( الصفحة 198 )
عشاء الليل لعينك رديّ(1) .
ثمّ إنّ شرطيّة عدم المرض والرّمد لابدّ وأن تفرض فيما إذا كان الصوم مضرّاً له بأيّ نحو من الأنحاء المذكورة في المتن ، ولا يعتبر حصول اليقين أو الاطمئنان بذلك ، وإلاّ فالغاية الظنّ ، والأكثر ذكروا أنّ مجرّد الاحتمال العقلائي كاف في الإحراز المجوّز للإفطار ; لصدق الخوف وتحقّق عنوانه كما في الصحيحة المتقدّمة .
وفي موثقة عمار ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه . قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا يشرب حتّى يروى(2) . وليس المراد من قوله : «حتى يخاف على نفسه» خصوص الخوف على النفس من الهلاك ، بل يعمّ ما دونه أيضاً من خوف المرض ، فالملاك هو الخوف المتقدّم بالاحتمال العقلائي الذي يرتّب العقلاء عليه الأثر ، ولا يكفي مجرّد الضعف ولو كان مفرطاً إلاّ إذا كان ممّا لا يتحمّل في العادة .
ولو صام بزعم عدم الضرر فبان الخلاف بعد الفراغ عن الصوم ، فقد استشكل في المتن في الصحّة ، بل نفى عدمها خالياً عن القوّة ، ولعلّ الوجه فيه انكشاف عدم الوجوب عليه وإن كان يتخيّل الوجوب ، كما إذا انكشف للمرأة وقوع صومها في يوم حيضها وإن كان مقتضى الاستصحاب على تقدير الشك عدم الحدوث .
ومن شرائط الصحّة عدم السفر: كما ذكرنا ، وقد عرفت أ نّ المجعول في الآية المباركة عدّة أيّام اُخر للمريض والمسافر . نعم ، استثني من الصوم في السفر
- (1) الفقيه 2 : 82 ح 372 ، علل الشرائع : 382 ح 2 ، الكافي 4 : 119 ح 7 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 218 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 19 ح 2 .
(2) الكافي 4 : 117 ح 6 ، الفقيه 2 : 84 ح 376 ، تهذيب الأحكام 4 : 240 ح 702 و ص 326 ح 1011 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 214 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 16 ح 1 .
( الصفحة 199 )
ثلاثة مواضع :
الأوّل : صوم ثلاثة أيّام بدلاً عن الهدي للعاجز عنه ، قال الله ـ تعالى ـ : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّام فِى الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ}(1) الآية . والتفسير مذكور في كتاب الحجّ في أحكام منى (2).
الثاني : صيام ثمانية عشر يوماً لمن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً ، وكان عاجزاً عن الكفّارة التي هي بدنة ، ففي صحيحة ضريس الكناني ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن رجل أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس ؟ قال : عليه بدنة ينحرها يوم النحر ، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة ، أو في الطريق ، أو في أهله(3) .
ومن الواضح أ نّه ليس المراد من قوله (عليه السلام) : «في الطريق» الإقامة فيه في محلّ عشرة أيّام ولو فرض إمكانه في مكّة المكرّمة ، مع أنّه نادر جدّاً بالإضافة إلى بعد أعمال منى ، كما لا يخفى .
الثالث : صوم النذر فيما إذا كان النذر مقيّداً به ، كما إذا نذر الصوم في المدينة المنوّرة أيّام سفره للحج أو العمرة ، مع العلم بعدم الإقامة فيها عشرة أيّام ، أو وقع التصريح في النذر بالعموم في الحضر والسفر ، وأمّا إذا كان نذر الصوم مطلقاً فصومه في السفر غير جائز .
والمستند في هذا الموضع رواية علي بن مهزيار قال : كتب بندار مولى إدريس :
- (1) سورة البقرة 2 : 196 .
(2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الحج 5 : 274 ـ 281 .
(3) الكافي 4 : 467 ح 4 ، تهذيب الأحكام 5 : 186 ح 620 ، وعنهما وسائل الشيعة 13 : 558 ، كتاب الحجّ ، أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ب 23 ح 3 .
( الصفحة 200 )
يا سيّدي نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت ، فإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفّارة؟ فكتب إليه وقرأته : لا تتركه إلاّ من علّة ، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلاّ أن تكون نويت ذلك ، وإن كنت أفطرت فيه من غير علّة فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين ، نسأل الله التوفيق لما يحبّ ويرضى(1) .
وحكي عن المحقّق في المعتبر تضعيف الرواية (2)، مع أ نّ هذا الاستثناء كأ نّه متسالم عليه بين الأصحاب ، وذكر بعض الأعلام (قدس سره) المتضلّع في علم الرجال والأسانيد ما ملّخصه : أنّ وجه تضعيف المحقّق غير معلوم ; فإنّه إن كان النظر إلى علي بن مهزيار فهو من الأجلاّء ، وإن كان إلى الطريق فأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الواقع فيه ثقة ، وإن كان إلى بندار صاحب الكتابة لأنّه مجهول ، فهو وإن كان كذلك، إلاّ أن الاعتبار بقراءة علي بن مهزيار الذي ذكر أنّه قرأ جواب الإمام (عليه السلام) إليه ، وإن كان إلى الإضمار فلا يحتمل مع كون الراوي هو ابن مهزيار أن يروي عن غير الإمام (عليه السلام) ، فالرواية معتبرة من حيث السند لا مجال للخدشة فيها .
ويمكن أن تكون المناقشة في دلالة الرواية تارة : من جهة عطف المرض على السفر ، وهو يدلّ على ثبوت الحكم في المرض ، خصوصاً مع ذكر المرض بعده ، مع أنّ الحكم في المريض لا يدور مدار النيّة كما هو مذكور في الرواية ، بل منوط بخوف الضرر وعدمه ، كما عرفت .
واُخرى : من جهة دلالتها بالظهور بل بالصراحة على أنّ كفّارة مخالفة النذر في صورة عدم العلّة التصدّق على سبعة مساكين ، مع أنّ كفّارتها في هذه الصورة إمّا
- (1) تهذيب الأحكام 4 : 286 ح 867 ، الاستبصار 2 : 125 ح 408 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 379 ، كتاب الصوم ، أبواب بقيّة الصوم الواجب ب 7 ح 4 .
(2) المعتبر 2 : 684 .
( الصفحة 201 )
كفّارة الإفطار في شهر رمضان ، أو كفّارة مخالفة اليمين المذكورة في الآية الشريفة ، مع أ نّ الاُولى ستّون على نحو التخيير ، والثانية عشرة كذلك ، وليس فيهما عدد السبعة بوجه .
وقد اُجيب عن الاُولى بأنّ القرينة الخارجيّة تكشف عن أنّ الإشارة في قوله (عليه السلام) : «إلاّ أن تكون نويت ذلك» ترجع إلى خصوص السفر لا مع المرض . وعن الثانية بأنّ غايته سقوط هذه الفقرة عن الحجّية ; لوجود معارض أقوى ، والتفكيك بين الفقرات في الحجّية غير عزيز ، مع أنّ الرواية منقولة في بعض الكتب بالعشرة مكان سبعة ، فلا إشكال في الرواية(1) .
وأنت خبير بأنّه لو كان السفر عطفاً على المرض لأمكن أن يقال برجوع الاستثناء إلى الأخير أو المجموع ، مع أنّك عرفت العكس وأ نّ المرض قد عطف على السفر ووقع الاستثناء بعده ، مع أنّه لا يوجب التمامية ; لأنّ الفرض الاستثناء في خصوص النذر فقط ، فلا يمكن الجواب عن المناقشة بهذه الصورة . نعم ، لا مجال للخدشة في الجواب الثاني ; أي التفكيك بين فقرات مختلفة من رواية واحدة في الحجّية ولزوم الأخذ بالبعض ; لعدم المعارض وترك الآخر لوجود معارض أقوى ، كما لا يخفى .
والذي يسهّل الخطب استناد المشهور(2) بل الكلّ إلى هذه الرواية الوحيدة، مع كونها مورثة لشبهة عويص الدفع مذكورة في الاُصول مع جوابها . ومحصّلها : أنّه لابدّ في النذر من رجحان المتعلّق، كنذر الواجبات أو المستحبات ، فإذا لم يكن
- (1) المستند في شرح العروة 21 : 465 ـ 466 .
(2) جواهر الكلام 16 : 334 ـ 335 ، مستمسك العروة 8 : 408 ، المستند في شرح العروة 21 : 466 .
( الصفحة 202 )
الصوم في السفر راجحاً ولو في المندوب منه كما سيأتي التعرّض له ، فكيف يصير بالنذر في الصورتين الأوّلتين ـ وهما صورة النذر مقيّداً ، أو مصرّحاً فيه بالعموم للسفر ـ راجحاً ويجب الوفاء به ويتّصف بالصحّة ؟ والتحقيق موكول إلى محلّه ، فالاستناد بهذا الوجه لا يبقي لنا مجالاً للإشكال في الرواية ، كما هو ظاهر .
بقي الكلام في هذه المسألة في حكم الصوم المندوب في السفر صحّة وبطلاناً ، وقد قوّى في المتن العدم ، ونُسب إلى الأكثر الجواز (1)، بل عقد في الوسائل باباً لذلك (2)، والمنشأ اختلاف الروايات الواردة في هذا المجال .
فمنها: ما تدلّ على عدم الجواز ، مثل :
صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصيام بمكة والمدينة ونحن في سفر ؟ قال : أفريضة؟ فقلت : لا ، ولكنّه تطوّع كما يتطوّع بالصلاة ، فقال : تقول : اليوم وغداً ؟ قلت : نعم ، فقال : لا تصم(3) .
ورواية عمار الساباطي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقول : لله عليَّ أن أصوم شهراً ، أو أكثر من ذلك أو أقلّ ، فيعرض له أمر لابدّ له من أن يسافر ، أيصوم وهو مسافر؟ قال : إذا سافر فليفطر ; لأنّه لا يحلّ له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره ، والصوم في السفر معصية(4) .
- (1) راجع السرائر 1 : 393 ، ومستمسك العروة الوثقى 8 : 410 ـ 411 ، والمستند في شرح العروة 21 : 469 .
(2) وسائل الشيعة 10 : 202 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 12 .
(3) تهذيب الأحكام 4 : 235 ح 690 ، الاستبصار 2 : 102 ح 332 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 202 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 12 ح 2 .
(4) تهذيب الأحكام 4 : 328 ح 1022 ، وعنه وسائل الشيعة : 10 : 199 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 10 ح 8 .