(الصفحة 345)
الأمر من طريق الوصف .
وثالثة يشهد على وصف ربما ينطبق على غيره نادراً ، لكنّ الندرة بلغت إلى حدّ لا يكاد يعتني باحتماله العقلاءُ ، بل الانطباق عليه ممّا يُطمَأَن به . ومن الواضح أنّه يعامل العرف والعقلاء معه معاملة العلم ، وإن لم يكن علماً عقلا ، وفي هذه الصورة أيضاً لا يسمع إنكاره لما ذكرنا .
ورابعة يشهد على وصف قابل للانطباق عليه وعلى غيره ، ولا يكون الانطباق على الغير نادراً ، بل احتمال الانطباق على الغير احتمال عقلائي كالانطباق على المشهود عليه ، وقد احتُمل في هذه الصورة أمران مع التأمّل في الثاني:
أحدهما: أنّه لو كانت للمدّعي بيّنة على أنّ المشهود عليه هو، وإلاّ فيمين المنكر، مثل أصل الدعوى في أنّه إذا لم يكن للمدّعي بيّنة تصل النوبة إلى يمين المنكر ، بمقتضى ما ورد من أنّ «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(1) ، وإن شئت قلت: إنّ مقتضى إطلاقه الشمول لما ذكرنا ، ولا يختصّ بأصل الدّعوى .
ثانيهما: أنّه حيث يكون القضاء التنفيذي على خلاف القاعدة يقتصر فيه على ما لا يكون مبهماً بوجه ، ففي مثل أصل الفرض ممّا لا يكون المشهود عليه مُبيّناً; لأنّ المفروض أنّ الشهود ـ الذين يكونون واسطة في انتقال حكم الحاكم الأوّل إلى الحاكم الثاني ـ قد شهدوا على وصف قابل للانطباق على المحكوم عليه الواقعي وغيره ، فمع هذا الإبهام لا مجال لإنفاذ الحكم وإمضائه ، ولكنّه (قدس سره)تأمّل فيه خصوصاً مع استلزامه تضييع الحقوق وعدم استيفاء الحقّ
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 234 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح2 و 5 .
(الصفحة 346)
بدون الإنفاذ .
فالظاهر هو الاحتمال الأوّل ، كما أفاده المحقّق في الشرائع حيث قال: ولو أنكر وكانت الشهادة بوصف يحتمل الاتّفاق غالباً ، فالقول قوله مع يمينه ما لم يُقم المدّعي البيّنة(1) .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 886 ـ 887 .
(الصفحة 347)
الفصل الثاني: في المقاصّة
مسألة 1: لا إشكال في عدم جواز المقاصّة مع عدم جحود الطرف ولا مماطلته وأدائه عند مطالبته ، كما لا إشكال في جوازها إذا كان له حقّ على غيره من عين أو دين أو منفعة أو حقّ ، وكان جاحداً أو مماطلا ، وأمّا إذا كان منكراً لاعتقاد المحقّية أو كان لا يدري محقّية المدّعي ففي جواز المقاصّة إشكال ، بل الأشبه عدم الجواز ، ولو كان غاصباً وأنكر لنسيانه فالظاهر جواز المقاصّة1.
1 ـ يدلّ على أصل مشروعيّة المقاصّة في الجملة الكتاب والسّنة مع أنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز; لأنّها تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، فمن الكتاب قوله تعالى:
{فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم}(1) وقوله تعالى:
{فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ}(2) ، وقوله تعالى:
{وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}(3) .
ومن السّنة روايات كثيرة:
- (1) سورة البقرة 2: 194 .
- (2) سورة النحل 16: 126 .
- (3) سورة البقرة 2: 194 .
(الصفحة 348)
منها: ما تقدّم في بحث الحبس على الدَّين من قوله (صلى الله عليه وآله): ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته(1) بناءً على شمول العقوبة للتقاصّ ، وعلى أنّه إذا كان الليّ محلاًّ لذلك ، فالجحود والإنكار كان محلاًّ له بطريق أولى ، أو دلالة عنوان «ليّ» على ذلك بالمطابقة بناءً على عدم اختصاصه بالمماطلة والمسامحة والشمول للجحود .
وإن شئت قلت: إنّ الليّ بمعنى المماطلة ، غاية الأمر أنّها قد يكون منشأها الجحود وقد يكون غيره .
ومنها: رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يكون له على الرجل الدَّين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أَيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم(2) .
ومنها: صحيحة داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إنّي اُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها ، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن أخذه ؟ قال: خذ مثل ذلك ولا تزد عليه(3) .
ومنها: صحيحة أبي بكر قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: نعم ولكن لهذا كلام ، قلت: وما هو؟ قال: تقول اللهمّ إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة ، وإنّما
- (1) في ص110 ـ 112 .
- (2) التهذيب: 6 / 349 ح986 ، الإستبصار: 3 / 51 ح167 ، الوسائل: 17 / 275 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح10 .
- (3) التهذيب: 6 / 338 ح939 ، الوسائل: 17 / 272 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح1 .
(الصفحة 349)
أخذته مكان مالي الذي اُخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً(1) ، وقد جعل في الوسائل روايات أبي بكر ثلاثاً ، مع أنّ الظاهر أنّ له رواية واحدة وإن اختلفت الروايات في التعبير ، كما نبّهنا عليه مراراً .
ومنها: صحيحة أبي العبّاس البقباق أنّ شهاباً مارأه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العبّاس: فقلت له: خذها مكان الألف التي اُخذ منك ، فأبى شهاب ، قال: فدخل شهاب على أبي عبدالله (عليه السلام)فذكر له ذلك ، فقال: أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف(2) . والظاهر أنّ مارآه بمعنى نازعه وخالفه، لكن في التهذيب: مارآه (سأله خل) .
ومنها: غير ذلك من الروايات التي سيأتي نقل بعضها في بعض المباحث الآتية(3)إن شاء الله تعالى ، ولكن هذه الروايات معارضة ظاهراً بمثل موثقة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده ، وأحلِف عليه كما صنع؟ قال: إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته عليه(4) ، وحملها صاحب الجواهر على أنّ مراد الإمام (عليه السلام) بيان نوع مرجوحيّة بسبب كونها صورة الخيانة التي قد تأكّد النهي عنها(5) .
- (1) التهذيب: 6 / 348 ح982 ، الإستبصار: 3 / 52 ح168 ، الفقيه: 3 / 114 ح485 ، الوسائل: 17 / 273 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح4 .
- (2) التهذيب: 6/347 ح979 ، الإستبصار: 3 / 53 ح174 ، الوسائل: 17 / 272 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح2 .
- (3) يأتي في ص364 ـ 367.
- (4) التهذيب: 6 / 348 ح980 ، الإستبصار: 3 / 52 ح171 ، الفقيه: 3 / 118 ح482، الكافي: 5 / 98 ح1 ، الوسائل: 17 / 274 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح7 .
- (5) جواهر الكلام: 40 / 392 .