جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 2 ص : 515
وَ أَنفِقُوا فى سبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى التهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يحِب الْمُحْسِنِينَ(195)

اللغة

الإنفاق إخراج الشيء عن ملكه إلى ملك غيره لأنه لو أخرجه إلى هلاك لم يسم إنفاقا .
و الإلقاء تصيير الشيء إلى جهة السفل و قد يقال ألقى عليه مسألة مجازا كما يقال طرح عليه مسألة و قد يقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه و فيه قال لبيد :
حتى إذا ألقت يدا في كافر
و أجن عورات الثغور ظلامها يعني الشمس أي بدأت في المغيب .
التهلكة و الهلاك واحد و قيل التهلكة مصدر بمعنى الهلاك و ليس في كلام العرب مصدر على تفعلة بضم العين إلا هذا و قيل التهلكة كل ما يصير عاقبته إلى الهلاك و أصل الهلاك الضياع و هو مصير الشيء بحيث لا يدري أين هو و منه يقال للكافر هالك و للميت هالك و للمعذب هالك و الهلوك الفاجرة و الهالكي الحداد و أصله أن بني الهالك بن عمرو كانوا قيونا فنسب إليه كل قين و الإحسان هو إيصال النفع الحسن إلى الغير و ليس المحسن من فعل الفعل الحسن لأن مستوفي الدين لا يسمى محسنا و إن كان فعله حسنا و لا يقال أن القديم تعالى بفعل العقاب محسن و إن كان العقاب حسنا و إنما اعتبرنا النفع الحسن لأن من أوصل نفعا قبيحا إلى غيره لا يقال أنه محسن إليه .

الإعراب

الباء في قوله تعالى « بأيديكم » زائدة كما يقال جذبت الثوب و بالثوب و علمته و علمت به و قال الشاعر :
و لقد ملأت على نصيب جلده
مساءة إن الصديق يعاتب أي ملأت جلده مساءة و قيل ليست الباء بزائدة و لكنها على أصل الكلام من وجهين ( أحدهما ) أن كل فعل متعد إذا كني عنه أو قدر على المصدر دخلته الباء تقول ضربته ثم تكني عنه فتقول فعلت به و يقال أوقعت الضرب به فجاء على أصل الأفعال للتعدية ( و الآخر ) أنه لما كان معناه لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم دخلت الباء لتدل على هذا المعنى و هو خلاف أهلك نفسه بيد غيره .

مجمع البيان ج : 2 ص : 516

المعنى

لما أوجب سبحانه القتال في سبيل الله عقبه بذكر الإنفاق فيه فقال « و أنفقوا في سبيل الله » معناه و أنفقوا من أموالكم في الجهاد و طريق الدين و كل ما أمر الله به من الخير و أبواب البر فهو سبيل الله لأن السبيل هو الطريق فسبيل الله الطريق إلى الله و إلى رحمة الله و ثوابه إلا أنه كثر استعماله في الجهاد لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود و الجهاد هو الأمر الذي يخاطر فيه بالروح فكانت له مزية « و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قيل في معناه وجوه ( أحدها ) أنه أراد لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم بترك الإنفاق في سبيل الله فيغلب عليكم العدو عن ابن عباس و جماعة من المفسرين ( و ثانيها ) أنه عنى به لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة عن البراء بن عازب و عبيدة السلماني ( و ثالثها ) أن المراد لا تقتحموا الحرب من غير نكاية في العدو و لا قدرة على دفاعهم عن الثوري و اختاره البلخي ( و رابعها ) أن المراد و لا تسرفوا في الإنفاق الذي يأتي على النفس عن الجبائي و يقرب منه ما روي عن أبي عبد الله لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن و لا وفق لقوله سبحانه « و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين » يعني المقتصدين و قال عكرمة معناه أحسنوا الظن بالله يبر بكم و قال عبد الرحمن بن زيد و أحسنوا بالعود على المحتاج و الأولى حمل الآية على جميع هذه الوجوه و لا تنافي فيها و في هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس و على جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة و فيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار و البغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين كما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عام الحديبية و فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين و فعله الحسن (عليه السلام) مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره و خاف على نفسه و شيعته فإن عورضنا بأن الحسين (عليه السلام) قاتل وحده فالجواب أن فعله يحتمل وجهين ( أحدهما ) أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الآخر أنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا كما فعل بابن عمه مسلم فكان القتل مع عز النفس و الجهاد أهون عليه .

مجمع البيان ج : 2 ص : 517
وَ أَتِمُّوا الحَْجَّ وَ الْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استَيْسرَ مِنَ الْهَدْىِ وَ لا تحْلِقُوا رُءُوسكُمْ حَتى يَبْلُغَ الْهَدْى محِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَام أَوْ صدَقَة أَوْ نُسك فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الحَْجّ فَمَا استَيْسرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّام فى الحَْجّ وَ سبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْك عَشرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسجِدِ الحَْرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ(196)

اللغة

قد ذكرنا حقيقة الحج و العمرة فيما مضى عند قوله « فمن حج البيت أو اعتمر » فلا معنى لإعادته و الإحصار المنع يقال للرجل الذي قد منعه الخوف أو المرض عن التصرف قد أحصر فهو محصر و يقال للرجل الذي حبس قد حصر فهو محصور و قال الفراء يجوز أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر و خالفه فيه أبو العباس المبرد و الزجاج .
قال المبرد و نظيره حبسه جعله في الحبس و أحبسه عرضه للحبس و أقتله عرضه للقتل و كذلك حصره حبسه أي أوقع به الحصر و أحصره عرضه للحصر و حصر حصرا إذا عيي في الكلام و الحصير البخيل لحبسه رفده و الحصير الذي لا يبوح بسره لأنه قد حبس نفسه عن البوح به و الحصير الحبس و الحصير الملك و الحصور الهيوب المحجم عن الشيء و الحصور الذي لا إربة له في النساء و أصل الباب الحبس و في أصل الهدي قولان ( أحدهما ) أنه من الهدية يقال أهديت الهدية إهداء و أهديت الهدي إلى بيت الله إهداء فعلى هذا إنما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله ( و الآخر ) أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد فسمي هديا لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد و واحد الهدي هدية كما يقال شرية و شري و تمرة و تمر و جمع الهدي هدي على زنة فعيل كما يقال عبد و عبيد و كلب و كليب و قيل واحد الهدي هدية مثل مطية و مطي قال الفرزدق :
حلفت برب مكة و المصلى
و أعناق الهدي مقلدات و الحلق حلق الرأس يقال حلق و حلق و الملحق موضع الحلق بمنى و المحلق
مجمع البيان ج : 2 ص : 518
الحلاق و حلق الطائر في الهواء إذا ارتفع و حلق ضرع الناقة إذا ارتفع لبنها و الحلق مجرى الطعام و الشراب في المري و حلوق الأرض مجاريها في أوديتها و حلاق المنية و أصل الباب الاستمرار و الرأس أعلى كل شيء و الأذى كل ما تأذيت به و رجل أذ إذا كان شديد التأذي و أصله الضرر بالشيء و النسك جمع النسيكة و هي الذبيحة و يجمع أيضا على نسائك كصحيفة و صحائف و صحف و كلما ذبح لله فهو نسيكة و النسك العبادة و منه رجل ناسك أي عابد و التمتع أصله الالتذاذ و الاستمتاع و متعة الحجة هي أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحل و يتمتع بالإحلال بأن يفعل ما يفعله المحل ثم يحرم بالحج من غير رجوع إلى الميقات فهو إحلال بين إحرامين و أهل الرجل زوجته و التأهل التزوج و أهل الرجل أخص الناس به و أهل البيت سكانه و أهل الإسلام من يدين به و أهل القرآن من يقرؤه و يقوم بحقوقه و أهلته لهذا الأمر أي جعلته أهلا له و قولهم أهلا و مرحبا أي اختصاصا بالتحية و التكرمة و العقاب مصدر يقال عاقبه عقابا و معاقبة و عقوبة و أصله من عقب الشيء أي خلفه فكان القبيح يعقبه الشدة و عقب الإنسان نسله و عقبه مؤخر قدميه .

الإعراب

قوله « فما استيسر من الهدي » موضع ما رفع كأنه قال فعليه ما استيسر و يجوز أن يكون موضعه نصبا و تقديره فأهدوا ما استيسر و الرفع أولى لكثرة نظائره كقوله « ففدية من صيام » « فعدة من أيام » « فصيام ثلاثة أيام في الحج » و قوله « في الحج » يتعلق بالمصدر و ليس في موضع خبر و هذا النحو قد جاء مرفوعا على تقدير إضمار خبر .

المعنى

ثم بين سبحانه فرض الحج و العمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد فقال « و أتموا الحج و العمرة لله » أي أتموهما بمناسكهما و حدودهما و تأدية كل ما فيهما عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما و هو المروي عن أمير المؤمنين و علي بن الحسين و عن سعيد بن جبير و مسروق و السدي و قوله « لله » أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله و العمرة واجبة عندنا مثل الحج و به قال الشافعي في الجديد و قال أهل العراق أنها مسنونة و أركان أفعال الحج النية و الإحرام و الوقوف بعرفة و الوقوف بالمشعر و طواف الزيارة و السعي بين الصفا و المروة و أما الفرائض التي ليست بأركان فالتلبية و ركعتا الطواف و طواف النساء و ركعتا الطواف له و أما المسنونات من أفعال الحج فمذكورة في الكتب المصنفة فيه و أركان فرائض العمرة النية و الإحرام و طواف الزيارة و السعي و أما ما
مجمع البيان ج : 2 ص : 519
ليس بركن من فرائضها فالتلبية و ركعتا الطواف و طواف النساء و ركعتا الطواف له و قوله « فإن أحصرتم » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه منعكم خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و عطا و هو المروي عن أئمتنا ( و الثاني ) معناه إن منعكم حابس قاهر عن مالك « فما استيسر من الهدي » فعليكم ما سهل من الهدي أو فأهدوا ما تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال و الهدي يكون على ثلاثة أنواع جزور أو بقرة أو شاة و أيسرها شاة و هو المروي عن علي و ابن عباس و الحسن و قتادة و روي عن ابن عمر و عائشة أنه ما كان من الإبل و البقر دون غيرهما و الأول هو الصحيح « و لا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله » أي لا تتحللوا من إحرامكم حتى يبلغ الهدي محله و ينحر أو يذبح و اختلف في محل الهدي على قولين ( الأول ) أنه الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و عطا ( و الثاني ) أنه الموضع الذي يصد فيه لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نحر هديه بالحديبية و أمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك و ليست الحديبية من الحرم عن مالك و أما على مذهبنا فالأول حكم المحصر بالمرض و الثاني حكم المحصور بالعدو و إن كان الإحرام بالحج فمحله منى يوم النحر و إن كان الإحرام بالعمرة فمحله مكة « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة أو تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية و روى أصحابنا أن هذه نزلت في إنسان يعرف بكعب بن عجرة و أنه كان قد قمل رأسه و قوله « ففدية » أي فحلق لذلك العذر فعليه فدية أي بدل و جزاء يقوم مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك المروي عن أئمتنا أن الصيام ثلاثة أيام و الصدقة على ستة مساكين و روي على عشرة مساكين و النسك شاة و هو مخير فيها و قوله « فإذا أمنتم » معناه فإذا أمنتم الموانع من العدو و المرض و كل مانع « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » فعليه ما تيسر من الهدي و التمتع عندنا هو الفرض اللازم لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام و حاضر المسجد الحرام هو من كان على اثني عشر ميلا من كل جانب إلى مكة فمن كان خارجا عن هذا الحد فليس من الحاضرين و صفة التمتع بالعمرة إلى الحج أن ينشىء الإحرام في أشهر الحج ثم يدخل إلى مكة فيطوف بالبيت و يسعى بين الصفا و المروة و يقصر و يحل من إحرامه ثم ينشىء إحراما آخر للحج من المسجد الحرام و يخرج إلى عرفات ثم يفيض إلى المشعر و يأتي بأفعال الحج على ما هو مذكور في الكتب و في بعض ذلك خلاف بين الفقهاء و الهدي واجب للتمتع بلا خلاف لظاهر التنزيل على خلاف في أنه نسك أو جبران و عندنا أنه نسك « فمن لم يجد فصيام ثلاثة
مجمع البيان ج : 2 ص : 520
أيام في الحج » أي فمن لم يجد الهدي و لا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج و عندنا أن هذه الأيام الثلاثة يوم قبل يوم التروية و يوم التروية و يوم عرفة و إن صام في أول العشر جاز ذلك رخصة و إن صام يوم التروية و يوم عرفة قضى يوما آخر بعد انقضاء أيام التشريق و إن فاته صوم يوم التروية أيضا صام الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق متتابعات و قوله « و سبعة إذا رجعتم » أي و سبعة أيام إذا رجعتم إلى بلادكم و أهاليكم و به قال قتادة و عطاء و قيل معناه إذا رجعتم من مني فصوموها في الطريق عن مجاهد و الأول هو الصحيح عندنا و قوله « تلك عشرة كاملة » فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه كاملة من الهدي إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه عن الحسن و هو المروي عن أبي جعفر و اختاره الجبائي ( و ثانيها ) أنه لإزالة الإبهام لئلا يظن أن الواو بمعنى أو فيكون كأنه قال فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم لأنه إذا استعمل أو بمعنى الواو جاز أن يستعمل الواو بمعنى أو كما قال فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع فالواو هاهنا بمعنى أو فذكر ذلك لارتفاع اللبس عن الزجاج و أبي القاسم البلخي ( و ثالثها ) أنه إنما قال كاملة للتوكيد كما قال جرير :
ثلاث و اثنتان فهن خمس
و سادسة تميل إلى تمام و قوله « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة و من يجري مجراهم و إنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة و هو من يكون بينه و بينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب « و اتقوا الله » فيما أمركم به و نهاكم عنه « و اعلموا أن الله شديد العقاب » لمن عصاه .
الحديث روى معاوية بن عماد عن الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم أنزل عليه و أذن في الناس الآية فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله يحج من عامه هذا فعلم به من حضر المدينة و أهل العوالي و الأعراب فاجتمعوا فخرج رسول الله في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهى إلى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عنده الشجرة فصلى فيه الظهر و أحرم بالحج ثم ساق الحديث إلى أن قال فلما وقف رسول الله بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن هذا جبرائيل و أومأ بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل و لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم و لكني سقت الهدي و لا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ هذا الهدي محله فقال له رجل من القوم أ نخرج حجاجا و رءوسنا تقطر فقال إنك لن تؤمن بها أبدا فقام إليه سراقة بن
مجمع البيان ج : 2 ص : 521
مالك بن جعثم الكناني فقال يا رسول الله علمتنا ديننا فكأنا خلقنا اليوم فهذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لما نستقبل فقال له رسول الله بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثم شبك بين أصابعه بعضها في بعض و قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة و قدم علي من اليمن على رسول الله و هو بمكة فدخل على فاطمة و هي قد أحلت فوجد عليها ثيابا مصبوغة فقال ما هذا يا فاطمة فقالت أمرنا بهذا رسول الله فخرج إلى رسول الله مستفتيا محرشا على فاطمة فقال يا رسول الله إني رأيت فاطمة قد أحلت و عليها ثياب مصبوغة فقال رسول الله أنا أمرت الناس بذلك و أنت يا علي بم أهللت فقال قلت يا رسول الله إهلالا كإهلال النبي فقال رسول الله كن على إحرامك مثلي و أنت شريكي في هديي قال و نزل رسول الله بمكة بالبطحاء هو و أصحابه و لم ينزل الدور فلما كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا و يهلوا بالحج فخرج النبي و أصحابه مهلين بالحج حتى أتوا منى و صلى الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الفجر ثم غدا و الناس معه و كانت قريش تفيض من المزدلفة و هو جمع و يمنعون الناس أن يفيضوا منها فأنزل الله على نبيه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق في إفاضتهم منها و من كان بعدهم فلما رأت قريش أن قبة رسول الله قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم حتى انتهى إلى نمرة و هي بطن عرفة بجبال الأراك فضرب قبته و ضرب الناس أخبيتهم عندها فلما زالت الشمس خرج رسول الله و معه قومه و قد اغتسل و قطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس و أمرهم و نهاهم ثم صلى الظهر و العصر بأذان و إقامتين ثم مضى إلى الموقف فوقف به فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحاها ففعلوا مثل ذلك فقال يا أيها الناس أنه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف و لكن هذا كله موقف و أومأ بيده إلى الموقف فتفرق الناس و فعل مثل ذلك بالمزدلفة فتوقف حتى وقع قرص الشمس ثم أفاض و أمر الناس بالدعة حتى إذا انتهى إلى المزدلفة و هي المشعر الحرام صلى المغرب و العشاء الآخرة بأذان واحد و إقامتين ثم أقام حتى صلى فيها الفجر و عجل ضعفاء بني هاشم بالليل فأمرهم أن لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس فلما أضاء له النهار أفاض حتى انتهى إلى منى فرمى جمرة العقبة و كان الهدي الذي جاء به رسول الله أربعا و ستين أو ستا و ستين و جاء علي بأربع و ثلاثين أو ست و ثلاثين فنحر رسول الله ستا و ستين بدنة و نحر علي (عليه السلام) أربعا و ثلاثين بدنة و أمر
مجمع البيان ج : 2 ص : 522
رسول الله أن يأخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم ثم تطرح في برمة ثم تطبخ فأكل رسول الله منها و علي و تحسيا من مرقها و لم يعط الجزارين جلودها و لا جلالها و لا قلائدها و تصدق به و حلق و زار البيت و رجع إلى منى فأقام بها حتى كان يوم الثالث من آخر أيام التشريق ثم رمى الجمار و نفر حتى انتهى إلى الأبطح فقالت عائشة يا رسول الله ترجع نساؤك بحجة و عمرة معا و أرجع بحجة فأقام بالأبطح و بعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فأهلت بعمرة ثم جاءت فطافت بالبيت و صلت ركعتين عند مقام إبراهيم و سعت بين الصفا و المروة ثم أتت النبي فارتحل من يومه فلم يدخل المسجد و لم يطف بالبيت و دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين و خرج من أسفل مكة من ذي طوى .
الْحَجُّ أَشهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَض فِيهِنَّ الحَْجَّ فَلا رَفَث وَ لا فُسوقَ وَ لا جِدَالَ فى الْحَجّ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَير يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَأُولى الأَلْبَبِ(197)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب فلا رفث و لا فسوق بالرفع « و لا جدال » بالفتح و قرأ أبو جعفر جميع ذلك بالرفع و التنوين و قرأ الباقون الجميع بالفتح .

الحجة

حجة من فتح الجميع أن يقول أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود أ لا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث و الفسوق كما أنه إذا قال لا ريب فقد نفى جميع هذا الجنس فإذا رفع و نون فكان النفي لواحد منه أ لا ترى أن سيبويه يرى أنه إذا قال لا غلام عندك و لا جارية فهو جواب من سأل فقال أ غلام عندك أم جارية فالفتح أولى لأن النفي قد عم و المعنى عليه و حجة من رفع أنه يعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا و لكنه جميع ضروبه و أن النفي قد يقع فيه الواحد موقع الجميع و إن لم يبن فيه الاسم مع لا نحو ما رجل في الدار .

اللغة

الرفث أصله في اللغة الإفحاش في النطق قال العجاج
عن اللغا و رفث التكلم و قيل الرفث بالفرج الجماع و باللسان المواعدة للجماع و بالعين الغمز للجماع
مجمع البيان ج : 2 ص : 523
و الفسوق الخروج من الطاعة .
و الجدال في اللغة و المجادلة و المنازعة و المشاجرة و المخاصمة نظائر و جدلت الحبل فتلته و الجديل زمام البعير فعيل بمعنى مفعول و المجدل القصر و الجدالة الأرض ذات العمل الرقيق و غلام جادل إذا ترعرع و اشتد و الزاد الطعام الذي يتخذ للسفر و المزود وعاء يجعل فيه الزاد و كل من انتقل بخير من عمل أو كسب فقد تزود منه تزودا و اللب العقل سمي بذلك لأنه أفضل ما في الإنسان و أفضل كل شيء لبا .

الإعراب

الحج مبتدأ و أشهر خبره و تقديره أشهر الحج أشهر معلومات ليكون الثاني هو الأول في المعنى أو الحج حج أشهر معلومات فحذف المضاف أي لا حج إلا في هذه الأشهر فالأشهر على هذا متسع فيها مخرجة عن الظروف و المعنى على ذلك أ لا ترى أن الحج في الأشهر و قد يجوز أن يجعل الحج الأشهر على الاتساع لكونه فيها و لكثرته من الفاعلين له كما قالت الخنساء :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال و إدبار جعلتها الإقبال و الإدبار لكثرتهما منها و قوله « فلا رفث » إذا فتحت فعلى البناء و قد تقدم بيانه فيما مضى و إذا رفعت فعلى الابتداء و يكون في الحج خبرا لهذه المرفوعات و إذا فتحت ما قبل المرفوع و أثبت ما بعده مرفوعا جاز أن يكون عطفا على الموضع و جاز أن يكون بمعنى ليس كما في قوله :
من صد عن نيرانها
فأنا ابن قيس لا براح و ما بعد الفاء في موضع الرفع لوقوعه موقع الفعل المضارع بعد الفاء و الفاء مع ما بعده في محل الجزم أو في محل الرفع لأنه جواب شرط مبني .

المعنى

« الحج » أي أشهر الحج « أشهر معلومات » أي أشهر مؤقتة معينة لا يجوز فيها التبديل و التغيير بالتقديم و التأخير اللذين كان يفعلهما النساة الذين أنزل فيهم إنما النسيء زيادة في الكفر الآية و أشهر الحج عندنا شوال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر و به قال ابن عباس و مجاهد و الحسن و غيرهم و قيل هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة عن عطاء و الربيع و طاووس و روي ذلك في أخبارنا و إنما صارت هذه أشهر الحج لأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا فيها بلا خلاف و عندنا لا يصح
مجمع البيان ج : 2 ص : 524
أيضا الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا فيها و من قال أن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة و ذبح الهدي و متى قيل كيف سمي الشهران و بعض الثالث أشهرا فجوابه أن الاثنين قد يقع عليه لفظ الجمع كما في قوله
ظهراهما مثل ظهور الترسين ) و أيضا فقد يضاف الفعل إلى الوقت و إن وقع في بعضه و يضاف الوقت إليه كذلك تقول صليت صلاة يوم الجمعة و صلاة يوم العيد و إن كانت الصلاة في بعضه و قدم زيد يوم كذا و إن كان قدم في بعضه فكذلك جاز أن يقال في شهر الحج ذو الحجة و إن وقع الحج في بعضه « فمن فرض فيهن الحج » معناه فمن أوجب على نفسه فيهن الحج أي فمن أحرم فيهن بالحج بلا خلاف أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج على مذهبنا « فلا رفث » كني بالرفث عن الجماع هاهنا عند أصحابنا و هو قول ابن مسعود و قتادة و قيل هو مواعدة الجماع و التعريض للنساء به عن ابن عباس و ابن عمر و عطا و قيل هو الجماع و التعريض له بمداعبة أو مواعدة عن الحسن « و لا فسوق » و روى أصحابنا أنه الكذب و قيل هو معاصي الله كلها عن ابن عباس و الحسن و قتادة و هذا أعم و يدخل فيه الكذب و قيل هو التنابز بالألقاب لقوله « بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان » عن الضحاك و قيل هو السباب لقوله ( سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر ) عن إبراهيم و مجاهد و قال بعضهم لا يجوز أن يراد به هنا إلا ما نهي المحرم عنه مما يكون حلالا له إذا أحل لاختصاصه بالنهي عنه و هذا تخصص للعموم بلا دليل و قد يقول القائل ينبغي لك أن تقيد لسانك في رمضان لئلا يفسد صومك و قد جاء في الحديث إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لا يكون يوم صومك كيوم فطرك فإنما خصه بذلك لعظم حرمته « و لا جدال في الحج » روى أصحابنا أنه قول لا و الله و بلى و الله صادقا أو كاذبا و للمفسرين فيه قولان ( أحدهما ) أنه المراء و السباب و الإغضاب على جهة المحك و اللجاج عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن ( و الثاني ) أن معناه لا جدال في أن الحج قد استدار في ذي الحجة لأنهم كانوا ينسئون الشهور فيقدمون و يؤخرون فربما اتفق في غيره عن مجاهد و السدي « و ما تفعلوا من خير يعلمه الله » معناه ما تفعلوا من خير يجازكم الله العالم به لأن الله عالم بجميع المعلومات على كل حال إلا أنه جعل يعلمه في موضع يجازه للمبالغة في صفة العدل أي أنه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم فيجازي به و ذلك تأكيد أن الجزاء لا يكون إلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن
مجمع البيان ج : 2 ص : 525
يفعلوه « و تزودوا فإن خير الزاد التقوى » قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه أن قوما كانوا يرمون بإزوادهم و يتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام و لا تلقوا كلكم على الناس و خير الزاد مع ذلك التقوى عن الحسن و قتادة و مجاهد ( و الثاني ) أن معناه تزودوا من الأعمال الصالحة « فإن خير الزاد التقوى » و ذكر ذلك في أثناء أفعال الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه « و اتقون » فيما أمرتكم به و نهيتكم عنه « يا أولي الألباب » يا ذوي العقول .
لَيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضلاً مِّن رَّبِّكمْ فَإِذَا أَفَضتُم مِّنْ عَرَفَت فَاذْكرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشعَرِ الْحَرَامِ وَ اذْكرُوهُ كَمَا هَدَامْ وَ إِن كنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالِّينَ(198)

اللغة

الجناح الحرج في الدين و هو الميل عن الطريق المستقيم و الابتغاء الطلب و الإفاضة مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه فمعنى أفضتم دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع و كثرة و يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه و أكثروا التصرف و أفاض الرجل إناءه إذا صبه و أفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها لأنها تقع متفرقة ، قال أبو ذؤيب :
و كأنهن ربابة و كأنه
يسر يفيض على القداح و يصدع و أفاض البعير بجرته إذا رمى بها متفرقة كثيرة قال الراعي :
و أفضن بعد كظومهن بجرة
من ذي الأباطح إذرعين حقيلا فالإفاضة في اللغة لا تكون إلا عن تفرق أو كثرة و عرفات اسم للبقعة المعروفة يجب الوقوف بها في الحج و يوم عرفة يوم الوقوف بها و اختلف في سبب تسميتها بعرفات فقيل لأن إبراهيم (عليه السلام) عرفها بما تقدم له من النعت لها و الوصف روي ذلك عن علي و ابن
مجمع البيان ج : 2 ص : 526
عباس و قيل أنها سميت بذلك لأن آدم و حواء اجتمعا فيها فتعارفا بعد أن كانا افترقا عن الضحاك و السدي و قد رواه أصحابنا أيضا و قيل سميت بذلك لعلوها و ارتفاعها و منه عرف الديك و قيل سميت بذلك لأن إبراهيم كان يريه جبرائيل المناسك فيقول عرفت عرفت عن عطاء و روي عن ابن عباس أن إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه فأصبح يروي يومه أجمع أي يفكر أ هو أمر من الله أم لا فسمي بذلك يوم التروية ثم رأى في الليلة الثانية فلما أصبح عرف أنه من الله فسمي يوم عرفة و روي أن جبريل قال لآدم هناك اعترف بذنبك و اعرف مناسكك فقال « ربنا ظلمنا أنفسنا » الآية فلذلك سميت عرفة و المشعر الحرام هو المزدلفة سميت مشعرا لأنه معلم للحج و الصلاة و المقام و المبيت به و الدعاء عنده من أعمال الحج و إنما سمي المشعر الحرام مزدلفة لأن جبريل قال لإبراهيم بعرفات ازدلف إلى المشعر الحرام فسمي المزدلفة و سمي جمعا لأنه يجمع به بين المغرب و العشاء الآخرة بأذان واحد و إقامتين و سميت منى منى لأن إبراهيم تمنى هناك أن يجعل الله مكان ابنه كبشا يأمره بذبحه فدية له .

الإعراب

جناح اسم ليس و خبره عليكم و موضع أن تبتغوا نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما سقط في عمل فيها معنى جناح و المعنى لستم تأثمون في أن تبتغوا .
و عرفات اسم معرفة لمواضع جرت مجرى موضع واحد لاتصال بعضها ببعض و إنما صرفت و إن كان فيها سببان من أسباب منع الصرف و هو التعريف و التأنيث لأنها على حكاية الجمع فالتنوين فيها بإزاء النون في مسلمون و لو سميت امرأة بمسلمون لم تحذف هذه النون و تقول أقبلت مسلمون و رأيت مسلمين و يجوز في عرفات حذف التنوين أيضا تشبيها بالواحد إذا كان اسما لواحد إلا أنه لا يكون إلا مكسورا و إن أسقطت التنوين و مثلها أذرعات في قول امرىء القيس :
تنورتها من أذرعات و أهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عال أكثر الرواية بالتنوين و قد أنشد بالكسر بغير تنوين و الأول اختيار النحويين لما ذكرنا من إجرائهم إياه مجرى المسلمون و أما فتح التاء فخطا « و إن كنتم » إن هنا هي المخففة من الثقيلة بدلالة أن لام الابتداء معها و إذا خففت لم تعمل إن « و كنتم من قبله لمن
مجمع البيان ج : 2 ص : 527
الضالين » لا موضع له من الإعراب لأنه وقع بعد حرف غير عامل و إنما هذه الواو عطفت جملة على جملة .

المعنى

« ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » قيل كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله بهذه اللفظة الإثم عمن يتجر في الحج عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و عطاء و في هذا تصريح بالإذن في التجارة و هو المروي عن أئمتنا و قيل كان في الحج أجراء و مكارون و كان الناس يقولون أنه لا حج لهم فبين سبحانه أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا و قيل معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) « فإذا أفضتم من عرفات » أي دفعتم عنها بعد الاجتماع فيها « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » و في هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة كما ذهبنا إليه لأن ظاهر الأمر على الوجوب فقد أوجب الله الذكر فيه و لا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلا و قد أوجب الكون فيه و لأن كل من أوجب الذكر فيه فقد أوجب الوقوف و تقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام و اذكروا الله فيه « و اذكروه كما هداكم » معناه و اذكروه بالثناء و الشكر على حسب نعمته عليكم بالهداية فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة و لا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته و بين من صغرت نعمته و تقدير الكلام و اذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم « و إن كنتم » أي و إنكم كنتم من قبله أي من قبل الهدى و قيل من قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فتكون الهاء كناية عن غير مذكور « لمن الضالين » عن النبوة و الشريعة فهداكم إليه .
ثُمَّ أَفِيضوا مِنْ حَيْث أَفَاض النَّاس وَ استَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199)

اللغة

الاستغفار طلب المغفرة و المغفرة التغطية للذنب و الفرق بين غفور و غافر أن في غفور مبالغة لكثرة المغفرة فأما غافر فيستحق الوصف به من وقع منه الغفران و العفو هو المغفرة و قد فرق بينهما بأن العفو ترك العقاب على الذنب و المغفرة تغطية الذنب بإيجاب المثوبة و لذلك كثرت المغفرة في صفات الله دون صفات العباد فلا يقال أستغفر السلطان كما يقال أستغفر الله .

المعنى

« ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن المراد به الإفاضة من عرفات و أنه أمر لقريش و حلفائها و هم الحمس لأنهم كانوا لا يقفون
مجمع البيان ج : 2 ص : 528
مع الناس بعرفة و لا يفيضون منها و يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه و كانوا يقفون بالمزدلفة و يفيضون منها فأمرهم الله بالوقوف بعرفة و الإفاضة منها كما يفيض الناس و المراد بالناس سائر العرب عن ابن عباس و عائشة و عطاء و مجاهد و الحسن و قتادة و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) و قال الضحاك أنه أمر لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عن الضحاك قال و لما كان إبراهيم إماما كان بمنزلة الأمة فسماه وحده ناسا - ( و الثاني ) - أن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي و النحر عن الجبائي قال و الآية تدل عليه لأنه قال فإذا أفضتم من عرفات ثم قال « ثم أفيضوا » فوجب أن يكون إفاضة ثانية فدل ذلك على أن الإفاضتين واجبتان و الناس المراد به إبراهيم كما أنه في قوله « الذين قال لهم الناس » نعيم بن مسعود الأشجعي و قيل إن الناس إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و من بعدهم من الأنبياء عن أبي عبد الله و مما يسأل على الأول أن يقال إذا كان ثم للترتيب فما معنى الترتيب هاهنا و قد روى أصحابنا في جوابه أن هاهنا تقديما و تأخيرا و تقديره ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و استغفروا الله إن الله غفور رحيم ) و قيل أراد بالناس آدم عن سعيد بن جبير و الزهري و قيل هم أهل اليمن و ربيعة عن الكلبي و قيل هم العلماء الذين يعلمون الدين و يعلمونه الناس « و استغفروا الله » أي اطلبوا المغفرة منه بالندم على ما سلف من المعاصي « إن الله غفور » أي كثير المغفرة « رحيم » واسع الرحمة .
فَإِذَا قَضيْتُمْ مَّنَسِكَكمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكمْ أَوْ أَشدَّ ذِكراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فى الدُّنْيَا وَ مَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِنْ خَلَق(200)

اللغة

أصل القضاء فصل الأمر على إحكام و قد يفصل بالفراغ منه كقضاء المناسك و قد يفصل بأن يعمل على تمام كقوله « فقضاهن سبع سماوات » و قد يفصل بالإخبار به على القطع كقوله « و قضينا إلى بني إسرائيل » و قد يفصل بالحكم كقضاء القاضي على وجه الإلزام و الخلاق النصيب من الخير و أصله التقدير فهو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق و قيل أنه من الخلق فهو نصيب مما يوجبه الخلق الكريم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 529

الإعراب

أشد في موضع جر و لكنه لا ينصرف لأنه على وزن الفعل و هو صفة و يجوز أن يكون منصوبا على المصدر على و اذكروه أشد ذكرا و ذكرا منصوب على التمييز في الآخرة الجار و المجرور يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله « له » و له في موضع خبر للمبتدأ الذي هو من خلاق فإن من مزيدة و الجار و المجرور في موضع رفع بالابتداء و يجوز أن يكون في الآخرة في موضع نصب على الحال و العامل فيه ما في له من الفعل .

المعنى

« فإذا قضيتم مناسككم » معناه فإذا أديتم مناسككم و قيل فإذا فرغتم من مناسككم و المناسك جمع المنسك و المنسك يجوز أن يكون موضع النسك و يجوز أن يكون مصدرا فإن كان موضعا فالمعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم إيقاعه في متعبداتكم و إن كان بمعنى المصدر فإنما جمع لأنه يشتمل على أفعال و أذكار فجاز جمعه كالأصوات أي فإذا قضيتم أفعال الحج فاذكروا الله و اختلف في الذكر على قولين - ( أحدهما ) - أن المراد به التكبير المختص بأيام منى لأنه الذكر المرغب فيه المندوب إليه في هذه الأيام ( و الآخر ) أن المراد به سائر الأدعية في تلك المواطن لأن الدعاء فيها أفضل منه في غيرها « كذكركم آباءكم » معناه ما روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك و يعدون مفاخر آبائهم و م آثرهم و يذكرون أيامهم القديمة و أياديهم الجسيمة فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع « أو أشد ذكرا » أو يزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله و يعدوا آلاءه و يشكروا نعماءه لأن آباءهم و إن كانت لهم عليهم أياد و نعم فنعم الله عليهم أعظم و أياديه عندهم أفخم و لأنه المنعم بتلك الم آثر و المفاخر على آبائهم و عليهم و هذا هو الوجه في تشبيهه هذا الذكر الواجب بذلك الذكر الذي هو دونه في الوجوب و هو قول الحسن و قتادة و قيل معناه و استغيثوا بالله و أفزعوا إليه كما يفزع الصبي إلى أبيه في جميع أموره و يلهج بذكره فيقول يا أبت عن عطاء و الأول أصح و قوله « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا » بين سبحانه أن الناس في تلك المواطن أصناف فمنهم من يسأل نعيم الدنيا و لا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بالبعث و النشور « و ما له في الآخرة من خلاق » أي نصيب من الخير موفور .
وَ مِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فى الدُّنْيَا حَسنَةً وَ فى الاَخِرَةِ حَسنَةً وَ قِنَا عَذَاب النَّارِ(201)

اللغة

الفرق بين القول و الكلام أن القول يدل على الحكاية و ليس كذلك الكلام
مجمع البيان ج : 2 ص : 530
نحو قال الحمد لله فإذا أخبرت عنه بالكلام قلت تكلم بالحق و الحكاية على ثلاثة أوجه ( أحدها ) حكاية على اللفظ و المعنى نحو قال آتوني أفرغ عليه قطرا إذا حكاه من يعرف لفظه و معناه و حكاية على اللفظ نحوها إذا حكاه من يعرف لفظه دون معناه و حكاية على المعنى نحو أن تقول نحاسا بدل قوله قطرا و الإيتاء الإعطاء و أصله الآتي بمعنى المجيء فأتى إذا كان منه المجيء و آتى غيره حمله على المجيء فيقال أتاه ما يحب و آتى غيره ما يحب و ق أصله من وقى يقي وقاية و وقاء و الوقاء أصله الحجز بين الشيئين و الوقاء الحاجز الذي يسلم به من الضرر .

المعنى

لما ذكر سبحانه دعاء من سأله من أمور الدنيا في تلك المواقف الشريفة ما لا يرتضيه عقبه بما يسأله المؤمنون فيها من الدعاء الذي يرغب فيه فقال « و منهم من يقول ربنا آتنا » أي أعطنا « في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار » أي نعيم الدنيا و نعيم الآخرة عن أنس و قتادة و روي عن أبي عبد الله أنها السعة في الرزق و المعاش و حسن الخلق في الدنيا و رضوان الله و الجنة في الآخرة و قيل العلم و العبادة في الدنيا و الجنة في الآخرة عن الحسن و قتادة و قيل هي المال في الدنيا و في الآخرة الجنة عن ابن زيد و السدي و قيل هي المرأة الصالحة في الدنيا و في الآخرة الجنة عن علي (عليه السلام) و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من أوتي قلبا شاكرا و لسانا ذاكرا و زوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه و أخراه فقد أوتي في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و وقى عذاب النار .
أُولَئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسبُوا وَ اللَّهُ سرِيعُ الحِْسابِ(202)

اللغة

النصيب الحظ و جمعه أنصباء و أنصبة و حد النصيب الجزء الذي يختص به البعض من خير أو شر و الكسب الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر و السريع من العمل هو القصير المدة يقال سرع سرعة و سرعا فهو سريع و أقبل فلان في سرعان قومه أي في أوائلهم المسرعين و الحساب مصدر كالمحاسبة .

المعنى

« أولئك لهم نصيب مما كسبوا » أي حظ من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه « و الله سريع الحساب » ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم و أن وقت الجزاء قريب و يجري مجراه قوله و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب و عبر عن الجزاء بالحساب لأن الجزاء كفاء للعمل و بمقداره فهو حساب له يقال أحسبني الشيء كفاني ( و ثانيها ) أن يكون المراد به أنه يحاسب أهل الموقف في
مجمع البيان ج : 2 ص : 531
أوقات يسيرة لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره كما لا يشغله شأن عن شأن و ورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر و روي بقدر حلب شاة و هذا أحد ما يدل على أنه ليس بجسم و أنه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين و لكان يشغله خطاب بعض الخلق عن خطاب غيره و لكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال معناه أنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة ( و ثالثها ) أن معناه أنه تعالى سريع القبول لدعاء هؤلاء و الإجابة لهم من غير احتباس فيه و بحث عن المقدار الذي يستحقه كل داع كما يحتبس المخلوقون للإحصاء و الاحتساب و يقرب منه ما روي عن ابن عباس أنه قال يريد أنه لا حساب على هؤلاء إنما يعطون كتبهم بأيمانهم فيقال لهم هذه سيئاتكم قد تجاوزت بها عنكم و هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم .
* وَ اذْكرُوا اللَّهَ فى أَيَّام مَّعْدُودَت فَمَن تَعَجَّلَ فى يَوْمَينِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكمْ إِلَيْهِ تحْشرُونَ(203)

اللغة

المعدودات تستعمل كثيرا في اللغة للشيء القليل و كل عدد قل أو كثر فهو معدود و لكن معدودات أدل على القلة لأن كل قليل يجمع بالألف و التاء و الحشر جمع القوم من كل ناحية إلى مكان و المحشر المكان الذي يحشرون فيه و حشرتهم السنة إذا أجحفت بهم لأنها تضمهم من النواحي إلى المصر و سهم حشر خفيف لطيف لأنه ضامر باجتماعه و أذن حشرة لطيفة و ضامرة و حشرات الأرض دوابها الصغار لاجتماعها من كل ناحية فأصل الباب الاجتماع .

الإعراب

العامل في اللام من قوله « لمن اتقى » فيه قولان ( أحدهما ) أن تقديره ذلك « لمن اتقى » فيكون الجار و المجرور في موضع خبر المبتدأ و إنما حذف ذلك لأن الكلام الأول دل على وعد للعامل ( و الثاني ) أن يكون العامل فيه معنى لا إثم عليه لأنه قد تضمن معنى جعلناه لمن اتقى .

المعنى

« و اذكروا الله في أيام معدودات » هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه
مجمع البيان ج : 2 ص : 532
في أيام معدودات و هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر و الأيام المعلومات عشر ذي الحجة عن ابن عباس و الحسن و أكثر أهل العلم و هو المروي عن أئمتنا و ذكر الفراء أن المعلومات أيام التشريق و المعدودات العشر و الذكر المأمور به هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و لله الحمد الله أكبر على ما هدانا و الحمد لله على ما أولانا و الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام و أول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر و آخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر هذا لمن كان بمنى و من كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولها صلاة الظهر من يوم النحر أيضا هذا هو المروي عن الصادق (عليه السلام) و في ذلك اختلاف بين الفقهاء و وافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس و ابن عمر قوله « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه » المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق و الأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير و هو الثالث من التشريق و إذا نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى غروب الشمس فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث و قوله « فلا إثم عليه » فيه قولان - ( أحدهما ) - أن معناه لا إثم عليه لأن سيئاته صارت مكفرة بما كان من حجه المبرور و هو قول ابن مسعود - ( و الثاني ) - إن معناه لا إثم عليه في التعجيل و التأخير و إنما نفي الإثم لئلا يتوهم متوهم إن في التعجيل إثما و إنما قال « فلا إثم عليه » في التأخير على جهة المزاوجة كما يقال إن أعلنت الصدقة فحسن و أن أسررت فحسن و إن كان الإسرار أحسن و أفضل عن الحسن و قوله « لمن اتقى » فيه قولان - ( أحدهما ) - إن الحج يقع مبرورا مكفرا للسيئات إذا اتقي ما نهى الله عنه و الآخر ما رواه أصحابنا أن قوله « لمن اتقى » متعلق بالتعجيل في اليومين و تقديره فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير و ما بقي من إحرامه و من لم يتقها فلا يجوز النفر في الأول و هو المروي عن ابن عباس و اختاره الفراء و قد روي أيضا عن أبي عبد الله في قوله « فمن تعجل في يومين » أي من مات في هذين اليومين فقد كفر عنه كل ذنب « و من تأخر » أي من أجله فلا إثم عليه إذا اتقى الكبائر و قوله « و اتقوا الله » أي اجتنبوا معاصي الله « و اعلموا أنكم إليه تحشرون » أي تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه بينكم و يجازيكم على أعمالكم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 533
وَ مِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُك قَوْلُهُ فى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ يُشهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فى قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ(204) وَ إِذَا تَوَلى سعَى فى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِك الْحَرْث وَ النَّسلَ وَ اللَّهُ لا يحِب الْفَسادَ(205)

اللغة

الإعجاب هو سرور المعجب بما يستحسن و منه العجب بالنفس و هو سرور المعجب من الشيء استحسانا له و ذلك إذا تعجب من شدة حسنه تقول عجب و تعجب و عجبه غيره و أعجبه و استعجب الرجل إذا اشتد تعجبه قال الأزهري العجب كل شيء غير مألوف و الألد الشديد الخصومة تقول لد يلد لدودا و لده يلده إذا غلبه في الخصومة و لد الدواء في حلقه إذا أوجره في أحد شقي فمه و اللديدان جانبا الوادي و لديدا كل شيء جانباه و التلدد التلفت عن تحير و الخصام قيل أنه جمع الخصم عن الزجاج و فعل إذا كان صفة فإنه يجمع على فعال نحو صعب و صعاب و إذا كان اسما فإنه يجمع في القلة على أفعل و في الكثرة على فعال كفرخ و فراخ و قيل الخصام مصدر كالمخاصمة عن الخليل و التولي هو الانحراف و الزوال عن الشيء إلى خلاف جهته و قوله « سعى » قد يكون بمعنى عمل و قد يكون بمعنى أسرع قال الأعشى :
و سعى لكندة سعي غير مواكل
قيس فضر عدوها و بنى لها أي عمل لكندة و الإفساد هو عمل الضرر بغير استحقاق و لا وجه من وجوه المصلحة و الإهلاك العمل الذي ينفي الانتفاع و الحرث الزرع و النسل العقب من الولد و قال الضحاك الحرث كل نبات و النسل كل ذات روح و يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط و منه نسل وبر البعير أو ريش الطائر و الناس نسل آدم لخروجهم من ظهره و أصل باب النسول الخروج .

الإعراب

ليفسد نصب بإضمار أن و يجوز إظهارها بأن يقال لأن يفسد فيها و لا يجوز إظهار أن في قوله ليذر من « و ما كان الله ليذر المؤمنين » و الفرق بينهما أن اللام في ليفسد على أصل الإضافة في الكلام و اللام في ليذر لتأكيد النفي كما دخلت الباء في ليس زيد بقائم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 534

النزول

قال ابن عباس نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما يبطن و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) إلا أنه عين المعني به و قال الحسن نزلت في المنافقين و قال السدي نزلت في الأخنس بن شريق و كان يظهر الجميل بالنبي و المحبة له و الرغبة في دينه و يبطن خلاف ذلك .

المعنى

ثم بين سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أحوال المؤمنين و الكافرين فقال « و من الناس من يعجبك قوله » أي تستحسن كلامه يا محمد و يعظم موقعه من قبلك « في الحياة الدنيا » أي يقول آمنت بك و أنا صاحب لك و نحو ذلك « و يشهد الله على ما في قلبه » أي يحلف بالله و يشهده على أنه مضمر ما يقول فيقول اللهم اشهد علي به و ضميره على خلافه « و هو ألد الخصام » أي و هو أشد المخاصمين خصومة و من قال أن الخصام مصدر فمعناه و هو شديد الخصومة عند المخاصمة جدل مبطل « و إذا تولى » أي أعرض عن الحسن و قيل معناه ملك الأمر و صار واليا عن الضحاك و معناه إذا ولي سلطانا جار و قيل ولى عن قوله الذي أعطاه عن ابن جريج « سعى في الأرض » أي أسرع في المشي من عندك و قيل عمل في الأرض « ليفسد فيها » قيل ليقطع الرحم و يسفك الدماء عن ابن جريج و قيل ليظهر الفساد و يعمل المعاصي « و يهلك الحرث و النسل » أي النبات و الأولاد و ذكر الأزهري أن الحرث النساء و النسل الأولاد لقوله « نساؤكم حرث لكم » و روي عن الصادق (عليه السلام) إن الحرث في هذا الموضع الدين و النسل الناس « و الله لا يحب الفساد » أي العمل بالفساد و قيل أهل الفساد و فيه دلالة على بطلان قول المجبرة إن الله تعالى يريد القبائح لأنه تعالى نفى عن نفسه محبة الفساد و المحبة هي الإرادة لأن كل ما أحب الله أن يكون فقد أراد أن يكون و ما لا يحب أن يكون لا يريد أن يكون .
وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْس الْمِهَادُ(206)

اللغة

الاتقاء طلب السلامة بما يحجز عن المخافة و اتقاء الله إنما هو اتقاء عذابه و الأخذ ضد الإعطاء و العزة القوة التي تمتنع بها عن الذلة و المهاد الوطاء من كل شيء و كل شيء وطئته فقد مهدته و الأرض مهاد لأجل توطئته للنوم و القيام عليه .

المعنى

ثم بين تعالى صفة من تقدم من المنافقين فقال « و إذا قيل له اتق الله » أي و إذا قيل لهذا المنافق اتق الله فيما نهاك عنه من السعي في الأرض بالفساد و إهلاك الحرث و النسل « أخذته العزة بالإثم » قيل في معناه قولان ( أحدهما ) حملته العزة
مجمع البيان ج : 2 ص : 535
و حمية الجاهلية على فعل الإثم و دعته إليه كما يقال أخذته بكذا أي ألزمته ذلك و أخذته الحمى أي لزمته - ( و الثاني ) - أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه من الكفر عن الحسن « فحسبه جهنم » أي فكفاه عقوبة من إضلاله أن يصلى نار جهنم « و لبئس المهاد » أي القرار عن الحسن كما قال في موضع آخر و بئس القرار لأن القرار كالوطاء في الثبوت عليه و قيل إنما سميت جهنم مهادا لأنها بدل من المهاد كما قال سبحانه « فبشره بعذاب أليم » لأنه موضع البشرى بالنعيم على جهة البدل منه و في هذه الآية دلالة على أن من تكبر عن قبول الحق إذا دعي إليه كان مرتكبا أعظم كبيرة و لذلك قال ابن مسعود أن من الذنوب التي لا تغفر أن يقال للرجل اتق الله فيقول عليك نفسك .
وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشرِى نَفْسهُ ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ(207)

اللغة

الشراء من الأضداد يقال شرى إذا باع و شرى إذا اشترى و قوله « و شروه بثمن بخس دراهم معدودة » أي باعوه و الرضا ضد السخط و قد تقدم معنى الرؤوف .

الإعراب

ابتغاء نصب لأنه مفعول له كقول الشاعر :
و أغفر عوراء الكريم ادخاره
و أعرض عن قول اللئيم تكرما .

النزول

روى السدي عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب حين هرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن المشركين إلى الغار و نام علي (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و نزلت الآية بين مكة و المدينة و روي أنه لما نام على فراشه قام جبرائيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه و جبرائيل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة و قال عكرمة نزلت في أبي ذر الغفاري جندب بن السكن و صهيب بن سنان لأن أهل أبي ذر أخذوا أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما رجع مهاجرا أعرضوا عنه فانفلت حتى نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أما صهيب فإنه أخذه المشركون من أهله فافتدى منهم بماله ثم خرج مهاجرا و روي عن علي و ابن عباس أن المراد بالآية الرجل الذي يقتل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قال قتادة نزلت في المهاجرين و الأنصار و قال الحسن هي عامة في كل مجاهد في سبيل الله .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلى وصف المؤمن الآمر بالمعروف في قوله و إذا قيل له
مجمع البيان ج : 2 ص : 536
اتق الله لأن هذا القائل أمر بالخير و المعروف فقال « و من الناس من يشري » أي يبيع نفسه « ابتغاء مرضاة الله » أي لابتغاء رضاء الله و إنما أطلق عليه اسم البيع لأنه إنما فعل ما فعل لطلب رضاء الله كما أن البائع يطلب الثمن بالبيع « و الله رءوف بالعباد » أي واسع الرحمة بعبيده ينيلهم ما حاولوه من مرضاته و ثوابه .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فى السلْمِ كافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطوَتِ الشيْطنِ إِنَّهُ لَكمْ عَدُوُّ مُّبِينٌ(208)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و الكسائي في السلم كافة بفتح السين و الباقون بكسرها .

الحجة

قال الأخفش السلم بكسر السين الصلح و فيه ثلاث لغات السلم السلم السلم و أنشد :
أ نائل إنني سلم
لأهلك فاقبلي سلمي قال أبو عبيدة السلم بكسر السين و الإسلام واحد و هو في موضع آخر المسالمة و الصلح و السلم الاستسلام و منه قوله تعالى « و رجلا سلما لرجل » أي مستسلما له منقادا لما يريده منه فيكون مصدرا وصف به و يحتمل أيضا أن يكون فعلا بمعنى فاعل مثل بطل و حسن و نظيره يابس و يبس و واسط و وسط .

اللغة

كافة معناه جميعا و اشتقاقه في اللغة مما يكف الشيء في آخره و من ذلك كفة القميص لحاشيته لأنها تمنعه من أن ينتشر و كل مستطيل فحرفه كفة و يقال في كل مستدير كفة نحو كفة الميزان و استكف السائل و تكفف إذا بسط كفه للسؤال و كل شيء جمعته فقد كففته و استكف القوم بالشيء إذا أحدقوا به .

الإعراب

كافة منصوب على الحال من الواو في ادخلوا و قيل هو حال من السلم و لكم يتعلق بمحذوف فهو في موضع نصب على الحال من عدو .

المعنى

لما قدم تعالى ذكر الفرق الثلاث من العباد دعا جميعهم إلى الطاعة و الانقياد فقال « يا أيها الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله « ادخلوا في السلم » أي في الإسلام أي دوموا فيما دخلتم فيه كقوله « يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله » عن
مجمع البيان ج : 2 ص : 537
ابن عباس و السدي و الضحاك و مجاهد و قيل معناه « ادخلوا في السلم » في الطاعة عن الربيع و هو اختيار البلخي و الكلام محتمل للأمرين و حملها على الطاعة أعم و يدخل فيه ما رواه أصحابنا من أن المراد به الدخول في الولاية « كافة » أي جميعا أي ادخلوا جميعا في الإسلام و الطاعة و الاستسلام و قيل معناه ادخلوا في السلم كله أي في جميع شرائع الإسلام و لا تتركوا بعضه معصية و يؤيد هذا القول ما روي أن قوما من اليهود أسلموا و سألوا النبي أن يبقي عليهم تحريم السبت و تحريم لحم الإبل فأمرهم أن يلتزموا جميع أحكام الإسلام « و لا تتبعوا خطوات الشيطان » أي آثاره و نزعاته لأن ترككم شيئا من شرائع الإسلام اتباع للشيطان « إنه لكم عدو مبين » أي مظهر للعداوة بامتناعه من السجود لآدم بقوله لأحتنكن ذريته إلا قليلا .
فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكمُ الْبَيِّنَت فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ(209)

اللغة

يقال زل الرجل يزل زلا و زللا و مزلة إذا أذنب و زل في الطريق زليلا و أصله من الزوال و معنى الزلة الزوال عن الاستقامة و العزيز هو القدير المنيع الذي لا يعجزه شيء و أصل العزة الامتناع و منه أرض عزاز إذا كانت ممتنعة بالشدة و قد ذكرنا معنى الحكيم فيما سبق .

الإعراب

ما حرف موصول و جاءتكم صلته و اعلموا جملة في موضع الرفع لأنها بعد الفاء في جواب الشرط و الفاء مع الجملة في محل الجزم أو محل الرفع لأنه جواب شرط مبني .

المعنى

لما أمر سبحانه عباده بالطاعة عقبه بالوعيد على تركها فقال « فإن زللتم » أي تنحيتم عن القصد و عدلتم عن الطريق القويم الذي أمركم الله تعالى بسلوكه « من بعد ما جاءتكم البينات » أي الحجج و المعجزات « فاعلموا أن الله عزيز » في نقمته لا يمتنع شيء من بطشه و عقوبته « حكيم » فيما شرع من أحكام دينه لكم و فيما يفعله بكم من العقاب على معاصيكم بعد إقامة الحجة عليكم .
هَلْ يَنظرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فى ظلَل مِّنَ الْغَمَامِ وَ الْمَلَئكةُ وَ قُضىَ الأَمْرُ وَ إِلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(210)

مجمع البيان ج : 2 ص : 538

القراءة

قرأ أبو جعفر و الملائكة بالجر و الباقون بالرفع و قرأ ابن عامر و الكسائي و حمزة ترجع الأمور بفتح التاء و الباقون بضمها .

الحجة

من قرأ و الملائكة بالجر فإنه عطفها على الغمام أي في ظلل من الغمام و في ظلل من الملائكة أي جماعة من الملائكة و قراءة السبعة بالرفع عطفا على قوله الله أي « إلا أن يأتيهم الله » و إلا أن يأتيهم الملائكة و حجة من قرأ « ترجع الأمور » على بناء الفعل للمفعول به قوله ثم ردوا إلى الله و لئن رددت إلى ربي و لئن رجعت إلى ربي و حجة من قرأ ترجع على بناء الفعل للفاعل قوله ألا إلى الله تصير الأمور إليه مرجعكم .

اللغة

النظر هنا بمعنى الانتظار كما في قول الشاعر :
فبينا نحن ننظره أتانا
معلق شكوة و زناد راع أي ننتظره و أصل النظر الطلب لإدراك الشيء و إذا استعمل بمعنى الانتظار فلأن المنتظر يطلب إدراك ما يتوقع و إذا كان بمعنى الفكر بالقلب فلأن المتفكر يطلب به المعرفة و إذا كان بالعين فإن الناظر يطلب الرؤية و الظلل جمع ظلة و هي ما يستظل به من الشمس و سمي السحاب ظلة لأنه يستظل به و الغمام السحاب الأبيض الرقيق سمي بذلك لأنه يغم أي يستر .

الإعراب

هل حرف استفهام بمعنى النفي .
إلا هاهنا لنقض النفي .
« أن يأتيهم الله » في موضع نصب ينظرون .
« من الغمام » يتعلق بمحذوف فهو جملة ظرفية في موضع الجر صفة ظلل .

المعنى

ثم عقب سبحانه ما تقدم من الوعيد بوعيد آخر فقال « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » أي هل ينتظر هؤلاء المكذبون ب آيات الله إلا أن يأتيهم أمر الله أو عذاب الله و ما توعدهم به على معصيته في ستر من السحاب و قيل قطع من السحاب و هذا كما يقال قتل الأمير فلانا و ضربه و أعطاه و إن لم يتول شيئا من ذلك بنفسه بل فعل بأمره فأسند إليه لأمره به و قيل معناه ما ينتظرون إلا أن يأتيهم جلائل آيات الله غير أنه ذكر نفسه تفخيما للآيات كما يقال دخل الأمير البلد و يراد بذلك جنده و إنما ذكر الغمام ليكون أهول فإن الأهوال تشبه بظلل الغمام كما قال سبحانه و إذا غشيهم موج
مجمع البيان ج : 2 ص : 539
كالظلل و قال الزجاج معناه يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب و الحساب كما قال فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا أي أتاهم بخذلانه إياهم و هذه الأقوال متقاربة المعنى بل المعنى في الجميع واحد أي هل ينتظرون إلا يوم القيامة و هو استفهام يراد به النفي و الإنكار أي ما ينتظرون كما يقال هل يطالب بمثل هذا إلا متعنت أي ما يطالب و مثله في التنزيل هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك و قد يقال أتى و جاء فيما لا يجوز عليه المجيء و الذهاب تقول أتاني وعيد فلان و جاءني كلام فلان و أتاني حديثه و لا يراد به الإتيان الحقيقي قال :
أتاني فلم أسرر به حين جاءني
حديث بأعلى القبتين عجيب و قال الآخر :
أتاني نصرهم و هم بعيد
بلادهم بأرض الخيزران و أما قوله « و الملائكة » فقد ذكرنا الوجه في رفعه و جره قبل و قيل معنى الآية إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام أي بجلائل آياته و بالملائكة و قوله « و قضي الأمر » معناه فرغ من الأمر و هو المحاسبة و إنزال أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار هذا في الآخرة و قيل معناه وجب العذاب أي عذاب الاستئصال و هذا في الدنيا « و إلى الله ترجع الأمور » أي إليه ترد الأمور في سؤاله عنها و مجازاته عليها و كانت الأمور كلها له في الابتداء فسلك بعضها في الدنيا غيره ثم يصير كلها إليه في الحشر لا يملك أحد هناك شيئا و قيل إليه ترجع أمور الدنيا و الآخرة .
سلْ بَنى إِسرءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَهُم مِّنْ ءَايَةِ بَيِّنَة وَ مَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ(211)

الإعراب

كم في موضع نصب لأنه مفعول ثان لآتينا و إنما وجب له صدر الكلام لتضمنه معنى الاستفهام ثم إن هذه الجملة التي هي « كم آتيناهم من آية » قد وقعت موقع المفعول الثاني لقوله : « سل » من آية يتعلق ب آتينا أيضا و ما حرف موصول جاءت صلته و الموصول و الصلة في موضع جر بإضافة بعد إليه .

المعنى

« سل » يا محمد « بني إسرائيل » أي أولاد يعقوب و هم اليهود الذين
مجمع البيان ج : 2 ص : 540
كانوا حول المدينة و المراد به علماؤهم و هو سؤال تقرير لتأكيد الحجة عليهم « كم آتيناهم » أي أعطيناهم « من آية بينة » من حجة ظاهرة واضحة مثل اليد البيضاء و قلب العصا حية و فلق البحر و تظليل الغمام عليهم و إنزال المن و السلوى عن الحسن و مجاهد و قيل كم من حجة واضحة لمحمد تدل على صدقه عن الجبائي « و من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته » في الكلام حذف و تقديره فبدلوا نعمة الله و كفروا ب آياته و خالفوه فضلوا و أضلوا و من يبدل الشكر عليها بالكفران و قيل من يصرف أدلة الله عن وجوهها بالتأويلات الفاسدة الخالية من البرهان « فإن الله شديد العقاب » له و قيل شديد العقاب لمن عصاه فيدخل فيه هذا المذكور و في الآية دلالة على فساد قول المجبرة في أنه ليس لله سبحانه على الكافرين نعمة لأنه حكم عليهم بتبديل نعم الله كما قال في موضع آخر يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها و نحو ذلك من وجه آخر و هو أنه أضاف التبديل إليهم و أوعدهم عليه بالعقوبة فلو لم يكن فعلهم لما استحقوا العقوبة .
و التبديل هو أن يحرف أو يكتم أو يتأول على خلاف جهته كما فعلوه في التوراة و الإنجيل و كما فعلوه مبتدعة الأمة في القرآن .

النظم

لما بين الله تعالى شرائعه و إن الناس فيها ثلاث فرق مؤمن و كافر و منافق ثم وعد و أوعد و أوعد بين بعد ذلك أن تركهم الإيمان ليس بتقصير في الحجج و لكن لسوء طباعهم و خبث أفعالهم فقد فعلوا قبلك يا محمد هذا الصنيع فقال « سل بني إسرائيل » .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَ يَسخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ حِساب(212)

اللغة

التزيين و التحسين واحد و الزين خلاف الشين و الزينة اسم جامع لكل ما يتزين به .

الإعراب

الدنيا صفة الحياة بغير حساب الجار و المجرور في محل النصب على الحال و العامل فيه يرزق و ذو الحال الضمير في يرزق أو الموصول الذي هو من يشاء و تقديره غير محاسب أو غير محاسب .

النزول

نزلت الآية في أبي جهل و غيره من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا و كانوا يسخرون من قوم من المؤمنين فقرأ مثل عبد الله بن مسعود و عمار و بلال و خباب و يقولون
مجمع البيان ج : 2 ص : 541
لو كان محمد نبيا لاتبعه أشرافنا عن ابن عباس و قيل نزلت في عبد الله بن أبي و أصحابه يسخرون من ضعفاء المؤمنين عن مقاتل و قيل نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة و النضير و قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين عن عطا و لا مانع من نزوله في جميعهم .

المعنى

ثم بين سبحانه أن عدولهم عن الإيمان إنما هو لإيثارهم الحياة الدنيا فقال « زين للذين كفروا الحياة الدنيا » و فيه قولان ( أحدهما ) أن الشيطان زينها لهم بأن قوي دواعيهم و حسن فعل القبيح و الإخلال بالواجب إليهم فأما الله فلا يجوز أن يكون المزين لهم إياها لأنه زهد فيها و قال و اعلم أنها متاع الغرور و قال قل متاع الدنيا قليل عن الحسن و الجبائي ( و الآخر ) أن الله زينها لهم بأن خلق فيها الأشياء المحبوبة المعجبة و بما خلق لهم من الشهوة لها كما قال زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير الآية و إنما كان كذلك لأن التكليف لا يتم إلا مع الشهوة فإن الإنسان إنما يكلف بأن يدعى إلى شيء تنفر نفسه عنه أو يزجر عن شيء تتوق نفسه إليه و هذا معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات و إنما ذكر الفعل و هو مستند إلى الحياة لأن تأنيث الحياة غير حقيقي و هو بمعنى العيش و البقاء و نحوهما و لأنه فصل بين الفعل و الفاعل بقوله « للذين كفروا » و إذا قالوا في التأنيث الحقيقي حضر القاضي اليوم امرأة و جوزوا التذكير فيه فهو في التأنيث غير الحقيقي أجوز « و يسخرون من الذين آمنوا » و يهزءون من المؤمنين لفقرهم و قيل لإيمانهم بالبعث و جدهم في ذلك و قيل لزهدهم في الدنيا و يمكن حمله على الجميع إذ لا تنافي بين هذه الأقوال « و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » أي الذين اجتنبوا الكفر فوق الكفار في الدرجات و قيل أراد أن تمتعهم بنعيم الآخرة أكثر من استمتاع هؤلاء في الآخرة بنعيم الدنيا و قيل أراد أن حالهم فوق هؤلاء الكفار لأنهم في عليين و هؤلاء في سجين و هذا كقوله « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا » و مثله قول حسان يعني رسول الله و أبا جهل :
فشركما لخيركما الفداء ) و قيل أنه أراد أن حال المؤمنين في الهزء بالكفار و الضحك منهم في الآخرة حال فوق هؤلاء في الدنيا و يدل على ذلك قوله تعالى « إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون » إلى قوله « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون » « و الله يرزق من يشاء بغير حساب » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من كثرته ( و ثانيها ) أنه لا يرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم و إيمانهم و كفرهم فلا
مجمع البيان ج : 2 ص : 542
يدل بسط الرزق للكافر على منزلته عند الله و إن قلنا أن المراد به في الآخرة فمعناه أن الله لا يثيب المؤمنين في الآخرة على قدر أعمالهم التي سلفت منهم بل يزيدهم تفضلا ( و ثالثها ) أنه يعطيه عطاءا لا يؤاخذه بذلك أحد و لا يسأله عنه سائل و لا يطلب عليه جزاء و لا مكافاة ( و رابعها ) أنه يعطي العدد من الشيء لا يضبط بالحساب و لا يأتي عليه العدد لأن ما يقدر عليه غير متناه و لا محصور فهو يعطي الشيء لا من عدد أكثر منه فينقص منه كمن يعطي الألف من الألفين و العشرة من المائة عن قطرب ( و خامسها ) أن معناه يعطي أهل الجنة ما لا يتناهى و لا يأتي عليه الحساب و كل هذه الوجوه جائز حسن .
كانَ النَّاس أُمَّةً وَحِدَةً فَبَعَث اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ وَ أَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَب بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَف فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَت بَغْيَا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِى مَن يَشاءُ إِلى صِرَط مُّستَقِيم(213)

القراءة

قرأ أبو جعفر القارىء وحده ليحكم بضم الياء و فتح الكاف و الباقون بفتح الياء و ضم الكاف .

الحجة

وجه القراءة الظاهرة أن الكتاب يحكم و يكون على التوسع كقوله تعالى « هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق » و يجوز أن يكون فاعل يحكم الله أي ليحكم الله في عباده و وجه قراءة أبي جعفر ظاهر .

اللغة

الأمة على وجوه ذكرناها عند قوله تلك أمة قد خلت و هي هنا بمعنى الملة و الدين .

الإعراب

« مبشرين و منذرين » نصب على الحال بالحق في موضع الحال و العامل فيه أنزل و ذو الحال الكتاب « ليحكم » جار و مجرور و اللام يتعلق بأنزل و « بغيا

<<        الفهرس        >>