( الصفحة 353 )
لا ثالث لهما ; لما حقّقناه في الأُصول من صحّة الترتّب ، بل ذكرنا أنّ اجتماع الأمرين في موارده الاصطلاحيّة ليس بنحو الترتّب ، بل كلا الأمرين ثابتان في رتبة واحدة وعرض واحد(1) .
مضافاً إلى أنّ الأمر في المثال لم يتعلّق بالسفر، بل بالوفاء بعقد الإجارة كما مرّت مكرّراً . وفي المتن : أ نّ اعتبار إذن المستأجر في هذا القسم معلوم العدم في بعضالفروض ، ولعلّ المراد من بعض الفروض ما إذا لم يكن هناك منافاة أصلا ، كما إذا استأجره لخياطة ثلاثة أيّام معيّنة ، وفرض إمكان الاشتغال بها في حال الاعتكاف وإن كان أجيراً في أيّامه الخاصّة .
وأمّا الزوج بالإضافة إلى الزوجة ، ففيما إذا لم يكن الاعتكاف منافياً لحقّه ، كما لو فرض قصده السفر في أيّام اعتكاف الزوجة ، فلا إشكال في عدم اعتبار إذنه ; لعدم المنافاة لحقّ الزوج بوجه . وأمّا إذا كان منافياً لحقّه فقد استشكل في المتن في اعتبار إذن الزوج في هذه الصورة ، ولكن نهى عن ترك الاحتياط ; يعني برعاية إذنه . والوجه في الاستشكال دلالة الروايات الكثيرة على حرمة الخروج منالمنزل والمكث خارجه ، كما هو المحقّق نوعاً في الاعتكاف مع فرض التنافي لحقّ الزوج ، فالعنوان المحرّم حينئذ ليس هو عنوان الاعتكاف ، بل عدم رعاية حقّ الزوج ، اللّهم إلاّ أن يقال باعتبار إذنه في الصوم التطوّعي للزوجة ، كما هو كذلك نوعاً بالإضافة إلى اليومين الأوّلين من الاعتكاف . وكيف كان ، فالمسألة مشكلة .
وأمّا الوالدان بالنسبة إلى الولد ، فقد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان اعتكافه مستلزماً لإيذائهما ،وبين ما إذا لم يكن كذلك، كما فيما إذا كان بدون اطّلاعهما، أو مع
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 6 : 241 ـ 244 .
( الصفحة 354 )
السابع : استدامة اللبث في المسجد ، فلو خرج عمداً واختياراً لغير الأسباب المبيحة بطل ولو كان جاهلا بالحكم . نعم ، لو خرج ناسياً أو مكرهاً لا يبطل ، وكذا لو خرج لضرورة عقلا أو شرعاً أو عادة ، كقضاء الحاجة من بول أو غائط أو للاغتسال من الجنابة ونحو ذلك . ولا يجوز الاغتسال في المسجد الحرام ومسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ، ويجب عليه التيمّم والخروج للاغتسال ، وفي غيرهما أيضاً إن لزم منه اللبث أو التلويث ، ومع عدم لزومهما جاز ، بل هو الأحوط وإن جاز الخروج له 1 .
موافقتهما ، فاعتبر الإذن في الصورة الأُولى دون الثانية وإن احتاط فيها استحباباً .
أقول : الأمر في الصورة الثانية واضح . وأمّا الصورة الأُولى ، فلو فرض حرمة الإيذاء ولم نقل بعدمها ; نظراً إلى أنّ الواجب هو البرّ والإحسان ، كما في الآيات الكريمة المتعدّدة في قوله ـ تعالى ـ : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(1) ، وفي قصّة عيسى (عليه السلام) : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِى}(2) وغيرهما . نقول : إنّ حرمة الإيذاء لا تكاد تسري إلى الاعتكاف في صورة الاتّحاد في الخارج ، فضلا عن الاستلزام كما هو الواقع . نعم ، شرطيّة إذن الوالدين بالإضافة إلى الصوم الاستحبابي الذي هو من شرائط الاعتكاف قد تقدّم(3) البحث فيها . نعم ، لا بأس بالاحتياط في كلتا الصورتين .
1ـ والوجه في اعتبار هذا الأمر ـ مضافاً إلى أنّ حقيقة الاعتكاف هو اللبث في المسجد ، ومن المعلوم أنّه ليس المراد به هو طبيعي المكث ، بل المكث في المسجد
- (1) سورة البقرة 2 : 83 ، سورة النساء 4 : 36 ، سورة الأنعام 6 : 151 ، سورة الإسراء 17 : 23 ، سورة الأحقاف 46 : 15 .
(2) سورة مريم 19 : 32 .
(3) في ص334.
( الصفحة 355 )
ثلاثة أيّام ، وقد عرفت(1) ارتكاز الاستمرار في المكث في المدّة المزبورة ـ الروايات الكثيرة الظاهرة في عدم جواز الخروج من المسجد ; أي اختياراً ومن دون شيء من الأسباب المبيحة ، وقد عقد في الوسائل باباً لذلك لعلّ أظهرها من حيث الدلالة :
صحيحة داود بن سرحان قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أُريد أن أعتكف فماذا أقول ؟ وماذا أفرض على نفسي ؟ فقال : لا تخرج من المسجد إلاّ لحاجة لابدّ منها ، ولا تقعد تحت ظلال حتّى تعود إلى مجلسك(2) .
ثمّ إنّ صريح المتن: أنّه لا فرق في صورة العمد والاختيار في بطلان الاعتكاف بسبب الخروج عن المسجد بين العالم والجاهل ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الجاهل المقصّر والجاهل القاصر ، والحكم في الجاهل المقصّر ظاهر ; لأنّه بحكم العالم . وأمّا الجاهل القاصر ; فلافتقار الحكم بصحّة عمله ـ بعد كونه فاقداً لبعض الأُمور المعتبرة ـ إلى قيام دليل يدلّ عليه حتّى يقيّد بسببه إطلاق دليل اعتبار ذلك الأمر ، كحديث «لا تعاد»(3) في باب الصلاة في غير الأُمور الخمسة المستثناة فيه . نعم ، ربما يتوهّم تكفّل حديث «رفع ما لا يعلمون»(4) لذلك . ولكنّه محلّ إشكال
- (1) في ص 341 .
(2) تقدمت في ص 342 .
(3) تهذيب الأحكام 2 : 152 ح 597 ، الفقيه 1 : 181 ح 857 ، وعنهما وسائل الشيعة 4 : 312 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب 9 ح 1 .
(4) الفقيه 1 : 36 ح 132 ، الخصال 2 : 417 ح 9 ، التوحيد : 353 ح 24 ، وعنها وسائل الشيعة 7 : 293 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ب 37 ح 2 ، و ج 8 : 249 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 30 ح 2 ، و ج 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب 56 ح 1 .
( الصفحة 356 )
سنداً ودلالة، والتحقيق في محلّه .
وأمّا صورة الإكراه ، فيدلّ على جواز الخروج في هذه الصورة مثل صحيحة داود بن سرحان المتقدّمة ، باعتبار استثناء صورة الحاجة التي لابدّ منها ; فإنّ الإكراه من موارد الحاجة التي لابدّ منها; لعدم الفرق في لابدّيّة الحاجة بين أن يكون لأجل شخصه ، أو لأجل الغير تحفّظاً على نفسه أو عرضه أو ماله كما لا يخفى . وإن شئت قلت : إنّ اللاّبديّة في كليهما ترجع إلى نفسه وشخصه ، فتدبّر .
وأمّا صورة النسيان ، فالمشهور عدم قدحه (1)، بل كما عن الجواهر(2) نفي الخلاف في استثنائها ، وربما يستدلّ له تارة بانصراف دليل النهي عن الخروج عن مثله ; لعدم صدور الفعل منه عن توجّه واختيار . وأُخرى بحديث رفع النسيان الوارد بسند صحيح (3). واُورد على الأوّل بمنع الانصراف ، وعلى الثاني بما أفاده بعض الأعلام (قدس سرهم) ممّا ملخّصه : أنّ الصحّة والبطلان بالإضافة إلى الواقعيّات من الأحكام العقليّة التي لا تكاد تنالها يد الجعل التشريعي لا وضعاً ولا رفعاً ; لأنّهما من الأُمور التكوينيّة المنتزعة من مطابقة المأتيّ به مع المأمور به وعدمها .
وعليه : فلابدّ وأن يكون المرفوع إمّا مانعيّة الخروج الصادر نسياناً ، أو جزئيّة اللبث في المسجد حال الخروج عن نسيان ، وحيث إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة التي لا تكون مستقلّة بالجعل إلاّ بتبع منشأ الانتزاع وضعاً
- (1) المعتبر 2 : 736 ، منتهى المطلب 9 : 512 ، تذكرة الفقهاء 6 : 303 ، جامع المقاصد 3 : 99 ، مفاتيح الشرائع 1 : 278 ، الحدائق الناضرة 13 : 472 .
(2) جواهر الكلام 17 : 187 .
(3) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 74 ح 157 ، وعنه وسائل الشيعة 23 : 237 ، كتاب الأيمان ب 16 ح 3 و بحار الأنوار 5 : 304 ح 15 .
( الصفحة 357 )
ورفعاً ، فمعنى تعلّق الرفع بهذه الأُمور تعلّقه بمناشئ انتزاعها .
وعليه: فلابدّ من تعلّق الرفع بالأمرالمركّب، ومع تعلّقه به كيف يحكم بتعلّق الأمر بالباقي ليحكم بصحّته؟ خصوصاًمع ملاحظة أنّ شأن الحديث،الرفع دون الوضع(1) .
ويمكن الجواب عنه بأنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة المستقلّة في الجعل ، ولو أُضيفت هذه العناوين إلى المأمور به أي ذاته ، فيمكن جعل الجزئيّة والشرطيّة للصلاة مثلا بمثل قوله (عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(2)، أو لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(3) ، كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة التي لا ينبغي الإشكال في إمكان تعلّق الجعل بها مستقلّة .
وعليه : فلا مانع من أن يكون حديث رفع النسيان رافعاً لمانعيّة الخروج الصادر نسياناً ، أو جزئيّة اللبث في المسجد حال الخروج عن نسيان ، ومرجع رفع المانعيّة أو الجزئيّة في هذه الصورة إلى الصحّة ، فتدبّر .
كما أ نّه يمكن الجواب عن منع الانصراف بعدم تماميّته بعد عدم صدور الفعل عن توجّه والتفات ، كما لا يخفى .
وأمّا الخروج للضرورة العقليّة أو الشرعيّة أو العاديّة ، فيدلّ عليه الصحيحة (4) ; لأنّ الضرورة بأنواعها من الحاجة الملحة التي لابدّ منها المستثناة من
- (1) المستند في شرح العروة الوثقى 22 : 383 ـ 384 .
(2) تهذيب الأحكام 1: 49 ح144 و ص 209 ح 605، و ج 2 : 140 ح 545، الاستبصار 1 : 55 ح 160 ، وعنهما وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب 9 ح1 و ص 365 ، أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
(3) وسائل الشيعة 6: 37 ـ 39 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ، وفي مستدرك الوسائل 4 : 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة ب1 ح5 عن عوالي اللئالي 1 : 196 ، الفصل التاسع ح 3 و عن تفسير روضُ الجِنان وروحُ الجَنان في تفسير القرآن ، المشهور بـ «تفسير الشيخ أبو الفتوح الرازي » 1 : 39.
(4) أي صحيحة داود بن سرحان المتقدّمة في ص 342 .