( الصفحة 244 )
بوجه ، ولم يعهدذلك في عصر أحدمن الأئـمّة (عليهم السلام) حتى أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمان خلافته الظاهريّة ، فمحصّل الرواية وجوب الرجوع إلى الفقيه فيما يجب فيه الرجوع إلى الإمام (عليه السلام) ، ولا دلالة فيها على ثبوت الولاية المطلقة للفقيه الشاملة للمقام(1) .
أقول : إن كان المقصود من وجود الطرق الشرعيّة السابقة لاستعلام حال الهلال، وجودها بالإضافة إلى الشيعة ، فهم كأئـمّتهم (عليهم السلام) كانوا مجبورين بإطاعة قضاة الناس والمشاكلة معهم في الأمر المربوط بالصيام والإفطار ، وببالي أنّ في الرواية ـ التي ذكرها الشيخ الأعظم (قدس سره) ـ قوله (عليه السلام) : «لئن أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي(2)»(3) .
وإن كان المقصود وجود تلك الطرق لغير الشيعة أيضاً ، فيدفعه أوّلاً : أنّه غير معلوم . وثانياً : أنّه مع وجودها كيف يلزمون أنفسهم بالتبعيّة لحكّامهم في هذه الجهة ، مع أنّه من الواضح ثبوت التبعيّة عندهم ، وهذا يشعر بل يدلّ على ثبوت هذا الحقّ بالإضافة إلى حكّام الشيعة .
وأمّا وجه عدم المعهوديّة في زمن الأئـمّة (عليهم السلام) ، ففي غير زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) فواضح ; لما عرفت ، وأمّا في زمان المولى وخلافته الظاهريّة ـ فمضافاً إلى قلّة مدّتها ، وابتلائه في جلّها بالحروب المعروفة ـ يدفعه عدم المعلوميّة ، ومن المحتمل رجوع الناس إلى ذاته المقدّسة وشخصه الشريف ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ سيرة المتشرّعة الثابتة في هذه الأزمنه من الرجوع إلى مراجعهم في هذا الأمر ، كان أصلها
- (1) المستند في شرح العروة 22 : 82 ـ 84 .
(2) الكافي 4 : 83 ح 9 ، وعنه وسائل الشيعة 10 : 132 ، كتاب الصوم ، أبواب مايمسك عنه الصائم ب 57 ح4 ، ولفظ «لئن» ليس بموجود فيهما.
(3) كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : 86 .
( الصفحة 245 )
ما هو المتداول من السابق ومعهوداً من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ويؤيّد الاحتمال الثالث عموم «الحوادث الواقعة» في الرواية باعتبار كونها جمعاً محلّى باللام ، مع أنّ إطلاق كلمة «الحادثة» ـ الدالّة على وجود أمر جديد وشيء لم يكن قبلاً ـ على الشبهة الحكميّة وعلى الشبهات الموضوعيّة في باب التنازع والتخاصم محلّ نظر ، بل منع ، وإطلاقها على الهلال الذي يترتّب عليه آثار مهمّة، خصوصاً بالإضافة إلى الشهرين ، فالظاهر الصحّة ، سيّما مع ملاحظة ما ذكرنا من تبعيّة الناس لحكّامهم في ذلك ، فالإنصاف تماميّة دلالة الرواية وإن كان بحث ولاية الفقيه يحتاج إلى نطاق أوسع .
ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله... الحديث(1) .
ونوقش(2) فيها أيضاً بضعف السند والدلالة :
أمّا ضعف السند: فلأ نّه وإن تلقّاها الأصحاب بالقبول ووسمت بالمقبولة ، إلاّ أنّه لم تثبت وثاقة ابن حنظلة وإن وردت فيه رواية(3) ظاهرة في أنّه في أعلى مراتب
- (1) الكافي 1 : 67 ح10 ، تهذيب الأحكام 6 : 301 ح 845 ، الاحتجاج 2 : 260، الرقم 232 ، وعنها وسائل الشيعة 27 : 136 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 .
(2) المناقش هو السيّد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة 22 : 84 ـ 86 .
(3) الكافي 3: 275 ح 1 ، تهذيب الأحكام 2: 20 ح 56، وعنهما وسائل الشيعة 4 : 133 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب 5 ح 6 و ص 156 ب10 ح1 .
( الصفحة 246 )
التوثيق ، لكنّ الرواية ضعيفة من حيث السند في نفسها .
ولكنّ الظاهر أنّ المناقشة في سندها إنّما هو لأجل وجود مبنى عدم انجبار الضعف بالشهرة ، وإلاّ فعلى مبنى الانجبار ـ كما هو المختار ـ لابدّ من الاختيار كما وصفت بالمقبولة .
وأمّا من حيث الدلالة : فلما قيل : من أنّ دلالتها تتوقّف على مقدّمتين :
وحاصل الاُولى : أنّ دلالة المقبولة على جعل منصب القضاء في زمن الغيبة بل الحضور وإن كانت ثابتة بل واضحة ، خصوصاً مع ملاحظة التعبيرات التي فيها ، إلاّ أنّ المنصب المزبور يختصّ بمورد التنازع المفروض في صدر الحديث ، وإن كان في أمر يرجع إلى الهلال، كما إذا تمتّع بامرأة إلى الشهر ، فوقع الاختلاف في الانقضاء وعدمه من جهة رؤية الهلال وعدمها ، فترافعا عند الحاكم وقضى بالهلال ; فإنّ حكمه حينئذ نافذ بلا إشكال ، وأمّا نفوذ حكمه حتى في غير مورد الترافع ـ كما هو البحث في المقام ـ فلا دلالة للمقبولة عليه أصلاً .
وحاصل الثانية : أنّ وظيفة القضاة لم تكن مقصورة على ختم المنازعات فقط ، بل كان المتعارف لدى قضاة العامّة التدخّل في جميع الشؤون التي تبتلي بها العامّة ، ومنها: التعرّض لأمر الهلال والتصدّي للحكم بالرؤية أو بعدمها ، فإذا كان هذا من شؤون قضاة العامّة وثبت نصب الإمام قاضياً ، فبطبيعة الحال يثبت له جميع تلك المناصب . ولكنّك خبير بأنّ هذه المقدّمة أيضاً غير بيّنة ولا مبيّنة ; لعدم كونها من الواضحات ; فإنّ مجرّد التصدّي لا يكشف عن كونه من وظائف القضاة حتّى يدلّ نصب أحد لهذا المنصب على ثبوت الجميع ، مع احتمال أنّهم ابتدعوا هذا المنصب لأنفسهم كسائر بدعهم ; لعدم ثبوت الملازمة الشرعيّة ، بل ملازمة خارجيّة محضة ، فلم يثبت بمجرّد نصب القاضي حقّ الدخالة له في هذه المرحلة .
( الصفحة 247 )
والجواب عمّا يتعلّق بالمقدّمة الاُولى : هو أنّ مورد المقبولة وإن كانت صورة التنازع والترافع ، بل التنازع في الدين أو الميراث كما هو مورد السؤال فيها ، إلاّ أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ مفادها عامّ لجميع الموارد من دون اختصاص بتلك الصورة ; فإنّ غرض الإمام (عليه السلام) بيان أمر كلّي وإعطاء الضابطة في حقّ رواة الأحاديث الناظرين في حلالهم وحرامهم ، وقد سئل فيها عن الوظيفة فيما إذا اختلف الحكّام لأجل اختلاف مستندهم ، فأجاب (عليه السلام) في هذا المجال بلزوم الرجوع إلى المرجّحات المذكورة فيها ثمّ التخيير مع عدمها ، ولذا تمسّك الفحول بالمقبولة في باب علاج المتعارضين ، بل جعلوا المقبولة في رأس الأدلّة العلاجيّة ، فراجع باب التعادل والتراجيح في علم الاُصول .
وهل يسوغ التفوّه بأنّ حكم الحاكم بالهلال في مثل المثال المذكور واجب الإطاعة دون مثل المقام الذي لا يكون فيه تنازع ؟ فهل مخالفة حكم المجتهد في هذه الصورة ليست استخفافاً بحكم الله وردّاً عليهم (عليهم السلام) ؟ فإذا حكم بثبوت الهلال يوم الشكّ وأفطر الناس فيه لا يكون هذا استخفافاً بحكم الله ، بخلاف ما إذا حكم بنفس ذلك في مورد النزاع والاختلاف ، ولعمري أنّ هذا الفرق من الغرابة بمكان ، وبعيد جدّاً عن فهم العرف الذين هم الملاك في فهم الروايات الصادرة .
وعمّا يتعلّق بالمقدّمة الثانية : أ نّ الظاهر ثبوت هذا المنصب لقضاة العامّة على طبق موازينهم ولو كانت فاسدة عندنا وكان وجوب إطاعتهم بحيث يخاف ضرب العنق من المخالفة ، وقد أشرنا(1) إلى أنّ الأئـمّة (عليهم السلام) قد حجّوا معهم حدود مائتين سنة، ولم يصدر منهم ما يدلّ على عدم حجّية حكم قضاتهم على طبق موازينهم
( الصفحة 248 )
الفاسدة ، ولو لم يكن كذلك لصدر منهم ذلك غير مرّة ، والظاهر أنّ فقهاءهم لم يتعرّضوا لعدم الحجّية طبقاً لها ، واللازم الرجوع إلى كتاب الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره) ، أو بداية المجتهد لابن رشد القرطبي، وغيرهما من الكتب المتعرّضة لفتاويهم .
وكيف كان ، فالتأمّل في المقبولة يقضي بدلالتها على حجّية حكم الحاكم ولو في غير مورد الترافع والتخاصم كالهلال . والنقض بحكم الحاكم بالغروب ، حيث إنّه لا يكون مسوّغاً للإفطار ، بل لابدّ في جوازه من الاتّكال على الطرق الاُخرى علماً وعلميّاً ، وبدونها يجري استصحاب بقاء النهار وعدم تحقّق الغروب ، يدفعه أ نّه على تقدير تسليم ذلك يمكن أن يقال بوجود الفرق من جهات :
منها : تكرّر هذا العنوان في كلّ يوم مرّة بخلاف الهلال .
ومنها : ـ وهي العمدة ـ أ نّ رفع الشكّ في أمر الغروب لا يتوقّف على أزيد من الصبر دقائق متعدّدة ، وبعده يجوز تحقّقه ، بخلاف الهلال الذي ربّما يكون الشك فيه باقياً الى آخر الشهر ، بل إلى آخر العمر ; ولأجله لا تكون المراجعة إلى الحاكم معهودة بالإضافة إلى الغروب . فالإنصاف عدم تماميّة النقض المذكور .
بقي الكلام في طريقيّة حكم الحاكم في القيدين المذكورين في المتن ، والوجه فيه : أ نّ حجّية الأمارة إنّما هي في صورة عدم العلم بالخلاف ، فإذا علم به لا يبقى مجال لطريقيّة شيء آخر ، كما هو ظاهر .
بقي الكلام في أصل المسألة في اُمور :
الأوّل :أ نّه لا اعتبار بقول المنجّمين ـ ولو في العصر الحاضر الذي تكامل علمه وتجهّزت أسبابه ، وتكثّرت آلاته ـ في صورة عدم إفادة العلم ; وذلك لأصالة عدم