جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.

أما الأول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الأمر و يقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعيا و هو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحياؤه، و لا إحياء إلا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إياهن بأمر الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الأحياء، و عند ذلك شاهده إبراهيم و رأى كيفية فيضان الأمر بالحياة، و لو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير متصلة بأمر الله الذي هو أن يقول لشيء أراده: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشيء كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي في الوجود.

و أما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدل على أن لكثرة الأموات و تعددها دخلا في السؤال، و ليس إلا أن الأجساد بموتها و تبدد أجزائها و تغير صورها و تحول أحوالها تفقد حالة التميز و الارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء و البوار، و تصير كالأحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج و لا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية و لا محاط في الواقع.

و هذا هو الذي أورده فرعون على موسى (عليه السلام) و أجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله: "قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى:" طه - 51.

و بالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير و لعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل و أقل زمانا فيشاهد حياتها و يرى اختلاف أشخاصها و صورها، و يعرفها معرفة تامة أولا، ثم يقتلها و يخلط أجزاءها خلطا دقيقا ثم يجعل ذلك أبعاضا، و كل بعض منها على جبل لتفقد التميز و التشخص، و تزول المعرفة، ثم يدعوهن يأتينه سعيا، فإنه يشاهد حينئذ أن التميز و التصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل و إلى أي حال تحول الشاخص أو أجزاؤه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، و الله سبحانه إذا أوجد حيا من الأحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل و لا مانع و بذلك يشعر قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات.

و هذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: "و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:" السجدة - 11، و قد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس، و سيأتي تفصيل الكلام في محله إن شاء الله.

فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنما أمر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعادة الحياة إليها و لا ينكرها، و أ ما هي عليه من الاختلاف و التميز أولا و زوالهما ثانيا، و قوله: فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي اذبحهن و بدد أجزاءهن و اخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء و هي غير متميزة، و هذا من الشواهد على أن القصة إنما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها، و قوله ثم ادعهن، أي ادع الطيور يا طاووس و يا فلان و يا فلان، و يمكن أن يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير "هن" الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهن، فإن الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه (عليه السلام) و اللفظ المستعمل في البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء، و قوله: يأتينك سعيا، أي يتجسدن و اتصفن بالإتيان و الإسراع إليك.

قوله تعالى: و اعلم أن الله عزيز حكيم، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئا إلا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح و إيجادها دون العكس.

و في قوله تعالى: و اعلم أن "إلخ"، دون أن يقال إن الله "إلخ"، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان إبراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية:، أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.

و في تفسير البرهان،: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، و قيل بعد إلقائه في النار و جعلها عليه بردا و سلاما، عن الصادق (عليه السلام).



أقول: الآية و إن لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإن قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته أباه و قومه و كسره الأصنام تعطي أن أول ما لاقى إبراهيم (عليه السلام) نمرود و كان حين رفع أمره إليه في قضية كسر الأصنام مجرما عندهم، فحكم عليه بالإحراق، و كان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في أمر ربه: أ هو الله أو نمرود؟ و لو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في أمر الله و أمر الأصنام دون أمر الله و أمر نفسه!.

و في عدة من الروايات التي روتها العامة و الخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها الآية أن صاحب القصة أرميا النبي، و في عدة منها: أنها عزير، إلا أنها آحاد غير واجبة القبول، و في أسانيدها بعض الضعف، و لا شاهد لها من ظاهر الآيات، و القصة غير مذكورة في التوراة، و التي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها.

و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية: في حديث قال (عليه السلام): و هذه آية متشابهة، و معناها أنه سأل عن الكيفية و الكيفية من فعل الله عز و جل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، و لا عرض في توحيده نقص، الحديث.

أقول: و قد اتضح معنى الحديث مما مر.

و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) سئل عن قول الله: قال بلى و لكن ليطمئن قلبي أ كان في قلبه شك قال لا و لكن أراد من الله الزيادة، الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن الصادق و عن العبد الصالح (عليه السلام) و قد مر بيانه.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها، بعضا فتعجب إبراهيم فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله: أ و لم تؤمن؟ قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك - ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن - يأتينك سعيا و اعلم أن الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، فقال الله عز و جل: فصرهن إليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، و فرقهن على عشرة جبال، ثم دعاهن فقال: أحيي بإذن الله فكانت تجتمع و تتألف لحم كل واحد و عظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إن الله عزيز حكيم.

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس.

قوله: إن إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني إلخ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال و هي تفرق أجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها و انتقالها إلى أمكنة مختلفة و حالات متنوعة لا يبقى معها من الأصل شيء.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أن الشبهة كانت هي شبهة الآكل و المأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، و أكل بعضها بعضا، ثم فرعت على ذلك تعجب إبراهيم و سؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرق أجزاء الجسد و فناء أصلها من الصور و الأعراض و بالجملة عدم بقائها حتى تتميز و تركبها الحياة - و ثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزءا من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامين معا لأن المفروض أن بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد منهما أعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الإعادة، و هذه هي شبهة الآكل و المأكول.

و ما أجاب الله سبحانه به - و هو تبعية البدن للروح - و إن كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا، إلا أن الذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل و المأكول، و هو أكل بعض الحيوان بعضا، بل إنما تشتمل على تفرق الأجزاء و اختلاطها و تغير صورها و حالاتها، و هذه مادة الشبهة الأولى، فالآية إنما تتعرض لدفعها و إن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما أجيب به في الآية كما مر، و ما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قوله (عليه السلام) فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، و في بعض الروايات أن الطيور كانت هي النسر و البط و الطاووس و الديك، رواه الصدوق في العيون، عن الرضا (عليه السلام) و نقل عن مجاهد و ابن جريح و عطاء و ابن زيد، و في بعضها أنها الهدهد و الصرد و الطاووس و الغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق (عليه السلام) و في بعضها: أنها النعامة و الطاووس و الوزة و الديك": رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر (عليه السلام) و نقل عن ابن عباس، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس أيضا: أنها الغرنوق و الطاووس و الديك و الحمامة، و الذي تشترك فيه جميع الروايات و الأقوال: الطاووس.

قوله (عليه السلام): و فرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت و قيل إنها كانت أربعة، و قيل سبعة.

و في العيون، مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي، قال الرضا: إن الله تبارك و تعالى كان أوحى إلى إبراهيم: إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أ و لم تؤمن؟ قال بلى و لكن ليطمئن قلبي بالخلة، الحديث.

أقول: و قد تقدم في أخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم و في هذه الرواية التي رواها عن الرضا (عليه السلام) فارجع.

و اعلم: أن الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أن مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء، و اللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة، و الخليل إنما يسمى خليلا لأن الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجه إلى صديقه، و لا معنى لرفعها مع عدم الكفاية و القضاء.

2 سورة البقرة - 261 - 274

مّثَلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فى سبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَت سبْعَ سنَابِلَ فى كلِّ سنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبّةٍ وَ اللّهُ يُضعِف لِمَن يَشاءُ وَ اللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (261) الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فى سبِيلِ اللّهِ ثُمّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّا وَ لا أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) * قَوْلٌ مّعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيرٌ مِّن صدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَ اللّهُ غَنىّ حَلِيمٌ (263) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تُبْطِلُوا صدَقَتِكُم بِالْمَنِّ وَ الأَذَى كالّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكهُ صلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شىْءٍ مِّمّا كسبُوا وَ اللّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ (264) وَ مَثَلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةِ بِرَبْوَةٍ أَصابَهَا وَابِلٌ فَئَاتَت أُكلَهَا ضِعْفَينِ فَإِن لّمْ يُصِبهَا وَابِلٌ فَطلّ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدّ أَحَدُكمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِّن نّخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُ فِيهَا مِن كلِّ الثّمَرَتِ وَ أَصابَهُ الْكِبرُ وَ لَهُ ذُرِّيّةٌ ضعَفَاءُ فَأَصابَهَا إِعْصارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْترَقَت كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ (266) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طيِّبَتِ مَا كسبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَ لا تَيَمّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنفِقُونَ وَ لَستُم بِئَاخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ غَنىّ حَمِيدٌ (267) الشيْطنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكم بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُم مّغْفِرَةً مِّنْهُ وَ فَضلاً وَ اللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتى الْحِكمَةَ مَن يَشاءُ وَ مَن يُؤْت الْحِكمَةَ فَقَدْ أُوتىَ خَيراً كثِيراً وَ مَا يَذّكرُ إِلا أُولُوا الأَلْبَبِ (269) وَ مَا أَنفَقْتُم مِّن نّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نّذْرٍ فَإِنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَ مَا لِلظلِمِينَ مِنْ أَنصارٍ (270) إِن تُبْدُوا الصدَقَتِ فَنِعِمّا هِىَ وَ إِن تُخْفُوهَا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيرٌ لّكمْ وَ يُكَفِّرُ عَنكم مِّن سيِّئَاتِكمْ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) * لّيْس عَلَيْك هُدَاهُمْ وَ لَكنّ اللّهَ يَهْدِى مَن يَشاءُ وَ مَا تُنفِقُوا مِنْ خَيرٍ فَلأَنفُسِكمْ وَ مَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ وَ مَا تُنفِقُوا مِنْ خَيرٍ يُوَف إِلَيْكمْ وَ أَنتُمْ لا تُظلَمُونَ (272) لِلفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فى سبِيلِ اللّهِ لا يَستَطِيعُونَ ضرْباً فى الأَرْضِ يحْسبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ لا يَسئَلُونَ النّاس إِلْحَافاً وَ مَا تُنفِقُوا مِنْ خَيرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُم بِالّيْلِ وَ النّهَارِ سِرّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

بيان


سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الإنفاق، و رجوع مضامينها و أغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنها نزلت دفعه واحدة، و هي تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أولا مثلا لزيادته و نموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، و ربما زاد على ذلك بإذن الله، و ثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال و تنهى عن الرياء في الإنفاق و تضرب مثلا للإنفاق رياء لا لوجه الله، و أنه لا ينمو نماء و لا يثمر أثرا، و تنهى عن الإنفاق بالمن و الأذى إذ يبطلان أثره و يحبطان عظيم أجره، ثم تأمر بأن يكون الإنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلا و شحا، ثم تعين المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة و هو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

و بالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، و تبين أولا وجهه و غرضه و هو أن يكون لله لا للناس، و ثانيا صورة عمله و كيفيته و هو أن لا يتعقبه المن و الأذى، و ثالثا وصف مال الإنفاق و هو أن يكون طيبا لا خبيثا، و رابعا نعت مورد الإنفاق و هو أن يكون فقيرا أحصر في سبيل الله، و خامسا ما له من عظيم الأجر عاجلا و آجلا.

كلام في الإنفاق

الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنيه و هو حقوق الناس و قد توسل إليه بأنحاء التوسل إيجابا و ندبا من طريق الزكاة و الخمس و الكفارات المالية و أقسام الفدية و الإنفاقات الواجبة و الصدقات المندوبة، و من طريق الوقف و السكنى و العمرى و الوصايا و الهبة و غير ذلك.

و إنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة و الثروة، و من جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال و الزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف و لا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف و التبذير و نحو ذلك.

و كان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيي ناموس الوحدة و المعاضدة، و تميت الإرادات المتضادة و أضغان القلوب و منابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشئونها، و ترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل و الآجل، و يعيش به الإنسان في معارف حقة، و أخلاق فاضلة، و عيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، و يدفع بها عن نفسه المكاره و النوائب و نواقص المادة.

و لا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها و صفائها، و لا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، و لا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية و الثروة و القنية، و الطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد مما اقتنوه بكد اليمين و عرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، و الأرض لله، و المال ماله.



و هذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها و استقامتها في القرار و النماء و النتيجة في برهة من الزمان و هي زمان حياته (عليه السلام) و نفوذ أمره.

: و هي التي يتأسف عليها و يشكو انحراف مجراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشر فيه إلا إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته و عمت مكيدته و أمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ نهج البلاغة،.

و قد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - و هي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق و منع العالية عن الإتراف و التظاهر بالجمال - حيث إن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، و الإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية.

و استيفاء الهوسات النفسانية، و أعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة و صفوة لذائذ الحياة على أبواب أولي القوة و الثروة، و لم يبق بأيدي النمط الأسفل إلا الحرمان، و لم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس و سلب حق الحياة من الأكثرين و هم سواد الناس، و أثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقى و لا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، و اشتباك النزاع و النزال بين الفريقين و التفاني بين الغني و الفقير و المنعم و المحروم و الواجد و الفاقد، و نشبت الحرب العالمية الكبرى، و ظهرت الشيوعية، و هجرت الحقيقة و الفضيلة، و ارتحلت السكن و الطمأنينة و طيب الحياة من بين النوع و، هذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني، و ما يهدد النوع بما يستقبله أعظم و أفظع.

و من أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق و انفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق، و يذكر أن في رواجه فساد الدنيا و هو من ملاحم القرآن الكريم، و قد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.

و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلوة و لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال: فأت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله و أولئك هم المفلحون و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - إلى أن قال -: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون الآيات": الروم - 30 - 43، و للآيات نظائر في سور هود و يونس و الإسراء و الأنبياء و غيرها تنبىء عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إن شاء الله.

و بالجملة هذا هو السبب فيما يتراءى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحث الشديد و التأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة "إلخ"، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، و إن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، و كانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص و هو ظاهر.



و قد ذكروا أن قوله تعالى: كمثل حبة أنبتت "إلخ"، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت "إلخ"، فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق و هو ظاهر.

و هذا الكلام و إن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى: "مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:" البقرة - 171، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، و قوله تعالى: إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه" الآية: يونس - 24، و قوله تعالى: "مثل نوره كمشكوة:" النور - 35، و قوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية، و قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله و تثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و هذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتى بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي و لا جمل، و قولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها و تطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، و لذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، و كقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، و هي قصة مفروضة خيالية.

و المعنى الذي يشتمل عليه المثل و يكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: "و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة:" الآية: إبراهيم - 26، و قوله تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:" الجمعة - 5، و ربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل و هو الذي نسميه مادة التمثيل، و إنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير مثال الإنفاق و الحبة فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة و إنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.

و ما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه، و ما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لأن الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا و وجدانه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه و ليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، السنبل معروف و هو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.

و من أسخف الإشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج و هو اشتمال السنبلة على مائة حبة، و فيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد و تحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة و إنبات الحبة الواحدة سبعماة حبة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده و لا محدد لفضله كما قال تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة:" البقرة - 245، فأطلق الكثرة و لم يقيدها بعدد معين.



و قيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، و فيه أن الجملة على هذا يقع موقع التعليل، و حق الكلام فيه حينئذ أن يصدر بأن كقوله تعالى: "الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس:" المؤمن - 61، و أمثال ذلك.

و لم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة و هو كذلك و الاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله و إن كان يخطر بباله ابتداء أن المال قد فات عنه و لم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الإنساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء و الأشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر و الفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة و الاستقامة، و عي في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، و خسرانها في أغراضها فالعين و اليد و إن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم و الفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الإنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءا و لونا و قربا و بعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، و تدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا و تعبا لا يتحمل عادة، و ينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، و أما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الأعضاء الآخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، و عاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المئات و الألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، و دفع الرذائل التي يمكنها الفقر و الحاجة في نفسه، و إيجاد المحبة في قلبه، و حسن الذكر في لسانه، و النشاط في عمله، و المجتمع يربط جميع ذلك و يرجعه إلى المنفق لا محالة، و لا سيما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم و التربية و نحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

و إذا كان الإنفاق في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله كان النماء و الزيادة من لوازمه من غير تخلف، فإن الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته و يعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، و هذا نوع استخدام للفقير و استثمار منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا، و ربما تراكمت الآثار و ظهرت فكانت بلوى، لكن الإنفاق الذي لا يراد به إلا وجه الله و لا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل و لا يتعقبه إلا الخير.

قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى "إلخ"، الاتباع اللحوق و الإلحاق، قال تعالى: "فأتبعوهم مشرقين:" الشعراء - 60، أي لحقوهم، و قال تعالى: "فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة:" القصص - 42، أي ألحقناهم.

و المن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا و كذا و نحو ذلك، و الأصل في معناه على ما قيل القطع، و منه قوله تعالى: "لهم أجر غير ممنون": فصلت - 8، أي غير مقطوع، و الأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، و الخوف توقع الضرر، و الحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: قول معروف و مغفرة خير من صدقة "إلخ" المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، و يختلف باختلاف الموارد، و الأصل في معنى المغفرة هو الستر، و الغنى مقابل الحاجة و الفقر، و الحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

و ترجيح القول المعروف و المغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسئول عنه، و الستر و الصفح إذا شفع سؤاله بما يسوؤه و هما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه و المال الذي أنفقه في عينه، و تأثره عما يسوؤه من السؤال، و هما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله، و الله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم و جاد به، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة، و لا يغضب عند كل جهالة، و هذا معنى ختم الآية بقوله: و الله غني حليم.



قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم "إلخ"، تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن و الأذى، و ربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، و لا دلالة في الآية على غير المن و الأذى بالنسبة إلى الصدقة و قد تقدم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الآخر، لما كان الخطاب للمؤمنين، و المرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن و الأذى، بل إنما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن و الأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس و عمل المان و المؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.

و اتحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، و قوله: و لا يؤمن من دون أن يقال: و لم يؤمن يدل على أن المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله و اليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، و يعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، و بيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، و أحب و اختار جزيل الثواب، و لم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأسا.

و يظهر من الآية أن الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر الآية الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس و المثل له، و الصفوان و الصفا الحجر الأملس و كذا الصلد، و الوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

و الضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئاء لأنه في معنى الجمع، و الجملة تبين وجه الشبه و هو الجامع بين المشبه و المشبه به، و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام و هو أن المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، و الله لا يهدي القوم الكافرين، و لذلك أفاد معنى التعليل.

و خلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاء و في ترتب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر و خاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض و اخضرارها و تزينها بزينة النبات، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل و يبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، و لا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل و إن كان من أظهر أسباب الحياة و النمو و كذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن

<<        الفهرس        >>