جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان جلد 8

مجمع البيان ج : 8 ص : 425

( 29 ) سورة العنكبوت مكية و آياتها تسع و ستون ( 69 )

مكية كلها في قول عكرمة و عطاء و الكلبي و مدنية في أحد القولين عن ابن عباس و قتادة و مكية إلا عشر آيات من أولها فإنها مدنية عن الحسن و في أحد القولين عن ابن عباس و هو عن يحيى بن سلام .

عدد آيها

تسع و ستون آية بالإجماع .

اختلافها

ثلاث آيات « الم » كوفي و « تقطعون السبيل » حجازي « مخلصين له الدين » بصري شامي .

فضلها


أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين و المنافقين و روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين فهو و الله يا أبا محمد من أهل الجنة لا أستثني فيه أبدا و لا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثما و أن لهاتين السورتين من الله مكانا .

تفسيرها

ختم الله سبحانه سورة القصص بذكر الوعد و الوعيد و افتتح هذه السورة بذكر تكليف العبيد فقال .

سورة العنكبوت

بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم(1) أَ حَسِب النَّاس أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ(3) أَمْ حَسِب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيِّئَاتِ أَن يَسبِقُونَا ساءَ مَا يحْكُمُونَ(4) مَن كانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَت وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ(5)

مجمع البيان ج : 8 ص : 426

القراءة

قرأ علي (عليه السلام) فليعلمن الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين بضم الياء و كسر اللام فيهما و هو المروي عن جعفر ابن محمد و محمد بن عبد الله بن الحسن و وافقهم الزهري في و ليعلمن الكاذبين و قرأ أيضا و ليعلمن المنافقين .

الحجة

معناه ليعرفن الناس من هم فحذف المفعول الأول كما قال سبحانه يوم ندعو كل أناس بإمامهم و قال يعرف المجرمون بسيماهم و قال و نحشر المجرمين يومئذ زرقا و يجوز أن يكون من قولهم ثوب معلم و فارس معلم بالكسر إذا أعلم نفسه في الحرب فيكون معناه و ليشهرن فيرجع إلى المعنى الأول لأنه على تقدير حذف المفعول و يجوز أن يكون على حذف المفعول الثاني أي و ليعلمن الصادقين ثواب صدقهم و الكاذبين عقاب كذبهم .

الإعراب


قال الزجاج موضع أن الأولى نصب باسم حسب و خبره و موضع أن الثانية نصب من جهتين أجودهما أن تكون منصوبة بيتركوا فيكون المعنى أ حسب الناس أن يتركوا لأن يقولوا أو بأن يقولوا فلما حذف حرف الخفض وصل يتركوا إلى أن فنصب و يجوز أن تكون أن الثانية العامل فيها حسب أي حسب الناس أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون قال أبو علي أما ما ذكره من أنه نصب بيتركوا فإنه بين السقوط لأن ترك فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا بني للمفعول لم يتعد إلى آخر فإن يقولوا لا يتعلق به و لا يتعدى إليه حتى يقدر حرف ثم يقدر الحذف فيصل الفعل و أما ما ذكره من انتصابه فلا يخلو إذا قدر انتصابه به من أن يكون مفعولا أولا أو ثانيا أو صفة أو بدلا فلا يكون مفعولا أولا لتعديه إلى المفعول الذي قبله و هو الترك و لا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا من وجهين ( أحدهما ) أن باب ظننت و أخواته إذا تعدى إلى هذا الضرب من المفعول لم يتعد إلى مفعول ثان ظاهر في اللفظ ( و الآخر ) أن المفعول الثاني هو الأول في المعنى و ليس القول الترك و لا يكون أيضا بدلا لأنه ليس الأول و لا بعضه مشتملا عليه و لا يكون أيضا صفة لأن أن الثانية لحسب و عمله فيها لا يخلو مما ذكرناه فإذا لم يستقم
مجمع البيان ج : 8 ص : 427
حمله على شيء مما ذكرناه تبينت موضع إغفاله في المسألة و أقول و بالله التوفيق إن البدل هنا صحيح فإنه إذا قال أ حسبوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و قوله « و هم لا يفتنون » جملة في موضع الحال فكأنه قال أ حسبوا أن يدعو الإيمان غير مختبرين ممتحنين بمشاق التكليف فيكون التقدير في معنى الآية أ حسبوا أن يتركوا أ حسبوا أن يهملوا و لا شك أن الإهمال في معنى الترك فيكون الثاني في معنى الأول بعينه و أما الوجه الأول فإنك لو قدرت اللام فقلت لأن يقولوا أو الباء فقلت بأن يقولوا فلا شك أن الحرف يتعلق بيتركوا فإن الجار و المجرور في موضع نصب به فتساهل الزجاج في العبارة عن المجرور بأنه منصوب و قوله « ساء ما يحكمون » ما هذه يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون اسما مفردا نكرة في موضع النصب على التمييز و التقدير ساء حكما يحكمون ( و الثاني ) أن يكون حرفا موصولا و يحكمون صلته و تقديره ساء الحكم حكمهم .

النزول

قيل نزلت الآية في عمار بن ياسر و كان يعذب في الله عن ابن جريج و قيل نزلت في أناس مسلمين كانوا بمكة فكتب إليهم من كان في المدينة أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا إلى المدينة فاتبعهم المشركون ف آذوهم و قاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا عن الشعبي و قيل أنه أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام و عياش ابن أبي ربيعة و الوليد بن الوليد و عمار بن ياسر و غيرهم عن ابن عباس .

المعنى

« الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون » أي أ ظن الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط و يقتصر منهم على هذا القدر و لا يمتحنون بما تبين به حقيقة إيمانهم هذا لا يكون و هذا استفهام إنكار و توبيخ و قيل إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم عن مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و يكون المعنى و لا يشدد عليهم التكليف و التعبد و لا يؤمرون و لا ينهون و قيل معناه و لا يصابون بشدائد الدنيا و مصائبها أي أنها لا تندفع بقولهم آمنا و قال الحسن معناه أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا لا إله إلا الله و لا يختبروا أ صدقوا أم كذبوا يعني أن مجرد الإقرار لا يكفي و الأولى حمله على الجميع إذ لا تنافي فإن المؤمن يكلف بعد الإيمان بالشرائع و يمتحن في النفس و المال و يمنى بالشدائد و الهموم و المكاره فينبغي أن يوطن نفسه على هذه الفتنة ليكون الأمر أيسر عليه إذا نزل به ثم أقسم سبحانه فقال « و لقد فتنا الذين من قبلهم » أي و لقد ابتلينا الذين من قبل أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من سالف الأمم بالفرائض التي افترضناها عليهم أو بالشدائد و المصائب على حسب اختلافهم و ذكر ذلك تسلية للمؤمنين قال ابن عباس منهم إبراهيم خليل الرحمن و قوم
مجمع البيان ج : 8 ص : 428
كانوا معه و من بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه و قال غيره يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون يسومونهم سوء العذاب « فليعلمن الله الذين صدقوا » في إيمانهم « و ليعلمن الكاذبين » فيه و إنما قال فليعلمن مع أن الله سبحانه كان عالما فيما لم يزل بأن المعلوم سيحدث لأنه لا يصح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه عالم بأنه حادث و إنما يعلمه حادثا إذا حدث و قيل معناه فليميزن الله الذين صدقوا من الذين كذبوا بالجزاء و المكافاة و عبر عن الجزاء و التمييز بالعلم لأن كل ذلك إنما يحصل بالعلم فأقام السبب مقام المسبب و مثله في إقامة السبب مقام المسبب قوله تعالى « كانا يأكلان الطعام » فهذا سبب قضاء الحاجة فكني بذكره عنها و معنى صدقوا أي ثبتوا على الشدائد و كذبوا أي لم يثبتوا و منه قول زهير :

إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا « أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا » أم هذه استفهام منقطع عما قبله و ليست التي هي معادلة الهمزة و المعنى بل أ حسب الذين يفعلون الكفر و القبائح أن يفوتونا فوت السابق لغيره و يعجزونا فلا نقدر على أخذهم و الانتقام منهم « ساء ما يحكمون » أي بئس الشيء الذي يحكمون ظنهم أنهم يفوتوننا و روى العياشي بالإسناد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال جاء العباس إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له امش حتى نبايع لك الناس فقال أ تراهم فاعلين قال نعم فأين قول الله « الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا » الآيات « من كان يرجوا لقاء الله » أي من كان يأمل لقاء ثواب الله و قيل معناه من كان يخاف عقاب الله عن سعيد بن جبير و السدي و الرجاء قد يكون بمعنى الخوف كما في قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
و حالفها في بيت نوب عواسل و المعنى من كان يخشى البعث و يخاف الجزاء و الحساب أو يأمل الثواب فليبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل « فإن أجل الله لآت » أي الوقت الذي وقته الله للثواب و العقاب جاء لا محالة « و هو السميع » لأقوالكم « العليم » بما في ضمائركم .
وَ مَن جَهَدَ فَإِنَّمَا يجَهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنىُّ عَنِ الْعَلَمِينَ(6) وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسنَ الَّذِى كانُوا يَعْمَلُونَ(7) وَ وَصيْنَا الانسنَ بِوَلِدَيْهِ حُسناً وَ إِن جَهَدَاك لِتُشرِك بى مَا لَيْس لَك بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(8) وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فى الصلِحِينَ(9) وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِى فى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَ لَئن جَاءَ نَصرٌ مِّن رَّبِّك لَيَقُولُنَّ إِنَّا كنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْس اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فى صدُورِ الْعَلَمِينَ(10)

مجمع البيان ج : 8 ص : 429

الإعراب

حسنا مفعول فعل محذوف تقديره و وصينا الإنسان بأن يفعل بوالديه حسنا أي ما يحسن « ما ليس لك به علم » موصول و صلة في موضع نصب بأنه مفعول تشرك .

النزول

قال الكلبي نزلت الآية الأخيرة في عياش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فحلفت أمه أسماء بنت مخزمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنا حتى يرجع إليها فلما رأى ابناها أبو جهل و الحرث ابنا هشام و هما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه و ذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت و شربت فلما خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كثافا و جلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برىء من دين محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) جزعا من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحرث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عياش و حسن إسلامه و أسلم الحرث بن هشام و هاجر إلى
مجمع البيان ج : 8 ص : 430
المدينة و بايع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الإسلام و لم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش و بكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره بذلك فنزل « و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ » الآية و قيل نزلت الآية في ناس من المنافقين يقولون آمنا فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك عن الضحاك و قيل نزلت في قوم ردهم المشركون إلى مكة عن قتادة .

المعنى

لما رغب سبحانه في تحقيق الرجاء و الخوف بفعل الطاعة عقبه بالترغيب في المجاهدة فقال « و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه » أي و من جاهد الشيطان بدفع وسوسته و إغوائه و جاهد أعداء الدين لإحيائه و جاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه فإنما يجاهد لنفسه لأن ثواب ذلك عائد عليه و واصل إليه دون الله تعالى « إن الله لغني عن العالمين » غير محتاج إلى طاعتهم فلا يأمرهم و لا ينهاهم لمنفعة ترجع إليه بل لمنفعتهم « و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم » التي اقترفوها قبل ذلك أي لنطلبنها حتى تصير كأنهم لم يعملوها « و لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون » أي يجزيهم بأحسن أعمالهم و هو ما أمروا به من العبادات و الطاعات و المعنى لنكفرن سيئاتهم السابقة منهم في حال الكفر و لنجزينهم بحسناتهم التي عملوها في الإسلام و لما أمر سبحانه بمجاهدة الكفار و مباينتهم بين حال الوالدين في ذلك فقال « و وصينا الإنسان بوالديه » أي أمرناه أن يفعل بوالديه « حسنا » و ألزمناه ذلك ثم خاطب سبحانه كل واحد من الناس فقال « و إن جاهداك » أي و إن جاهداك أبواك أيها الإنسان و ألزماك و استفرغا مجهودهما في دعائك « لتشرك بي » في العبادة « ما ليس لك به علم » أي و ليس لأحد به علم « فلا تطعهما » في ذلك فأمر سبحانه إطاعة الوالدين في الواجبات حتما و في المباحات ندبا و نهى عن طاعتهما في المحظورات و نفي العلم به كأنه كناية عن تعريه من الأدلة لأنه إذا لم يكن عليه حجة و دليل لم يحصل العلم به فلا يحسن اعتقاده « إلي مرجعكم » أي إلى حكمي مصيركم « فأنبئكم بما كنتم تعملون » أي أخبركم بأعمالكم فأجازيكم عليها و روي عن سعد بن أبي وقاص قال كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت يا سعد ما هذا الدين الذي أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل و لا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه فقلت لا تفعلي يا أمه إني لا أدع ديني هذا لشيء قال فمكثت يوما لا تأكل و ليلة ثم مكثت يوما آخر و ليلة فما رأيت ذلك قلت و الله يا أمه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فكلي و اشربي و إن شئت فلا تأكلي و لا تشربي فلما رأت ذلك أكلت فأنزلت هذه الآية « و إن جاهداك » و أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس و روي عن بهر بن أبي حكيم عن أبيه عن جده قال قلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا
مجمع البيان ج : 8 ص : 431

رسول الله من أبر قال أمك قلت ثم من قال ثم أمك قلت ثم من قال ثم أمك قلت ثم من قال ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب و عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الجنة تحت أقدام الأمهات ثم قال سبحانه « و الذين آمنوا » أي صدقوا بوحدانية الله تعالى و إخلاص العبادة له « و عملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين » أي في زمرتهم و جملتهم في الجنة و لما ذكر سبحانه خيار المؤمنين عقبه بذكر ضعفائهم و قيل بل عقبه بذكر المنافقين فقال « و من الناس من يقول آمنا بالله » بلسانه « فإذا أوذي في الله » أي في دين الله أو في ذات الله « جعل فتنة الناس كعذاب الله » و المعنى فإذا أوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخافة عذاب الناس كما ينبغي للكافر أن يترك دينه مخافة عذاب الله فيسوي بين عذاب فإن منقطع و بين عذاب دائم غير منقطع أبدا لقلة تمييزه و سمي أذية الناس فتنة لما في احتمالها من المشقة « و لئن جاء نصر من ربك » يا محمد أي و لئن جاء نصر من الله للمؤمنين و دولة لأولياء الله على الكافرين « ليقولن إنا كنا معكم » أي ليقولن هؤلاء المنافقون للمؤمنين إنا كنا معكم على عدوكم طمعا في الغنيمة ثم كذبهم الله فقال « أ و ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين » من الإيمان و النفاق فلا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا .
وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَفِقِينَ(11) وَ قَالَ الَّذِينَ كفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطيَكُمْ وَ مَا هُم بحَمِلِينَ مِنْ خَطيَهُم مِّن شىْء إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ(12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهَُمْ وَ أَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالهِِمْ وَ لَيُسئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَمَّا كانُوا يَفْترُونَ(13) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِث فِيهِمْ أَلْف سنَة إِلا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفَانُ وَ هُمْ ظلِمُونَ(14) فَأَنجَيْنَهُ وَ أَصحَب السفِينَةِ وَ جَعَلْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَلَمِينَ(15)

اللغة


الثقل متاع البيت و جمعه أثقال و هو من الثقل يقال ارتحل القوم بثقلهم و ثقلتهم أي بأمتعتهم و منه الحديث إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا
مجمع البيان ج : 8 ص : 432
حتى يردا علي الحوض قال ثعلب سميا به لأن الأخذ بموجبهما ثقيل و قال غيره إن العرب تقول لكل شيء خطير نفيس ثقل فسماهما ثقلين تفخيما لشأنهما و كل شيء يتنافس فيه فهو ثقل و منه سمي الجن و الإنس ثقلين لأنهما فضلا على غيرهما من الخلق و الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض قال الراجز :
أفناهم الطوفان موت جارف الجرف الأخذ الكثير و قد جرفت الشيء أجرفه بالضم جرفا أي ذهبت كله شبه الموت في كثرته بالطوفان .

الإعراب

قوله « بحاملين من خطاياهم من شيء » تقديره و ما هم بحاملين من شيء من خطاياهم فقوله « من خطاياهم » في الأصل صفة لشيء فقدم عليه فصار في موضع نصب على الحال .
« ألف سنة » نصب على الظرف خمسين نصب على الاستثناء و عاما تمييزه .

المعنى

ثم أقسم سبحانه فقال « و ليعلمن الله الذين آمنوا » بالله على الحقيقة ظاهرا و باطنا « و ليعلمن المنافقين » فيجازيهم بحسب أعمالهم قال الجبائي معناه و ليميزن الله المؤمن من المنافق فوضع العلم موضع التمييز توسعا و قد مر بيانه و في هذه الآية تهديد للمنافقين بما هو معلوم من حالهم التي استهزءوا بها و توهموا أنهم قد نجوا من ضررها بإخفائها فبين أنها ظاهرة عند من يملك الجزاء عليها و أنه يحل الفضيحة العظمى بها « و قال الذين كفروا » نعم الله و جحدوها « للذين آمنوا » أي صدقوا بتوحيده و صدق رسله « اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم » أي و نحن نحمل آثامكم عنكم إن قلتم إن لكم في اتباع ديننا إثما و يعنون بذلك أنه لا إثم عليكم باتباع ديننا و لا يكون بعث و لا نشور فلا يلزمنا شيء مما ضمنا و المأمور في قوله « و لنحمل » هو المتكلم به نفسه في مخرج اللفظ و المراد به إلزام النفس هذا المعنى كما يلزم الشيء بالأمر و فيه معنى الجزاء و تقديره إن تتبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم ثم قال سبحانه « و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء » أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة فإن الله سبحانه عدل لا يعذب أحدا بذنب غيره فلا يصح إذا أن يتحمل أحد ذنب غيره و هذا مثل قوله و لا تزر وازرة وزر أخرى و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و لا يجري هذا مجرى تحمل الدية عن الغير لأن الغرض في الدية أداء المال عن نفس المقتول فلا فرق بين أن يوديه زيد عنه و بين أن يؤديه عمرو فإنه بمنزلة قضاء الدين « إنهم لكاذبون » فيما ضمنوا
مجمع البيان ج : 8 ص : 433

من حمل خطاياهم « و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم » يعني أنهم يحملون خطاياهم و أوزارهم في أنفسهم التي لم يعملوها بغيرهم و يحملون الخطايا التي ظلموا بها غيرهم و قيل معناه يحملون عذاب ضلالهم و عذاب إضلالهم غيرهم و دعائهم لهم إلى الكفر و هذا كقوله من سن سنة سيئة الخبر و هذا كقوله ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم « و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون » و معناه أنهم يسئلون سؤال تعنيف و توبيخ و تبكيت و تقريع لا سؤال استعلام و استخبار « و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه » يدعوهم إلى توحيد الله عز و جل « فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما » فلم يجيبوه و كفروا به « فأخذهم الطوفان » جزاء على كفرهم فهلكوا « و هم ظالمون » لأنفسهم بما فعلوه من الشرك و العصيان « فأنجيناه و أصحاب السفينة » أي فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان و الذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به « و جعلناها » أي و جعلنا السفينة « آية للعالمين » أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة لأنها فرقت بين المؤمنين و الكافرين و الأبرار و الفجار و هي دلالة للخلق على صدق نوح و كفر قومه .

النظم

إنما اتصل قوله « و قال الذين كفروا » بما تقدمه من ذكر المنافقين فإنه سبحانه لما بين حالهم عند إيراد الشبهة عليهم بين في هذه الآية أن من الواجب أن لا يغتر المؤمنون بما يورده أهل الكفر عليهم من الشبه الفاسدة و قد ذكر في اتصال قصة نوح بما قبلها وجوه ( أحدها ) أنه لما قال فتنا الذين من قبلهم فصل ذلك فبدأ بقصة نوح ثم بما يليها ( و ثانيها ) أنه لما ذكر حال المجاهد الصابر و حال من كان بخلافه ذكر قصة نوح و صبره على أذى قومه و تكذيبهم تلك المدة الطويلة ثم عقب ذلك بذكر غيره من الأنبياء ( و ثالثها ) أنه لما أمر و نهى و وعد و أوعد على امتثال أوامره و ارتكاب نواهيه أكد ذلك بقصص الأنبياء .
وَ إِبْرَهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذَلِكمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَناً وَ تخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(17) وَ إِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كذَّب أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلى الرَّسولِ إِلا الْبَلَغُ الْمُبِينُ(18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كيْف يُبْدِىُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِك عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ(19) قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ فَانظرُوا كيْف بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىُ النَّشأَةَ الاَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(20)

مجمع البيان ج : 8 ص : 434

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف أ و لم تروا بالتاء و الباقون بالياء و روي عن أبي بكر بالتاء و الياء جميعا و قرأ ابن كثير و أبو عمرو النشاءة بفتح الشين ممدودة مهموزة و قرأ الباقون « النشأة » بسكون الشين غير ممدودة و في الشواذ قراءة السلمي و زيد بن علي و تخلقون إفكا .

الحجة

قال أبو علي حجة التاء في أ و لم تروا أن قبلها « و إن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم » و حجة الياء أن المعنى قل لهم أ و لم يروا النشاءة و النشأة مثل الرآفة و الرأفة و الك آبة و الكأبة و قال أبو زيد نشأت أنشأ نشأ إذا شببت و نشأت السحابة نشأ و لم يذكر النشأة و أما تخلقون فإنه على وزن تكذبون و في معناه .

الإعراب

« كيف يبديء الله الخلق » كيف في موضع نصب على الحال من الله و التقدير أ مبدعا يبديء الله الخلق أم لا و يجوز أن يكون حالا من الخلق فيكون تقديره أ مبدعا يبديء الله الخلق أم لا ثم يعيده أم لا و يجوز أن يكون في موضع مصدر و التقدير أي إبداء يبديء و مثله كيف بدأ الخلق و النشأة منصوبة على المصدر و مفعول ينشىء محذوف تقديره و ينشىء الخلق .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « و إبراهيم » أي و أرسلنا إبراهيم « إذ قال لقومه اعبدوا الله و اتقوه » أي أطيعوا الله و خافوه بفعل طاعاته و اجتناب معاصيه « ذلكم خير لكم » أي ذلك التقوى خير لكم « إن كنتم تعلمون » ما هو خير مما هو شر لكم « إنما تعبدون من دون الله أوثانا » ما في هذا الموضع كافة و المعنى أنكم تعبدون
مجمع البيان ج : 8 ص : 435

أصناما من حجارة لا تضر و لا تنفع « و تخلقون إفكا » أي تفتعلون كذبا بأن تسموا هذه الأوثان آلهة عن السدي و قيل معناه و تصنعون أصناما بأيديكم و سماها إفكا لادعائهم إنها آلهة عن مجاهد و قتادة و أبي علي الجبائي ثم ذكر عجز آلهتهم عن رزق عابديها فقال « إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا » أي لا يقدرون على أن يرزقوكم و الملك قدرة القادر على ماله أن يتصرف في ماله أتم التصرف و ليس ذلك إلا لله على الحقيقة فإن الإنسان إنما يملك ما يملكه الله تعالى و يأذن له في التصرف فيه فأصل الملك لجميع الأشياء لله تعالى فمن لا يملك أن يرزق غيره لا يستحق العبادة لأن العبادة تجب بأعلى مراتب النعمة و لا يقدر على ذلك غير الله تعالى فلا يستحق العبادة سواه « فابتغوا عند الله الرزق » أي اطلبوا الرزق من عنده دون من سواه « و اعبدوه و اشكروا له » على ما أنعم به عليكم من أصول النعم من الحياة و الرزق و غيرهما « إليه ترجعون » أي إلى حكمه تصيرون يوم القيامة فيجازيكم على قدر أعمالكم ثم خاطب العرب فقال « و إن تكذبوا » أي و إن تكذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فقد كذب أمم من قبلكم » أنبياءهم الذين بعثوا إليهم « و ما على الرسول إلا البلاغ المبين » أي ليس عليه إلا التبليغ الظاهر البين و ليس عليه حمل من أرسل إليه على الإيمان « أ و لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده » يعني كفار مكة الذين أنكروا البعث و أقروا بأن الله هو الخالق فقال أ و لم يتفكروا فيعلموا كيف أبدأ الله الخلق بعد العدم ثم يعيدهم ثانيا إذا أعدمهم بعد وجودهم قال ابن عباس يريد الخلق الأول و الخلق الآخر « إن ذلك على الله يسير » غير متعذر لأن من قدر على الإنشاء و الابتداء فهو على الإعادة أقدر ثم خاطب محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » لهؤلاء الكفار « سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق » و تفكروا في آثار من كان فيها قبلكم و إلى أي شيء صار أمرهم لتعتبروا بذلك و يؤديكم ذلك إلى العلم بربكم و قيل معناه انظروا و ابحثوا هل تجدون خالقا غير الله فإذا علموا أنه لا خالق ابتداء إلا الله لزمتهم الحجة في الإعادة و هو قوله « ثم الله ينشىء النشأة الآخرة » أي ثم الله الذي خلقها و أنشأ خلقها ابتداء ينشئها نشأة ثانية و معنى الإنشاء الإيجاد من غير سبب « إن الله » تعالى « على كل شيء قدير » أي إن الله على الإنشاء و الإفناء و الإعادة و على كل شيء يشاؤه قدير .
يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَن يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ(21) وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فى الأَرْضِ وَ لا فى السمَاءِ وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلىّ وَ لا نَصِير(22) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِ اللَّهِ وَ لِقَائهِ أُولَئك يَئسوا مِن رَّحْمَتى وَ أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(23) فَمَا كانَ جَوَاب قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ(24) وَ قَالَ إِنَّمَا اتخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُ بَعْضكم بِبَعْض وَ يَلْعَنُ بَعْضكم بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكم مِّن نَّصِرِينَ(25)

مجمع البيان ج : 8 ص : 436

القراءة

قرأ ابن كثير و أهل البصرة و الكسائي مودة بينكم بالرفع و الإضافة و قرأ حمزة و حفص بنصب مودة و إضافتها إلى « بينكم » و قرأ الباقون مودة منصوبة منونة بينكم بالنصب إلا الشموني و البرجمي فإنهما قرءا مودة مرفوعة منونة بينكم بالنصب .

الحجة


قال أبو علي يجوز في قول من قال مودة بينكم أن يجعل ما اسم إن و يضمر ذكرا يعود إلى ما كما جاء في قوله « و اتخذتموه وراءكم ظهريا » فيكون التقدير إن الذين اتخذتموهم أوثانا ذوو مودة بينكم و يكون دخول إن على ما لأنه بمنزلة الذي كقوله « أ يحسبون إنما نمدهم به من مال و بنين » لعود الذكر إليه و يجوز أن يضمر هو و يجعل « مودة بينكم » خبرا عنه و الجملة في موضع خبر أن و من قرأ مودة بينكم بالنصب جعل ما مع إن كلمة و لم يعد إليها ذكرا كما أعاد في الوجه الأول و جعل الأوثان منتصبا باتخذتم و عداه أبو عمرو إلى مفعول واحد كقوله « قل اتخذتم عند الله عهدا » و المعنى إنما اتخذتم من دون الله أوثانا آلهة فحذف كما أن قوله « إن الذين اتخذوا العجل » معناه اتخذوا العجل إلها فحذف و انتصب مودة على أنه مفعول له و بينكم نصب على الظرف و العامل فيه المودة و من قال « مودة بينكم » أضاف المودة إلى البين و اتسع بأن جعل الظرف اسما لما أضاف إليه و مثل ذلك قراءة
مجمع البيان ج : 8 ص : 437

من قرأ لقد تقطع بينكم و من قرأ مودة بينكم في الحياة الدنيا جاز في قوله بينكم إذا نون مودة ضربان ( أحدهما ) أن يجعله ظرفا متعلقا بالمصدر لأن الظرفين أحدهما من المكان و الآخر من الزمان و إنما الذي يمتنع أن يعلق به إذا كانا ظرفين من الزمان أو ظرفين من المكان فأما إن اختلفا فسائغ فقوله « في الحياة الدنيا » ظرف زمان لأن المعنى في وقت الحياة الدنيا و لا ذكر في واحد من الظرفين كما إنك إذا قلت لقيت زيدا اليوم في السوق كان كذلك فإن جعلت الظرف الأول صفة للنكرة كان متعلقا بمحذوف و صار فيه ذكر يعود إلى الموصوف فإذا جعلته صفة للمصدر جاز أن يكون قوله « في الحياة الدنيا » في موضع حال و العامل فيه الظرف الذي هو صفة للنكرة و فيه ذكر يعود إلى ذي الحال و ذو الحال الضمير الذي في الظرف العائد إلى الموصوف الذي هو مودة و هو هي في المعنى فإن قلت هل يجوز أن يتعلق الظرف الذي قد جاز أن يكون حالا بالمودة مع أنه قد وصف بقوله بينكم قيل لا يمتنع ذلك لأنك إذا وصفته فمعنى الفعل قائم فيه و الظرف يتعلق بمعنى الفعل و إنما الذي يمتنع أن يعمل فيه إذا وصف المفعول به فأما الحال و الظرف فلا يمتنع أن يتعلق كل واحد منهما به و إن كان قد وصف به و قد جاء في الشعر ما يعمل عمل الفعل إذا وصف عاملا في المفعول به و إذا جاز أن يعمل في المفعول به فلا نظر في جواز علمه فيما ذكرناه من الظرف و الحال فمن ذلك قوله :
إذا فاقد خطباء فرخين رجعت
ذكرت سليمى في الخليط المباين و التحقير في ذلك بمنزلة الوصف لو قال هذا ضويرب زيدا لقبح كما يقبح ذلك في الصفة و لم يجز ذلك في حال السعة و الاختيار .

المعنى

ثم ذكر سبحانه الوعد و الوعيد فقال « يعذب من يشاء » معناه أنه المالك للثواب و العقاب و إن كان لا يشاء إلا الحكمة و العدل و ما هو الأحسن من الأفعال فيعذب من يشاء ممن يستحق العقاب « و يرحم من يشاء » ممن هو مستحق للرحمة بأن يغفر له بالتوبة و غير التوبة « و إليه تقلبون » معاشر الخلق أي إليه ترجعون يوم القيامة و القلب هو الرجوع و الرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضر إلا الله
مجمع البيان ج : 8 ص : 438

و هذا يتعلق بما قبله كان المنكرين للبعث قالوا إذا كان العذاب غير كائن في الدنيا فلا نبالي به فقال « و إليه تقلبون » و كأنهم قالوا إذا صرفنا إلى حكم الله فررنا فقال « و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا في السماء » أي و لستم بفائتين عن الله في الدنيا و لا في الآخرة فاحذروا مخالفته و متى قيل كيف وصفهم بذلك و ليسوا من أهل السماء فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) إن المعنى لستم بمعجزين فرارا في الأرض و لا في السماء لو كنتم في السماء كقولك ما يفوتني فلان هاهنا و لا بالبصرة يعني و لا بالبصرة لو صار إليها عن قطرب و هو معنى قول مقاتل ( و الآخر ) أن المعنى و لا من في السماء بمعجزين فحذف من لدلالة الكلام عليه كما قال حسان :
أ من يهجو رسول الله منكم
و يمدحه و ينصره سواء فكأنه قال و من يمدحه و ينصره سواء أم لا يتساوون عن الفراء و هذا ضعيف عند البصريين « و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير » ينصركم و يدفع عذاب الله عنكم فلا تغتروا بأن الأصنام تشفع لكم و قيل إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه و النصير يتولى النصرة تارة بنفسه و تارة بأن يأمر غيره به « و الذين كفروا ب آيات الله » أي جحدوا بالقرآن و بأدلة الله « و لقائه » أي و جحدوا بالبعث بعد الموت « أولئك يئسوا من رحمتي » أخبر أنه سبحانه آيسهم من رحمته و جنته أو يكون معناه يجب أن ييأسوا من رحمتي « و أولئك لهم عذاب أليم » أي مؤلم و في هذا دلالة على أن المؤمن بالله و اليوم الآخر لا ييأس من رحمة الله ثم عاد سبحانه إلى قصة إبراهيم فقال « فما كان جواب قومه » يعني حين دعاهم إلى الله تعالى و نهاهم عن عبادة الأصنام « إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه » و في هذا تسفيه لهم إذ قالوا حين انقطعت حجتهم لا تحاجوه و لكن اقتلوه أو حرقوه ليتخلصوا منه « فأنجاه الله من النار » و هاهنا حذف تقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأججوا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها « إن في ذلك لآيات » أي علامات واضحات و حجج بينات « لقوم يؤمنون » بصحة ما أخبرناه به و بتوحيد الله و كمال قدرته « و قال » إبراهيم لقومه « إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم » أي لتتوادوا بها « في الحيوة الدنيا » و قد تقدم بيانه في الحجة « ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض » أي يتبرأ القادة من الأتباع « و يلعن بعضكم بعضا » أي و يلعن الأتباع القادة لأنهم زينوا لهم الكفر و قال قتادة كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا خلة المتقين قال سبحانه الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين « و مأواكم النار » أي و مستقركم النار « و ما لكم من ناصرين » يدفعون عنكم عذاب الله .

مجمع البيان ج : 8 ص : 439
* فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنى مُهَاجِرٌ إِلى رَبى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ(26) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب وَ جَعَلْنَا فى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتَب وَ ءَاتَيْنَهُ أَجْرَهُ فى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فى الاَخِرَةِ لَمِنَ الصلِحِينَ(27) وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكمْ لَتَأْتُونَ الْفَحِشةَ مَا سبَقَكم بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَلَمِينَ(28) أَ ئنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَ تَقْطعُونَ السبِيلَ وَ تَأْتُونَ فى نَادِيكُمُ الْمُنكرَ فَمَا كانَ جَوَاب قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كنت مِنَ الصدِقِينَ(29) قَالَ رَب انصرْنى عَلى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(30)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص أ إنكم لتأتون الفاحشة « أ إنكم لتأتون الرجال » بهمزتين فيهما و قرأ أبو عمرو بالاستفهام فيهما بهمزة ممدودة آنكم و قرأ الباقون « إنكم لتأتون الفاحشة » بكسر الهمزة من غير استفهام « أ إنكم لتأتون الرجال » بالاستفهام إلا أن ابن كثير و ورشا و يعقوب قرءوا بهمزة واحدة غير ممدودة و ابن عامر و حفص بهمزتين و أهل المدينة غير ورش بهمزة واحدة ممدودة .

اللغة

هاجر القوم من دار إلى دار معناه تركوا الأولى للثانية قال الأزهري أصل المهاجرة خروج البدوي من البادية إلى المدن و تهجر أي تشبه بالمهاجرين و منه حديث عمر هاجروا و لا تهجروا أي أخلصوا الهجرة لله و النادي و الندي المجلس إذا اجتمعوا فيه و تنادى القوم اجتمعوا في النادي و دار الندوة دار قصي بن كلاب كانوا يجتمعون فيه للمشاورة تبركا به و الأصل من النداء لأن القوم ينادي بعضهم بعضا .


المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم بأن قال « ف آمن له لوط » أي فصدق بإبراهيم لوط و هو ابن أخته و كان إبراهيم خاله عن ابن عباس و ابن زيد و جمهور المفسرين و هو أول من صدق بإبراهيم (عليه السلام) « و قال » إبراهيم « إني مهاجر إلى ربي » أي خارج من
مجمع البيان ج : 8 ص : 440
جملة الظالمين على جهة الهجر لهم لقبيح أعمالهم من حيث أمرني ربي و قيل معناه قال لوط إني مهاجر إلى ربي عن الجبائي و خرج إبراهيم (عليه السلام) و معه لوط و امرأته سارة و كانت ابنة عمه من كوثي و هي قرية من سواد الكوفة إلى أرض الشام عن قتادة و مثل هذا هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا لأنهم هجروا ديارهم و أوطانهم بسبب أذى المشركين لهم « إنه هو العزيز » الذي لا يذل من نصره « الحكيم » الذي لا يضيع من حفظه « و وهبنا له » أي لإبراهيم من بعد إسماعيل « إسحاق و يعقوب » من وراء إسحاق « و جعلنا في ذريته النبوة و الكتاب » و ذلك أن الله سبحانه لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه فالتوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان كلها أنزلت على أولاده « و آتيناه أجره في الدنيا » و هو الذكر الحسن و الولد الصالح عن ابن عباس و قيل هو رضى أهل الأديان به فكلهم يحبونه و يتولونه عن قتادة و قيل هو أنه أري مكانه في الجنة عن السدي و قال بعض المتأخرين هو بقاء ضيافته عند قبره و ليس ذلك لغيره من الأنبياء قال البلخي و في هذا دلالة على أنه يجوز أن يثيب الله في دار التكليف ببعض الثواب « و أنه في الآخرة لمن الصالحين » يعني أن إبراهيم مع ما أعطي من الأجر و الثواب في الدنيا يحشره الله في جملة الصالحين العظيمي الأقدار مثل آدم و نوح « و لوطا إذ قال لقومه » أي و أرسلنا لوطا و يجوز أن يريد و اذكر لوطا حين قال لقومه « إنكم لتأتون الفاحشة » من قرأ بلفظ الاستفهام أراد به الإنكار دون الاستعلام و من قرأ إنكم على الخبر أراد أن لوطا قال ذلك لقومه منكرا لفعلهم لا مفيدا معلما لهم لأنهم قد علموا ما فعلوه و الفاحشة هاهنا ما كانوا يفعلونه من إتيان الذكران « ما سبقكم بها » أي بهذه الفاحشة « من أحد من العالمين » أي أحد من الخلائق ثم فسر الفاحشة بقوله « إنكم لتأتون الرجال » أي تنكحونهم « و تقطعون السبيل » قيل فيه وجوه ( أحدها ) تقطعون سبيل الولد باختياركم الرجال على النساء ( و ثانيها ) إنكم تقطعون الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاحشة فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالحذف فأيهم أصابه كان أولى به و يأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض يقضي بذلك ( و ثالثها ) إنهم كانوا يقطعون الطريق على الناس كما يفعل قطاع الطريق في زماننا « و تأتون في ناديكم المنكر » قيل فيه أيضا وجوه ( أحدها ) هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة و لا حياء عن ابن عباس و روي ذلك عن الرضا (عليه السلام) ( و ثانيها ) إنهم كانوا يأتون الرجال في مجالسهم يرى
مجمع البيان ج : 8 ص : 441

بعضهم بعضا عن مجاهد ( و ثالثها ) كانت مجالسهم تشتمل على أنواع من المناكير و القبائح مثل الشتم و السخف و الصفع و القمار و ضرب المخراق و حذف الأحجار على من مر بهم و ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط قال الزجاج و في هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكير و لا أن يجتمعوا على المناهي و لما أنكر لوط على قومه ما كانوا يأتونه من الفضائح قالوا له استهزاء ائتنا بعذاب الله و ذلك قوله « فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين » و عند ذلك « قال » لوط « رب انصرني على القوم المفسدين » الذين فعلوا المعاصي و ارتكبوا القبائح و أفسدوا في الأرض .
وَ لَمَّا جَاءَت رُسلُنَا إِبْرَهِيمَ بِالْبُشرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كانُوا ظلِمِينَ(31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كانَت مِنَ الْغَبرِينَ(32) وَ لَمَّا أَن جَاءَت رُسلُنَا لُوطاً سىءَ بهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لا تخَف وَ لا تحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوك وَ أَهْلَك إِلا امْرَأَتَك كانَت مِنَ الْغَبرِينَ(33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السمَاءِ بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ(34) وَ لَقَد تَّرَكنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ(35)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم و يعقوب لننجينه خفيفة الجيم ساكنة النون و الباقون « لننجينه » بالتشديد و قرأ ابن كثير و أهل الكوفة غير حفص و يعقوب إنا منجوك بالتخفيف و الباقون بالتشديد و قرأ ابن عامر منزلون بالتشديد و الباقون « منزلون » بالتخفيف .

الحجة

قال أبو علي حجة و من قرأ لننجينه و إنا منجوك قوله « فأنجيه الله من
مجمع البيان ج : 8 ص : 442

النار » و حجة من ثقل قوله « نجينا شعيبا و الذين آمنوا » يقال نجا زيد و نجيته و أنجيته مثل فرحته و أفرحته و كذلك قولك نزل إذا عديته قلت نزلته و أنزلته .

المعنى

ثم بين سبحانه أنه استجاب دعاء لوط و بعث جبرائيل و معه الملائكة لتعذيب قومه بقوله « و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى » أي يبشرونه بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب « قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية » يعنون قرية قوم لوط (عليه السلام) و إنما قالوا هذا لأن قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم « إن أهلها كانوا ظالمين » أي مشركين مرتكبين للفواحش « قال » إبراهيم « إن فيها لوطا » فكيف تهلكونها « قالوا » في جوابه « نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله » أي لنخلصن لوطا من العذاب بإخراجه منها و لنخلصن أيضا أهله المؤمنين منهم « إلا امرأته » فإنها تبقى في العذاب لا تنجو منه و ذلك قوله « كانت من الغابرين » أي من الباقين في العذاب « و لما إن جاءت رسلنا لوطا » أن هذه مزيدة « سيء بهم » معناه سيء لوط بالملائكة أي ساءه مجيئهم لما رآهم في أحسن صورة لما كان يعلمه من خبث فعل قومه عن قتادة و قيل معناه سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم « و ضاق بهم ذرعا » أي ضاق قلبه و قيل ضاقت حيلته فيما أراد من حفظهم و صيانتهم عن الجبائي فلما رأى الملائكة حزنه و ضيق صدره « قالوا لا تخف » علينا و عليك « و لا تحزن » بما نفعله بقومك و قيل لا تخف و لا تحزن علينا فإنا رسل الله لا يقدرون علينا « إنا منجوك و أهلك » من العذاب « إلا امرأتك » الكافرة « كانت من الغابرين » أي الباقين في العذاب « إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا » أي عذابا من السماء « بما كانوا يفسقون » أي يخرجون من طاعة الله إلى معصيته أي جزاء بفسقهم « و لقد تركنا منها آية بينة » أي تركنا من تلك القرية عبرة واضحة و دلالة على قدرتنا قال قتادة هي الحجارة التي أمطرت عليهم و قال ابن عباس هي آثار منازلهم الخربة و قال مجاهد هي الماء الأسود على وجه الأرض « لقوم يعقلون » ذلك و يبصرونه و يتفكرون فيه و يتعظون به فيزجرهم ذلك عن الكفر بالله و اتخاذ شريك معه في العبادة .
وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شعَيْباً فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الاَخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(36) فَكذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصبَحُوا فى دَارِهِمْ جَثِمِينَ(37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَا وَ قَد تَّبَينَ لَكم مِّن مَّسكنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشيْطنُ أَعْمَلَهُمْ فَصدَّهُمْ عَنِ السبِيلِ وَ كانُوا مُستَبْصِرِينَ(38) وَ قَرُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَمَنَ وَ لَقَدْ جَاءَهُم مُّوسى بِالْبَيِّنَتِ فَاستَكبرُوا فى الأَرْضِ وَ مَا كانُوا سبِقِينَ(39) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيْحَةُ وَ مِنْهُم مَّنْ خَسفْنَا بِهِ الأَرْض وَ مِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ يَظلِمُونَ(40)

مجمع البيان ج : 8 ص : 443

اللغة

الرجفة زعزعة الأرض تحت القدم يقال رجف السطح من تحت أهله يرجف رجفا و رجفة شديدة و البحر رجاف لاضطرابه و أرجف الناس بالشيء أي أخبروا بما يضطرب لأجله من غير تحقق به و الحاصب الريح العاصفة التي فيها الحصباء و هي الحصى الصغار يشبه به البرد و الجليد قال الفرزدق :
مستقبلين رياح الشام تضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور و قال الأخطل :
و لقد علمت إذ العشار تروحت
هدج الرئال بكنهن شمالا
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها
حتى تبيت على العضاة جفالا
مجمع البيان ج : 8 ص : 444

و الخسف سوخ الأرض بما عليها يقال خسف الله به الأرض و خسف القمر إذهاب نوره و الخسوف للقمر و الكسوف للشمس .

الإعراب

أخاهم ينتصب بفعل مضمر و التقدير و أرسلنا إلى مدين أخاهم و عادا منصوب بفعل مضمر تقديره و أهلكنا عادا و ثمود و قد تبين فاعله مضمر تقديره و قد تبين إهلاكهم لكم « و كانوا مستبصرين » في موضع نصب على الحال .
« ليظلمهم » اللام لتأكيد النفي و لا يجوز إظهار أن بعده .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « و إلى مدين » أي و أرسلنا إلى مدين « أخاهم شعيبا » و هذا مفسر فيما مضى « فقال يا قوم اعبدوا الله » بدأ بالدعاء إلى التوحيد و العبادة « ارجوا اليوم الآخر » أي و أملوا ثواب اليوم الآخر و اخشوا عقابه بفعل الطاعات و تجنب السيئات « و لا تعثوا في الأرض مفسدين » أي لا تسعوا في الأرض بالفساد ثم أخبر أن قومه كذبوه و لم يقبلوا منه فعاقبهم الله و ذلك قوله « فكذبوه فأخذتهم الرجفة » و قد مر بيانه « فأصبحوا في دارهم جاثمين » أي باركين على ركبهم ميتين « و عادا و ثمود » أي و أهلكنا أيضا عادا و ثمود جزاء لهم على كفرهم « و قد تبين لكم » معاشر الناس كثير « من مساكنهم » و قيل معناه و قد ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجر و اليمن آية في هلاكهم « و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل » أي فمنعهم عن طريق الحق « و كانوا مستبصرين » أي و كانوا عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق و الباطل بالاستدلال و النظر و لكنهم أغفلوا و لم يتدبروا و قيل معناه إنهم كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنهم على هدى عن قتادة و الكلبي « و قارون » أي و أهلكنا قارون « و فرعون و هامان و لقد جاءهم موسى بالبينات » أي بالحجج الواضحات من قلب العصا حية و اليد البيضاء و فلق البحر و غيرها « فاستكبروا » أي طلبوا التجبر « في الأرض » و لم ينقادوا للحق « و ما كانوا سابقين » أي فائتين الله كما يفوت السابق « فكلا أخذنا بذنبه » أي فأخذنا كلا من هؤلاء بذنبه و عاقبناهم بتكذيبهم الرسل « فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا » أي حجارة و قيل ريحا فيها حصى و هم قوم لوط عن ابن عباس و قتادة و قيل هم عاد « و منهم من أخذته الصيحة » و هم ثمود و قوم شعيب عن ابن عباس و قتادة و الصيحة العذاب و قيل صاح بهم جبرائيل فهلكوا « و منهم من خسفنا به الأرض » و هو قارون « و منهم من أغرقنا » يعني قوم نوح و فرعون و قومه « و ما كان الله ليظلمهم » فيعذبهم على غير ذنب أو قبل إزاحة العلة « و لكن كانوا أنفسهم يظلمون » بكفرهم و تكذيبهم الرسل و في هذا دلالة واضحة على فساد مذهب أهل
مجمع البيان ج : 8 ص : 445
الجبر فإن الظلم لو كان من فعل الله كما يزعمون لما كان هؤلاء هم الظالمين لنفوسهم بل كان الظالم لهم من فعل فيهم الظلم تعالى الله عن ذلك .
مَثَلُ الَّذِينَ اتخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكبُوتِ اتخَذَت بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْت الْعَنكبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شىْء وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ(42) وَ تِلْك الأَمْثَلُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَلِمُونَ(43) خَلَقَ اللَّهُ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالْحَقِّ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ(44) اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْك مِنَ الْكِتَبِ وَ أَقِمِ الصلَوةَ إِنَّ الصلَوةَ تَنهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكبرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصنَعُونَ(45)

القراءة

قرأ أهل البصرة و عاصم إلا الأعمش و البرجمي « ما يدعون » بالياء و الباقون بالتاء .

الحجة و الإعراب
قال أبو علي التاء على قوله قل لهم إن الله يعلم ما تدعون لا يكون إلا عند هذا لأن المسلمين لا يخاطبون بذلك و ما استفهام و موضعه نصب بيدعون و لا يجوز أن يكون نصبا بيعلم و لكن صارت الجملة التي هي في موضع نصب بيعلم و لا يكون يعلم بمعنى يعرف كقوله و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت لأن ذلك لا يلغى و ما لا يلغى لا يعلق و يبعد ذلك دخول من في الكلام و هي إنما تدخل في نحو قولك هل من طعام و هل من رجل و لا تدخل في الإيجاب هذا قول الخليل و كذلك قوله فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار المعنى فستعلمون المسلم تكون له عاقبة الدار أم للكافر و كل ما كان من هذا فهكذا القول فيه و هو قياس قول الخليل .
 

 
  Index Next