( الصفحه 622 )
الحكم اللزومي ، بل هي أعمّ منه فإنّ صاحب الجواهر (قدس سره) مع اتكائه على هذه السيرة وإنكار المتشرّعة أفتى بجواز النظر إلى جميع جسد المرأة لمن أراد التزويج معها مع أنّ هذا ممّا ينكره المتشرّعة أشد الإنكار فيظهر من ذلك انّ السيرة قاصرة عن اخثبات الحكم اللزومي .
ومنها : انّ عدم التستّر والنظر ربّما يوجب الوقوع في الفتنة والحرام وحيث إنّ نظر الشارع عدم تحقّق الفتنة بوجه فيكشف ذلك عن وجوب التستّر وحرمة النظر .
وقد أجاب الشيخ الأعظم (قدس سره) عن هذا الوجه بأنّ المعهود من الشارع في أمثال هذه الموارد هو الحكم بالكراهة دون التحريم كالروايات الدالّة على حسن الاحتياط في الشبهات الحكمية وان ارتكاب الشبهات ربّما يوجب الوقوع في حمى الله ومحرّماته وقد ثبت في الاُصول انّ مقدّمة الحرام ليست بمحرمة ولو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب ، نعم المقدّمة التي هي علّة تامّة لوقوع الحرام بحيث يترتّب عليها قهراً من دون تخلّل الإرادة والاختيار تكون محرّمة ومن المعلوم انّ النظر وكذا عدم التستّر لا يكون كذلك .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا انّ الوجوه التي استدلّ بها على وجوب ستر الوجه والكفّين كلّها مخدوشة مردودة .
وامّا القول بالتفصيل بين النظرة الاُولى وغيرها فمستنده روايات ظاهرة في ذلك :
منها : رواية الكاهلي قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : وقال (عليه السلام) : أوّل نظرة لك والثانية عليك ولا لك
( الصفحه 623 )
والثالثة فيها الهلاك .
ومنها : ما رواه أيضاً في الخصال باسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال : لكم أوّل نظرة إلى المرأة فلا تتبعوها نظرة اُخرى واحذروا الفتنة .
ومنها : ما رواه أيضاً في عيون الأخبار عن محمد بن عمر الجعابي عن الحسن بن عبدالله بن محمد الرازي عن أبيه عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من قتل حيّة قتل كافراً ، وقال : لا تتبع النظرة النظرة فليس لك يا علي إلاّ أوّل نظرة .
والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية : انّ البحث إنّما هو في النظر إلى الوجه والكفّين وليس في هذه الروايات إطلاق يشمل النظر إليهما ، بل موردها هو النظر المحرّم ، وامّا ان أيّ نظر يكون محرّماً فلا دلالة لها عليه .
وبالجملة شمول الروايات للنظر إلى الوجه والكفّين والحكم بالتفصيل فيه غير واضح .
وربما يقال : بأنّ المراد من النظرة الاُولى هي النظرة غير العمدية ومن الثانية هي النظرة العمدية ولكنه لا شاهد على هذا القول أصلا فظهر من جميع ما ذكرنا عدم تمامية أدلّة القائلين بوجوب ستر الوجه والكفّين ، امّا مطلقاً أو في غير النظرة الاُولى ، وهنا شواهد وأدلّة على عدم الوجوب :
الأوّل : الآية الشريفة المتقدّمة المشتملة على استثناء ما ظهر من الزينة بناء على تفسيرها بالوجه والكفّين ، كما لعلّه الظاهر من الآية وقد وردت به روايات على ما تقدّم ، نعم لو قلنا بأنّ الروايات الواردة في تفسيرها مختلفة وانّ الزينة الظاهرة تكون مجملة لكان لازمه إجمال المخصّص المتّصل وهو يسري إلى العام ويصير سبباً لإجماله ، وعليه فلا دلالة في الآية على جواز كشفهما ، كما انّه لا دلالة لها على حرمة
( الصفحه 624 )
إبدائهما على ما هو المفروض فيصير وجوب سترهما مشكوكاً ولا حاجة ـ حينئذ ـ للقائل بالجواز إلى إقامة الدليل عليه بعد اقتضاء أصالة البراءة لعدم الوجوب .
الثاني : الروايات الواردة في المقام وهي كثيرة :
منها : ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال : الوجه والكفّان والقدمان ، ورواه الصدوق في الخصال عن محمد بن الحسن عن الصفّار عن أحمد بن محمد مثله . وهذه الرواية وإن كانت مرسلة إلاّ انّ في السند أحمد بن محمد بن عيسى الذي أخرج البرقي من «قم» لنقله الرواية من الضعاف فاشتمال السند على أحمد يجبر الإرسال ، كما انّ نقله عن مروك دليل على أنّه معتمد مضافاً إلى تعبير أهل الرجال عنه بأنّه شيخ صدوق فالرواية من جهة السند غير قابلة للمناقشة .
وامّا من حيث الدلالة فواضحة ولكنّه ربّما يناقش فيها بأنّ اشتمالها على القدمين يوجب الوهن فيها لعدم جواز النظر إلى القدمين إجماعاً ولكنّه أجاب عنها الشيخ (قدس سره) بأنّه لا مانع من الالتزام بكون الرواية مطروحة بالإضافة إلى خصوص القدمين ولا يوجب ذلك إشكالا بالإضافة إلى الوجه والكفّين ، وامّا صاحب الحدائق (قدس سره) فقد التزم بجواز النظر إلى القدمين أيضاً لأجل اشتمال الرواية عليهما .
ومنها : رواية مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفراً وسئل عمّا تظهر المرأة من زينتها قال : الوجه والكفّين .
ومنها : ما عن قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل ما يصلح أن ينظر إلى المرأة التي لا تحلّ له؟ قال : الوجه والكفّان وموضع السوار .
( الصفحه 625 )
ولا يخفى انّ نفس السؤال دليل على أنّه كان في ذهن السائل وهو علي بن جعفر عدم وجوب ستر المرأة جميع بدنها وانّه ليس بحيث لا يجوز النظر إلى الجميع ، بل كان هناك مقدار لا يجب ستره ويجوز النظر إليه ، وإنّما كان السؤال عن تعيينه ، ولم يستبعد المحقّق السبزواري (قدس سره) في محكي الكفاية صحّة سند هذه الرواية .
ومنها : رواية علي بن سويد قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها فقال : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق وإيّاك والزنا فانّه يمحق البركة ويهلك الدين .
والظاهر انّ معنى الابتلاء بالنظر إلى المرأة الجميلة كون حرفته وعلمه مقتضياً للنظر إليها كما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، وقال في الجواهر : إنّ المراد هي النظرة غير العمدية مع أنّه لا يلائم قوله (عليه السلام) : إذا عرف الله من نيّتك الصدق ، فإنّه يدلّ على أنّ النظر كان ناشئاً عن النيّة والقصد ويستفاد من الرواية عدم تداول ستر الوجه في ذلك الزمان وإلاّ لم يتحقّق الابتلاء ، وعدم تذكّر الإمام (عليه السلام) لعلي بن سويد النهي عن المنكر وعدم تنبّهه عليه ظاهر في عدم كونه منكراً فتدبّر .
ومنها : رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها لما كسر ، وامّا ما جرح في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء أيصلح له النظر إليها؟ قال : اخذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت . فإنّ المستفاد من قول السائل وهو أبو حمزة الثمالي ـ الذي كان من أعيان أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) ومن وجوه الشيعة صاحب الدعاء المعروف ـ : «في مكان لا يصلح النظر إليه» انّ من جسد المرأة موضعاً يصلح النظر إليه وإلاّ يكون ذكر هذه الجملة لغواً لا يترتّب عليها أثر أصلا ولا يكون ذلك الموضع إلاّ الوجه والكفّين للإجماع على عدم جواز النظر إلى غيرهما .
( الصفحه 626 )
ومنها : الروايات الواردة في باب غسل المرأة الميتة التي منها رواية مفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : جعلت فداك ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهن لها ذو محرم ولا معهم امرأة فتموت المرأة ما تصنع بها؟ قال : يغسل منها ما أوجب الله عليها التيمّم ولا تمسّ ولا يكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها ، قلت : فكيف يصنع بها؟ قال : يغسل بطن كفّيها ثمّ يغسل وجهها ثمّ يغسل ظهر كفّيها . فإنّ المستفاد منها انّ مواضع التيمّم ليست من المحاسن التي أمر الله بسترها فهي لا يجب سترها وفيها إشعار بكون المراد من الزينة الظاهرة المستثناة في الكريمة المتقدّمة هي مواضع التيمّم التي هي عبارة عن الوجه والكفّين ظاهرهما وباطنهما كما لا يخفى .
ومنها : الروايات الواردة في تروك الاحرام الدالّة على حرمة تغطية الوجه للمرأة كرواية عبدالله بن ميمون عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال : المرأة لا تتنقّب لأنّ إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه . ورواية أحمد بن محمد «بن أبي نصر ـ خ» عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : مرّ أبوجعفر (عليه السلام) بامرأة محرمة قد استترت بمروحة فأماط المروحة بنفسه عن وجهها .
ورواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : مرّ أبو جعفر (عليه السلام) بامرأة متنقّبة وهي محرمة فقال : احرمي واسفري وأرخي ثوبك من فوق رأسك فإنّك إن تنقبت لم يتغيّر لونك قال رجل : إلى أين ترخيه؟ قال : تغطّي عينها قال : قلت : تبلغ فمها؟ قال : نعم .
فإنّ إيجاب كشف الوجه عليها في حال الإحرام وتحريم تغطيته يؤيّد بل يدلّ على عدم وجوب الستر عليها في غير حال الإحرام لأنّه من البعيد جدّاً أن يصير المحرم في غير حال الإحرام واجباً في حاله ، وامّا صيرورة الجائز واجباً أو محرماً