ، فما ذكره لا يصلح وجهاً له ; ضرورة أنّه بعد التحدّي بالواحد بما فيه من الخاصّة الظاهرة الراجعة إلى غرض تامّ جامع من الأغراض الإلهيّة ، كيف تصل النوبة إلى التحدّي بما يتضمّن التفنّن في البيان والتنوّع في الأغراض ؟ فإنّ العاجز من الإتيان بما فيه غرض واحد جامع ، كيف يتصوّر أن يقدر على ما فيه أغراض كثيرة متنوّعة؟ بداهة أنّ التنوّع فرع الواحد ، فمجرّد اختلاف الغرض في باب التحدّي ، وكون كلّ واحدة من الآيات الواردة في ذلك الباب مترتّباً عليها غرض خاصّ في مقام التحدّي ، لا يوجب تصحيح الترتيب والنظم الطبيعي ، أترى أنّ هذا الذي أفاده يسوّغ أن يكون التحدّي بمجموع القرآن متأخِّراً عن التحدّي بسورة واحدة ، مع أنّ الغرض مختلف ؟

فانقدح أنّ مجرّد الاختلاف لا يحسم مادّة الإشكال ، وأ نّ التحدّي بالعشر بعد الواحدة لا يكاد يمكن توجيهه بما ذكر .

ويمكن أن يقال في مقام التفصّي عن الإشكال: إنّ تقييد العشر بكونها مفتريات ، الوارد في هذه الآية فقط ، يوجب الانطباق على ما يوافق النظم الطبيعي .

توضيح ذلك: أ نّ الافتراء المدلول عليه بقوله ـ تعالى ـ : ( مُفْتَرَيَـت) يغاير الافتراء الواقع في صدر الآية في قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ) ; فإنّ الافتراء


(1) الميزان في تفسير القرآن: 10 / 171 ـ 174 تفسير الآية 13 من سورة هود .


صفحه 35

هناك افتراء بحسب نظر المدّعي ، ولا يقبله الطرف الآخر بوجه ، وفي الحقيقة يكون الافتراء المدّعى افتراءً واقعيّاً غير مطابق للواقع بوجه ، ولكنّ الافتراء هنا افتراء مقبول للطرفين ، والغرض ـ والله أعلم ـ أ نّ اتّصاف القرآن بالإعجاز وإن كان ركنه الذي يتقوّم به إنّما هو المقاصد الإلهية ، والأغراض الربوبيّة التي تشتمل عليها ألفاظه المقدّسة ، وعباراته الشريفة ، إلاّ أ نّه لا ينحصر بذلك ، بل لو فرض كون المطالب غير واقعيّة والقصص كاذبة، لكان البشر عاجزاً عن التعبير بمثل تلك الألفاظ ، مع النظم الخاصّ والاُسلوب المخصوص .

ففي الحقيقة: يكون التحدّي في هذه الآية ـ بعد الإغماض عن علوّ المطالب ، وسموّ المعاني ، وصدق القصص ، وواقعيّة المفاهيم ـ بخلاف التحدّي الواقع في الآية الكريمة في سورة يونس ; بالإتيان بسورة مثل سور القرآن ; فإنّ ظاهره المماثلة من جهة المزايا الراجعة إلى المعنى والخصوصيّات المشتملة عليها الألفاظ معاً .

نعم ، يبقى الكلام ـ بعد ظهور عدم كون المراد بالعشرة إلاّ الكثرة لا العدد الخاصّ ـ في حكمة العناية بالكثرة ، ولعلّها عبارة عن التنبيه على اشتمال الكتاب العزيز على خصوصيّة مفقودة في غيره ، ولا يكاد يقدر عليها البشر ، وإن بلغ مابلغ ، وهي الإتيان بقصّة واحدة بأساليب متعدّدة وتعبيرات مختلفة متساوية من حيث الوقوع في أعلى مرتبة البلاغة ، وبذلك ترتفع الشبهة التي يمكن أن تخطر بالبال ، بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والاُسلوب .

وهي: أنّ الجملة أو السورة المشتملة على القصّة يمكن التعبير عنها بعبارات مختلفة تؤدّي المعنى ، ولابدّ أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان ، مع السلامة من كلّ عيب لفظيّ أو معنويّ ، فمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها ; لأ نّ تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك ، ولكنّ القرآن عبّر عن بعض المعانيوبعض القصص بعبارات مختلفة الاُسلوب والنظم، من مختصر ومطوّل،


صفحه 36

والتحدّي في مثله لا يظهر في قصّة مخترعة مفتراة ، بل لابدّ من التعدّد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد والقصّة الواحدة بأساليب مختلفة وتراكيب متعدّدة .

رابعها : ومن الآيات الدالّة على التحدّي قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ) (1) .

والظاهر: أ نّها ناظرة إلى التحدّي بمجموع القرآن ; لأنّ المنساق من «الحديث» في مثل هذه الموارد هو الكتاب الكامل الجامع ، ويؤيّده توصيفه بالمثل المضاف إلى القرآن الظاهر في مجموعه .

ولو تنزّلنا عن ذلك ، فثبوت الإطلاق له بحيث يشمل ما دون سورة واحدة كجملة ونحوها في غاية الإشكال ; وإن كان مقتضى ما حكيناه عن المفسّر المتقدّم ذلك ، إلاّ أ نّه يبعّده ـ مضافاً إلى بعده في نفسه; فإنّ جملة واحدة من القرآن مشتملة على معنى ومقصود ، كيف يكون البشر عاجزاً عن الإتيان بمثلها؟! وقد عرفت(2)أ نّ بعض المفسِّرين أنكر كون بعض السور كذلك ، وإن استظهرنا من الكتاب خلافه ـ أ نّ التحدّي بسورة واحدة بعد ذلك ، كما وقع في سورة البقرة المدنيّة ، لا يبقى على هذا الفرض له مجال ، فالإنصاف أ نّ تعميم «الحديث» بحيث يشمل ما دون سورة واحدة ممّا لا يرتضيه الذوق السليم ، ولا يقتضيه التأمّل في آيات التحدّي في القرآن الكريم .

خامسها: قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوابِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ) (3) .

واحتمل في ضمير «مثله» أن يكون راجعاً إلى «ما» الموصولة في


(1) سورة الطور 52 : 33 ـ 34 .
(2) في ص 28 ـ 29 .
(3) سورة البقرة 2  : 23 .


صفحه 37

قوله ـ تعالى ـ : «ممّا نزّلنا» وأن يكون عائداً إلى العبد الذي هو الرسول الذي نزل عليه القرآن ، فعلى الأوّل يوافق من حيث المدلول مع الآية الكريمة المتقدّمة الواقعة في سورة يونس ، وعلى الثاني تمتاز هذه الآية من حيث ملاحظة من نزل عليه في مقام التحدّي .

والظاهر قوّة الاحتمال الأوّل; لأنّ المناسب بعد فرض الريب في الكتاب المنزل مع قطع النظر عمّن اُنزل عليه ، كما هو الظاهر من قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) الدالّ على أنّ متعلّق الريب نفس ما نزل هو التحدّي بخصوص ما وقع فيه الريب ، مع عدم لحاظ الواسطة أصلاً .

ويؤيّده سائر آيات التحدّي، حيث كان مدلولها اشتمال نفس القرآن على خصوصيّة معجزة للغير عن الإتيان بمثله في جملته أو بسورة من مثله ، مع أنّ لحاظ حال الواسطة ، الذي نزل عليه الكتاب من حيث كونه اُمّيّاً ليس له سابقة تعلّم ، ولم يتربَّ في حِجر معلِّم ومربٍّ أصلاً ، ربّما يشعر بإشعار عرفيّ بأنّ الكتاب من حيث هو لا يكون بمعجز ، بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وإن كان بالغاً في العلم ما بلغ .

وبالجملة: فالظاهر عود الضمير إلى الكتاب ، لا إلى من نزل عليه ، وعلى تقديره ، فالوجه في التعرّض له في هذه الآية يمكن أن يكون على ما في بعض التفاسير ; من أنّه لمّا كان كفّار المدينة الذين يوجّه إليهم الاحتجاج أوّلاً وبالذات هم اليهود ، وهم يعدّون أخبار الرسل في القرآن غير دالّة على علم الغيب; تحدّاهم بسورة من مثل النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اُمّيته ، ليشمل ذلك وغيره ، مع بقاء التحدّي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه غير مقيّد بكونه من مثل محمّد (صلى الله عليه وآله) (1) .


(1) تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 1 / 173 .


صفحه 38

ولكن هذا الوجه مبنيّ على كون وجه التحدّي في الآية إرادة نوع خاصّ من الإعجاز ، مع أنّه لم يثبت بل الظاهر من الآية خلافه ، فتدبّر جيّداً .

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام : أ نّ اتّصاف القرآن بأنّه معجز ممّا يدلّ عليه الآيات المشتملة على التحدّي ، وأ نّ مقتضاها اتّصاف كلّ سورة من سوره بذلك من دون فرق بين الطويلة والقصيرة ، وأ مّا ما دون السورة فلم يظهر من شيء من هذه الآيات الكريمة كونه كذلك ، وأ مّا وجه الإعجاز ، وأ نّ إعجازه عامّ ومن جميع الجهات ، أو خاصّ ومن بعض الجهات ، فسيأتي(1) التعرّض له إن شاء الله تعالى .

القرآن معجزة خالدة

من الحقائق التي لا يشكّ فيها مسلم ، بل كلّ من له أدنى مساس بعالم الأديان من الباحثين والمطّلعين; أنّ الكتاب العزيز هو المعجزة الوحيدة الخالدة ، والأثر الفرد الباقي بعد النبوّة ، ولابدّ من أن يكون كذلك ; فإنّه بعد اتّصاف الدين الإسلامي بالخلود والبقاء ، وتلبّس الشريعة المحمّدية بلباس الخاتميّة والدوام ، لا محيص من أن يكون بحسب البقاء ـ إثباتاً ـ له برهان ودليل ; فإنّ النبوّة والسفارة كما تحتاج في أصل ثبوتها ابتداءً إلى الإعجاز ، والإتيان بما يخرق العادة وناموس الطبيعة ، كذلك يفتقر في بقائها إلى ذلك ، خصوصاً إذا كانت دائميّة باقية ببقاء الدهر .

ومن المعلوم أنّ ما يصلح لهذا الشأن ليس إلاّ الكتاب ، ويدلّ هو بنفسه على ذلك في ضمن آيات كثيرة :

منها: قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (2) .


(1) في ص 41 ـ 42 .
(2) سورة الإسراء 17 : 88 .


صفحه 39

فإنّ التحدّي في هذه الآية عامّ شامل لكلّ من الإنس والجنّ ، أعمّ من الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)  ، بل الظاهر الشمول للسابقين عليه أيضاً ، وعموم التحدّي دليل على خلود الإعجاز كما هو ظاهر .

ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (الر كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَ طِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (1) .

فإنّ إخراج الناس الظاهر في العموم من الظلمات إلى النور بسبب الكتاب النازل ، كما تدلّ عليه لام الغاية ، لا يكاد يمكن بدون خلود الإعجاز ; فإنّ تصدّي الكتاب للهداية بالإضافة إلى العصور المتأخّرة إنّما هو فرع كونه معجزة خالدة ; ضرورة أنّه بدونه لا يكاد يصلح لهذه الغاية أصلاً .

ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَــلَمِينَ نَذِيرًا ) (2) .

فإنّ صلاحيّة الفرقان للإنذار كما هو ظاهر الآية بالنسبة إلى العالمين ، الظاهرة في الأوّلين والآخرين ، لا تتحقّق بدون الاتّصاف بخلود الإعجاز ، كما هو واضح .

ودعوى انصراف لفظ «العالمين» إلى خصوص الموجودين ، كما في قوله ـ تعالى ـ في وصف مريم: (وَاصْطَفَـئـكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَــلَمِينَ ) (3) ; ضرورة عدم كونها مصطفاة على جميع نساء الأوّلين والآخرين ، الشاملة لمن كان هذا الوصف مختصّاً بها ، وهي فاطمة الزهراء سلام الله عليها .

مدفوعة : بكون المراد بالعالمين في تلك الآية أيضاً هو الأوّلين والآخرين ،


(1) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(2) سورة الفرقان 25 : 1 .
(3) سورة آل عمران 3 : 42 .


صفحه 40

غاية الأمر أنّ المراد بالاصطفاء فيها ـ كما تدلّ عليه الرواية المعتبرة(1) ـ هو الولادة من غير بعل ، ومن الواضح اختصاص هذه المزيّة بمريم ، وانحصارها بها ، وعدم مشاركة أحد من النساء لمريم فيها .

وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في كون المراد من العالمين في آية الفرقان ليس خصوص الموجودين في ذلك العصر .

ومنها: غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يستفاد منها ذلك ، ولا حاجة إلى التعرّض لها بعد وضوح الأمر وظهور المطلوب .

عدم اختصاص إعجاز القرآن بوجه خاصّ

لا يرتاب ذو مسكة في اختلاف طبقات الناس وتنوّع أفراد البشر في اجتناء الكمالات العلميّة المختلفة ، وحيازة الفنون المتشتّتة . والوجه في ذلك ـ مضافاً إلى افتقار تحصيل كلّ واحدة منها إلى صرف مؤونة الزمان ، وغيره من المقدّمات الكثيرة والأسباب المتعدّدة ـ اختلافهم بحسب النظر والتفكّر وتفاوتهم بلحاظ الذوق والعلاقة ، فترى بعضهم يشتري بعمره الطويل الوصول إلى العلوم الصناعيّة ، وبعضاً آخر يتحمّل مشقّات فوق الطاقة العاديّة لتحصيل علم الفلسفة مثلاً ، وهكذا سائر العلوم والمعارف المادّية والمعنويّة ، بل اتّساع دائرة جميع العلوم اقتضى انقسام كلّ واحدة منها إلى شعب وأقسام ، بحيث لا يكاد يوجد من حازه بجميع شعبه وناله بتمام أقسامه .

وهذا كما في علم الطبّ في هذه الأزمنة والعصور المتأخِّرة ; فإنّه لا يوجد واحد مطّلع على جميع شؤونه المتكثّرة وشعبه المتعدّدة ، بل بعد صرف زمان طويل


(1) تفسير القمي: 1 / 102 ، التبيان في تفسير القرآن: 2 / 456 ـ 457 ، وفي بحار الأنوار: 14/12 قطعة من ح8 عن تفسير القمّي .


صفحه 41

وتهيئة مقدّمات كثيرة قد يقدر على الوصول إلى بعض شعبه ، وحصول المهارة الكاملة في خصوص تلك الشعبة ، كما نراه بالوجدان .

وبالجملة: ما ذكرناه في اختلاف طبقات البشر ، واتّساع دائرة كلّ واحد من العلوم ، بحيث لا يكاد يمكن الوصول إلى واحد بتمام شؤونه ، فكيف الجميع ممّا لا حاجة في إثباته إلى بيِّنة وبرهان ، بل يكفي في تصديقه مجرّد ملاحظة الوجدان؟!

وحينئذ نقول: إنّ الكتاب العزيز ، والقرآن المجيد حيث يكون الغرض من إنزاله ، والغاية من إرساله اهتداء عموم الناس ، وخروجهم من الظلمات إلى النور ، كما صرّح هو بذلك في الآية المتقدّمة من سورة إبراهيم .

والظاهر كما عرفت عدم اختصاص الناس بخصوص الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)  ; لأ نّه كما تقدّم معجزة خالدة إلى يوم القيامة ، مضافاً إلى أ نّه كتاب جامع لجميع الكمالات المعنويّة ، والفضائل الروحيّة ، والقوانين العمليّة ، والدستورات الكاملة الدنيويّة ، حيث إنّه يتضمّن البحث عن الاُصول الاعتقاديّة المطابقة للفطرة السليمة ، وعن الفضائل الأخلاقيّة ، والقوانين الشرعيّة ، والقصص الماضية ، والحوادث الآتية ، وبالتالي عن جميع الموجودات الأرضيّة والسماويّة ، وجميع الحالات والعوالم ، وكلّ ما له دخل في سعادة الإنسان في الدار الفانية والدار الباقية ، فمثل هذا الكتاب الذي ليس كمثله كتاب كيف يمكن أن يكون إعجازه من وجه خاصّ ، مع كونه واقعاً قبال جميع البشر ، بل والجنّ أيضاً ؟!

والذي ينادي بذلك بأعلى صوته قوله ـ تعالى ـ :

( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (1)


(1) سورة الإسراء 17 : 88 .


صفحه 42

وجه الدلالة أوّلاً: فرض اجتماع الإنس والجنّ ، وفي الحقيقة دعوتهم إلى الإتيان بمثل القرآن ، مع أنّك عرفت ثبوت الاختلاف بينهم ، واختصاص كلّ طبقة وطائفة بفضيلة خاصّة من سنخ الفضائل التي يشتمل عليها الكتاب ، فكيف يمكن أن يكون وجه الإعجاز هو البلاغة والفصاحة مثلاً ، مع أنّه لم يقع التصدّي للوصول إلى هذين العِلمين إلاّ من صنف خاصّ قليل الأفراد ؟ فدعوة غيره إلى الإتيان بمثل القرآن من خصوص هذه الجهة لا يترتّب عليها فائدة أصلاً ، فتوجّه الدعوة إلى العموم دليل ظاهر على عدم اختصاص الإعجاز بوجه خاصّ .

وثانياً: قد عرفت اشتمال الكتاب العزيز على جهات متكثّرة ، وشؤون مختلفة من الاُصول الاعتقاديّة الراجعة إلى الإلهيّات والنبوّات وغيرهما ، والفضائل الأخلاقيّة والسياسات المدنيّة ، والقوانين التشريعيّة العمليّة ، وغير ذلك من القصص والحكايات الماضية والحوادث الكائنة في الآتية ، والاُمور الراجعة إلى الفلكيات ، ووصف الموجودات السماويّة والأرضيّة ، وغير ذلك ، مضافاً إلى الجهات الراجعة إلى مقام الألفاظ والعبارات ، وحينئذ عدم ذكر وجه المماثلة في الآية الكريمة ، مع عدم الانصراف إلى وجه خاصّ من تلك الوجوه المذكورة دليل على عدم الاختصاص ، وأ نّ اجتماع الجنّ والإنس واستظهار بعضهم ببعض لا يكاد يؤثّر في الإتيان بمثل القرآن في شيء من الوجوه المذكورة .

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا فساد دعوى اختصاص الإعجاز بوجه خاصّ أيّ وجه كان . نعم ، قد وقع التحدّي في الكتاب ببعض الوجوه والمزايا ، ولا بأس بالتعرّض لها ولبعض ما لم يقع التحدّي فيه بالخصوص ، تتميماً للفائدة ، وتعظيماً للكتاب الذي هو المعجزة الوحيدة الخالدة .


صفحه 43

التحدّي بمن اُنزل عليه القرآن

ممّا وقع التحدّي به في الكتاب العزيز هو الرسول الاُمّي ، الذي أُنزل عليه القرآن ، قال الله ـ تعالى ـ :

(وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَـت قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَان غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُو مِن تِلْقَآىِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم * قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُو عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَلـكُم بِهِفَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِأَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) .

فإنّ قوله ـ تعالى ـ : ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) يرجع إلى أ نّ من كان له حظّ من نعمة العقل ، التي هي عمدة النعم الإلهيّة ، إذا رجع إلى عقله واستقضاه يعرف أنّ الكتاب الذي أتى به النبيّ الذي كان فيهم مدّة أربعين سنة ، وفي تلك المدّة مع وضوح حاله واطّلاع الناس على وضعه لم ينطق بعلم ، حتّى أنّه مع تداول الشعر وشيوعه بينهم ، بحيث لا يرون القدر إلاّ له ، ولا يرتّبون الأجر إلاّ عليه ، وكان هو السبب الوحيد في الامتياز والفضيلة ، لم يصدر منه شعر ، بل ولم يأتِ بنثر ما ، لا محالة يكون من عند الله ; فإنّه كيف يمكن أن يأتي الاُمّي بكتاب جامع لجميع الكمالات اللفظيّة والمعنويّة ، والقوانين والحدود الدينيّة والدنيويّة؟!

نعم ، حيث عجزوا عن معارضته ، وكلّت ألسنة البُلغاء دونه ، لم يجدوا بدّاً من الافتراء الظاهر ، والبهتان الواضح ، فقالوا فيه: إنّه سافر إلى الشام للتجارة ، فتعلّم القصص هناك من الرهبان ، ولم يتعقّلوا أنّه لو فرض ـ محالاً ـ صحّة ذلك ، فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه القوانين والأحكام ، وهذه الحِكم والحقائق ؟ وممّن هذه البلاغة في جميع الكتاب ؟

كما أنّه أخذوا عليه أنّه كان يقف على قين بمكّة من أهل الروم كان يعمل


(1) سورة يونس 10 : 15 ـ 16 .


صفحه 44

السيوف ويبيعها (1) ، ولقد أجابهم عن ذلك الكتاب بقوله ـ عزّوجلّ ـ :

(وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُو بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ ) (2) .

كما أنّه قالوا فيه: إنّه أخذ من سلمان الفارسي ، وهو من علماء الفرس ، وكان عالماً بالمذاهب والأديان ، مع أنّ سلمان إنّما آمن به في المدينة بعد نزول أكثر القرآن بمكّة(3) ، مضافاً إلى اختلاف الكتاب مع العهدين في القصص وفي غيرها اختلافاً كثيراً ، مع أنّه لم يكن حينئذ وجه لإيمان سلمان به ، مع كونه هو الأصل في الفضيلة على هذا القول ، ولعمري أنّ مثل ذلك ممّـا لا مساغ للتفوّه به .

فانقدح أ نّ اُميّة الرسول (صلى الله عليه وآله) من وجوه الإعجاز التي قد وقع التحدّي بها في الكتاب ، كما عرفت .

التحدّي بعدم الاختلاف وبالسلامة والاستقامة

قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ


(1) مجمع البيان في تفسير القرآن: 6 / 188 . وغيره من التفاسير .
(2) سورة النحل 16: 103 .
(3) سلمان الفارسي ، صحابي جليل ، ولد برامُهرْمُز ، مدينة مشهورة بنواحي خوزستان . أبوه من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ . . . وبعد أن قدم النبيُّ (صلى الله عليه وآله) المدينة مهاجراً ، لقيه سلمان بقباء فأسلم . فكان مؤمناً صادقاً ، نال حظوة عظيمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد قال عنه: «سلمان منّا أهل البيت» حينما اختلف عليه المهاجرون والأنصار وكلّ منهم يقول: «سلمان منّا» [  المستدرك على الصحيحين: 3 / 691 ح6541 ، سير أعلام النبلاء: 3 / 341 ، مجمع البيان في تفسير القرآن: 2 / 268 وج8 / 112 ، وعنه بحار الأنوار: 17 / 170 وج20 / 189 و 198]  . ولمّا سئل عنه عليُّ (عليه السلام) قال: «هو منّا أهل البيت (عليهم السلام) » . الاحتجاج: 1 / 616، الرقم 139، وعنه بحارالأنوار: 22 / 330 ح 38 . توفّي سنة 36 هـ ، وقبره يُزار بالمدائن التي كان والياً عليها ، وتبعد عن بغداد ستِّ فراسخ . من مصادر ترجمته اُسد الغابة في معرفة الصحابة: 2 / 283 ، الرقم 2149 ، سير أعلام النبلاء: 3 / 317 ـ 353 ، الرقم 96 ، الإصابة في تمييز الصحابة: 3 / 141 ـ 142 ، الرقم 3359 .

<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>