( الصفحة 15 )
ما ذكرنا ، ومجرّد الإمساك عمّا لا يكون مفطراً لا يقدح في تحقّق الصوم بعد كون الإمساك عن الجميع ـ ولو لم يكن بعضه مفطراً ـ إنّما هو للاحتياط ، واحتمال كونه مفطراً من دون لزوم تشريع وبدعة ، ففي الحقيقة يتحقّق الإمساك عن ذلك البعض لأجل الاحتمال وعدم إمكان الطريق له إلى الواقع، أو عدم الفرصة له ومثلهما ، فلا ينبغي الإشكال في الصحّة، كما في جميع العبادات التي يحتاط فيها احتمالاً ، أو لأجل العلم الإجمالي .
الجهة الثالثة : أ نّه ذكر في المتن أ نّه لا يعتبر في النيّة عدا القربة والإخلاص سوى تعيين الصوم الذي قصد إطاعة أمره ، ويكفي في صوم شهر رمضان نيّة صوم الغد من غير حاجة إلى تعيينه ، وفي هذه الجهة احتمالات بل أقوال :
أحدها : ما أفاده المحقّق العراقي في شرح التبصرة ; فإنّه بعد استشهاده لأصل كون الصوم من العناوين القصديّة ، بحرمة صوم العيدين مع عدم حرمة صرف الإمساك فيهما وببعض الاُمور الاُخر ، وثبوت الامتياز بذلك للصلاة والصوم عن مثل الوضوء والأغسال غير المعتبر فيها القصد زيادة على التقرّب ، تنظّر في اعتبار القصد في سائر العناوين الطارئة عليه ، كالكفّارة أو القضائيّة أو الرمضانيّة ، قال :
ومجرّد وقوع الصوم على وجوه متعدّدة لا يجدي في الكشف عن الاختلاف في حقيقته ; لكفاية اختلاف أسباب وجوبه في ذلك ، كما أ نّ عدم صلاحيّة رمضان لوقوع صوم آخر فيه لا يكشف عن المغايرة المزبورة ، بل يكفي فيه عدم صلاحية غير رمضان من الأسباب لوقوع صومها فيه ، وأضاف إلى ما أفاد قوله : وأوهن منهما في الدلالة ما ورد في قبول ما اُتي به بنيّة شعبان من رمضان بتفضّل من الله ، بتقريب أ نّه مع وحدة الحقيقة فيهما لا يكون قبوله بتفضّل منه ، بل هو عين الإتيان بالمأمور به ، فهذا التفضّل لا مجال له إلاّ بقبول حقيقة بدل حقيقة اُخرى ، ولا نعني
( الصفحة 16 )
من اختلاف حقيقة الصوم إلاّ هذا .
توضيح الوهن: أ نّ ذلك يمكن أن يكون من جهة عدم التقرّب بشخص أمره ، ومعلوم أ نّ المعتبر في العبادة ـ على ما سنشير إليه ـ هو كون الداعي على إتيان أمره المتعلّق به لا أمر غيره ولو جهلاً ، ولذا نلتزم في موارد الخطأ في التطبيق أ نّه لا تصحّ العبادة إلاّ إذا كان قد قصدها بداعويّة الأمر بنحو تعدّد المطلوب كي ينتهي الأمر بالأخرة إلى داعويّة شخص الأمر المتعلّق به ، وحينئذ فالاكتفاء بهذا المقدار في باب صوم يوم الشكّ لابدّ أن يكون على خلاف القاعدة وكان بتفضّل منه تعالى ، فليس أنواع الصيام المأمور بها بأيّ عنوان من العناوين إلاّ وجودات متعدّدة متّفقة الحقيقة (1). انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علّو مقامه .
ثانيها : ما حكي عن سيّد المستمسك(2) من أ نّه كما يعتبر في أصل الصلاة وفي الأنواع الواقعة تحتها ، كالظهريّة والعصريّة والأدائيّة والقضائيّة وغيرها ، قصد العنوان ، فلا يكفي الإتيان بأربع ركعات من دون نيّة الظهريّة أو العصريّة أو مثلهما ، كما أ نّه لا يكفي الإتيان بها من دون نيّة الأدائية والقضائيّة وهكذا ، كذلك يعتبر في أصل عنوان الصوم ، وكذا في الأنواع الواقعة تحته من الرمضانيّة والكفّارة وغيرهما قصد العنوان الذي يريد إطاعة أمره ، فلا يكفي الإتيان بها خالية عن القصد ، كما لا يكفي مجرّد الإمساك من دون قصد عنوان الصّوم، كما عرفت في الكلام المتقدّم من عدم حرمة مجرّد الإمساك في العيدين اللذين يحرم الصوم فيهما .
وعليه : فاللازم أن يقال بعدم الاكتفاء بنيّة صوم الغد في شهر رمضان مع عدم
- (1) شرح تبصرة المتعلّمين 3: 124 ـ 125 .
(2) مستمسك العروة 8 : 196 ـ 197 و 200 ـ 201 .
( الصفحة 17 )
نيّة عنوان رمضان ، والظاهر أ نّه لم يقل به أحد ، أو يقال بالاكتفاء بها فيه: إمّا لأجل ثبوت العلم الإجمالي الارتكازي له ، ومرجعه إلى وجود المعلوم وثبوته في النفس وإن كان غير ملتفت إليه ، ولا يكون هذا العلم الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي الذي يتعيّن معلومه ولا يتردّد فيه بالخلاف ، كما في العلم الإجمالي المبحوث عنه في باب الاشتغال من علم الاُصول . وإمّا أن يقال بأ نّ قصده للإتيان بالمأمور به ومتعلّق الأمر ينجرّ بالأخرة إلى نيّة رمضان ; لعدم تعلّق الأمر به من غير هذه الجهة، كما هو المفروض .
ثالثها : ما يظهر من المتن ومن ظاهر العروة الوثقى(1) وإن حكي توجيهه عن بعض الشرّاح (2) ، ولكنّ التوجيه مخالف لظاهر العروة ، واختاره المحقّق الهمداني (قدس سره) في محكيّ كتابه في الصوم (3) ، وهو التفصيل في العناوين الطارئة المضاف إليها عنوان الصوم بين العناوين التي لا يكون لها خصوصيّة غير الزمان المعيّن ، كصوم شهر رمضان الذي لا واقع له إلاّ الوقوع في الشهر الخاصّ ، وهي قطعة من الزمان الواقعة ضمن شهور السنة ، وبين العناوين التي لا تكون لها هذه الخصوصيّة بل خصوصيّة اُخرى ، كصوم الكفّارة المسبّب عن الإفطار في شهر رمضان عمداً أو الظهار أو غيرهما ، وصوم القضاء الذي لا يكون له زمان معيّن وإن تضيّق وقته في بعض الأحيان .
فإن كان من قبيل القسم الأوّل، فلا حاجة فيه إلى التعيين ، وتكفي نيّة صوم الغد إن كان من رمضان . وأمّا إن كان من قبيل القسم الثاني، فالظاهر الاحتياج فيه إلى
- (1) العروة الوثقى 2 : 6 ـ 7 فصل في النيّة .
(2) المستند في شرح العروة 21 : 11 ـ 14 .
(3) مصباح الفقيه 14 ، كتاب الصوم : 302 .
( الصفحة 18 )
التعيين; لعدم تعيّن الزمان له ، خصوصاً إذا كانت عليه عناوين متعدّدة من الصوم ، فيصير حينئذ كالإتيان بأربع ركعات في المثال المتقدّم .
والظاهر أ نّ هذا هو الحقّ الموافق للتحقيق ; فإنّه إذا لم يكن للعنوان الطاري والمضاف إليه الصوم خصوصيّة غير الزمان المخصوص، والمفروض أ نّه نوى الصوم في ذلك الزمان مع قصد القربة ، فلا وجه لاحتمال بطلان صومه وإن لم يكن العنوان معلوماً له أصلاً ، ولذا ذكر في المتن أ نّه لو نوى غير رمضان فيه جاهلاً به أو ناسياً له صحّ صومه ويقع عن رمضان ; لأ نّه لا يزيد على الزمان المخصوص ، والمفروض أ نّه نوى الصوم في ذلك الزمان .
نعم ، في صورة العلم بكون الغد من رمضان إذا نوى صوم غيره لا يقع لواحد منهما ، أمّا غير رمضان فلعدم صلاحيّة الوقوع فيه ; فإنّه لابدّ في شهر رمضان إمّا الصوم مع وجود شرائط وجوبه ، وإمّا الإفطار ، كما في المريض والمسافر قبل الزوال ، وأمّا الرمضان ; فلانّه لم يقصد الإتيان بما هو المأمور به حقيقة ، فلا وجه للوقوع عنه ، ومرجع عدم لزوم قصد الرمضان إلى عدم اعتبار قصد هذا العنوان ، لا كفاية قصد غيره الخارج عن هذا الزّمان ، ففي صورة العلم لو نوى غيره لا يقع لواحد منهما ، وسيأتي البحث عن هذا إنشاء الله تعالى .
هذا ، والظاهر أ نّ الحكم بالصحّة في صورتي الجهل والنسيان مسلّم بينهم ومجمع عليه كذلك(1) ولم يخالف فيه أحد ، غاية الأمر أ نّ البحث إنّما هو من جهة كونه على وفق القاعدة بحيث لو فرض أ نّه لو لم يكن في المسألة دليل آخر على الصحّة لقلنا بها وفقاً للقاعدة ، أو أ نّه على خلافها، ولو لم يكن هناك رواية لما قلنا
- (1) تذكرة الفقهاء 6: 10، جواهر الكلام 16 : 205 ، مستمسك العروة 8 : 201 .
( الصفحة 19 )
بها، أو اقتصرنا على خصوص موردها ، الظاهر هو الأوّل ; لأنّ الحكم بالصحّة في جميع موارد الخطأ في التطبيق يكون على هذا المنوال ، فإذا إئتمّ بإمام بتخيّل أ نّه زيد فتبيّن كونه عمرواً العادل ، فالظاهر صحّة جماعته للإئتمام بإمام عادل وإن تخيّل كونه زيداً وأخطأ في التطبيق .
وعلى تقدير كون الحكم على خلاف القاعدة ، فقد وردت في المسألة روايتان مرتبطتان بالمقام :
إحداهما : موثقة سماعة قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : رجل صام يوماً ولا يدري أمن رمضان هو أو من غيره ـ إلى أن قال : ـ إنّما يصام يوم الشك من شعبان ولا يصومه من شهر رمضان ; لأ نّه قد نهى أن ينفرد الإنسان بالصيام في يوم الشك ، وإنّما ينوي من الليلة أ نّه يصوم من شعبان ، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه بتفضّل الله ـ عزّوجل ـ وبما قد وسّع على عباده ، ولولا ذلك لهلك الناس(1) .
ومن الواضح: أ نّ موردها صورة الجهل والشك ، وهل يكون مقتضى إلغاء الخصوصيّة إلحاق صورة النسيان بالجهل أيضاً لوجود العذر ؟ والحقّ أن يقال : إن قلنا بكون الصحّة في مورد الجهل على وفق القاعدة يكون الحكم في صورة النسيان أيضاً ذلك ; لعدم الفرق من جهة ثبوت العذر ، وإن قلنا بكونها في مورده على خلاف القاعدة يمكن أن يقال بالاختصاص ; لاختصاص مورد الرواية بصورة الشك والجهل .
ويمكن أن يقال : إنّ قوله (عليه السلام) «بتفضّل الله» إلخ يشعر بل يدلّ على الاحتمال الثاني
- (1) الكافي 4 : 82 ح 6 ، تهذيب الأحكام 4 : 182 ح 508 ، الاستبصار 2 : 79 ح 240 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 21 ، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيّته ب 5 ح 4 .