جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


وَ لَمّا جَاءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَ كانُوا مِن قَبْلُ يَستَفْتِحُونَ عَلى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُم مّا عَرَفُوا كفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلى الْكَفِرِينَ (89) بِئْسمَا اشترَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ أَن يَكفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنزِّلَ اللّهُ مِن فَضلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضبٍ عَلى غَضبٍ وَ لِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ (90) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ الْحَقّ مُصدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (91) * وَ لَقَدْ جَاءَكم مّوسى بِالْبَيِّنَتِ ثُمّ اتخَذْتمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَ أَنتُمْ ظلِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكمُ الطورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَكم بِقُوّةٍ وَ اسمَعُوا قَالُوا سمِعْنَا وَ عَصيْنَا وَ أُشرِبُوا فى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكفْرِهِمْ قُلْ بِئْسمَا يَأْمُرُكم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (93)

بيان

قوله تعالى: و لما جاءهم إلخ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.


و قوله: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب، و أنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هجرته و أن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله: كانوا، و قوله: فلما جاءهم ما عرفوا، أي عرفوا أنه هو بانطباق ما كان عندهم من الأوصاف عليه كفروا.


قوله تعالى: بئسما اشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم و أن السبب الوحيد في ذلك هو البغي و الحسد، فقوله بغيا، مفعول مطلق نوعي.


و قوله أن ينزل الله" متعلق به، و قوله تعالى: فباءوا بغضب على غضب، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، و المعنى أنهم كانوا قبل البعثة و الهجرة ظهيرا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مستفتحا به و بالكتاب النازل عليه، ثم لما نزل بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل عليه القرآن و عرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به و ينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، و أخذهم الاستكبار، فكفروا و أنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفرا على كفر.


قوله تعالى: و يكفرون بما وراءه، أي يظهرون الكفر بما وراءه، و إلا فهم بالذي أنزل إليهم و هو التوراة أيضا كافرون.


قوله تعالى: قل فلم تقتلون، الفاء للتفريع.


و السؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقا و صدقا فلم تقتلون أنبياء الله، و لم كفرتم بموسى باتخاذ العجل، و لم قلتم عند أخذ الميثاق و رفع الطور: سمعنا و عصينا.


قوله تعالى: و أشربوا في قلوبهم العجل، الإشراب هو السقي، و المراد بالعجل حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل و به يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة و مجاز.


قوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى، و الاستكبار بإعلام المعصية، و فيه معنى الاستهزاء بهم.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: "و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق" الآية قال (عليه السلام): كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد و أحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء، و بعضهم بفدك، و بعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد، فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم: الأوس و الخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا إلى آخر الآية.


و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن أبي البراء و داود بن سلمة يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل شرك و تخبرونا بأنه مبعوث و تصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه و ما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله: و لما جاءهم كتاب من عند الله الآية.


و في الدر المنثور، أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء و الضحاك عن ابن عباس قال: كانت يهود بني قريظة و النضير من قبل أن يبعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا و يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جاءهم ما عرفوا يريد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يشكوا فيه كفروا به.


أقول: و روى قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا.


قال بعض المفسرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة و نظائرها: إنها على ضعف رواتها و مخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في بعض بحقه و هذا غير مشروع و لا حق لأحد على الله فيدعى به انتهى.


و هذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق و في معنى القسم.


بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشيء ذي شرافة و كرامة من حيث إنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه و إن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم امتثال التكليف.


فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك و حياتك و علقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، و كذا إذا قلت أفعل كذا و حياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف حياتك و قيمة عمرك.


و من هنا يظهر أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.


و ثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف و الكرامة.

و قد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه و وصفه كقوله: "و الله ربنا" و كقوله: "فوربك لنسألنهم" و قوله: "فبعزتك لأغوينهم" و أقسم بنبيه و ملائكته و كتبه و أقسم بمخلوقاته كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الليل و النهار و اليوم و الجبال و البحار و البلاد و الإنسان و الشجر و التين و الزيتون.


و ليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله و كرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء و القدس - و الكل شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للداعي منا إذا سأل الله شيئا أن يسأله بشيء منها من حيث إن الله سبحانه شرفه و أقسم به؟ و ما الذي هون الأمر في خصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أخرجه من هذه الكلية و استثناء من هذه الجملة؟.


و لعمري ليس رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهون عند الله من تينة عراقية، أو زيتونة شامية، و قد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون": الحجر - 72.


ثم إن الحق - و يقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنه كذلك كالأرض و الإنسان و كل أمر ثابت في حد نفسه و منه الحق المالي و سائر الحقوق الاجتماعية حيث إنها ثابتة بنظر الاجتماع و قد أبطل القرآن كل ما يدعى حقا إلا ما حققه الله و أثبته سواء في الإيجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع و ظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية و حقوق الإخوان و الوالدين على الولد و ليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض الاستدلالات الاعتزالية غير أنه من الممكن أن يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: "و كان حقا علينا ننجي المؤمنين": يونس - 103، و قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. و إن جندنا لهم الغالبون": الصافات - 171، 172، 173.


و النصر كما ترى مطلق، غير مقيد بشيء فالإنجاء حق للمؤمنين على الله، و النصر حق للمرسل على الله تعالى و قد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا مانع من القسم به عليه تعالى و هو الجاعل المشرف للحق و المقسم بكل أمر شريف.


إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بحق نبيه و كذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم و قد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت.


و أما قول القائل: ليس لأحد على الله حق فكلام واه.


نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه.


و لا كلام لأحد في ذلك و لا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.

2 سورة البقرة - 94 - 99

قُلْ إِن كانَت لَكمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصةً مِّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا الْمَوْت إِن كنتُمْ صدِقِينَ (94) وَ لَن يَتَمَنّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدّمَت أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنهُمْ أَحْرَص النّاسِ عَلى حَيَوةٍ وَ مِنَ الّذِينَ أَشرَكُوا يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْف سنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَن كانَ عَدُوّا لِّجِبرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِك بِإِذْنِ اللّهِ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كانَ عَدُوّا لِّلّهِ وَ مَلَئكتِهِ وَ رُسلِهِ وَ جِبرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لِّلْكَفِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْك ءَايَتِ بَيِّنَتٍ وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَسِقُونَ (99)

بيان

قوله تعالى: قل إن كانت لكم إلخ، لما كان قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: و قولهم نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم و أن نجاتهم و سعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك و شقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة و هي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم و أنهم يعلمون ذلك من غير تردد و ارتياب فقال تعالى لنبيه: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة" أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه و يحبه و يحل منها بأجمل ما يمكن و أسعده و قوله "عند الله" أي مستقرا عنده تعالى و بحكمه و إذنه، فهو كقوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران - 19 و قوله تعالى: "خالصة" أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: "من دون الناس" و ذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، و قوله تعالى: "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" و هذا كقوله تعالى: "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين": الجمعة - 6 و هذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك و هو أن الإنسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة و التعب اختار الراحة من غير تردد و تذبذب و إذا خير بين حياة و عيشة مكدرة مشوبة و أخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا و لو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه و عن ذكره في لسانه و عن السعي إليه في عمله.


فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا و لسانا و أركانا و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى و نقض المواثيق و الله عليم بالظالمين.


قوله تعالى: بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي و عد كل فعل عملا للأيدي.


و بالجملة أعمال الإنسان و خاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره و ارتكز في باطنه و الأعمال الطالحة و الأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله و الحلول في دار أوليائه.


قوله تعالى: و لتجدنهم أحرص الناس على حياة، كالدليل المبين لقوله تعالى: و لن يتمنوه أبدا أي و يشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب و لا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها و الإخلاد إليها، و التنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: "و ما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون":. العنكبوت - 64.


قوله تعالى: و من الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس و المعنى و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.


قوله تعالى: و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، الظاهر أن ما نافية و ضمير هو إما للشأن و القصة و أن يعمر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبعده، و إما راجع إلى ما يدل عليه قوله: يود أحدهم، أي و ما الذي يوده بمزحزحه من العذاب.


و قوله تعالى: أن يعمر بيان له و معنى الآية و لن يتمنوا الموت و أقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا و لا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر و ليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر و هو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد و أجل.


قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، أي أطول العمر و أكثره، فالألف كناية عن الكثرة و هو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب و الزائد عليه يعبر عنه بالتكرير و التركيب كعشرة آلاف و مائة ألف و ألف ألف.


قوله تعالى: و الله بصير بما يعملون، البصير من أسمائه الحسنى و معناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.


قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك إلخ.


السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود و أنهم تابوا و استنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه.


و الشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن و في جبريل معا في الآيتين و ما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به أولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، و ثانيا: أن القرآن مصدق لما في أيديهم من الكتاب الحق و لا معنى للإيمان بأمر و الكفر بما يصدقه.


و ثالثا.


أن القرآن هدى للمؤمنين به، و رابعا أنه بشرى و كيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية و يغمض عن البشرى و لو كان الآتي بذلك عدوا له.


و أجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال و سائر الملائكة و هم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و كذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله و من الله سبحانه فبغضهم و استعدائهم بغض و استعداء لله و من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو لهم، و إلى هذين الجوابين تشير الآيتان.


قوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب و كان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل و إنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه و تبليغه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا و هو مأمور بالتبليغ.


و اعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات و إن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم و توبيخ و طال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب و استحقار لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم و خسة نفوسهم و لا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.


قوله تعالى: عدو للكافرين، فيه وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه الدلالة على علة الحكم كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون و الله عدو للكافرين.

قوله تعالى: و ما يكفر بها إلا الفاسقون، فيه دلالة على علة الكفر و أنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون و لا يبعد أن يكون اللام في قوله: الفاسقون للعهد الذكري و يكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: و ما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه الآية.


و أما الكلام في جبريل و كيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا الكلام في ميكال و الملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال ابن عباس كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال تنام عيناي و قلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس له من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.


أقول: قوله تنام عيناي و قلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة و الخاصة أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه و لا ينام قلبه و معناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان و هو في النوم يعلم أنه نائم و أن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، و هذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم و اشتغالها بذكر مقام ربهم و ذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحياة الدنيوية و نحو تعلقها بربها.


و هذا نحو مشاهدة يبين للإنسان أنه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط و كذا اليقظة التي يراها الناس يقظة و أن الناس و هم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود و إن عدوا أنفسهم أيقاظا.


فعن علي (عليه السلام): الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا الحديث.


و سيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث و كذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إن شاء الله.

2 سورة البقرة - 100 - 101

أَ وَ كلّمَا عَهَدُوا عَهْداً نّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمّا جَاءَهُمْ رَسولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب كتَب اللّهِ وَرَاءَ ظهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

بيان

قوله تعالى: نبذه، النبذ الطرح.


قوله تعالى: و لما جاءهم رسول، المراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: و لما جاءهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة، و الآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة و عدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.

2 سورة البقرة - 102 - 103

وَ اتّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشيَطِينُ عَلى مُلْكِ سلَيْمَنَ وَ مَا كفَرَ سلَيْمَنُ وَ لَكِنّ الشيَطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاس السحْرَ وَ مَا أُنزِلَ عَلى الْمَلَكينِ بِبَابِلَ هَرُوت وَ مَرُوت وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتى يَقُولا إِنّمَا نحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُم بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَتَعَلّمُونَ مَا يَضرّهُمْ وَ لا يَنفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشترَاهُ مَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ وَ لَبِئْس مَا شرَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنّهُمْ ءَامَنُوا وَ اتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ خَيرٌ لّوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

بيان

قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك، إلخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: اتبعوا، أ هم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الجميع؟ و اختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين و تعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ و اختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن و قيل شياطين الإنس و قيل هما معا، و اختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، و قيل معناه في عهد ملك سليمان و قيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، و قيل معناه على عهد ملك سليمان، و اختلفوا في قوله: و لكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس و قيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، و قيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، و اختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، و قيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلموه، و اختلفوا في قوله: و ما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة و العطف على قوله: ما تتلوا، و قيل ما موصولة و العطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، و قيل ما نافية و الواو استينافية أي و لم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، و اختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء و قيل بل من نجود الأرض و أعاليها، و اختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، و قيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرىء كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور و اختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق و قيل بابل دماوند، و قيل، من نصيبين إلى رأس العين، و اختلفوا في قوله: و ما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، و قيل علم بمعنى أعلم، و اختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، و قيل لا تكفر بتعلمه، و قيل بهما معا، و اختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت و ماروت، و قيل أي من السحر و الكفر، و قيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، و اختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء و زوجه، فقيل أي يوجدون به حبا و بغضا بينهما، و قيل إنهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة و النحلة و قيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيئول إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية و جمله، و هناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية و في نفس القصة، و هل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ و إذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة و هي ما يقرب من ألف ألف و مائتين و ستين ألف احتمال!.


و هذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب و احتمالات تدهش العقول و تحير الألباب، و الكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته و فصاحته و سيمر بك نظيرة هذه الآية و هي قوله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة": هود - 17.


و الذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود و هو تداول السحر بينهم، و أنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي و الملكين ببابل هاروت و ماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف و تغيير في المعارف و الحقائق فلا يؤمنون و لا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول و الفعل و فيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، و كيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان (عليه السلام) إنما ملك الملك و سخر الجن و الإنس و الوحش و الطير، و أتى بغرائب الأمور و خوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، و ينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت و ماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان (عليه السلام) لم يكن يعمل بالسحر، كيف و السحر كفر بالله و تصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه و أظهره على خيال الموجودات الحية و حواسها؟ و لم يكفر سليمان (عليه السلام) و هو نبي معصوم، و هو قوله تعالى: "و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" و قوله تعالى: "و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق" فسليمان (عليه السلام) أعلى كعبا و أقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر و الكفر و قد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام و الأنبياء و النمل و سورة ص و فيها أنه كان عبدا صالحا و نبيا مرسلا آتاه الله العلم و الحكمة و وهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية و الأساطير التي وضعتها الشياطين و تلوها و قرءوها على أوليائهم من الإنس و كفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر.


و رد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت و ماروت بأنه و إن أنزل عليهما ذلك و لا ضير في ذلك لأنه فتنة و امتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر و الفساد فتنة و امتحانا و هو من القدر، فهما و إن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا و يقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر و الكشف عن بغي أهله و هم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة و العادة، فيفرقون به بين المرء و زوجه ابتغاء للشر و الفساد و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، فقوله تعالى: و اتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع و تكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان و الدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى و على أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان و معذبين بعذابه، و بذلك كان (عليه السلام) يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: "و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم حافظين": الأنبياء - 82، و قال تعالى: "فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين": سبأ - 14.


قوله تعالى: و ما كفر سليمان، أي و الحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر و لكن الشياطين كفروا، و الحال أنهم يضلون الناس و يعلمونهم السحر.


قوله تعالى: و ما أنزل، أي و اتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار و الإلهام على الملكين ببابل هاروت و ماروت، و الحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به و يقولا إنما نحن فتنة لكم و امتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.


قوله تعالى: فيتعلمون منهما، أي من الملكين و هما هاروت و ماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله و تأثيره بين المرء و زوجه.


قوله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع و التكوين و يسبقون تقدير الله و يبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، و إنما قدم هذه الجملة على قوله: و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، لأن هذه الجملة أعني: و يتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.


قوله تعالى: و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق، علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني و علموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: "و لا يفلح الساحر حيث أتى": طه - 69.


قوله تعالى: و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا و جهلا لا علما، قال تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم": الجاثية - 23.


فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم و الهداية.


قوله تعالى: و لو أنهم آمنوا و اتقوا، إلخ أي اتبعوا الإيمان و التقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، و الكفر بالسحر، و فيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، و لو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: و لو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، و اقتصر على الإيمان و لم يذكر التقوى فاليهود آمنوا و لكن لما لم يتقوا و لم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.


قوله تعالى: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، أي من المثوبات و المنافع التي يرومونها بالسحر و يقتنونها بالكفر هذا.


بحث روائي

في تفسير العياشي، و القمي،: في قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر (عليه السلام) في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد الله و نبيه، فقال الله جل ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.


أقول: إسناد الوضع و الكتابة و القراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن و الإنس لانتهاء الشر كله إليه و انتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي و الوسوسة و ذلك شائع في لسان الأخبار.


و ظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة و هذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، و تقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرءونه كاذبين على ملك سليمان و الأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية و هو أن يملك الشيء من حيث الترتيب و وقوع جزء منه عقيب جزء آخر، و سيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: "إنما وليكم الله و رسوله": المائدة - 58.


و في العيون،: في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون، و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة و يبطلوا كيدهم و ما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء و زوجه، قال الله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة و هي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه و لبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن و الإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر و كفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرىء الناس من سليمان و أكفروه حتى بعث الله محمدا و أنزل عليه: و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا.


أقول: و القصة مروية في روايات أخرى و هي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.


و في الدر المنثور، أيضا و أخرج سعيد بن جرير و الخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت لا، مرتين أو ثلاثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها و لا أهلا. قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا و الذنوب؟ قال: إني أبليتهم و عافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت و ماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق. قلت: و ما الشبق؟ قال: الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء و تهبطان فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا و قطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، و إن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع و يزول فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء و الأرض معذبان إلى يوم القيامة.


أقول: و قد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر (عليه السلام) و روى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت و ماروت و الزهرة نيفا و عشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها.


و في منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود و علي و أبي الدرداء و عمر و عائشة و ابن عمر.


و هذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم و طهارة وجودهم عن الشرك و المعصية أغلظ الشرك و أقبح المعصية، و هو: عبادة الصنم و القتل و الزنا و شرب الخمر و تنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - و أنها أضحوكة - و هي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها و صنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: "الجوار الكنس": التكوير - 16 على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها و كشف عن عنصرها و كميتها و كيفيتها و سائر شئونها.


فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت و ماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب و النجوم.


و من هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء و عثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها و تكشف عن تسربهم الدقيق و نفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاءوا من الدس و الخلط و أعانهم على ذلك قوم آخرون.


لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون": الحجر - 9، و قال "و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه تنزيل من حكيم حميد": فصلت - 42 و قال: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا": إسراء - 82 فأطلق القول و لم يقيد، فما من خلط أو دس إلا و يدفعه القرآن و يظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله و إقراء صفحة تاريخه، و قال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالفه فاتركوه.


فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه و من أوليائه، و بالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه و يمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان.


قال تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه": الأنبياء - 18، و قال تعالى: "و يريد الله أن يحق الحق بكلماته": الأنفال - 7، و قال تعالى: "ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون": الأنفال - 8، و لا معنى لإحقاق الحق و لا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.


و بعض الناس و خاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية و المرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء و أخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله و اشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين و أصحاب الحديث و الحرورية و غيرهم مسلك الإفراط و الأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت.


و كما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل و نسبة الباطل و اللغو من القول إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها و إلغاء و إبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و هو القائل جل ثناؤه: "ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا": الحشر - 7 و قوله تعالى: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله": النساء - 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجية أو لما ينقل من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، و الركون على النقل و الحديث مما يعتوره البشر و يقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة و يهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، و أما وقوع الدس و الخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف و رحى الاجتماع بجميع جهاتها و أركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة و الخاصة، و وجوده الكذب و الدس و الخلط فيها أزيد و أيدي السياسات الكلية و الجزئية بها ألعب؟ و نحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه و صدقه قبلناه و إن خالفه و كذبه طرحناه و إن لم يتبين شيء من أمره و لم يتميز حقه من باطله و صدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول و لا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور و المضار.

هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، و أما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته و الأخذ بما يرون فيه و يحكمون به هذا.


فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، و الميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل و كذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، و هو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به و إن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، و على ذلك أخبار متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته.


هذا كله في غير المسائل الفقهية و أما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

بحث فلسفي

من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة و النقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شيء من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم و حمل الأثقال و المشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، و كثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار و لا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه و لا يقرؤه إلا صاحبه، و إنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.


و كثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية علي حسنا أو غير مقدورة لنا لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات و خاصة ما يقع منها في المستقبل و كأعمال الحب و البغض و العقد و الحل و التنويم و التمريض و عقد النوم و الإحضار و التحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات و هي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضا منها و نقل إلينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، و هو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند و إيران و الغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق و التأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق و التجارب العملي في أعمالهم و إرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة و الإيمان بالتاثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم و الإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها و ربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شيء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب و البغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، و يمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه و لا تلتفت إلى عدمه و لا إلى شيء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد، و ربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.


و إذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط و قيد أو مع شيء من الشرائط.


و يتبين بما مر أمور: أحدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة و أما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلقة بالأجرام الفلكية، و يمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة و الشياطين الذين يستخرج أصحاب الدعوات و العزائم أسماءهم و يدعون بها على طرق خاصة عندهم، و كذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج و إلا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، و به تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به و الواحد من الإنسان ليس له إلا روح واحدة، و به تنحل أيضا شبهة أخرى و هي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان و مكان دون زمان و مكان، و به تنحل أيضا شبهة ثالثة، و هي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر.


و به تنحل أيضا شبهة رابعة، و هي: أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها و ربما يكذب بعضها بعضا.


فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالأشياء المادية الطبيعية.


ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه و ثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد و في الخارج، و ربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء و الأولياء من أصحاب العبودية لله و أرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا إلا لربهم و بربهم، و هذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه و لم تتلون بشيء من ألوان الميول النفسانية و لا اتكاء لها إلا على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة و لا مقيدة.


و القسم الثاني: إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميت آية معجزة و إن تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، و القسم الأول إن كان بالاستخبار و الاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة و إن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.


ثالثها: أن الأمر حيث كان دائرا مدار الإرادة في قوتها و هي على مراتب من القوة و الضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر و المعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة و هو مشهود في أعمال التنويم و الإحضار، هذا و سيأتي شطر من الكلام في ذلك.

بحث علمي

العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة و القول الكلي في تقسيمها و ضبطها عسيرة جدا، و أعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، و هو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية، و منه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون و هذا الفن من أصدق مصاديق السحر، و منها: الليمياء و هو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب و الحوادث و غير ذلك بتسخيرها أو باتصالها و استمدادها من الجن بتسخيرهم، و هو فن التسخيرات، و منها: الهيمياء.


و هو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير و هو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية و الأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر و المركبات و كيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، و حياة فلان، و بقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد و هذا معنى الطلسم، و منها: الريمياء، و هو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء و هو الشعبذة، و هذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها و هو الكيميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه كلهسر و قد ركب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم، الكيميا، و الليميا، و الهيميا، و السيميا، و الريميا انتهى ملخص كلامه.


و من الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس و رسائل الخسروشاهي و الذخيرة الإسكندرية و السر المكتوم للرازي و التسخيرات للسكاكي و أعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.


و من العلوم الملحقة بما مر علم الأعداد و الأوفاق و هو الباحث عن ارتباطات الأعداد و الحروف للمطالب و وضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، و منها: الخافية و هو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء و استخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب و الدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب و من الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني و السيد حسين الأخلاطي و غيرهما.


و من الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي و إحضار الأرواح و هما كما مر من تأثير الإرادة و التصرف في الخيال و قد ألف فيها كتب و رسائل كثيرة، و اشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، و الغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.

2 سورة البقرة - 104 - 105

يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَعِنَا وَ قُولُوا انظرْنَا وَ اسمَعُوا وَ لِلْكفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَ لا المُْشرِكِينَ أَن يُنزّلَ عَلَيْكم مِّنْ خَيرٍ مِّن رّبِّكمْ وَ اللّهُ يخْتَص بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ (105)

بيان

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا، و هو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة و ثمانين موضعا و التعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الأمة، و أما الأمم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: "قوم نوح و قوم هود" و قوله: "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة" الآية و قوله: "أصحاب مدين و أصحاب الرس، و بني إسرائيل، و يا بني إسرائيل، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا مما يختص التشرف به بهذه الأمة، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى: "و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون": النور - 31، بحسب المصداق، قال تعالى: "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم، ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم": المؤمن - 7 8، فجعل استغفار الملائكة و حملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله: للذين تابوا و اتبعوا، و التوبة هي الرجوع، ثم علق دعاءهم بالذين آمنوا و عطف عليهم آباءهم و ذرياتهم و لو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كيف ما كانوا، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء و الأبناء و الأزواج و لم يبق للعطف و التفرقة محل و كان الجميع في عرض واحد و وقعوا في صف واحد.


و يستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين": الطور - 21، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للإلحاق وجه، و لو كان قوله: "و اتبعتهم ذريتهم" قرينة على إرادة أشخاص خاصة من الذين آمنوا و هم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم، المؤمنين لم يبق للإلحاق أيضا وجه، و لا لقوله، و ما ألتناهم من عملهم من شيء، وجه صحيح إلا في الطبقة الأخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، و هذا و إن كان معنى معقولا إلا أن سياق الآية و هو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض و هم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض و لا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الإيمان و هو في الجميع واحد و هذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة و تشريف للسابق بإلحاق ذريته به، فقوله: و اتبعتهم ذريتهم بإيمان، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله: الذين آمنوا، و هم السابقون الأولون في الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين و الأنصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء، و يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين، إلى أن قال: و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم، إلى أن قال: و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم": الحشر - 10، فلو كان مصداق قوله: الذين آمنوا، عين مصداق قوله الذين سبقونا بالإيمان، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.


و يشعر بما مر أيضا قوله تعالى: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا، إلى أن قال: "وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما": الفتح - 29.


فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الأولين من المؤمنين، و لا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مشركي مكة و أترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم، أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": البقرة - 6.


فإن قلت: فعلى ما مر يختص الخطاب بالذين آمنوا بعده خاصة من الحاضرين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور و غيره و الحاضرين الموجودين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيرهم و خاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.


قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فإن لسعة التكليف و ضيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب و ضيقه من الأسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعلى هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا أيها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها النبي، و يا أيها الرسول مبنيا على التشريف، و التكليف عام، و المراد وسيع، و مع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم": النساء - 137، و قوله تعالى: حكاية عن نوح: "و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم": هود - 29.


قوله تعالى: لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا، أي بدلوا قول راعنا من قول انظرنا و لئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا و للكافرين عذاب أليم ففيه نهي شديد عن قول راعنا و هذه كلمة ذكرتها آية أخرى و بينت معناها في الجملة و هي قوله تعالى "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع و راعنا ليا بألسنتهم و طعنا في الدين": النساء - 46، و منه يعلم أن اليهود كانت تريد بقولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راعنا نحوا من معنى قوله: اسمع غير مسمع و لذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك و حينئذ ينطبق على ما نقل: أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذا ألقى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا و انظرنا حتى نفهم ما تقول - و كانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك يظهرون التأدب معه و هم يريدون الشتم و معناه عندهم اسمع لا أسمعت فنزل.


من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع و راعنا، الآية و نهى الله المؤمنين عن الكلمة و أمرهم أن يقولوا ما في معناه و هو انظرنا فقال: لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا.


قوله تعالى: و للكافرين عذاب أليم، يريد المتمردين من هذا النهي و هذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية.


قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الإشارة إلى العلة، و هو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه، و معارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته و عظم فضله، و لو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود و النصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، و هم على غيظ من الإسلام، و ربما يؤيد هذا الوجه بعض الآيات اللاحقة كقوله تعالى: "و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى": البقرة - 111، و قوله تعالى: "و قالت اليهود ليست النصارى على شيء و قالت النصارى ليست اليهود على شيء و هم يتلون الكتاب": البقرة - 113.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنزل الله آية فيها، يا أيها الذين آمنوا إلا و علي رأسها و أميرها.


أقول: و الرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في علي أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس": آل عمران - 110 و قوله تعالى: "لتكونوا شهداء على الناس": البقرة - 143، و قوله تعالى: و كونوا مع الصادقين:، التوبة - 119.

2 سورة البقرة - 106 - 107

مَا نَنسخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بخَيرٍ مِّنهَا أَوْ مِثْلِهَا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

بيان

الآيتان في النسخ و من المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء و هو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم و انقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها و من مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.


قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته و ذهبت به، قال تعالى: "و ما أرسلنا من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان": الحج - 51، و منه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى أخرى فكأن الكتاب أذهب به و أبدل مكانه و لذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: "و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون": النحل - 101، و كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود و بطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف و هو الآية و العلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: أ لم تعلم، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشيء آية و علامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله و هذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، و الإنساء إفعال من النسيان و هو الإذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.


ثم إن كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء و الحيثيات و الجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، و الأحكام و التكاليف الإلهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى و القرب بها منه تعالى، و الموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها و بخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته و أسمائه سبحانه، و أنبياء الله و أولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل و هكذا، و لذلك كانت الآية تقبل الشدة و الضعف قال الله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى": النجم - 18.


و من جهة أخرى الآية ربما كانت في أنها آية ذات جهة واحدة و ربما كانت ذات جهات كثيرة، و نسخها و إزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي و تبقى من حيث بلاغتها و إعجازها و نحو ذلك.


و هذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير، أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض، و ذلك أن الإنكار المتوهم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: أحدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شيء دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة و لن تقوم مقامها شيء تحفظ به تلك المصلحة، و يستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة و مصلحة العباد، و ليس شأنه تعالى كشأن عباده و لا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا و يتعلق بمصلحة أخرى فاتت عنه بالأمس، فيتغير الحكم، و يقضي ببطلان ما حكم سابقا، و إتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، و يظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء، فكانت أحكامهم و أوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح و المفاسد زيادة و نقيصة و حدوثا و بقاء، و مرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة و إطلاقها.


و ثانيهما: أن القدرة و إن كانت مطلقة إلا أن تحقق الإيجاد و فعلية الوجود يستحيل معه التغير، فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة و هذا مثل الإنسان في فعله الاختياري فإن الفعل اختياري للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، و مرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأول بقوله: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه و أشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، أي أن ملك السموات و الأرض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء و ليس لغيره شيء من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من أبواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شيء شيئا، لا ابتداء و لا بتمليكه تعالى، فإن التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الأول و يحصل ملك الثاني، بل هو مالك في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق و التصرف المطلق له وحدة، و إذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا و إذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال - و هو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، و تبعية في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضا أن ندبر أمورنا من دون إعانته و نصره كان هو النصير لنا.


و هذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: "إن الله له ملك السموات و الأرض فقوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض"، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، و من الشاهد على كونهما اعتراضين اثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، و قوله تعالى: و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي و إن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال و استقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم و في ما عندكم ما شاء من التصرف، و إن لم تنظروا إلى عدم استقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك و الاستقلال و انجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة و الملك و الاستقلال لا تتم وحدها، و لا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم و إرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله و نصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، و قوله: و ما لكم من دون الله، جيء فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.


فقد ظهر مما مر: أولا، أن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.


و ثانيا: أن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ و منسوخ.


و ثالثا: أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.


و رابعا: أن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته و إنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفي نبي و بعث نبي آخر و هما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة و الموت و الرزق و الأجل و ما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار و تكامل الأفراد من الإنسان، و إذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين و كل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة و ليس للمسلمين بعد عدة و لا عدة.


و حكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام و أعد فيهم ما استطاعوا من قوة و ركز الرعب في قلوب الكفار و المشركين.


و الآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء و تلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى "فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره": البقرة - 109، المنسوخ بآية القتال و قوله تعالى: "فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا": النساء - 14 المنسوخ بآية الجلد فقوله: حتى يأتي الله بأمره و قوله: "أو يجعل الله لهن سبيلا" لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.


و خامسا: أن النسبة التي بين الناسخ و المنسوخ غير النسبة التي بين العام و الخاص و بين المطلق و المقيد و بين المجمل و المبين، فإن الرافع للتنافي بين الناسخ و المنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة و المصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام و الخاص و المطلق و المقيد و المجمل و المبين فإنه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص و المقيد و المبين، المفسر للعام بالتخصيص، و للمطلق بالتقييد، و للمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقه، و كذلك في المحكم و المتشابه على ما سيجيء في قوله: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات": آل عمران - 7.

قوله تعالى: أو ننسها، قرىء بضم النون و كسر السين من الإنساء بمعنى الإذهاب عن العلم و الذكر و قد مر توضيحه، و هو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله": الأعلى - 7، و هي آية مكية و آية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى: فلا تنسى و أما اشتماله على الاستثناء بقوله: إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ": هود - 109، جيء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر، و لو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: فلا تنسى معنى، إذ كل ذي ذكر و حفظ من الإنسان و سائر الحيوان كذلك يذكر و ينسى و ذكره و نسيانه كلاهما منه تعالى و بمشيته، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله: سنقرئك يذكر بمشية الله و ينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى أبدا و الله مع ذلك قادر على إنسائك هذا.


و قرىء قوله: ننساها بفتح النون و الهمزة من نسيء نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بإزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها و لا يوجب التصرف الإلهي بالتقديم و التأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة، و الدليل على أن المراد بيان أن التصرف الإلهي يكون دائما على الكمال و المصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فإن الخيرية إنما يكون في كمال شيء موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.

بحث روائي

قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن في القرآن ناسخا و منسوخا.


و في تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): بعد ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ: قال (عليه السلام) و نسخ قوله تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون قوله عز و جل: و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.


أقول: و فيها دلالة على أخذه (عليه السلام) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الأولى، و بعبارة واضحة: الآية الأولى تثبت للخلقة غاية و هي العبادة، و الله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء و الضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الإلهية، و شملته رحمة الهداية، و لذلك خلقهم أي و لهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، و هو الرحمة المقارنة للعبادة و الاهتداء و لا يكون إلا في البعض دون الكل و الآية الأولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لأجل البعض الآخر و هذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة و هم العابدون المخلوقون للعبادة فصح أن العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة و غرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الآية الأولى، و في تفسير النعماني، أيضا عنه (عليه السلام): قال: و نسخ قوله تعالى: "و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا" قوله: "الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها - و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر".


أقول: و ليست الآيتان من قبيل العام و الخاص لقوله تعالى: كان على ربك حتما مقضيا، و القضاء الحتم غير قابل الرفع و لا ممكن الإبطال و يظهر معنى هذا النسخ مما سيجيء إن شاء الله في قوله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون": الأنبياء - 101.


و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): أن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و نجاة قوم يونس.


أقول: و الوجه فيه واضح.


و في بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت عد (عليه السلام) موت إمام و قيام إمام آخر مقامه من النسخ.


أقول: و قد مر بيانه، و الأخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.


و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير عن قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي الله يقرأ الآية و السورة و ما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.


أقول: و روى فيه أيضا في معنى الإنساء روايات عديدة و جميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله أو ننسها.

2 سورة البقرة - 108 - 115

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسئَلُوا رَسولَكُمْ كَمَا سئلَ مُوسى مِن قَبْلُ وَ مَن يَتَبَدّلِ الْكفْرَ بِالايمَنِ فَقَدْ ضلّ سوَاءَ السبِيلِ (108) وَدّ كثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفّاراً حَسداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُوا وَ اصفَحُوا حَتى يَأْتىَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزّكَوةَ وَ مَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكم مِّنْ خَيرٍ تجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَ قَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلا مَن كانَ هُوداً أَوْ نَصرَى تِلْك أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكمْ إِن كنتُمْ صدِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَ هُوَ محْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ (112) وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْستِ النّصرَى عَلى شىْءٍ وَ قَالَتِ النّصرَى لَيْستِ الْيَهُودُ عَلى شىْءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَب كَذَلِك قَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُونَ (113) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّن مّنَعَ مَسجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَ سعَى فى خَرَابِهَا أُولَئك مَا كانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَائفِينَ لَهُمْ فى الدّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَ للّهِ المَْشرِقُ وَ المَْغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ (115)

بيان

قوله تعالى: أم تريدون أن تسئلوا رسولكم، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين - ممن آمن بالنبي - سأل النبي أمورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى (عليه السلام) و الله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى و النبيين من بعده، و النقل يدل على ذلك.


قوله تعالى: سواء السبيل أي مستوى الطريق.


قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب، نقل أنه حي بن الأخطب و بعض من معه من متعصبي اليهود.


قوله تعالى: فاعفوا و اصفحوا، قالوا: إنها آية منسوخة بآية القتال.


قوله تعالى: حتى يأتي الله بأمره، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم، و نظيره قوله تعالى: في الآية الآتية "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين"، مع قوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا": التوبة - 29، و سيأتي الكلام في معنى الأمر في قوله تعالى: "يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي": إسراء - 85.


قوله تعالى: و قالوا: لن يدخل الجنة، شروع في إلحاق النصارى باليهود تصريحا و سوق الكلام في بيان جرائمهم معا.


قوله تعالى: بلى من أسلم وجهه لله، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم و لا كرامة لأحد على الله إلا بحقيقة الإيمان و العبودية، أولاها قوله: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا":، البقرة - 62، و ثانيتها، قوله تعالى: "بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته": البقرة - 81، و ثالثتها، هذه الآية و يستفاد من تطبيق الآيات تفسير الإيمان بإسلام الوجه إلى الله و تفسير الإحسان بالعمل الصالح.


قوله تعالى: و هم يتلون الكتاب، أي و هم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك و الكتاب يبين لهم الحق و الدليل على ذلك قوله: "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار و مشركي العرب قالوا: إن المسلمين ليسوا على شيء أو إن أهل الكتاب ليسوا على شيء.


قوله تعالى: و من أظلم ممن منع، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الآيات نزلت في أوائل ورود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة.


قوله تعالى: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، يدل على مضي الواقعة و انقضائها لمكان قوله كان، فينطبق على كفار قريش و فعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار، مكة كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و المساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة.
 

<<        الفهرس        >>