جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الإنسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، و يعطيه عجائب من المعارف و المعلومات، وراء ما يناله العقل و الفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا و جمع من علماء النفس من أوروبا مثل جمز الإنجليزي و غيره.

فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، و أن النبوة و كذا الشريعة و الدين و الكتاب و الملك و الشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.

و أما ثانيا: فلأن المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدعين لمقام النبوة و الوحي مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و عيسى و موسى و إبراهيم و نوح " (عليهما السلام)" و غيرهم - و بعضهم يصدق بعضا - و كذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة و الوحي و نزول الكتاب و الملك و غير ذلك من الحقائق.

فإن صريح الكتاب و السنة و ما نقل من الأنبياء العظام (عليهم السلام) أن هذه الحقائق و آثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، و نشأة المادة، و حكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة و حكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، و لا يرتضيه ذوق التخاطب.

و قد تبين بما ذكرنا أن الأمر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنساني و هو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.

فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم و إنما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى إصلاح شأنهم و يهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟! و قد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للإنسان إلى سعادته و كماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط و الاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.

قلت: كون هذا الأمر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، و كذا كونه أمرا من قبيل الإدراكات الباطنية و نحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة و لا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة و إنما يدفع المحال، و للعقل طريق إلى تصديق الأمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فإن له أن يستدل على الشيء من طريق علله و هو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره و هو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده، و النبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره و تبعاته و هو اشتمال الدين الذي يأتي به النبي على سعادة الإنسان في دنياه و آخرته، و تارة من جهة اللوازم و هو أن النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى أن الذي وراء الطبيعة و هو إلهها الذي يهديها إلى سعادتها و يهدي النوع الإنساني منها إلى كماله و سعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة و هو التصرف بالوحي، و لو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا و كان النبي واجدا لها لكان من الجائز أن يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعي للنبوة، و هذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة و قد تكلمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى: "و إن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية:" البقرة - 23.

فإن قلت: هب أن هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحي النبوة و أثبتها النبي بالإعجاز، و كان على الناس أن يأخذوا بآثاره و هو الدين المشرع الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط؟ و ما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطإ في تشريعه و هو إنسان طبعه طبع سائر الأفراد في جواز الوقوع في الخطإ.

و من المعلوم أن وقوع الخطإ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين و رفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الإنساني، و إضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس!.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مئونة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الأمر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الإيصال التكويني لكل نوع من الأنواع الوجودية إلى كماله الوجودي و سعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الأنواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، و من المعلوم أن الأمور الخارجية من حيث إنها خارجية لا تعرضها الخطأ و الغلط، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطأ و الغلط لوضوح أن ما في الخارج هو ما في الخارج! و إنما يعرض الخطأ و الغلط في العلوم التصديقية و الأمور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق و الكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج و عدمها، و إذا فرض أن الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته و رفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد و التكوين لزم أن لا يعرضه غلط و لا خطأ في هدايته، و لا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة و شعور الوحي، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح و الشعور في وجود النبي، و لا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده و سعادته عن شقائه، و لو فرضنا له غلطا و خطأ في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط و الخطإ، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطأ فيه و لا غلط.

فظهر: أن هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، و هي المصونية عن الخطإ في أمر الدين و الشريعة المشرعة، و هذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحي من الله سبحانه، و تلك عصمة في مقام العمل و العبودية، و هناك مرحلة ثالثة من العصمة و هي العصمة في تبليغ الوحي، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينية وقوعا تكوينيا، و لا خطأ و لا غلط في التكوين.

و قد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام و هو: أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير و التأثر؟ فإن الشعور الفطري و إن كان أمرا غير مادي، و من الأمور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا أنه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة و الضعف و البقاء و البطلان كما في مورد الجنون و السفاهة و البلاهة و الغباوة و ضعف الشيب و سائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، و إن سلم أنه غير مادي في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير و الفساد، و مع إمكان عروض التغير و الفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتة.

و الجواب: إنا بينا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنساني نحو سعادته الحقيقية إنما يتحقق بيد الصنع و الإيجاد الخارجي دون العقل الفكري، و لا معنى لتحقق الخطإ في الوجود الخارجي.

و أما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير و الفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير و الفساد، و إنما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري و قد مر أن الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري و ذلك أن من الشعور شعور الإنسان بنفسه، و هو لا يقبل البطلان و الفساد و التغير و الخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، و تتمة هذا الكلام موكول إلى محله.



فقد تبين مما مر أمور: أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدن و الاختلاف.

ثانيها: أن هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع و لن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.

ثالثها: أن رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أن سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أن هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات و القوانين المصلحة لحال النوع الإنساني في سعادته الحقيقية.

سادسها: أن هذه النتائج و يهمنا من بينها الثلاثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، و كون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخا، و كون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحي نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، و هو سير كل واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته و الوصول إليها و التلبس بها، و الإنسان أحد هذه الأنواع، و هو مجهز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحق و يتلبس بالملكات الفاضلة، و يعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد أن يكون الوجود يهيىء له هذه السعادة يوما في الخارج و يهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط و لا خطأ على ما مر بيانه.

2 سورة البقرة - 214

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مّستهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتى يَقُولَ الرّسولُ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللّهِ أَلا إِنّ نَصرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)

بيان

قد مر أن هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، و هو أن الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و نعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلموا له و لا يتبعوا خطوات الشيطان، و لا يلقوا فيه الاختلاف، و لا يجعلوا الدواء داء، و لا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا و نقمة من اتباع الهوى، و ابتغاء زخرف الدنيا و حطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم، فإن المحنة دائمة، و الفتنة قائمة، و لن ينال أحد من الناس سعادة الدين و قرب رب العالمين إلا بالثبات و التسليم.

و في الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن أصل الخطاب كان معهم و وجه الكلام إليهم في قوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، و إنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، و بعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا... و كلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، و المعنى على ما قيل: بل أ حسبتم أن تدخلوا الجنة "إلخ"، و الخلاف في أم المنقطعة معروف، و الحق أن أم لإفادة الترديد، و أن الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان و الثبات على نعمة الدين، و الاتفاق و الاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة "إلخ".

قوله تعالى: و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، و المثل بفتح الميم و الثاء كالشبه، و الشبه و المراد به ما يمثل الشيء و يحضره و يشخصه عند السامع، و منه المثل بفتحتين، و هو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:" الجمعة - 5، و منه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال:" الفرقان - 9، و إنما قالوا له (صلى الله عليه وآله وسلم): مجنون و ساحر و كذاب و نحو ذلك، و حيث إنه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: مستهم البأساء و الضراء إلخ فالمراد به المعنى الأول.

قوله تعالى: مستهم البأساء و الضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الذي دل عليه بقوله: و لما يأتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله: مستهم البأساء و الضراء و البأساء هو الشدة المتوجهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال و الجاه و الأهل و الأمن الذي يحتاج إليه في حياته، و الضراء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح و القتل و المرض، و الزلزلة و الزلزال معروف و أصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، و هو كصر و صرصر، و صل و صلصل، و كب و كبكب، و الزلزال في الآية كناية عن الاضطراب و الإدهاش.

قوله تعالى: حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه، قرىء بنصب يقول، و الجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، و قرىء برفع يقول و الجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، و المعنيان و إن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: و زلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.

قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول و الذين آمنوا معه جميعا، و لا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاء و طلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله و المؤمنين بهم كما قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون:" الصافات - 172، و قال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي:" المجادلة - 21، و قد قال تعالى أيضا: "حتى إذا استيئس الرسل و ظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا:" يوسف - 110، و هو أشد لحنا من هذه الآية.

و الظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول و الذين آمنوا معه... و الآية كما مرت إليه الإشارة سابقا تدل على دوام أمر الابتلاء و الامتحان و جريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة.

و تدل أيضا على اتحاد الوصف و المثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، و هو الذي يسمى بتكرر التاريخ و عوده.

2 سورة البقرة - 215

يَسئَلُونَك مَا ذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيرٍ فَلِلْوَلِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينِ وَ ابْنِ السبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

بيان

قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون، قل: ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون و نوعه، و كان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق و هو المال على أقسامه، و كان الأحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله و بيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.

و الذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، و هو أن الآية مع ذلك متعرضة لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، و ثانيا بقولها: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، و أن ذلك فعل خير و الله به عليم، لكنهم كان عليهم أن يسألوا عمن ينفقون لهم و يعرفوه، و هم: الوالدان و الأقربون و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و من غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بما في قوله تعالى: ما ذا ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي أن ينزل عليه الكلام العربي و لا سيما أفصح الكلام و أبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، و أنهم كيف ينفقونه، و في أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

و مثله و هو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أن السؤال و إن كان بلفظ ما إلا أن المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم أن الذي ينفق به هو المال، و إذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، و تعين أن السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا": البقرة - 70، فكان من المعلوم أن البقرة بهيمة نشأتها و صفتها كذا و كذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين أن يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، و لذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: "إنها بقرة لا ذلول:" الآية البقرة - 71.

و قد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإن ما و إن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، و هي الحد المؤلف من الجنس و الفصل القريبين، لكنه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقين للإنفاق: ما ذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين و الأقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفا بالحد و الماهية، أو معرفا بالخواص و الأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له و موضوعة للسؤال عن كيفية الشيء، و منه يعلم أن قوله تعالى: "يبين لنا ما هي" و قوله تعالى: "إنها بقرة لا ذلول"، سؤال و جواب جاريان على أصل اللغة، و هو السؤال عما يعرف الشيء و يخصه و الجواب بذلك.

و أما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطإ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.

و يتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الأمرين جميعا: ما ينفقون؟ و أين ينفقون فذكر أحد السؤالين و حذف الآخر، و هو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! و هو كما ترى.

و كيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، و إلا فكون الإنفاق من الخير و المال ظاهر، و التحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه و الاشتغال به كثير الورود في القرآن، و هو من ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: "و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:" البقرة - 171 و قوله تعالى: "مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر:" آل عمران - 117 و قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل:" البقرة - 261، و قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم:" الشعراء - 89، و قوله تعالى: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا:" الفرقان - 57، و قوله تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:" الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق و إن كان مندوبا إليه من قليل المال و كثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة و تقع عليه المحبة كما قال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون:" آل عمران - 92، و كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه:" البقرة - 267.

و إيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن و الأذى كما قال تعالى: "ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى:" البقرة - 262، و قوله تعالى: "و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو:" البقرة - 219.

بحث روائي

في الدر المنثور، عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام، و يسئلونك عن اليتامى، و يسئلونك عن المحيض، و يسئلونك عن الأنفال، و يسئلونك ما ذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم.

في المجمع،: في الآية نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن حيان، و قد استضعفوا الرواية، و هي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.

و نظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كله.

و نظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.

أقول: و ليست النسبة بين آية الزكاة: "خذ من أموالهم صدقة:" التوبة - 104، و بين هذه الآية نسبة النسخ و هو ظاهر إلا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

2 سورة البقرة - 216 - 218

كُتِب عَلَيْكمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَ عَسى أَن تَكْرَهُوا شيْئاً وَ هُوَ خَيرٌ لّكمْ وَ عَسى أَن تُحِبّوا شيْئاً وَ هُوَ شرّ لّكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسئَلُونَك عَنِ الشهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صدّ عَن سبِيلِ اللّهِ وَ كفْرُ بِهِ وَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبرُ عِندَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتى يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكمْ إِنِ استَطعُوا وَ مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولَئك حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ أُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (217) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ الّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَهَدُوا فى سبِيلِ اللّهِ أُولَئك يَرْجُونَ رَحْمَت اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (218)

بيان

قوله تعالى: كتب عليكم القتال و هو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، و في القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: "ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج:" النور - 61، و غير ذلك من الآيات و الأدلة.

و لم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: "و هو كره لكم" و هو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، و حفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.

و الكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الإنسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، و الكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كان يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه قال تعالى: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها:" النساء - 19، و قال تعالى: "فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها:" فصلت - 11، و كون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لأن القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس و تعب الأبدان و المضار المالية و ارتفاع الأمن و الرخص و الرفاهية، و غير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها و شاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه و إن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، و ذكر أن فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ و الزلل، و هو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر و أحد و الخندق و غيرها، و معلوم أن من الجائز أن ينسب الكراهة و التثاقل إلى قوم فيهم كاره و غير كاره و أكثرهم كارهون، فهذا وجه.

و إما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة و القوة لا يتم على صلاح الإسلام و المسلمين، و أن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس و كثرة الأموال و رسوخ الاستطاعة، و لذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال و الاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي و النظر، فإن لله أمرا في هذا الأمر هو بالغه، و هو العالم بحقيقة الأمر و هم لا يعلمون إلا ظاهره و هذا وجه آخر.

و إما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، و ملكة الرحمة و الرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، و لم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم و يخالطوهم بالعشرة الجميلة، و الدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، و يدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، و نفوس الكفار من الهلاك الأبدي و البوار الدائم، فبين ذلك أنهم مخطئون في ذلك، فإن الله - و هو المشرع لحكم القتال - يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، و أنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع و يرمى به، و هذا أيضا وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: و هو كره لكم إلا أن الأول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.

قوله تعالى: و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، قد مر فيما مر أن أمثال عسى و لعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، و ليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

و تكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطئهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم أو تحبوا شيئا و هو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم و حبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، و مثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، و أما من أخطأ خطاءين كان يكره المعاشرة و المخالطة و يحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطئه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، و لا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا و هو خير لك و عسى أن تحب شيئا و هو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، و لما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله بالخطاءين بالجملتين المستقلتين و هما: عسى أن تكرهوا، و عسى أن تحبوا.

قوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطئهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطئهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، و زوال صفة الجهل المركب كر عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، و الذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه و كشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلموا إليه سبحانه الأمر.

و الآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق و نفي العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: "إن الله لا يخفى عليه شيء": آل عمران - 5، و قوله تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء:" البقرة - 255، و قد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: "و قاتلوا في سبيل الله:" البقرة - 190.

قوله تعالى: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام و ذمه بأنه صد عن سبيل الله و كفر، و اشتمالها مع ذلك على أن إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، و أن الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال و أن هناك قتلا، و أنه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات: "إن الذين آمنوا و الذين هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله و الله غفور رحيم" الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، و طعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش و أصحابه.

قوله تعالى: قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام، الصد هو المنع و الصرف، و المراد بسبيل الله العبادة و النسك و خاصة الحج، و الظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، و المسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله و عن المسجد الحرام.

و الآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، و قد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:" التوبة - 6، و ليس بصواب، و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: و إخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل، أي و الذي فعله المشركون من إخراج رسول الله و المؤمنين من المهاجرين، و هم أهل المسجد الحرام، منه أكبر من القتال، و ما فتنوا به المؤمنين من الزجر و الدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين أن يطعنوا المؤمنين و قد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، و لم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.

قوله تعالى: و من يرتدد منكم عن دينه "إلخ"، تهديد للمرتد بحبط العمل و خلود النار.

كلام في الحبط

و الحبط هو بطلان العمل و سقوط تأثيره، و لم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين:" الزمر - 65، و قوله تعالى: "إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم:" محمد - 33، و ذيل الآية يدل بالمقابلة على أن الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: "و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون:" هود - 16، و يقرب منه قوله تعالى: "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:" الفرقان - 23.

و بالجملة الحبط هو بطلان العمل و سقوطه عن التأثير، و قد قيل: إن أصله من الحبط بالتحريك و هو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه و ربما أدى إلى هلاكه.

و الذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا و الآخرة معا، فللحبط تعلق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون:" النحل - 97، و خسران سعي الكافر، و خاصة من ارتد إلى الكفر بعد الإيمان، و حبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، و هو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، و يتسلى به عند المصيبة، و يرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:" الأنعام - 122، تبين الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة و نورا في أفعاله، و ليس للكافر، و مثله قوله تعالى، "فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيمة أعمى:" طه - 124، حيث يبين أن معيشة الكافر و حياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، و بالمقابلة معيشة المؤمن و حياته سعيدة رحبة وسيعة.

و قد جمع الجميع و دل على سبب هذه السعادة و الشقاوة قوله تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:" محمد - 11.

فظهر مما قربناه أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية، و الأفعال القربية التي كان المرتد عملها و أتى بها حال الإيمان، مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، و لا فعل قربي لهم كالكفار و المنافقين كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمال

 

<<        الفهرس        >>