جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


إبليس "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي:" ص - 75، و قال تعالى في غير مورد أولي العقل: "ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:" فصلت - 11، و قال تعالى: "قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم:" الأنبياء - 69، و قال تعالى: و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي: هود - 44، و يجمع الجميع على كثرة مواردها و تشتتها قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82، و قوله تعالى: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: مريم - 35.

و الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلا، و مما سبيله التكوين و ليس له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض و السماء، و حيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات أن القول منه تعالى إيجاد أمر يدل على المعنى المقصود.

فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى و خلقه هو شيء مخلوق موجود، و هو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى و بين الشيء، و ليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق و هو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل و هو الإيجاد و هو الوجود و هو نفس الشيء.

و أما في غير التكوينيات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الإنسان بأن كذا كذا، و ذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.

و كذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان و ما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، و هي أن الكلام و القول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، و من المعلوم على ما يعطيه كلامه تعالى أن الملك و الشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي و ليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.

و يظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة و لا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم و التفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي و الأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، و على هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، و التأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر و هو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول و خاصته و هو فهم المعنى المقصود و إدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، و كذا بين الله سبحانه و بينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت و اللفظ الموضوع و إسماعه لهم كما سمعت.

و كذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم: النمل - 18، و قال تعالى فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين: النمل - 22، و كذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى: و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون: النحل - 68.

و هناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول و الكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك:" النساء - 163، و الإلهام، قال تعالى: و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها: الشمس - 8، و النبأ، قال تعالى: قال نبأني العليم الخبير: التحريم - 3، و القص، قال تعالى: يقص الحق: الأنعام - 57، و القول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول و خاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا، و في الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى إن شاء الله.

و أما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما و بعضها قولا و بعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن و لذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء و تشريفهم كلاما لأن العناية هناك إنما هو بالمخاطبة و التكليم، و يسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقاؤه و تفهيمه و لذلك سمي هذا الأمر الإلهي في مورد القضاء و القدر و الحكم و التشريع و نحو ذلك قولا كقوله تعالى: قال الحق و الحق أقول لأملأن: ص - 85، و يسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء و لذلك عبر في موردهم (عليهم السلام) بالوحي كقوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك الآية: النساء - 163.

الجهة الثانية: و هي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها و وضع الألفاظ بحذائها و استعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، و هذا و إن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال و حصول التبادر، و كذلك ترقي الاجتماع و تقدم الإنسان في المدنية و الحضارة يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، و التبدل فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة، و ذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيله متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا و سماه الإنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، و يركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها و معها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن و فتيلة و قصعة خزفية أو فلزية، و مع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها و على سائر أقسام السراج على حد سواء، و من غير عناية، و ليس ذلك إلا أن الغاية و الغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، و هو الاستضاءة، و نحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة و لا نعرفها إلا بغايتها في الحياة و أثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، و مع بقاء هذه الخاصة و الأثر يبقى حقيقة السراج و يبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير و تبدل، و إن تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، و على هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي و عدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، و قلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة و وسائل الحياة - و هي ألوف و ألوف - شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر و الخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له.

و في اللغات شيء كثير من القسم الأول و هو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.

فقد تحصل أن استعمال الكلام و القول فيما مر مع فرض بقاء الأثر و الخاصة استعمال حقيقي لا مجازي.



فظهر من جميع ما بيناه: أن إطلاق الكلام و القول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، و أنه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين و إن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا و بينه تعالى كالحياة و العلم و الإرادة و الإعطاء كذلك.

و اعلم: أن القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: و رفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: أن ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور اعتبارية و معاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة و الزعامة و الفضيلة و التقدم و التصدر و نحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة و نار و سؤال و غير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي أن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة و بين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار و الوضع، و لزمهم - اضطرارا - كون جاعل هذه الروابط و هو الله تعالى و تقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية و مبعوثا عن الشعور الوهمي كالإنسان الواقع في عالم المادة، و النازل في منزل الحركة و الاستكمال، و لذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه و أوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب و السنة إلا أن تنسلخ عن حقيقتها و ترجع إلى نحو من الاعتباريات.

قوله تعالى: و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس، رجوع إلى أصل السياق و هو التكلم دون الغيبة كما مر.

و الوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أن ما ذكره له (عليه السلام) من جهات التفضيل و هو إيتاء البينات، و التأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات:" الحديد - 25، و قال تعالى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا": النمل - 2، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى و خلق الطير بالنفخ و إبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى (عليه السلام) و صرح باسمه إذ لو لا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: و آتينا بعضهم البينات و أيدناه بروح القدس، إذ البينات و روح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم أنها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا، على أن في اسم عيسى (عليه السلام) خاصة أخرى و آية بينة و هي أنه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين:" الأنبياء - 91، فمجموع الابن و الأم آية بينة إلهية و فضيلة اختصاصية أخرى.

قوله تعالى: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، العدول إلى الغيبة ثانيا لأن المقام مقام إظهار أن المشية و الإرادة الربانية غير مغلوبة، و القدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها و نفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهية، و بالجملة وصف الألوهية هي التي تنافي تقيد القدرة و توجب إطلاق تعلقها بطرفي الإيجاب و السلب فمست حاجة المقام إلى إظهار هذه الصفة المتعالية أعني الألوهية للذكر فقيل: و لو شاء الله ما اقتتل، و لم يقل: و لو شئنا ما اقتتل، و هذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية: و لو شاء الله ما اقتتلوا، و قوله: و لكن الله يفعل ما يريد، و هو الوجه أيضا في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أن الاختلاف بالإيمان و الكفر و سائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنما حدث بين الناس بالبغي، و حاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغي أو ظلم.

قوله تعالى: و لو شاء ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد، أي و لو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال و لكن الله يفعل ما يريد و قد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الأسباب.

و محصل معنى الآية و الله العالم: أن الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم و هم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الأصل الواحد و المقام المشترك، فهذا حال الرسل و قد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الإظهار و بينوا طريق الهداية أتم البيان، و كان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلا إلى الوحدة و الألفة و المحبة في دين الله من غير اختلاف و قتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، و هو الاختلاف عن بغي منهم و انشعابهم إلى مؤمن و كافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شئون الحياة و السعادة، و لو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال و ما اقتتلوا، و لكن لم يشأ و أجرى هذا السبب كسائر الأسباب و العلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع و الإيجاد، و الله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا "إلخ"، معناه واضح و في ذيل الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق كفر و ظلم.

بحث روائي

في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا "إلخ"، في هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن و منهم من كفر.

و في تفسير العياشي، عن أصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم و كبرنا، و هلل القوم و هللنا، و صلى القوم و صلينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال (عليه السلام): على هذه الآية "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات - و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس - و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم فنحن الذين من بعدهم و لكن اختلفوا فمنهم من آمن - و منهم من كفر و لو شاء الله ما اقتتلوا - و لكن الله يفعل ما يريد" فنحن الذين آمنا و هم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم و رب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله.

أقول: و روى هذه القصة المفيد و الشيخ في أماليهما، و القمي في تفسيره، و الرواية تدل على أنه (عليه السلام) أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض و كذا التاريخ يشهدان أنه (عليه السلام) ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل و أصحاب صفين و الخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب و لا معاملة أهل الكتاب و لا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا أنه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، و قد كان (عليه السلام) يقول: أقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

و ظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الإنساني الذي لا يخلو عن البغي و الظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: "و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون:" يونس: 19، و قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة - إلى أن قال -: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه:" البقرة - 213، و قوله تعالى: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك:" هود - 119، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب - و هو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، و قد قال تعالى في خصوص هذه الأمة: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم:" البقرة - 214، و قال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيامة: "و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا:" الفرقان - 30، و في مطاوى الآيات تصريحات و تلويحات بذلك.

و أما إن ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ و المستفيض أو المتواتر من الأخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن و الاختلافات الواقعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاملة، من غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله و رسوله، و الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.



و في أمالي المفيد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم، و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز و جل و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام.

و في الإحتجاج، عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا (عليه السلام) فقال: أخبرني جعلت فداك عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان الله عما تقول و معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون و لكنه سبحانه ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق، لمخلوق و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردد في نفس الخبر.

و في نهج البلاغة، في خطبة له (عليه السلام): متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، الخطبة.

و في النهج، أيضا في خطبة له (عليه السلام): الذي كلم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات، الخطبة.

أقول: و الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي مطبقة على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب و السنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.

بحث فلسفي

ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا و كلاما و هو نقل الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه و هو التفهيم و التفهم، قالوا: و حقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، و أما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم و كونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لا أزيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق و ليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.

فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، و كذا الإشارة الوافية لإراءة المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال و نحو ذلك أمر و قول، و كذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، و وجود المعلول لمسانخته وجود علته و كونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، و يدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها.

فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها و كمالاتها، و مجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما أن وجوده مثال لكمال علته الفياضة، و كل مجموع منها، و مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالم و العالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء و الصفات و العالم كلامه.

بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس و لا يكون لشيء بنحو الأصالة إلا لله و بالله سبحانه، فكل شيء دلالته على بارئه و موجده فرع دلالة ما منه على نفسه و دلالته لله بالحقيقة، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال، و على دلالته لغيره.

فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته و هو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة الذات و هو الذات من حيث دلالته على الذات، و منه ما هو صفة الفعل، و هو الخلق و الإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال.

أقول: ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي أثبته الكتاب و السنة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلم الله و قوله: و كلم الله موسى تكليما.

و قوله: قال الله يا عيسى، و قوله: و قلنا يا آدم، و قوله: إنا أوحينا إليك، و قوله: نبأني العليم الخبير، و من المعلوم أن الكلام و القول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد.

و اعلم أن بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين و بذلك سمي علم الكلام به و هي أن كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟ ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بأن المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، و تلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، و أما الكلام اللفظي و هو الأصوات و النغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.

و ذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: و أما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية و ليست بالكلام.

و بعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، و إن أريد به أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد وراءها شيئا بالوجدان هذا.

و ربما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو أزيد و هو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع، و كلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟.

أقول: و الذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله أن وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى أخذناه أي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات و إجماليا بالغير، أو أخذ علما تفصيليا بالذات و بالغير في مقام الذات، و هذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أخذ علما تفصيليا قبل الإيجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الإيجاد و بعد الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي.

و الذي ذكروه و تنازعوا عليه إنما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في محله: أن المفاهيم و الماهيات لا تتحقق إلا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة و الإحساسات الباطنة.

و بالجملة فالله سبحانه أجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم و الماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم و المفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، و لو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، و معرضا لحدوث الحوادث، و كلامه محتملا للصدق و الكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها و تقدس.

و أما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيء إن شاء الله بيانه في موضع يليق به

2 سورة البقرة - 255

اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَىّ الْقَيّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لّهُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ مَن ذَا الّذِى يَشفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطونَ بِشىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شاءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ لا يَئُودُهُ حِفْظهُمَا وَ هُوَ الْعَلىّ الْعَظِيمُ (255)

بيان


قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، و أنه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه و وله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.

و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلا هو، في قوله تعالى: "و إلهكم إله واحد:" البقرة - 163، و ضمير هو و إن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات و إن كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالإطلاق إليها، فقوله: لا إله إلا هو، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله.

و أما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام و الثبات.

و الناس في بادىء مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار و سائر الجمادات، و قسم منها ربما تغيرت حاله و تعطلت قواه و أفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، و ذلك كالإنسان و سائر أقسام الحيوان و النبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها و مشاعرها و أفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، و بذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات و الإدراكات العلمية و الأفعال المبتنية على العلم و الإرادة و هو المسمى بالحياة و يسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم و القدرة.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: "اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها:" الحديد - 17، و قال تعالى: "إنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى:" فصلت - 39، و قال تعالى: "و ما يستوي الأحياء و لا الأموات:" الفاطر - 22، و قال تعالى: "و جعلنا من الماء كل شيء حي:" الأنبياء - 30، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان و الحيوان و النبات.

و كذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى: "و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها": يونس - 7، و قال تعالى: "ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين:" المؤمن - 11، و الإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، و الثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.

و الله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: "و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:" الرعد - 26، و قوله تعالى: "تبتغون عرض الحياة الدنيا:" النساء - 94، و قوله تعالى: "تريد زينة الحياة الدنيا:" الكهف - 28، و قوله تعالى: "و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو:" الأنعام - 32، و قوله تعالى: "و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور:" الحديد - 20، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا و المتاع ما يقصد لغيره، و عدها عرضا و العرض ما يتعرض ثم يزول، و عدها زينة و - الزينة - هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لأجله فيقع غير ما قصد و يقصد غير ما وقع، و عدها لهوا و - اللهو - ما يلهيك و يشغلك بنفسه عما يهمك، و عدها لعبا و اللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية، و عدها متاع الغرور و هو ما يغر به الإنسان.

و يفسر جميع هذه الآيات و يوضحها قوله تعالى: "و ما الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:" العنكبوت - 64، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة و كمالها، و هي الحياة التي لا موت بعدها، قال تعالى: "آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:" الدخان - 56، و قال تعالى: لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:" ق - 35، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، و لا يعترضهم نقص في العيش و تنغص، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له.

فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية و المحيي للإنسان في الآخرة، و بيده تعالى أزمة الأمور، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة و مسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.

و من هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها و لا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها و لا طارئة عليها بتمليك الغير و إفاضته، قال تعالى: "و توكل على الحي الذي لا يموت:" الفرقان - 58، و على هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، و هي كون وجوده بحيث يعلم و يقدر بالذات.

و من هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى: "هو الحي لا إله إلا هو" قصر حقيقي غير إضافي، و أن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت و لا يعتريها فناء و زوال هي حياته تعالى.

فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية، و كذا في قوله تعالى: "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم:" آل عمران - 1 أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره.

و أما اسم القيوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة و - القيام - هو حفظ الشيء و فعله و تدبيره و تربيته و المراقبة عليه و القدرة عليه، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب و بين كل منها.

و قد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى: "أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت:" الرعد - 33، و قال تعالى و هو أشمل من الآية السابقة -: "شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم:" آل عمران - 18، فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي و لا يمنع شيئا في الوجود و ليس الوجود إلا الإعطاء و المنع إلا بالعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين أن هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء و بحكمته يعدل فيه.

و بالجملة لما كان تعالى هو المبدىء الذي يبتدي منه وجود كل شيء و أوصافه و آثاره لا مبدأ سواه إلا و هو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور و خلل، و ليس ذلك لغيره قط إلا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف و فتور، و ليس لغيره إلا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، و حصره على القيام، و أول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله الله القيوم، و الحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة و لا نوم.

و قد ظهر من هذا البيان أن اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعا و هي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق و الرازق و المبدىء و المعيد و المحيي و المميت و الغفور و الرحيم و الودود و غيرها.

قوله تعالى: لا تأخذه سنة و لا نوم، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في أول النوم، و النوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه، و الرؤيا غيره و هي ما يشاهده النائم في منامه.

و قد أورد على قوله: سنة و لا نوم إنه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي، و الترقي في الإثبات إنما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، و فلان يجود بالمئات بل بالألوف و في النفي بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين و لا عشرة، و لا يجود بالألوف و لا بالمئات، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم و لا سنة.

و الجواب: أن الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات و النفي دائما كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة و لا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي و هي مختلفة بحسب الموارد، و لما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا و أضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفي تأثير السنة و أخذها أولا ثم يترقى إلى نفي

<<        الفهرس        >>