( الصفحه 546 )
لا ينطبق على شيء من أجزائه أحد العنوانين .
ويتحصّل ممّا ذكر انّه لابدّ من الالتزام بكون هذه الروايات في مقام بيان الضابطة ولا محيص عن كون المراد منها ما ذكرنا ، وامّا من الالتزام بعدم وقوع التعرّض لبيان الضابطة في ألسنتهم (عليهم السلام) وهو أيضاً دليل على التوسعة ، غاية الأمر انّه على التقدير الأوّل تكون التوسعة في ناحية نفس القبلة; لأنّها عبارة عن مجموع ما بين المشرق والمغرب وعلى التقدير الثاني تكون التوسعة المستفادة من عدم التعرّض أعمّ من توسعة القبلة وتوسعة الاستقبال كما لا يخفى .
الثاني : بعض الروايات الدالّة على أنّ جعل الجدي في القفا أمارة للقبلة كرواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن القبلة فقال : ضع الجدي في قفاك وصلّه .
والمراد من القفا امّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين ، وامّا أن يكون هو المقدار الذي وقع ظهر الوجه هو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق وطرفي اليمين واليسار وعلى أي تقدير فمقتضى إطلاق الرواية عدم الاختصاص بوسط القفا بل يجوز وضعه في كلّ جزء من الأجزاء .
كما انّ مقتضى الإطلاق عدم الاختصاص بحالتي ارتفاع الجدي وانخفاضه الذي يكون في الحالتين على دائرة نصف النهار ، بل يعمّ جميع حالات الجدي الذي هو نجم لا يزول وقد فسّر في بعض الروايات قوله تعالى : (وبالنجم هم يهتدون)بالجدي كما في رواية إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد عن آبائه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وبالنجم هم يهتدون ، الجدي لأنّه نجم لا يزول ، وعليه بناء القبلة وبه يهتدي أهل البرّ والبحر . وبالجملة ظاهر إطلاق الرواية عدم الاختصاص بالحالتين أصلا .
( الصفحه 547 )
وامّا من جهة كون المخاطب هو محمد بن مسلم وهو عراقي كوفي فلا ينبغي الإشكال في عدم كون وضع الجدي على القفا علامة لجميع المسلمين مع اختلاف بلادهم وتفاوت مناطقهم ولكنّه لم يعلم انّ هذه العلامة علامة لجميع أهل العراق أو لخصوص أوساطه كالكوفة التي كان الراوي منسوباً إليها وبغداد ومثلهما .
كما انّه لم يعلم انّ المراد من الرواية انّ الرجوع إلى هذه العلامة إنّما هو في خصوص صورة عدم التمكّن من تحصيل العلم أو انّه لا يختصّ بذلك ، بل يجوز للمتمكّن أيضاً أن يضع الجدي في قفاه ويصلّي ولكن لا يبعد دعوى انّ ظاهر الرواية عدم الاختصاص فهل يمكن القول باختصاص الاستفادة من هذه العلامة بما إذا لم يكن مثل الراوي قادراً على الوصول إلى البلد والدخول في مسجد الكوفة وتشخيص القبلة بسببه فالرواية من هذه الجهة مطلقة أيضاً .
وبالجملة فالمستفاد من الرواية بلحاظ جعل الجدي مطلقاً في القفا كذلك علامة لجميع بلاد العراق أو خصوص الأوساط منه مع انّ أراضي العراق غير واقعة في شمال الكعبة حقيقة بل هي مائلة إلى الشرق انّ القبلة مبتنية على التوسعة ضرورة انّ اختلاف حالات الجدي وإطلاق أجزاء القفا يقتضي التوجّه إلى نقطة الجنوب تارة والانحراف عنها قليلا اُخرى وكثيراً ثالثة كما لا يخفى ، وهذا لا يتمّ إلاّ مع التوسعة المذكورة ، وقد عرفت عدم اختصاص الرواية بغير المتمكّن بل هي مطلقة ومرجعها إلى جواز الرجوع إلى هذه العلامة كذلك .
الثالث : ما جعله المحقّق (قدس سره) في الشرائع علامة لأهل العراق من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن أو جعل المشرق على الأيمن والمغرب على الأيسر فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف ضرورة انّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة الاُولى يلزم انّ ينحرف عن نقطة
( الصفحه 548 )
الجنوب نحو المغرب امّا قليلا لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق وامّا كثيراً لو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد ، ولو عمل على طبق الامارة الثانية لزم الانحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الانحراف المذكور . ولو عمل على طبق الامارة الثالثة فاللاّزم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب فمقتضى العلامات مختلف ولذا اعترض عليه جماعة من الأصحاب بذلك وكن الذي يدفع الاعتراض كون أمر القبلة مبنياً على التوسعة بحيث لا يقدح فيها الاختلاف المذكور ودعوى عدم كون هذه الامارات علامات لجميع أهل العراق بل يختص كلّ واحدة منها بطائفة من بلاد العراق فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة وبغداد والثانية للبلاد الغربية كسنجار والموصل والثالثة للبلاد الشرقية كالبصرة وما والاها مدفوعة بعدم الشاهد عليها لعدم القرينة في التخصيص مضافاً إلى ما ربّما يقال من أنّ قبلة الأطراف الغربية من العراق كالموصل هي نقطة الجنوب دون الانحراف عنها إلى جانب المشرق فهذه الدعوى ساقطة .
تتميم : ذكر المحقّق في الشرائع بعد العلامات المتقدّمة لأهل العراق انّه يستحبّ لهم التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلا وادّعى في الجواهر انّه المشهور نقلا وتحصيلا واستشكل على المحقّق نصير الملّة والدين ـ على ما حكى عنه ـ لما حضر مجلس درسه يوماً واتفق الكلام في هذه المسألة بما يرجع إلى أنّ التياسر أمر إضافي لا يتحقّق إلاّ بالإضافة إلى صاحب يسار متوجّه إلى جهة فإن كانت تلك الجهة محصلة لزم التياسر عمّا وجب التوجّه إليه وهو حرام لأنّه خلاف مدلول الآية وإن لم تكن محصلة لزم عدم إمكان التياسر إذ تحقّقه موقوف على تحقّق الجهة التي يتياسر
( الصفحه 549 )
عنها يكفى يتصوّر الاستحباب بل المتّجه ـ حينئذ ـ وجوب التياسر المحصل لها وأجابه المحقّق بأنّه من القبلة إلى القبلة ثمّ كتب في المسألة رسالة في تحقيق الجواب فاستحسنه المحقّق المزبور وحكى عن الحدائق انّ ابن فهد نقل الرسالة المزبورة بعينها في كتابه المهذب من أحبّ الوقوف على ذلك فليراجع الكتاب المذكور .
وربّما يقال : بأنّ مبني الحكم المزبور انّ القبلة للبعيد هي عين الحرم والوقوف إلى يسار المصلّي منهم يوجب محاذاة العين قطعاً لما في بعض الروايات من أنّ الحرم عن يمين الكعبة أربعة أمثال وعن يسارها ثمانية أمثال كلّها اثنى عشر ميلا فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن القبلة لقلّة انصاب الحرم وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجاً عن حدّ القبلة .
ويؤيّد هذا القول ما عن نهاية الشيخ (قدس سره) قال : من توجّه إلى القبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة فعليه أن يتياسر قليلا ليكون متوجّهاً إلى الحرم بذلك جاء الأثر عنهم (عليهم السلام) .
ولكن الظاهر عدم كون مبنى الحكم المزبور ذلك لأنّه لا يجتمع مع ثبوت الشهرة عليه كما عرفت من الجواهر مع أنّه كان مبناه ذلك لكان الجواب عن التيامن فقط ، بل في مقابل عدم الانحراف أيضاً ومقتضى المبنى المزبور نفي التيامن فقط كما لايخفى .
وأحسن ما ذكر في هذا المقام ما أفاده العلاّمة المجلسي (قدس سره) في مجلّد الصلاة من كتاب بحار الأنوار حيث قال : «والذي يخطر في ذلك بالبال انّه يمكن أن يكون الأمر بالانحراف لأنّ محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خط نصف النهار كثيراً مع أنّ الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضية كمسجد الكوفة فإنّ انحراف قبلته إلى اليمين أزيد ممّا تقتضيه القواعد بعشرين
( الصفحه 550 )
درجة تقريباً وكذا مسجد السهلة ومسجد يونس ، ولمّا كان أكثر تلك المساجد مبنية في زمان خلفاء الجور لم يمكنهم القدح فيها تقية فأمروا بالتياسر وعلّلوه بتلك الوجوه الخطابية لإسكانهم وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور واُمرائهم ، وما ذكره أصحابنا من أنّ محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه إنّما يثبت انّ الإمام (عليه السلام) بناه ومعلوم انّه (عليه السلام) لم يبنه أو صلّى فيه من غير انحراف وهو أيضاً غير ثابت بل يظهر من بعض ناسخ لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدلّ على خلافه كما سيأتي ذكره ، مع أنّ الظاهر من بعض الأخبار انّ هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) .