( الصفحه 625 )
ولا يخفى انّ نفس السؤال دليل على أنّه كان في ذهن السائل وهو علي بن جعفر عدم وجوب ستر المرأة جميع بدنها وانّه ليس بحيث لا يجوز النظر إلى الجميع ، بل كان هناك مقدار لا يجب ستره ويجوز النظر إليه ، وإنّما كان السؤال عن تعيينه ، ولم يستبعد المحقّق السبزواري (قدس سره) في محكي الكفاية صحّة سند هذه الرواية .
ومنها : رواية علي بن سويد قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها فقال : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق وإيّاك والزنا فانّه يمحق البركة ويهلك الدين .
والظاهر انّ معنى الابتلاء بالنظر إلى المرأة الجميلة كون حرفته وعلمه مقتضياً للنظر إليها كما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، وقال في الجواهر : إنّ المراد هي النظرة غير العمدية مع أنّه لا يلائم قوله (عليه السلام) : إذا عرف الله من نيّتك الصدق ، فإنّه يدلّ على أنّ النظر كان ناشئاً عن النيّة والقصد ويستفاد من الرواية عدم تداول ستر الوجه في ذلك الزمان وإلاّ لم يتحقّق الابتلاء ، وعدم تذكّر الإمام (عليه السلام) لعلي بن سويد النهي عن المنكر وعدم تنبّهه عليه ظاهر في عدم كونه منكراً فتدبّر .
ومنها : رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها لما كسر ، وامّا ما جرح في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء أيصلح له النظر إليها؟ قال : اخذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت . فإنّ المستفاد من قول السائل وهو أبو حمزة الثمالي ـ الذي كان من أعيان أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) ومن وجوه الشيعة صاحب الدعاء المعروف ـ : «في مكان لا يصلح النظر إليه» انّ من جسد المرأة موضعاً يصلح النظر إليه وإلاّ يكون ذكر هذه الجملة لغواً لا يترتّب عليها أثر أصلا ولا يكون ذلك الموضع إلاّ الوجه والكفّين للإجماع على عدم جواز النظر إلى غيرهما .
( الصفحه 626 )
ومنها : الروايات الواردة في باب غسل المرأة الميتة التي منها رواية مفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : جعلت فداك ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهن لها ذو محرم ولا معهم امرأة فتموت المرأة ما تصنع بها؟ قال : يغسل منها ما أوجب الله عليها التيمّم ولا تمسّ ولا يكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها ، قلت : فكيف يصنع بها؟ قال : يغسل بطن كفّيها ثمّ يغسل وجهها ثمّ يغسل ظهر كفّيها . فإنّ المستفاد منها انّ مواضع التيمّم ليست من المحاسن التي أمر الله بسترها فهي لا يجب سترها وفيها إشعار بكون المراد من الزينة الظاهرة المستثناة في الكريمة المتقدّمة هي مواضع التيمّم التي هي عبارة عن الوجه والكفّين ظاهرهما وباطنهما كما لا يخفى .
ومنها : الروايات الواردة في تروك الاحرام الدالّة على حرمة تغطية الوجه للمرأة كرواية عبدالله بن ميمون عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال : المرأة لا تتنقّب لأنّ إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه . ورواية أحمد بن محمد «بن أبي نصر ـ خ» عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : مرّ أبوجعفر (عليه السلام) بامرأة محرمة قد استترت بمروحة فأماط المروحة بنفسه عن وجهها .
ورواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : مرّ أبو جعفر (عليه السلام) بامرأة متنقّبة وهي محرمة فقال : احرمي واسفري وأرخي ثوبك من فوق رأسك فإنّك إن تنقبت لم يتغيّر لونك قال رجل : إلى أين ترخيه؟ قال : تغطّي عينها قال : قلت : تبلغ فمها؟ قال : نعم .
فإنّ إيجاب كشف الوجه عليها في حال الإحرام وتحريم تغطيته يؤيّد بل يدلّ على عدم وجوب الستر عليها في غير حال الإحرام لأنّه من البعيد جدّاً أن يصير المحرم في غير حال الإحرام واجباً في حاله ، وامّا صيرورة الجائز واجباً أو محرماً
( الصفحه 627 )
فلا بعد فيه أصلا .
ومنها : رواية عمرو بن شمر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد فاطمة(عليها السلام) وأنا معه فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه ثمّ قال : السلام عليكم فقالت فاطمة(عليها السلام) : وعليك السلام يا رسول الله قال ادخل؟ قالت : ادخل يا رسول الله ، قال : ادخل ومن معي؟ قالت : ليس عليَّ قناع ، فقال : يافاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعني به رأسك ففعلت ثمّ قال : السلام عليك فقالت : وعليك السلام يا رسول الله قال : ادخل؟ قالت : نعم يا رسول الله قال : أنا ومن معي؟ قالت : ومن معك قال جابر : فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله)ودخلت وإذا وجه فاطمة(عليها السلام) أصفر كأنّه بطن جرادة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت : يا رسول الله الجوع فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللهمّ مشبع الجوعة ودافع الضيعة اشبع فاطمة بنت محمد قال جابر : فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتّى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم .
ومنها : غير ذلك من الروايات الواردة في موارد مختلفة التي تظهر بالتتبّع وبذلك يتمّ الكلام في الجهة الاُولى من الجهتين المبحوث عنهما في باب الستر على ما عرفت .
وامّا الكلام في الجهة الثانية وهي الستر الذي يجب شرطاً للصلاة ونحوها فنقول : قد عرفت الفرق بينه وبين الستر الواجب النفسي من جهات متعدّدة والكلام فيها أيضاً يقع في مقامين :
المقام الأوّل : فيما يتعلّق بالرجال فنقول : قد اتفق الأصحاب على أنّ الواجب على الرجال هو ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي فلا يجب عليهم إلاّ ستر العورة فقط والعورة كما عرفت عبارة عن أصل القضيب والبيضتين والدبر
( الصفحه 628 )
وأوجب بعض العامّة عليهم أن يستروا جميع ما بين السرّة والركبة ولكن لا دليل عليه بل يستحبّ نفسياً ذلك ويوجب ذلك أكملية الصلاة .
وامّا الروايات الواردة في هذا المقام فالمستفاد منها مفروغية أصل المسألة وفي مقابلها روايات تدلّ على أنّ الرجل يصلّي في قميص واحد أو ثوب مع أنّ القميص يستر بحسب ما هو المتعارف أكثر من العورتين فهل هذه الروايات متنافية مع الطائفة الاُولى؟ ولا بأس بالتعرّض لبعض الروايات من كلتا الطائفتين فنقول :
امّا الطائفة الاُولى :
فمنها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال : إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم . فإنّه يستفاد منها مفروغية اعتبار ستر العورتين فقط للرجل في الصلاة .
ومنها : صحيحته الاُخرى عن أخيه قال : سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال : لا إعادة عليه وقد تمّت صلاته . فإنّ مدلولها انّ عدم الإعادة إنّما هو لأجل الجهل بكون الفرج خارجاً كما لا يخفى .
وامّا الطائفة الثانية :
فمنها : رواية يونس بن يعقوب انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي في ثوب واحد؟ قال : نعم قال : قلت : فالمرأة؟ قال : لا ، ولا يصلح للحرّة إذا حاضت إلاّ الخمار إلاّ أن لا تجده .
ومنها : رواية محمد بن مسلم (في حديث) قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما ترى للرجل يصلّي في قميص واحد؟ فقال : إذا كان كثيفاً فلا بأس به والمرأة تصلّي في
( الصفحه 629 )
الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً يعني إذا كان ستيراً .
والظاهر انّه لا منافاة بين الطائفتين; لأنّ الطائفة الثانية لا تكون إلاّ في مقام عدم وجوب أزيد من قميص واحد أو ثوب كذلك في مقابل المرأة التي يجب عليها أزيد من ذلك وليست في مقام إيجاب ستر كلّ جزء يستره القميص أو الثوب كما لا يخفى فلا منافاة أصلا .
ثمّ إنّه حيث إنّ اللون قد يكون مستوراً بحث لا يكون قابلا للتميّز ولكن الشبح لا يكون مستوراً لأنّ الشبح عبارة عن الشيء الذي يرى نفسه ولكن لا يتميّز لونه ، كما إذا كان الشيء مرئياً من وراء زجاجة كثيفة أو من البعيد ، كما انّه قد يكون الشبح مستوراً ولكن الحجم لا يكون مستوراً لأنّ الحجم عبارة عن الشيء الذي لا يرى بنفسه بل يرى الحاجب والساتر ولكن الحاجب يحكي عنه ، كما انّه قد يكون الحجم أيضاً مستوراً يقع الكلام في أنّ اللاّزم من الستر في باب الصلاة أية مرتبة من مراتبه فنقول :
لا إشكال في أنّ ستر اللون الذي هو أقلّ مراتب الستر يكون معتبراً في الصلاة ، وامّا ستر الشبح فاحتاط السيّد (قدس سره) في العروة باعتباره ولا يبعد ذلك نظراً إلى أنّ المتفاهم عند العرف من الستر الموضوع للحكم هو ستر الشبح أيضاً لأنّه مع عدم ستره يكون الشيء مرئياً بنفسه وإن لم يكن لونه متميّزاً وهذا بخلاف ستر الحجم فإنّ المفروض فيه عدم تعلّق الرؤية بنفس الشيء بل بما يحكى عنه ولكن جمع من الأصحاب ومنهم المحقّق الثاني ذهبوا إلى وجوب ستر الحجم أيضاً استناداً إلى قاعدة الاشتغال الجارية في مورد الشكّ لأنّه مع عدم تحقّق ستر الحجم يشكّ في تحقّق ستر العورة المعتبر في الصلاة اللاّزم تحصيله والعلم بتحقّقه . وقد عرفت انّ المتفاهم العرفي من الستر هو كون الشيء مستوراً بنفسه ولم يتعلّق به الرؤية كذلك ،