جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم:" الأنعام - 153.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن منده في غرائب شعبه و ابن حبان و ابن مردويه و البيهقي في سننه و الضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

أقول: و روي أيضا هذا المعنى بطرق أخرى عن سعيد بن جبير و عن الشعبي.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالا من الأوس، فلما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم و لندينن دينهم، فمنعهم أهلوهم و أكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

أقول: و هذا المعنى أيضا مروي بغير هذا الطريق، و هو لا ينافي ما تقدم من نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم.

و فيه، أيضا: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن ابن عباس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، و كان هو رجلا مسلما فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أ لا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): قال: النور آل محمد و الظلمات أعداؤهم.

أقول: و هو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل

2 سورة البقرة - 258 - 260

أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِى حَاجّ إِبْرَهِيمَ فى رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللّهُ الْمُلْك إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبىَ الّذِى يُحْىِ وَ يُمِيت قَالَ أَنَا أُحْىِ وَ أُمِيت قَالَ إِبْرَهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتى بِالشمْسِ مِنَ الْمَشرِقِ فَأْتِ بهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِت الّذِى كَفَرَ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (258) أَوْ كالّذِى مَرّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِىَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا قَالَ أَنى يُحْىِ هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كمْ لَبِثْت قَالَ لَبِثْت يَوْماً أَوْ بَعْض يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْت مِائَةَ عَامٍ فَانظرْ إِلى طعَامِك وَ شرَبِك لَمْ يَتَسنّهْ وَ انظرْ إِلى حِمَارِك وَ لِنَجْعَلَك ءَايَةً لِّلنّاسِ وَ انظرْ إِلى الْعِظامِ كيْف نُنشِزُهَا ثُمّ نَكْسوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَينَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (259) وَ إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَب أَرِنى كيْف تُحْىِ الْمَوْتى قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلى وَ لَكِن لِّيَطمَئنّ قَلْبى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطيرِ فَصرْهُنّ إِلَيْك ثُمّ اجْعَلْ عَلى كلِّ جَبَلٍ مِّنهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَك سعْياً وَ اعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

بيان


الآيات مشتملة على معنى التوحيد و لذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لإثبات المدعى أو لإبطال ما يقابله، و أصل الحجة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، و قوله: في ربه متعلق بحاج، و الضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، و هذا الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه هو الملك الذي كان يعاصره و هو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ و الرواية.

و بالتأمل في سياق الآية، و الذي جرى عليه الأمر عند الناس و لا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، و الموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما.

بيان ذلك: أن الإنسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثرة فيه، و هذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الأمم الخالية المتأمل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة و قد بينا ذلك فيما مر من المباحث.

و هو بفطرته يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين و التدبير، و قد مر أيضا بيانه، و هذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء و تعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون و الماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنسانا و إن قبلت الغفلة و الذهول.

لكن الإنسان الأولي الساذج لما كان يقيس الأشياء إلى نفسه، و كان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه و أعضائه المختلفة، و كذا الأفعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، و كذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة و إن كانت جميع الأزمة تجتمع عند الصانع الذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كرب الأرض و رب البحار و رب النار و رب الهواء و الأرياح و غير ذلك، و تارة كان يثبته باسم الكواكب و خاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر و المواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صورا و تماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم و يكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة و الممات.

و لذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الأمم و الأجيال لأن الآراء كانت مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة و تخيل صور أرباب الأنواع المحكية بأصنامها، و ربما لحقت بذلك أميال و تهوسات أخرى.

و ربما انجر الأمر تدريجا إلى التشبث بالأصنام و نسيان أربابها حتى رب الأرباب لأن الحس و الخيال كان يزين ما ناله لهم، و كان يذكرها و ينسى ما وراءها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك إنما كان منهم لأنهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيرا في شئون حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، و تستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

و ربما كان يستفيد بعض أولي القوة و السطوة و السلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك و نفوذ أمره في شئون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام و يدعي الألوهية كما ينقل عن فرعون و نمرود و غيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب و إن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، و هذا و إن كان في بادىء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره و نفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الأرباب و غلبة جانبه على جانبها، و قد تقدمت الإشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه: "أنا ربكم الأعلى:" النازعات - 24، فقد كان يدعي أنه أعلى الأرباب مع كونه ممن يتخذ الأرباب كما قال تعالى: "و يذرك و آلهتك:" الأعراف - 127، و كذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا أحيي و أميت، في هذه الآية على ما سنبين.

و ينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين إبراهيم (عليه السلام) و نمرود، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه ألوهية، و لو لا ذلك لم يسلم لإبراهيم (عليه السلام) قوله: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و لم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أن بعض الآلهة الأخرى يأتي بها من المشرق، و كان يرى أن هناك آلهة أخرى دون الله سبحانه، و كذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص إبراهيم (عليه السلام) كقصة الكوكب و القمر و الشمس و ما كلم به أباه في أمر الأصنام و ما خاطب به قومه و جعله الأصنام جذاذا إلا كبيرا لهم و غير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى ألوهية، و أن معه آلهة أخرى لكنه كان يرى لنفسه ألوهية، و أنه أعلى الآلهة، و لذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه، و لم يذكر من أمر الآلهة الأخرى شيئا.

و من هنا يستنتج أن المحاجة التي وقعت بينه و بين إبراهيم (عليه السلام) هي، أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدعي أن ربه الله لا غير و نمرود كان يدعي أنه رب إبراهيم و غيره و لذلك لما احتج إبراهيم (عليه السلام) على دعواه بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، قال: أنا أحيي و أميت، فادعى أنه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه أن يخضع له و يشتغل بعبادته دون الله سبحانه و دون الأصنام، و لم يقل: و أنا أحيي و أميت لأن لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيته و لم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، و لم يقل أيضا: و الآلهة تحيي و تميت.

و لم يعارض إبراهيم (عليه السلام) بالحق، بل بالتمويه و المغالطة و تلبيس الأمر على من حضر، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع أن يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، و لا بشيء من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، و موتها عدمها، و الشيء لا يقوى لا على إيجاد نفسه و لا على إعدام نفسه، و لو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشيء لكنه غالط فأخذ الحياة و الموت بمعناهما المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي و المجازي فإن الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شيء كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، و كذا الإماتة تطلق على التوفي و هو فعل الله و على مثل القتل بآلة قتالة، و عند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر فقتل هذا و أطلق ذاك فقال: أنا أحيي و أميت، و لبس الأمر على الحاضرين فصدقوه فيه، و لم يستطع لذلك إبراهيم (عليه السلام) أن يبين له وجه المغالطة، و أنه لم يرد بالإحياء و الإماتة هذا المعنى المجازي، و أن الحجة لا تعارض الحجة، و لو كان في وسعه (عليه السلام) ذلك لبينه، و لم يكن ذلك إلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، و حال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة أخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشيء فقال إبراهيم (عليه السلام): إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و ذلك أن الشمس و إن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب و القمر من قصته (عليه السلام) لكنها و ما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع و الغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الأرباب، و الفاعل الإرادي إذا اختار فعلا بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الأمر يدور مدار الإرادة، و بالجملة لما قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إن هذا الأمر المستمر الجاري على وتيرة واحدة و هو طلوعها من المشرق دائما أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، و لا كان يسعه أن يقول: إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، و لا كان يسعه أن يقول: إني أنا الذي آتيها من المشرق و إلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجرا و بهته، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: أن آتيه الله الملك، ظاهر السياق: أنه من قبيل قول القائل: أساء إلي فلان لأني أحسنت إليه يريد: أن إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلي لكنه بدل الإحسان من الإساءة فأساء إلي، و قولهم: و اتق شر من أحسنت إليه، قال الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر.



و حسن فعل كما يجزى سنمار.

فالجملة أعني قوله: أن آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل و هي من قبيل وضع الشيء موضع ضده للشكوى و الاستعداء و نحوه، فإن عدوان نمرود و طغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي أن يعلل بضد إنعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه إلا الإحسان إليه و إيتاؤه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا:" القصص - 8، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

و هناك نكتة أخرى و هي: الدلالة على رداءة دعواه من رأس، و ذلك أنه إنما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنما كان نمرود الملك ذا السلطة و السطوة بنعمة من ربه، و أما هو في نفسه فلم يكن إلا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف، و لا يشار إليه بنعت، و لهذا لم يذكر اسمه و عبر عنه بقوله: الذي حاج إبراهيم في ربه، دلالة على حقارة شخصه و خسة أمره.

و أما نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة: أنه لا محذور فيه، فإن الملك و هو نوع سلطنة منبسطة على الأمة كسائر أنواع السلطنة و القدرة نعمة من الله و فضل يؤتيه من يشاء، و قد أودع في فطرة الإنسان معرفته، و الرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة و سعادة، قال تعالى: "و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة:" القصص - 77، و إن عدا طوره و انحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة و بوارا، قال تعالى: "أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار:" إبراهيم - 28، و قد مر بيان أن لكل نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى و تقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح و المساءة.

و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: أن الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما:" النساء - 54، لا ملك نمرود لكونه ملك جور و معصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيه أولا: أن القرآن ينسب هذا الملك و ما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون: "يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض:" المؤمن - 29 و، قوله تعالى حكاية عن فرعون - و قد أمضاه بالحكاية -: "يا قوم أ ليس لي ملك مصر:" الزخرف - 51، و قد قال تعالى: "له الملك:" التغابن - 1، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك إلا و هو منه تعالى، و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): "ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة:" يونس - 88، و قال تعالى في قارون: "و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:" القصص - 76، و قال تعالى خطابا لنبيه: "ذرني و من خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا" - إلى أن قال -: "و مهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد:" المدثر - 15، إلى غير ذلك.

و ثانيا: أن ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده و إيمانه لا أنه كان ينازعه و يحاجه في ملكه فإن ملك الظاهر كان لنمرود، و ما كان يرى لإبراهيم ملكا حتى يشاجره فيه.

و ثالثا: أن لكل شيء نسبة إلى الله سبحانه و الملك من جملة الأشياء و لا محذور في نسبته إليه تعالى و قد مر تفصيل بيانه.

قوله تعالى: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت و إن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضا كالنبات، و قد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية الكرسي، لكن مراده (عليه السلام) منهما إما خصوص الحياة و الممات الحيوانيين أو الأعم الشامل له لإطلاق اللفظ، و الدليل على ذلك قول نمرود: أنا أحيي و أميت، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث و الغرس مثلا، و لا إحياء الحيوان بالسفاد و التوليد مثلا، فإن ذلك و أشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، و هذا يؤيد ما وردت به الروايات: أنه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق أحدهما و قتل الآخر، و قال عند ذلك: أنا أحيي و أميت.

و إنما أخذ (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة لأنهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، و خاصة الحياة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور و الإرادة و هما أمران غير ماديين قطعا، و كذا الموت المقابل لها، و الحجة على ما فيها من السطوع و الوضوح لم تنجح في حقهم، لأن انحطاطهم في الفكر و خبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه (عليه السلام) في حقهم، فلم يفهموا من الإحياء و الإماتة إلا المعنى المجازي الشامل لمثل الإطلاق و القتل، فقال نمرود: أنا أحيي و أميت و صدقه من حضره، و من سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يومئذ في المعارف و المعنويات، و لا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري و التقدم المدني الذي يدل عليه الآثار و الرسوم الباقية من بابل كلدة و مصر الفراعنة و غيرهما، فإن المدنية المادية أمر و التقدم في معنويات المعارف أمر آخر، و في ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها و انحطاطها في الأخلاق و المعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.

و من هنا يظهر: وجه عدم أخذه (عليه السلام) في حجته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات و الأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين:" الأنعام - 79، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالا كانوا أنزل سطحا من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه و يتضح مراده (عليه السلام)، و ناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربي الذي يحيي و يميت.

قوله تعالى: قال أنا أحيي و أميت، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي و يميت.

قوله تعالى: قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، لما أيس (عليه السلام) من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي و يميت، لسوء فهم الخصم و تمويهه و تلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء و الإماتة إلى حجة أخرى، إلا أنه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الأولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: فإن الله "إلخ"، و المعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنك ربي و من شأن الرب أن يتصرف في تدبير أمر هذا النظام الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف أنت بإتيانها من المغرب حتى يتضح أنك رب كما أن الله رب كل شيء أو أنك الرب فوق الأرباب فبهت الذي كفر، و إنما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت لنمرود و أنتجت ما ادعاه، و لذلك أيضا قال: فإن الله و لم يقل: فإن ربي لأن الخصم استفاد من قوله: ربي سوءا و طبقه على نفسه بالمغالطة فأتى (عليه السلام) ثانيا بلفظة الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق! و قد مر بيان أن نمرود ما كان يسعه أن يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين، ظاهر السياق أنه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره، و بعبارة أخرى معناه أن الله لم يهده فبهت لذلك و لو هداه لغلب على إبراهيم في الحجة لا أنه لم يهده فكفر لذلك و ذلك لأن العناية في المقام متوجهة إلى محاجته إبراهيم (عليه السلام) لا إلى كفره و هو ظاهر.

و من هنا يظهر: أن في الوصف إشعارا بالعلية أعني: أن السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقول: "و من أظلم ممن افترى على الله الكذب و هو يدعى إلى الإسلام و الله لا يهدي القوم الظالمين:" الصف - 7، و قوله: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين:" الجمعة - 5، و نظير الظلم الفسق في قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين:" الصف - 5.

و بالجملة الظلم و هو الانحراف عن صراط العدل و العدول عما ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، و مؤد إلى الخيبة و الخسران بالأخرة، و هذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف و أكد القول فيها في آيات كثيرة.

كلام في الإحسان و هدايته و الظلم و إضلاله

هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا و هي كلية لا تقبل الاستثناء و قد ذكرها بالسنة مختلفة، و بنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:" طه - 50، دل على أن كل شيء بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده و كمالات ذاته، و ليس ذلك إلا بارتباطه مع غيره من الأشياء و استفادته منها بالفعل و الانفعال بالاجتماع و الافتراق و الاتصال و الانفصال و القرب و البعد و الأخذ و الترك و نحو ذلك، و من المعلوم أن الأمور التكوينية لا تغلط في آثارها، و القصود الواقعية لا تخطي و لا تخبط في تشخيص غاياتها و مقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا و هي حارة لا تريد تبريده، و النامي كالنبات مثلا و هو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره و هكذا، و قد قال تعالى: "إن ربي على صراط مستقيم:" هود - 56، فلا تخلف و لا اختلاف في الوجود.

و لازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية و انتفاء الخطإ في التكوين أن يكون لكل شيء روابط حقيقية مع غيره، و أن يكون بين كل شيء و بين الآثار و الغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته و الأثر المخصوص المقصود منه، و كذلك الغايات و المقاصد الوجودية إنما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها و السبل الموصلة إليها، فالبذرة إنما تنبت الشجرة التي في قوتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها و شرائطها الخاصة، و كذلك الشجرة إنما تثمر الثمرة التي من شأنها أثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا:" الأعراف - 58، و العقل و الحس يشهدان بذلك و إلا اختل قانون العلية العام.

و إذا كان كذلك فالصنع و الإيجاد يهدي كل شيء إلى غاية خاصة، و لا يهديه إلى غيرها، و يهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي أتقن كل شيء، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية و أثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل أثرها لا محالة، هذا في الأمور التكوينية.

و الأمور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية و غيرها على هذا الوصف أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشئون الاجتماعية و المقامات التي فيه و الأفعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار و غايات لا تتولد منه إلا تلك الآثار و الغايات و لا تتولد هي إلا منه، فالتربية الصالحة لا تتحقق إلا من مرب صالح و المربي الفاسد لا يترتب على تربيته إلا الأثر الفاسد ذاك الفساد المكمون في نفسه و إن تظاهر بالصلاح و لازم الطريق المستقيم في تربيته، و ضرب على الفساد المطوي في نفسه بمائة ستر و احتجب دونه بألف حجاب، و كذلك الحاكم المتغلب في حكومته، و القاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، و كل من تقلد منصبا اجتماعيا من غير طريقه المشروع، و كذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق و حل بذلك محل الفعل الحق، و القول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الأمانة و الإساءة موضع الإحسان و المكر موضع النصح و الكذب موضع الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها و يقطع دابرها و إن اشتبه أمرها أياما، و تلبس بلباس الصدق و الحق أحيانا، سنة الله التي جرت في خلقه و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

فالحق لا يموت و لا يتزلزل أثره، و إن خفي على إدراك المدركين أويقات، و الباطل لا يثبت و لا يبقى أثره، و إن كان ربما اشتبه أمره و وباله، قال تعالى: "ليحق الحق و يبطل الباطل:" الأنفال: - 8، من تحقيق الحق تثبيت أثره، و من إبطال الباطل ظهور فساده و انتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه و التمويه، و قال تعالى: "أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:" إبراهيم - 27، و قد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، و لا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق: "قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون:" يوسف - 23، فالظالم لا يفلح في ظلمه، و لا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه و المتقي بتقواه، قال تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين": العنكبوت - 69، و قال تعالى: "و العاقبة للتقوى:" طه - 132.

و الآيات القرآنية في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، و من أجمعها و أتمها بيانا فيه قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:" الرعد - 17.

و قد مرت الإشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية و المعلولية الجارية بين أجزاء العالم و إن التجربة القطعية الحاصلة من تكرر الحس تشهد به، فما منا من أحد إلا و في ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين و انقطاع دابرهم.

قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خواء إذا خلت، و العروش جمع العرش و هو ما يعمل مثل السقف للكرم قائما على أعمدة، قال تعالى: "جنات معروشات و غير معروشات:" الأنعام - 141، و من هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران و العرش هو السقف مع الأركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، و لذا صح أن يقال في الديار إنها خالية على عروشها و لا يصح أن يقال: خالية على سقفها.

و قد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالذي، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج إبراهيم، و الكاف اسمية، و المعنى أو هل رأيت مثل الذي مر على قرية "إلخ"، و قد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، و قيل: بل الكاف زائدة، و المعنى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية "إلخ"، و قيل: إنه عطف محمول على المعنى، و المعنى: أ لم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و قيل: إنه من كلام إبراهيم جوابا عن دعوى الخصم أنه يحيي و يميت، و التقدير: و إن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مر على قرية "إلخ" فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.

و أظن - و الله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق و لا يهدي الكافر في كفره بل يضله أولياؤه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى، و هي مراتب ثلاث مترتبة: أولاها: الهداية إلى الحق بالبرهان و الاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، و لم يهد الذي حاجه بل أبهته و أضله كفره، و إنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الثانية: الهداية إلى الحق بالإراءة و الإشهاد كما في قصة الذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته و إحيائه و سائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإراءة و الإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحق و بيان الواقعة بإشهاد الحقيقة و العلة التي تترشح منه الحادثة، و بعبارة أخرى بإراءة السبب و المسبب معا، و هذا أقوى مراتب الهداية و البيان و أعلاها و أسناها كما أن من كان لم ير الجبن مثلا و ارتاب في أمره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده و أكل منه و ذاق طعمه.

و تارة بإراءته قطعة من الجبن و إذاقته طعمه و تارة بإحضار الحليب و عصارة الإنفحة و خلط مقدار منها به حتى يجمد ثم إذاقته شيئا منه و هي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث - و هو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: أ لم تر إلى قصة إبراهيم و نمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مر على قرية، أو لم تر إلى قصة إبراهيم و الطير، أو يقال إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة و هي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية و هي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم و الطير و هي نوع آخر، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق و أذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، و اذكر الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.



فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه أخذ بالتفنن في البيان و خص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب و استيفاء لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.

و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: أو كالذي، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، و التقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و يظهر أيضا أن قوله في الآية التالية: و إذ قال إبراهيم، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة و التقدير: اذكر قصة المحاجة و قصة الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني "إلخ".

و قد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية و اسم القرية و القوم الذين كانوا يسكنونها، و القوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله و لنجعلك آية للناس، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكن الآية و هي الإحياء بعد الموت و كذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما، و قد وقعت موقع الاستبعاد و الاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة و الاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب و السامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال و عظائم الأمور بالتصغير و التهوين تعظيما لمقام أنفسهم، و لذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، و لذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة و أبهم جهات القصة من أسماء الطيور و أسماء الجبال و عدد الأجزاء و غيرها في الآية اللاحقة.

و أما التصريح باسم إبراهيم (عليه السلام) فإن للقرآن عناية تشريف به (عليه السلام)، قال تعالى: "و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه:" الأنعام - 83، و قال تعالى: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:" الأنعام - 75، ففي ذكره (عليه السلام) بالاسم عناية خاصة.

و لما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الإحياء و الإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة و الاستصغار، قال تعالى: "و هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلى في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم:" الروم - 27، و قال تعالى: "قال رب أنى يكون لي غلام - إلى قوله: - قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:" مريم - 9.

قوله تعالى: قال أنى يحيي هذه الله، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: "و اسأل القرية": يوسف - 82.

و إنما قال هذا القول استعظاما للأمر و لقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الإنكار أو ينشأ منه، و الدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: أعلم أن الله على كل شيء قدير و لم يقل: الآن كما في ما

<<        الفهرس        >>