( الصفحة 319 )
الظهار وكفّارة القتل ، فقال : إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين ; والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أيّاماً منه . . . إلخ(1) . وقد أفتى المشهور(2)بذلك ، ومقتضى إطلاقها حصول التتابع بذلك في جميع موارد الصيام شهرين متتابعين ، فما نسب إلى السيّدين والشيخين(3) من اختصاص حصول التتابع بهذه الكيفيّة بما إذا كان آثماً في التفريق لأجل كونه عامداً خلاف هذه الصحيحة ، ولا يكون له مستند، خصوصاً بعد أنّه لا يكون آثماً بوجه ; لأنّ التفريق على طبق الصحيحة لا يكون إثماً ، وعلى خلافها مبطل للكفّارة .
وأمّا التتابع في صوم ثمانية عشر يوماً بدل الشهرين احتياطاً : فقد ذهب المشهور(4) إلى اعتبار التتابع .
ونوقش فيه بأنّ اعتبار التتابع هنا خلاف إطلاق الدليل ، خصوصاً بعد تقييد الشهرين بالتتابع كما عرفته مراراً .
ولكن اُجيب عن هذه المناقشة بما أرسله المفيد (قدس سره) في المقنعة(5) من مجيء الآثار عنهم (عليهم السلام) بذلك . ولكنّ الظاهر ـ كما اعترف به المتتبّعون ـ عدم العثور على أيّ خبر يدلّ على اعتبار التتابع في المقام ، والبدليّة عن صوم الشهرين لاتقتضي ذلك، كما
- (1) الكافي 4 : 138 ح 2 ، تهذيب الأحكام 4 : 283 ح 856 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 374 ، كتاب الصوم ، أبواب بقيّة الصوم الواجب ب 3 ح 9 .
(2) مختلف الشيعة 3 : 423 مسألة 137 ، جواهر الكلام 17 : 79 ، العروة الوثقى 2 : 62 مسألة 2549 ، المستند في شرح العروة 22 : 253 .
(3) رسائل الشريف المرتضى 3 : 58 ، غنية النزوع: 142، النهاية: 166، المقنع: 203.
(4) جواهر الكلام 17 : 67 ، مستمسك العروة 8 : 521 ، المستند في شرح العروة 22 : 254 .
(5) المقنعة : 346 .
( الصفحة 320 )
يظهر من الجواهر(1) ، حيث أفاد أنّ المأمور به ليس مطلق الثمانية عشر ليطالب بالدليل على اعتبار التتابع ، بل ما كان جزءاً من الشهرين ، حيث يظهر من دليلها أنّ المراد الاقتصار على هذا المقدار بدلا من الأصل ، فأسقط الزائد لدى العجز إرفاقاً وتخفيفاً على المكلّفين ، فتكون متتابعة لا محالة; لاعتبارها إلى واحد وثلاثين يوماً ، فتكون معتبرة في ثمانية عشر يوماً منها بطبيعة الحال(2) .
والجواب عنه : أنّ مطلق البدليّة من الشهرين مع توصيفهما بالتتابع دون البدل لا يقتضي اعتبار التتابع في البدل ، مع أنّ بدليّة صوم الثمانية عشر من الشهرين غير ثابتة ، بل يظهر من بعض الروايات(3) بدليّة صوم العدد المذكور من الإطعام دون الصيام . بل ربما يقال(4) : إنّه على فرض البدليّة لا دليل على كون صيام العدد بدلا من مثل هذا العدد بالإضافة إلى الشهر الذي يعتبر فيه التتابع ، فمن المحتمل كونه بدلا من الشهر الآخر أو المتوسّط بين الشهرين . وقد عرفت أنّ روايات المفيد (قدس سره) مرسلة وهي غير معتبرة ، فلم يبق في البين دليل على اعتبار التتابع وإن كان مجموع ذلك موجباً للحكم بالاحتياط كما في المتن .
وأمّا صيام سائر الكفّارات : فاعتبار التتابع فيه هو المشهور(5) بين الأصحاب أيضاً . قال المحقّق في محكيّ الشرائع(6) : إنّه يعتبر التتابع في جميع أقسام الصيام
- (1) جواهر الكلام 17 : 67 .
(2) اُنظر المستند في شرح العروة 22: 254 ـ 255.
(3) تهذيب الأحكام 4 : 312 ح 944 ، الاستبصار 2 : 97 ح 314 ، المقنعة : 345 ـ 346 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 381 ، كتاب الصوم ، أبواب بقيّة الصوم الواجب ب 9 ح 1 .
(4) اُنظر المستند في شرح العروة 22 : 255 ـ 256.
(5) مستمسك العروة 8 : 522 ، المستند في شرح العروة 22 : 256 .
(6) شرائع الإسلام 1 : 205 .
( الصفحة 321 )
ما عدا موارد أربعة : صوم النذر وأخويه من العهد واليمين ; فإنّه يتبع قصد الناذر في التتابع وعدمه ، وصوم قضاء شهر رمضان ، وصوم ثمانية عشر بدل البدنة الواجبة في كفّارة الصيد ، وصوم سبعة أيّام بدل الهدي دون الثلاثة المكمّلة للعشرة . ففي هذه الموارد المستثناة يجوز التفريق حتّى اختياراً ، وما عدا ذلك ـ ممّا يجب فيه الصوم مدّة من ثلاثة أيّام ، أو ثمانية عشر ، أو شهرين ونحو ذلك ـ يجب فيه التتابع .
واستدلّ له في الجواهر بانصراف الإطلاق إلى التتابع ; نظراً إلى أنّه المنسبق عرفاً من الصوم مدّة ، مؤيّداً بفتوى الأصحاب بذلك ، قال فيها : وهذا نظير ماذكروه في ثلاثة الحيض، والاعتكاف ، وعشرة الإقامة، من اعتبار الاتّصال والتوالي ; فإنّ المستند في الكلّ هو الانصراف المزبور .
وأيّده بما رواه الصدوق في العلل عن الفضل بن شاذان من تعليل التتابع في الشهرين بقوله (عليه السلام) : وإنّما جعلت متتابعين لئلاّ يهون عليه الأداء فيستخفّ به ; لأنّه إذا قضاه متفرّقاً هان عليه القضاء واستخفّ بالإيمان(1) ; فإنّ موردها وإن كان كفّارة الإفطار في شهر رمضان ، إلاّ أنّه يظهر من العلّة عموم الحكم لكلّ كفّارة ، وأنّها مبنيّة على التصعيب والتشديد كي لا تهون عليه المخالفة ولا يستخفّ بها ، وقد اعترف بأنّ ما أفاده المحقّق في ذيل كلامه صحيح ، حيث قال: وحينئذ بان أنّ الكلّية المزبورة في محلّها في المعظم أو الجميع (2).
وقد اُورد(3) على الكلّية المزبورة، وعلى استثناء الموارد المذكورة :
- (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 119 ب 34 قطعة من ح1 ، علل الشرائع : 273 ب 182 قطعة من ح 9 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 370 ، كتاب الصوم ، أبواب بقيّة الصوم الواجب ب 2 ح 1 .
(2) جواهر الكلام 17 : 67 ـ 68 .
(3) المورد هو السيّد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة .
( الصفحة 322 )
أمّا الأوّل : فبأنّه لا يمكن المساعدة على دعوى الكلّية بإطلاقها ; نظراً إلى أنّ الانصراف المزبور بحيث كان مستنداً إلى حاقّ اللفظ غير متحقّق . نعم ، ربّما يكون هناك بعض القرائن التي بضميمتها يستفاد الانصراف ، وأمّا مع التجرّد فلا . ويرشد إلى ذلك ملاحظة الجمل الخبريّة ، فإذا قلت : أقمنا في مشهد الرضا (عليه السلام) عشرة أيّام ، فهل ينصرف اللفظ إلى الإقامة المتوالية ، بحيث لو كنت قد خرجت خلالها إلى قرية وبتّ ثمّة ليلة أو ليلتين، وكان مجموع المكث في البلد عشرة لم يجز لك التعبير المذكور ؟ وهكذا الأمثلة الأُخرى . فدعوى الانصراف عريّة عن الشاهد ويدفعها الإطلاق .
وأمّا الثاني: فلأنّ اعتبار الثلاثة في الحيض إنّما هو للتصريح بذلك ، ووقوعه في مقام التحديد ظاهر في إرادة الاتّصال والاستمرار ، ومثله ـ بل أوضح حالا ـ ثلاثة الاعتكاف ; للزوم المكث في المساجد وبطلانه بالخروج لا لعذر قبل استكمال الثلاثة . وكذا الحال في عشرة الإقامة ; لوضوح أنّ لكلّ سفر حكماً يخصّه ، وهو موضوع مستقلّ بحياله ; ضرورة أنّ الأسفار المتعدّدة مع كون الإقامة في المجموع عشرة أو أزيد لها أحكام متعدّدة مستقلّة ، وكذا الحال في المتردّد ثلاثين يوماً .
وأمّا الاستشهاد برواية العلل ، ففيه:
أوّلا : أنّ موردها كفّارة الإفطار في شهر رمضان ، ولعلّ لهذا الشهر خصوصيّة استدعت مزيد الاهتمام بشأنه ، كما يؤيّده التعبير عنه بأنّه من دعائم الدين (1)، ولأجله كانت كفّارته مبنيّة على التصعيب والتشديد ، فلا يقاس به غيره ، وغاية ما
- (1) علل الشرائع: 303 ب 245 ح 1، وعنه وسائل الشيعة 3 : 77 ، كتاب الطهارة ، أبواب صلاة الجنازة ب 5 ح 17، وبحار الأنوار 81 : 343 ح 4 .
( الصفحة 323 )
هناك أن يتعدّى إلى خصوص صوم الثمانية عشر يوماً بدل الشهرين من كفّارة الإفطار من شهر رمضان ، مع أنّه لم يقم دليل على كونه بدلا عن الشهرين .
وثانياً : أنّها ضعيفة السند ; لضعف طريق الصدوق إلى الفضل بن شاذان ، مع أنّه قام الدليل على عدم اعتبار التتابع في مطلق الصيام إلاّ ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين ; وهي:
صحيحة عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كلّ صوم يفرّق إلاّ ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين(1) ، ففي موارد الشكّ يتمسّك بعموم العامّ ، ولا وجه لما صنعه في الجواهر من الحمل على إرادة التفرقة من بعض الوجوه ، مثل فرض العذر ونحوه (2); فإنّه تصرّف في ظاهر اللفظ بلا موجب(3) .
وما أُفيد وإن كان صحيحاً لا مجال للفرار عنه بمقتضى القاعدة ، إلاّ أنّ فتوى المشهور باعتبار التتابع في مثل هذا النحو من الصيام ـ وإن كان توصيف الشهرين في كفّارة الإفطار في شهر رمضان دون غيره ظاهراً في اعتبار التتابع في خصوص مثلهما ـ هو الاحتياط برعاية التتابع في الجميع، كما تقدّم .
بقي الكلام في الفرع الأخير الذي ذكره في المتن : وهو أنّه لا يضرّ بالتتابع فيما يشترط فيه الإفطار لعذر من حيض أو نفاس ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّ بعض الأعذار ربما يتحقّق في طول كلّ شهر عادة ، كالحيض بالإضافة إلى أغلب النساء ، أو أحياناً من غير اختيار كالمرض ونحوه ـ عدّة من الروايات :
منها : صحيحة رفاعة قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل عليه صيام شهرين
- (1) الكافي 4 :140 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة 10 : 382 ، كتاب الصوم ، أبواب بقيّة الصوم الواجب ب 10 ح 1 .
(2) جواهر الكلام 17 : 74 ـ 77 .
(3) المستند في شرح العروة 22 : 257 ـ 260 .