جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و في قوله: و ما لهم من ناصرين دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، و هو حتم القضاء كما تقدم.

قوله تعالى: و أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، و هذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه و صدوره عن عدة من أفرادها و حينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل و الثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله: الذين آمنوا و عملوا الصالحات، ليستقيم المعنى فإن السعادة و العاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون: "البقرة - 62.

فهذا أجر الذين آمنوا و عملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام) أن الله يوفيهم أجورهم، و أما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء، و قد أشير إلى ذلك في الآية بقوله: و الله لا يحب الظالمين.

و من هنا يظهر السر في ختم الآية - و هي آية الرحمة و الجنة - بمثل قوله: و الله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة و النعمة أن تختتم بأسماء الرحمة و المغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: "و كلا وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير": الحديد - 10، و قوله تعالى: "إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و الله شكور حليم": التغابن - 17، و قوله تعالى: "و من يؤمن بالله و يعمل صالحا يكفر عنه سيئاته و يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم": التغابن - 9، و قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين": الجاثية - 30، إلى غير ذلك من الآيات.

فقوله: و الله لا يحب الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتباع و هم غير الذين آمنوا و عملوا الصالحات.

قوله تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم إشارة إلى اختتام القصة.

و المراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته و بياناته، لا يدخله باطل، و لا يلج فيه هزل.

قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، و الإيجاز بعد الإطناب - و خاصة في مورد الاحتجاج و الاستدلال - من مزايا الكلام، و الآيات نازلة في الاحتجاج و متعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم (عليه السلام) فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم مما قيل في آدم، و هو أنه بشر خلقه الله من غير أب.

فمعنى الآية: إن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، و كيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب.



فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام).

إحداهما: أن عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله و لا يضل في علمه - خلقة بشر و إن فقد الأب و من كان كذلك كان عبدا لا ربا.

و ثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضا لمكان المماثلة.

و يظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل و هي حاجة الولد في تكونه إلى والد.

و الظاهر أن قوله: فيكون، أريد به حكاية الحال الماضية، و لا ينافي ذلك دلالة قوله: ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود و غيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس - 82، و كثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية.

و أما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك و لا مهلة كما قال تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر - 50، و سيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له.

على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله: ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان و الاستحالة، و الهوان و العسر، و القرب و البعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده و قال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكن من الممترين تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن و نحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم الآية، و فيه تطييب لنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على الحق، و تشجيع له في المحاجة.

و هذا أعني قوله: الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك و نسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.

و ذلك أن هذه الأقاويل الحقة و القضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت و إن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و نحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود و الوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، و لذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، و أما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: يا مريم إن الله اصطفيك - و طهرك و اصطفيك على نساء العالمين قال: قال (عليه السلام) اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين و في المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية اصطفاك لذرية الأنبياء، و طهرك من السفاح و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.

أقول: معنى قوله: اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء، و معنى قوله: و طهرك من السفاح أعطاك العصمة منه، و هو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها و تطهيرها، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر، و قد مر دلالة الآية على ذلك.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و صححه و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و آسية امرأة فرعون: قال السيوطي و أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: و فيه، أخرج الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل نساء العالمين خديجة و فاطمة و مريم و آسية امرأة فرعون.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.

و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون و فيه، أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أربع نسوة سادات عالمهن. مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أفضلهن عالما فاطمة.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة ابنة خويلد.

و في الخصال، بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع خطوط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

و فيه، أيضا بإسناده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز و جل اختار من النساء أربعا: مريم و آسية و خديجة و فاطمة، الخبر.

أقول: و الروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، و كون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور و أخبار أخرى، و قد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم و نوحا" الآية: آل عمران - 33.



و مما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء، و قد مر أنه الاختيار، و الذي وقع في الأخبار هو السيادة، و بينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأول.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، عن الباقر (عليه السلام): يقرعون بها حين أيتمت من أبيها.

و في تفسير القمي،: و إذ قالت الملائكة يا مريم - إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين، قال: اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين إلى أن قال القمي ثم قال الله لنبيه: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمد و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها و كلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا و ضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا، الخبر.

أقول: و قد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر و ما قبلها.

و اعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم و ولادة عيسى (عليه السلام) و دعوته و معجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري، و لذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و أنبئكم بما تأكلون الآية، عن الباقر (عليه السلام) أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله إليكم، و إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص، و الأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا و ما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا و كذا و شربت كذا و كذا و رفعت كذا و كذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من يكفر، و كان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

أقول: و تغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام) من الآيات أولا و آخرا يؤيد هذه الرواية، و قد مرت الإشارة إليه.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص و بما أوصى به نوح و إبراهيم و موسى، و أنزل عليه الإنجيل، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين، و شرع له في الكتاب: إقام الصلوة مع الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و أنزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود ليس فيها قصاص، و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و أنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، و هو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، و أمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل.

أقول: و روي الرواية في قصص الأنبياء، مفصلة عن الصادق (عليه السلام) و فيها: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و ثمانون سنة و لا يوافق شيء منهما تاريخ أهل الكتاب.

و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتق من الخبز الحوار. و أما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم و مخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير.



و في التوحيد، عنه (عليه السلام): أنهم كانوا اثنا عشر رجلا و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا.

و في الإكمال، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الإنجيل، و بعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته، و إلى الإيمان بالله و رسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا و كفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربه و عزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا و كفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند الله ثلاثة و ثلاثين سنة حتى طلبته اليهود و ادعت أنها عذبته و دفنته في الأرض حيا، و ادعى بعضهم أنهم قتلوه و صلبوه، و ما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنما شبه لهم، و ما قدروا على عذابه و قتله و لا على قتله و صلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه.

أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم.

و قوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم "الخ" لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (عليه السلام) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة و كان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا": مريم - 30.

و قوله (عليه السلام) لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه، نقل بالمعنى لقوله تعالى: و لكن رفعه الله الآية، و قوله تعالى: إني متوفيك و رافعك إلي الآية، و قد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء و هم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت و هو ينفض رأسه عن الماء فقال: إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة، و مطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي، فقال شاب منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال رجل منهم: أنا هو يا نبي الله! فقال له عيسى: أ تحس بذلك في نفسك؟ فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى: أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، و فرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت و هم ينظرون إليه. ثم قال: إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى: إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، و أخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل و صلب، و كفر الذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

أقول: و روي قريب منه عن ابن عباس و قتادة و غيرهما، و قال بعضهم: إن الذي ألقي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه و يقتلوه، و قيل غير ذلك، و القرآن ساكت عن ذلك، و سيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى: "و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم" الآية: النساء - 157.

و في العيون، عن الرضا (عليه السلام) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله و حججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حيا و قبض روحه بين السماء و الأرض ثم رفع إلى السماء، و رد عليه روحه، و ذلك قوله عز و جل: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك، و قال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة و كنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم - و أنت على كل شيء شهيد و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم و من نسج مريم و من خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

أقول: و سيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إن شاء الله تعالى.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أن سيدي أهل نجران و أسقفيهم السيد و العاقب لقيا نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألاه عن عيسى فقال: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله الآية.

أقول: و روي ما يقرب منه عن السدي و عكرمة و غيرهما، و روى القمي في تفسيره، أيضا نزول الآية في المورد.

بحث روائي آخر في معنى المحدث

في البصائر، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرسول و عن النبي و عن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة. و النبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق و لا يعاين الملك. و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى شاهدا.

أقول: و رواه في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: شاهدا أي صائتا حاضرا.

و يمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى.

و فيه، أيضا عن بريد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه "لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم الأنبياء، الحديث.

و فيه، عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقال: إنه يسمع الصوت و لا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك.

و فيه، أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: كان علي محدثا و كان سلمان محدثا، قال: قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت و كيت 220 - و فيه، عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام): أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا: ما صنعت شيئا أ لا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت: أ لست أخبرتني: أن عليا كان محدثا؟ قال: بلى قلت: من كان يحدثه؟ قال: ملك، قلت: فأقول: إنه نبي أو رسول؟ قال: لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان و صاحب موسى، و مثله مثل ذي القرنين، أ ما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أ نبيا كان؟ قال لا و لكن كان عبدا أحب الله فأحبه، و ناصح الله فنصحه فهذا مثله.

أقول: و الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر و الكافي و الكنز و الاختصاص و غيرها، و يوجد في روايات أهل السنة أيضا.

و أما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي و الرسول و المحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول و النبي، و أن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس و نحوه.

و أما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه و ليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.



و أما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس، و ليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد، و لذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت و النكت في القلب، و تسميه مع ذلك تحديثا و تكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه و يعيه بسمعه نظير ما نسمعه و يسمعه من الكلام المعتاد و الأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره، و لذا كان أمرا قلبيا.

و أما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه و تسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة: أنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك، و ذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله، و إما باطل في صورة حق و سيستتبع باطلا فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله، قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام - 122، و النزغة و الوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس و تزلزل في القلب كما أن ذكر الله و حديثه لا ينفك عن الوقار و طمأنينة الباطن، قال تعالى: "ذلكم الشيطان يخوف أولياءه": آل عمران - 175، و قال: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب": الرعد - 28، و قال: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون": الأعراف - 201، فالسكينة و الطمأنينة عند ما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاء رحمانيا كما أن الاضطراب و القلق دليل على كونه إلقاء شيطانا و يلحق بذلك العجلة و الجزع و الخفة و نحوها.

و أما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت و لا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث و ذلك لأن الآيات صريحة في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إني رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات": مريم - 19، و قوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة -: "و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام - إلى أن قال -: و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق و من وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد": هود - 73.

و هاهنا وجه آخر: و هو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.

و هاهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم و هو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا و ذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه و رسله و لا يخلو عن بعد.

3 سورة آل عمران - 61 - 63

فَمَنْ حَاجّك فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكمْ وَ نِساءَنَا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنفُسنَا وَ أَنفُسكُمْ ثُمّ نَبْتهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَت اللّهِ عَلى الْكذِبِينَ (61) إِنّ هَذَا لَهُوَ الْقَصص الْحَقّ وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللّهُ وَ إِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمُ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

بيان


قوله تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، الفاء للتفريع، و هو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم (عليهما السلام) مع ما أكده في ختمه بقوله: الحق من ربك فلا تكن من الممترين.

و الضمير في قوله: فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.

و قد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا، و لذلك كان يشمل أثره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم، و لعله لذلك قيل: من بعد ما جاءك من العلم و لم يقل: من بعد ما بيناه لهم.

و هاهنا نكتة أخرى و هي أن في تذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله، و أن ربه ناصره و غير خاذله البتة.

قوله تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، المتكلم مع الغير في قوله: ندع، غيره في قوله: أبناءنا و نساءنا و أنفسنا فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام و النصرانية، و في الثاني و ما يلحق به من جانب الإسلام، و لذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء و النساء و الأنفس فندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ففي الكلام إيجاز لطيف.

و المباهلة و الملاعنة و إن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله و بين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء و النساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه و كونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم و الشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، و يركب الأهوال و المخاطرات دونهم، و في سبيل حمايتهم و الغيرة عليهم و الذب عنهم، و لذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد و أدوم.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بقوله: ندع أبناءنا و أبناءكم "الخ" ندع نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، و تدعوا أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا.

و ذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء و النساء في المباهلة.

و في تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي و ركونه إلى الحق، كأنه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن و العذاب الأبناء و النساء و الأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، و ينبت أصل المبطلين.

و بذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء و لا على كثرة النساء و لا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير و كبير، و ذكور و إناث، و قد أطبق المفسرون و اتفقت الرواية و أيده التاريخ: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضر للمباهلة و لم يحضر معه إلا علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) فلم يحضر لها إلا نفسان و ابنان و امرأة واحدة و قد امتثل أمر الله سبحانه فيها.

على أن المراد من لفظ الآية أمر، و المصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب الخارج أمر آخر، و قد كثر في القرآن الحكم أو الوعد و الوعيد للجماعة، و مصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: "الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم" الآية: المجادلة - 2، و قوله تعالى: "و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا": المجادلة - 3، و قوله تعالى: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء": آل عمران - 181، و قوله تعالى: "و يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو": البقرة - 219، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع و مصداقها بحسب شأن النزول مفرد.

قوله تعالى: ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، - الابتهال - من البهلة بالفتح و الضم و هي اللعنة، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء و المسألة إذا كان مع إصرار و إلحاح.

و قوله: فنجعل لعنة الله، كالبيان للابتهال، و قد قيل: فنجعل، و لم يقل، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف و الابتناء.

و قوله: الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين النصارى حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله لا إله غيره و إن عيسى عبده و رسوله، و قالوا: إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.

و على هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى و المباهلة عليها بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا و الطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد و الجمع معا كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة و المباهلة على أي حال: إما في جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إما في جانب النصارى، و هذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) شركة في الدعوى و الدعوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خصهم باسم الأنفس و النساء و الأبناء لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين رجال الأمة و نسائهم و أبنائهم.

فإن قلت: قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد و أن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة (عليها السلام) فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟.

قلت: إن بين المقامين فارقا و هو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، و أما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم، و لا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى: "و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله": الأحزاب - 37 و قوله تعالى: "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين": النحل - 103 و قوله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن - إلى أن قال: و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين": الأحزاب - 50.

و أمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده و هو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: الكاذبين بصيغة الجمع البتة.

فإن قلت: كما أن النصارى الوافدين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب دعوى و هي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا و لا بين نسائهم و بين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي أن الله لا إله إلا هو و أن عيسى بن مريم عبده و رسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء و النساء و الأنفس، على أن الدعوى غير الدعوة و قد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.



قلت: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين و نسوة و أبناء ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار و هو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى و هو رجل و امرأة و ابنان.

و إنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله و رسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه، و أما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل و لا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل، و كذا قوله تعالى - قبل عدة آيات -: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن.

و من هنا يظهر: أن إتيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة و المباهلة حتى يعرضوا للعن و العذاب المتردد بينهم و بين خصمهم، و إنما أتى (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به من جهة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان طرف المحاجة و المداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بهم لا من جهة الإتيان بالأنموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.

ثم إن النصارى إنما قصدوه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى بن مريم (عليهما السلام) عبد الله و رسوله و يعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه و يدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود و المحاجة فحضوره و حضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى و الدعوة معا فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.

فإن قلت: هب أن إتيانه بهم لكونهم منه، و انحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر - كما تعطيه العادة الجارية - أن إحضار الإنسان أحباءه و أفلاذ كبده من النساء و الصبيان في المخاطر و المهاول دليل على وثوقه بالسلامة و العافية و الوقاية فلا يدل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم على أزيد من ذلك و أما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله.

قلت: نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله: على الكاذبين، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة و المباهلة البتة، و لا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشاركون معه في الدعوى و في الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى و دعوة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و شركاء في ذلك.

فإن قلت: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.

قلت: كلا فقد تبين فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة و التبليغ ليسا بعين النبوة و البعثة و إن كانا من شئونها و لوازمها، و من المناصب و المقامات الإلهية التي يتقلدها، و كذا تبين مما تقدم من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة و إن كانا من لوازمها بوجه.

قوله تعالى: إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله، هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى (عليه السلام)، و الكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.

و في الإتيان بإن و اللام و ضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه و بصيرته و وثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه، و يتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها و هو قوله: و ما من إله إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا.

قوله تعالى: و إن الله لهو العزيز الحكيم معطوف على أول الآية، و هو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر و تشجيع لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله لا يعجز عن نصرة الحق و تأييده، و لا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل و لا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه.

و من هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين: العزيز الحكيم، و أن الكلام مسوق لقصر القلب أو الإفراد.

قوله تعالى: فإن الله عليم بالمفسدين، لما كان الغرض من المحاجة و كذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض و المقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق و هم يعلمون أن الله سبحانه ولي الحق لا يرضى بزهوقه و دحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية و الاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، و السنة التي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهواؤهم و هوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق و السعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون.

و من هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق.

و قد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم أكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة، و قد فعلوا و صدقوا قول الله بفعلهم.

بحث روائي


في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان سيدهم الأهتم و العاقب و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس و صلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، و أني رسول الله، و أن عيسى عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أ كان عبدا مخلوقا يأكل و يشرب و يحدث و ينكح؟ فسألهم النبي، فقالوا نعم: قال فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل الله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية، و قوله: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم إلى قوله: فنجعل لعنة الله على الكاذبين فقال رسول الله: فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم، و إن كنت كاذبا أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد و العاقب و الأهتم إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا، و إن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا و هو صادق فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب، و هذا ابنته فاطمة، و هذا ابناه الحسن و الحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجزية و انصرفوا.

و في العيون، بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام): في حديثه مع المأمون و العلماء في الفرق بين العترة و الأمة، و فضل العترة على الأمة، و فيه قالت العلماء: هل فسر الله الاصطفاء في كتابه؟ فقال الرضا (عليه السلام): فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا و ذكر المواضع من القرآن، و قال فيها: و أما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه، و أمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز و جل فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم - و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، قالت العلماء: عنى به نفسه، قال أبو الحسن: غلطتم إنما عنى به علي بن أبي طالب، و مما يدل على ذلك قول النبي: لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يعني علي بن أبي طالب، و عنى بالأبناء الحسن و الحسين، و عنى بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، و فضل لا يلحقهم فيه بشر، و شرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه، الحديث.



و عنه، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام): في حديث له مع الرشيد، قال الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و إنما العقب للذكر لا للأنثى، و أنتم ولد البنت و لا يكون له عقب. فقلت: أسأله بحق القرابة و القبر و من فيه إلا ما أعفاني عن هذه المسألة، فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي و أنت يا موسى يعسوبهم و إمام زمانهم، كذا أنهي إلي، و لست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، و أنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف و لا واو إلا تأويله عندكم، و احتججتم بقوله عز و جل: ما فرطنا في الكتاب من شيء، و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم. فقلت: تأذن لي في الجواب؟ فقال: هات، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس، من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من أمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات، قلت: قول الله عز و جل، فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم - و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم - ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، و لم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين فكان تأويل قوله أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب: و في سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام): قال المأمون: ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب؟ قال: آية أنفسنا قال: لو لا نساءنا قال لو لا أبناءنا.

أقول: قوله: آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: لو لا نساءنا معناه: أن كلمة نساءنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ، و قوله: لو لا أبناءنا معناه أن وجود أبناءنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.

و في تفسير العياشي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسى فأنزل الله هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله فأخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة ثم خرج و رفع كفه إلى السماء، و فرج بين أصابعه، و دعاهم إلى المباهلة، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام) و كذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: و الله لئن كان نبيا لنهلكن و إن كان غير نبي كفانا قومه فكفا و انصرفا.

أقول: و هذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة و في جميعها أن الذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة هم علي و فاطمة و الحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه، بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام)، و رواه فيه، أيضا بإسناده عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي (عليه السلام)، و رواه المفيد في كتاب الاختصاص، بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده، و رواه العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه، و رواه أيضا عن أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) و رواه أيضا فيه، في رواية أخرى عن الأحول عنه (عليه السلام)، و عن المنذر عن علي (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عامر بن سعد، و رواه الفرات في تفسيره، معنعنا عن أبي جعفر و عن أبي رافع و الشعبي و علي (عليه السلام) و شهر بن حوشب، و رواه في روضة الواعظين، و في إعلام الورى، و في الخرائج، و غيرها.

و في تفسير الثعلبي، عن مجاهد و الكلبي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع و ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب و كان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: و الله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و الله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم، و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم، و الإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله و قد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه، و علي خلفها و هو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرك على دينك و نثبت على ديننا، قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما عليهم فأبوا، قال: فإني أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة و لكن نصالحك على أن لا تغزونا، و لا تخيفنا، و لا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، و ألف في رجب، و ثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. و قال: و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستاصل الله نجران و أهله حتى الطير على رءوس الشجر، و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.

أقول: و روي القصة: قريبا منه في كتاب المغازي، عن ابن إسحاق، و رواه أيضا المالكي في الفصول المهمة، عن المفسرين قريبا منه، و رواه الحموي عن ابن جريح قريبا منه.

و قوله: ألف في صفر المراد به المحرم و هو أول السنة عند العرب و قد كان يسمى صفرا في الجاهلية فيقال صفر الأول و صفر الثاني و قد كانت العرب تنسىء في الصفر الأول ثم أقر الإسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم.

و في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب، قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبه، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ففتح الله على يده. و لما نزلت هذه الآية: قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم - و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل، دعا رسول الله عليا و فاطمة و حسنا و حسينا و قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

أقول: و رواه الترمذي في صحيحه، و رواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، و رواه أيضا أبو نعيم في الحلية، عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين،.

و في حلية الأولياء، لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و فيه، بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العاقب و الطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: أسلمنا يا محمد فقال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا، قال: حب الصليب و شرب الخمر و أكل لحم الخنزير، قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة فأرسل إليهما فأبيا أن يجيباه و أقرا له، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا قال جابر: فيهم نزلت: ندع أبناءنا و أبناءكم، قال جابر: أنفسنا و أنفسكم رسول الله و علي، و أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة.

أقول: و رواه ابن المغازلي في مناقبه، بإسناده عن الشعبي عن جابر، و رواه أيضا الحمويني في فرائد السمطين، بإسناده عنه، و رواه المالكي في الفصول المهمة، مرسلا عنه، و رواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا، و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و صححه و عن ابن مردويه و أبي نعيم في الدلائل، عن جابر.



و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد و هو الكبير، و العاقب و هو الذي يكون بعده و صاحب رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر و فيه، أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران و أهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، و إن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به و ذعر ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل. قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل؟ ليس لي في النبوة رأي، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، و جهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة، و عبد الله بن شرحبيل و جبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم و سألوه فلم نزل به و بهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد، فأنزل الله هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله: فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن و الحسين في خميلة له و فاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة، و له يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر و لا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: أنت و ذلك، فتلقى شرحبيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، قال: و ما هو؟ قال حكمك اليوم إلى الليل و ليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز، فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يلاعنهم و صالحهم على الجزية: و فيه، أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري، قال: لما نزلت هذه الآية، قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم الآية، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي و فاطمة و ابنيهما الحسن و الحسين، و دعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم أ ليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة و خنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا.

أقول: و الرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى: فمن حاجك فيه، راجعا إلى الحق في قوله: الحق من ربك، فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و تكون حينئذ هذه قصة أخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم.

و قال ابن طاووس في كتاب سعد السعود، رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي و أهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان: أنه روى خبر المباهلة من أحد و خمسين طريقا عمن سماه من الصحابة و غيرهم، و عد منهم الحسن بن علي (عليهما السلام) و عثمان بن عفان و سعد بن أبي وقاص و بكر بن سمال و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن عباس و أبا رافع مولى النبي و جابر بن عبد الله و البراء بن عازب و أنس بن مالك.

و روي ذلك في المناقب، عن عدة من الرواة و المفسرين و كذا السيوطي في الدر المنثور،.

و من عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال: إن الروايات متفقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديهما، و يحملون كلمة نساءنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط، و مصادر هذه الروايات الشيعة، و مقصدهم منها معروف، و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم.

و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كل ما يفهم من الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن يدعوا المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

و هذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه، و ثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم و مما رأتهم فيما يقولون و زلزالهم فيما يعتقدون، و كونهم على غير بينة و لا يقين، و إني لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه و إبعاده من رحمته و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته أقوى من هذا؟.

قال: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين، و في قوله: ندع أبناءنا و أبناءكم "الخ" وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبناءنا، و نحن ندعو أبناءكم، و هكذا الباقي.

و ثانيهما: أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبناءنا و نساءنا و أنفسنا، و أنتم كذلك.

و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة، و من شايعهم على القول بالتخصيص، انتهى.

أقول: و هذا الكلام - و أحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله، و اللبيب لا يرضى بإيداعه و أمثاله في الزبر العلمية - إنما أوردناه على وهنه و سقوطه ليعلم أن النزعة و العصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم و رداءة النظر فيهدم كل ما بنى عليه و يبني كل ما هدمه و لا يبالي، و لأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه.

و الكلام في مقامين أحدهما: دلالة الآية على أفضلية علي (عليه السلام)، و هو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب، و هو النظر في معاني الآيات القرآنية.

و ثانيهما: البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة، و الروايات الواردة في ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين وفد نجران، و هذا بحث تفسيري داخل في غرضنا.

و قد عرفت ما تدل عليه الآية، و أن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية، و بالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة و النظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل، و هاك تفصيلها: منها: أن قوله: و مصادر هذه الروايات الشيعة - إلى قوله: و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، بعد قوله: إن الروايات متفقة، ليت شعري أي روايات يعني بهذا القول؟ أ مراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها و عدم طرحها المحدثون، و ليست بالواحدة و الاثنتين و الثلاث أطبق على نقلها و تلقيها بالقبول أهل الحديث، و أثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم، و منهم مسلم في صحيحه و الترمذي في صحيحه و أيدها أهل التاريخ.

ثم أطبق المفسرون على إيرادها و إيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، و فيهم جمع من أهل الحديث و التاريخ كالطبري و أبي الفداء بن كثير و السيوطي و غيرهم ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات؟ أ يريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عباس و غيرهم من الصحابة؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ و الرواية كأبي صالح و الكلبي و السدي و الشعبي و غيرهم، و أنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء و أمثالهم و نظراؤهم هم الوسائط في نقل السنة، و مع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة و لا سيرة مأثورة، و كيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعليم و تشريع و القرآن ناطق بحجية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيرته، و ناطق ببقاء الدين على حيوته، و لو جاز بطلان السنة من رأس لم يبق للقرآن أثر و لا لإنزاله ثمر.



أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث و كتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنة، و بطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم و الفساد أتم.

و منها: قوله: و يحملون كلمة نساءنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نساءنا أطلقت و أريدت بها فاطمة و كذا المراد بكلمة أنفسنا علي فقط، و كأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة: قال جابر: نساءنا فاطمة و أنفسنا علي الخبر، و قد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة، و بلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها و به كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا، و أنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا و أنهما مصداق أبنائنا، و كان المراد بالأبناء و النساء و الأنفس في الآية هو الأهل فهم أهل بيت رسول الله و خاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم إنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.

و يدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات: أنفسنا و أنفسكم رسول الله و علي، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.

و منها: قوله: و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نساءنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم، و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، و هذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها و كل من تلقاها بالقبول، و يرميهم بما ذكره و قد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب، و يذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة و أساتيذ البيان، و قد أوردوها في تفسيرهم و سائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض.

فهذا صاحب الكشاف - و هو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم - يقول في ذيل تفسير الآية: و فيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام) و فيه برهان واضح على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف: أنهم أجابوا إلى ذلك، انتهى.

فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة و فرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها و تكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء و هو جمع في مورد نفس واحدة؟.

لا و عمري، و إنما التبس الأمر على هذا القائل و اشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم: أن الله عز اسمه لو قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم "الخ" و صح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران و هم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء و لا أبناء، و صح أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى مباهلتهم و ليس معه إلا علي و فاطمة و الحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران، و معنى نسائنا المرأة الواحدة، و معنى أنفسنا النفس الواحدة، و بقي نساؤكم و أبناؤكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع الوفد نساء و لا أبناء!.

و كان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء و هو جمع في التثنية و هو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين و إن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا.

فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات و رماها بالوضع، و ليس الأمر كما توهمه.

توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع و العادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة و الدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور و إناث و صغير و كبير فإنما يقول: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و الظعائن و الأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع و العادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء و أولاد و الغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم و يخاصمونه، و لو قيل: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و النساء و ابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة و تعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة.

و أما عند المتعارفين و الأصدقاء و الأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع و العادة فيقال في الدعوة للضيافة و الاحتفال: سنقرئكم بأنفسنا و نسائنا و أطفالنا، و ربما يسترسل في التعرف فيقال: سنخدمكم بالرجال و البنت و السبطين الصبيين، و نحو ذلك.

فللطبع و العادة و ظاهر الحال حكم، و لواقع الأمر و خارج العين حكم، و ربما يختلفان، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله، و يقضي به الطبع و العادة فيه ثم بدا حقيقة حاله و واقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه، و لا كاذبا في خبره، و لا لاغيا هازلا في قوله.

و الآية جارية على هذا المجرى فقوله: فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم "الخ" أريد به على ما تقدم: ادعهم إلى أن تحضر أنت و خاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى و العلم، و يحضروا بخاصتهم من أهليهم، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا و نساء و أبناء و لهم في أهليهم رجال و نساء و أبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال، و حكم الطبع و العادة فيه و فيهم، أما واقع الأمر و حقيقته فهو أنه لم يكن له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرجال و النساء و البنين إلا نفس و بنت و ابنان، و لم يكن لهم إلا رجال من غير نساء و لا أبناء، و لذلك لما أتاهم برجل و امرأة و ولدين لم يجبهوه بالتلحين و التكذيب، و لا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء و الأبناء و ليس عندنا نساء و لا أبناء، و لا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع و التمويه.

و من هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء و لا أبناء.

و منها: قوله و كل ما يفهم من الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى - إلى قوله -: و أنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه و إبعاده من رحمته؟ و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته أقوى من هذا؟.

و ملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم و نسائهم و ذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة، و ينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه؟ أ هو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم و هم يومئذ عرب ربيعة و مضر جلهم أو كلهم من اليمن و الحجاز و العراق و غيرها، و النصارى و هم أهل نجران من اليمن و نصارى الشام و سواحل البحر الأبيض و أهل الروم و الإفرنج و الإنجليز و النمسا و غيرهم.

و هؤلاء الجماهير في مشارق الأرض و مغاربها تربو نفوسهم بالرجال و النساء و الذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين و لا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها، و لازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال، و ينيط ظهور حجته، و تبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة، و كان ذلك عذرا و نعم العذر للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة، و كان ذلك أضر لدعواه منه لدعواهم.



أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين و من في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة و ما والاها، و أهل نجران و من والاهم، و هذا و إن كان أقل و أخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق و امتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة و نجران قاطبة حتى النساء و الذراري منهم في صعيد للملاعنة، و هل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال، و اعترافا بأن الحق متعذر الظهور.

أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام و الجدال من الفريقين أعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الحاضرين عنده من المؤمنين، و وفد نجران من النصارى، و يرد عليه حينئذ ما أورده بقوله: "ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور".

و منها: قوله: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين.

أقول: أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق و أما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى (عليه السلام) فليت شعري من أين له إثبات ذلك؟ و الآية غير متعرضة بلفظها فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك "الخ" إلا لشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة و الخصام مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين، و لا كلموهم بكلمة، و لا كلمهم المؤمنون بكلمة.

نعم لو دلت الآية على حصول العلم لأحد غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدل فيمن جيء به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: على الكاذبين فيما تقدم.

بل القرآن يدل على عدم عموم العلم و اليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون": يوسف - 106، فوصفهم بالشرك و كيف يجتمع الشرك مع اليقين، و يقول تعالى: "و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا": الأحزاب - 12، و يقول تعالى: "و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة، فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة و قول معروف، فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - إلى أن قال -: أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم": محمد - 23، فاليقين لا يتحقق به إلا بعض أولي البصيرة من متبعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن": آل عمران - 20، و قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني": يوسف - 108.

و منها: قوله و في قوله ندع أبناءنا و أبناءكم "الخ" وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الأول و عدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، و إنما زيد عليه قوله: ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده و أحبها إليه و هو الأبناء و النساء و الأنفس الأهل و الخاصة، و هذا إنما يتم لو كان معنى الآية: ندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ثم نبتهل، و أما لو كان المعنى ندعو نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم و تدعون أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور.

على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النصارى على أبنائه و نسائه، و سؤاله أن يسلطوه على ذراريهم و نسائهم ليتداعوا فيتم الحضور و المباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها؟.

على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط و ما يشابهه - كما تقدم منها، و أنى لنا فهمه؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط، و أن الوجه الآخر و هو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين.

و منها: قوله: و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة و من شايعهم على القول بالتخصيص، يريد بالإشكال ما أورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه، و هذا الإشكال غير مرتبط بشيء من الوجهين أصلا و إنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه و هو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم.

و من هنا يظهر سقوط قوله: إنما الإشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا: أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم بحسب المصداق رسول الله و علي (عليه السلام)، و لا إشكال في دعوة بعضهم بعضا.

فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه: أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام).

و قال تلميذه في المنار، بعد الإشارة إلى الروايات: و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: "قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم" الآية، قال: فجاء بأبي بكر و ولده، و عمر و ولده، و عثمان و ولده.

قال: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.

ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا: و في الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية و المناضلة الدينية، و هو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام.

أقول: أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها و اشتهارها و قد أعرض عن هذه الرواية المفسرون، و هي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع و هو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا.

و لا ولد يومئذ لجميعهم البتة.

و كأنه يريد بقوله: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين، أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر جميع المؤمنين و أولادهم فيكون قوله: فجاء بأبي بكر و ولده "الخ" كناية عن إحضاره عامة المؤمنين، و كأنه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى.

و أنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ و الإعراض و المتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى.

و أما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الأطفال أيضا، و في هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره.

و قد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب و سيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية.

3 سورة آل عمران - 64 - 78

قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْا إِلى كلِمَةٍ سوَاءِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللّهَ وَ لا نُشرِك بِهِ شيْئاً وَ لا يَتّخِذَ بَعْضنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنّا مُسلِمُونَ (64) يَأَهْلَ الْكتَبِ لِمَ تُحَاجّونَ فى إِبْرَهِيمَ وَ مَا أُنزِلَتِ التّوْرَاةُ وَ الانجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) هَأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجّونَ فِيمَا لَيْس لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْرَهِيمُ يهُودِيّا وَ لا نَصرَانِيّا وَ لَكِن كانَ حَنِيفاً مّسلِماً وَ مَا كانَ مِنَ الْمُشرِكِينَ (67) إِنّ أَوْلى النّاسِ بِإِبْرَهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَ هَذَا النّبىّ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ اللّهُ وَلىّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدّت طائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يُضِلّونَكمْ وَ مَا يُضِلّونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَشعُرُونَ (69) يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ أَنتُمْ تَشهَدُونَ (70) يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَلْبِسونَ الْحَقّ بِالْبَطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقّ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَ قَالَت طائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ ءَامِنُوا بِالّذِى أُنزِلَ عَلى الّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النّهَارِ وَ اكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكمْ قُلْ إِنّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجّوكمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنّ الْفَضلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَص بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ (74) * وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْك وَ مِنْهُم مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْك إِلا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائماً ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا لَيْس عَلَيْنَا فى الأُمِّيِّينَ سبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلى اللّهِ الْكَذِب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِب الْمُتّقِينَ (76) إِنّ الّذِينَ يَشترُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَيْمَنهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئك لا خَلَقَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ وَ لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنظرُ إِلَيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ لا يُزَكيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَ إِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَبِ لِتَحْسبُوهُ مِنَ الْكتَبِ وَ مَا هُوَ مِنَ الْكِتَبِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَ مَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلى اللّهِ الْكَذِب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

بيان

شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة و النصارى خاصة و ما يلحق بذلك.

فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران - 19، و بقوله أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب": آل عمران - 23، ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله: "إن الله اصطفى آدم و نوحا الخ: آل عمران - 33، و تعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء": آل عمران - 28، فهذا في المرحلة البادئة.

ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر و نظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا، و ما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله: "قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله الخ: آل عمران - 98، و قوله: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله الخ: آل عمران - 99، و تعرضت لحال النصارى و ما تدعيه في أمر عيسى (عليه السلام) بقوله: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الخ": آل عمران - 79، و تعرضت لأمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام و الاتحاد و الاتقاء من ولاية الكفار و اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة.

قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، الخطاب لعامة أهل الكتاب، و الدعوة في قوله: تعالوا إلى كلمة "الخ" بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به، و إنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان و الاعتراف و النشر و الإشاعة.

فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها و العمل بما توجبه.

و السواء في الأصل مصدر، و يستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين، و سواء بيننا و بينكم أي مساو من حيث الأخذ و العمل بما توجبه، و على هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق و هو الأخذ و العمل، و قد عرفت أن العمل إنما يتعلق بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات: نسبة الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمة بالسواء!.



و ربما قيل: إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن و التوراة و الإنجيل متفقة في الدعوة إليها، و هي كلمة التوحيد، و لو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: ألا نعبد إلا الله "الخ" من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها، و الإعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول و اتخاذ الابن و التثليث و عبادة الأحبار و القسيسين و الأساقفة و يكون محصل المعنى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم و هي التوحيد، و لازم التوحيد رفض الشركاء و عدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

و الذي تختتم به الآية من قوله: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة و هي أن لا نعبد إلا الله "الخ" لأنها مقتضى الإسلام لله الذي هو الدين عند الله، و إن كان الإسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي و هو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، تفسير للكلمة السواء، و هي التي يوجبها الإسلام لله.

و المراد بقوله: ألا نعبد إلا الله، نفي عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله: أن لازم كون إلا الله، بدلا لا استثناء كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الإله و حقيته مفروغا عنه.

و لما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة و لا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة و التثليث و نحو ذلك أردفه بقوله: و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ "الخ" فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد و لم يتجرد الضمير من الاعتقادات و الآراء المولودة من أصل الشرك لأن العبادة حينئذ إنما تكون عبادة إله له شريك و العبادة التي يعبد بها أحد الشريكين و إن خص باسمه و وجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له و حظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير.

و هذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه، و هو الذي يدل عليه قوله: ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، هو الذي يجمع غرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها و تبسطها على المجتمع الإنساني.

فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة": البقرة - 213 أن النبوة انبعاث إلهي و نهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين و أن حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنساني في سيره الحيوي، و يتبعه تعديل حيوة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة و الخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية و سعادة التكامل الفطري على وجه العدل و القسط، و كذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره و إرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع و قد قيد جميع ذلك بالعبودية و الإسلام لله سبحانه، و الخضوع لسيطرة الغيب و سلطنته.

و خلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء (عليهم السلام) أن يسير النوع الإنساني فرادى و مجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفردية و الاجتماعية على الإسلام لله، و بسط القسط و العدل، أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة، و الحرية في الإرادة الصالحة و العمل الصالح.

و لا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف و البغي بغير الحق و استخدام القوي و استعباده للضعيف و تحكمه عليه، و تعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله، و لا رب إلا الله، و لا حكم إلا لله سبحانه.



و هذا هو الذي تدل عليه الآية: "ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" الآية، و قال تعالى فيما يحكيه عن يوسف (عليه السلام): "يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم": يوسف - 40، و قال تعالى: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو": التوبة - 31، إلى غير ذلك من الآيات.

و فيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب و موسى و عيسى (عليهما السلام) مما كلموا به أممهم شيء كثير من هذا القبيل كقول نوح: "رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا": نوح - 21، و قول هود لقومه: "أ تبنون بكل ريع آية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون و إذا بطشتم بطشتم جبارين": الشعراء - 130، و قول صالح لقومه: "و لا تطيعوا أمر المسرفين": الشعراء - 151، و قول إبراهيم لأبيه و قومه: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين": الأنبياء - 54، و قوله تعالى لموسى و أخيه: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى - إلى أن قال -: فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم": طه - 47، و قول عيسى لقومه: "و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله و أطيعون": الزخرف - 63، فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي و الفساد، و هذه المظالم و السلطات بغير الحق الهادمة لأساس السعادة و المخربة لبنيان الحق و الحقيقة، و إلى ذلك يشير قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: و قد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب، "ألا و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض" و كأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم.

و الكلام أعني قوله تعالى: ألا نعبد إلا الله "الخ"، على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم و ملاكه.

أما قوله: ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا، فلأن الألوهية هي التي يأله إليه و يتوله فيه كل شيء من كل وجه، و هو أن يكون منشأ لكل كمال في الأشياء على كثرتها و ارتباطها و اتحادها في الحاجة، و فيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء، و هذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير، و مالكا إليه تدبير كل شيء، فمن الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له، و من الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته، و بعبارة أخرى، هذا العالم و جميع ما يحتوي عليه لا يصح و لا يجوز أن يخضع و يتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم و ارتباط وجودهم لا رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد.

و أما قوله تعالى: و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده و تفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان و نوعه فما أودعته فيه يد الصنع و الإيجاد من الاستحقاق و الاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة و استوائهم على مستوى واحد، و ما تفاوت فيه أحوال الأفراد و استعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هاهنا و هناك و هنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله، كما أن الازدواج و الولادة و المعالجة مثلا من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطى الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الأنثى، و الولادة يعطاها الإنسان الأنثى و العلاج يعطاه الإنسان المريض.

و بالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته و هواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله، و هو التعاون على اقتناء مزايا الحياة، و أما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية، و يرفعه عن التساوي بالاستعلاء و التسيطر و التحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية، يحكم مطلق العنان، و يطاع فيما يأمر و ينهى ففيه إبطال الفطرة و هدم بنيان الإنسانية.

و أيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.

فقد تبين أن قوله: و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضا، و الآخر كون الربوبية من خصائص الألوهية.

قوله تعالى: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون استشهاد، بأنهم و هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى و هو الإسلام، قال: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران - 19، فينقطع بذلك خصامهم و حجاجهم إذ لا حجة على الحق و أهله.

و فيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى آخر الآية، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة، و كذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان ظاهر سياق قوله: بعد آيتين: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا الآية، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.

و محاجتهم في إبراهيم (عليه السلام) بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود: إن إبراهيم (عليه السلام) الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق، و قد ظهر الحق بظهور عيسى معه، ثم تتبدل إلى اللجاج و العصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، و تدعي النصارى أنه كان نصرانيا، و من المعلوم أن اليهودية و النصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة و الإنجيل و قد نزلا جميعا بعد إبراهيم (عليه السلام) فكيف يمكن أن يكون (عليه السلام) يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى (عليه السلام)، و لا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى (عليه السلام)، فلو قيل في إبراهيم شيء لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه و هذه الآيات في مساق قوله تعالى: "أم تقولون إن إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط كانوا هودا أو نصارى، قل أ أنتم أعلم أم الله و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله": البقرة - 140.

قوله تعالى: ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم الآية، الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم و تنفي علما و تثبته لله تعالى، و لذلك ذكر المفسرون: أن المعنى: أنكم حاججتم: في إبراهيم (عليه السلام) و لكم به علم ما، كالعلم بوجوده و نبوته، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و هو كونه يهوديا أو نصرانيا و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى و خبره، و المعنى أنكم تحاجون في عيسى و لكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و هو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، هذا ما ذكروه.

و أنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية: أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم و نبوته، و أما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم، و كلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم و بين المسلمين و إلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم، و هو ظاهر.

و الذي ينبغي أن يقال - و الله العالم - أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود و النصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم، و عمدة ذلك نبوة عيسى (عليه السلام) و ما كانت تقوله النصارى في حقه أنه الله، أو ابنه أو التثليث فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته و نبوته و هم على علم منه، و كانت اليهود تحاج النصارى، و تبطل ألوهيته و نبوته و التثليث و هم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم، و أما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.



و ليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة و الإنجيل بعده و هو ظاهر، و لا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى: أ فلا تعقلون" فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه، فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة و الإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم و هو أنه لا يكون حينئذ يهوديا و لا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الإسلام لله.

لكن اليهود مع ذلك قالوا: إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا و هو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهوديا، و قالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم، و قد جهلوا في ذلك أمرا و ليس بذهول، و هو أن دين الله واحد، و هو الإسلام لله، و هو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان و استعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال، و اليهودية و النصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين، و الأنبياء (عليهم السلام) بمنزلة بناة هذا البنيان، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس و مما بنى عليه من هذا البنيان الرفيع.

و بالجملة فاليهود و النصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام و هو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية، و هو اسم شعبة من شعب كماله و مراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام الذي أسسه و هو أصل اليهودية و النصرانية دون نفسهما، و الأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.

و تسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا و لا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي و شريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة و الإنجيل فلا ينبغي أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن و ظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما حذو النعل بالنعل.

و ذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن و انتشار صيت الدين المحمدي، و الإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه و الخضوع لمقام ربوبيته فالإشكال غير متوجه من أصله.

و لعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل، و كونه حقيقة ذات مراتب مختلفة و متدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا "الخ" و يؤيده قوله: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه الآية، و قوله تعالى في ذيل الآيات: "قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل على إبراهيم و إسمعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و ما أوتي موسى و عيسى و النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه" الآية: آل عمران - 85، على ما سيجيء من البيان.

قوله تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا إلى آخر الآية، قد مر تفسيره فيما مر، و قد قيل: إن اليهود و النصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم (عليه السلام) منهم و على دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم (عليه السلام) حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء، و يدعون بالحنيفية الوثنية.

و لما وصف الله سبحانه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: و لكن كان حنيفا، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله: مسلما و ما كان من المشركين، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى و هو الإسلام و ما كان من المشركين كعرب الجاهلية.

قوله تعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا الآية في موضع التعليل للكلام السابق و بيان للحق في المقام و المعنى - و الله العالم - أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه و بين من بعده من المنتحلين و غيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الأولوية به و الأقربية منه، و الأقرب من النبي الذي له شرع و كتاب هم الذين يشاركونه في اتباع الحق، و التلبس بالدين الذي جاء به، و الأولى بهذا المعنى بإبراهيم (عليه السلام) هذا النبي و الذين آمنوا لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم و كذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله و يلبس الحق بالباطل.

و في قوله: للذين اتبعوه تعريض لأهل الكتاب من اليهود و النصارى بنحو الكناية أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.



و في قوله: و هذا النبي و الذين آمنوا إفراد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي و صونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك - مثل قوله تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده": الأنعام - 90 حيث لم يقل: فبهم اقتده.

و قد تمم التعليل و البيان بقوله: و الله ولي المؤمنين، فإن ولاية إبراهيم ولي الله من ولاية الله، و الله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل.

قوله تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون، الطائفة الجماعة من الناس، و كان الأصل فيه أن الناس و خاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا و قبائل بدويين يطوفون صيفا و شتاء بماشيتهم في طلب الماء و الكلإ، و كانوا يطوفون و هم جماعة تحذرا من الغيلة و الغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة، ثم اقتصر على ذكر الوصف الطائفة للدلالة على الجماعة.

و أما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق و اتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس و أخلاقها رذيلة نفسانية - و بئست الرذيلة - و إثم من آثامها و معاصيها و بغيها بغير حق، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين و هم على الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون.

و كذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: "من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد": حم السجدة - 46، و أما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي و شامة إرادته بإذن من الله، قال تعالى: "من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون": الروم - 44، و قال تعالى: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير": الشورى - 31، و قد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى: "حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة": البقرة - 217، في الجزء الثاني من الكتاب.

و هذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية و الملك، و به يوجه ما يفيده قوله تعالى: و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون، من الحصر.

و أما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا و لذلك أغمضنا عن نقله.

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و أنتم تشهدون، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى، و أن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحا كالوثنية و الدهرية، و الكفر بآيات الله إنكار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان و وضوح الحق، و أهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا، و إنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم و على غيرهم كنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كون عيسى عبدا لله و رسولا منه، و أن إبراهيم ليس بيهودي و لا نصراني، و أن يد الله مبسوطة، و أن الله غني، إلى غير ذلك، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله، و لا ينافيه قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب": التوبة - 29، حيث نفى الإيمان عنهم صريحا، و ليس إلا الكفر و ذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام و عدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن لم يشعروا به، و ليس بالكفر الصريح.

و في قوله تعالى: و أنتم تشهدون - و الشهادة هو الحضور و العلم عن حس - دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة و الإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات و العلائم المذكورة فيهما عليه.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات و لا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة و الوجه في فساده ظاهر.

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى آخر الآية، اللبس بفتح اللام إلقاء الشبهة و التمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل.

و في قوله: و أنتم تعلمون دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس و الكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

و هاتان الآيتان أعني قوله يا أهل الكتاب لم تكفرون - إلى قوله: و أنتم تعلمون - تتمة لقوله تعالى: ودت طائفة الآية، و على هذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر و النسل و الصفة، و رضاء البعض بفعال البعض و هو كثير الورود في القرآن.

قوله تعالى: و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل إلى آخر الآية، المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشيء ما يبدو و يظهر به لغيره و هو في النهار أوله، و سياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب و آخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول.

و على هذا فقوله: بالذي أنزل على الذين آمنوا أريد به شيء خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب، و قوله: وجه النهار منصوب على الظرفية و متعلق بقوله: أنزل، لا بقوله: آمنوا صيغة الأمر لأنه أقرب، و قوله: و اكفروا آخره في معنى و اكفروا بما أنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى: "بل مكر الليل و النهار": سبأ - 33.

و بذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت: أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلى رسول الله صلاة الصبح إلى بيت المقدس و هو قبلة اليهود، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود: آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يريدون استقبال بيت المقدس، و اكفروا آخره يريدون استقبال الكعبة.

و يؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله: و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالإيمان به فتفشوا عنده شيئا من أسراركم و البشارات التي عندكم و كان من علائم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يحول القبلة إلى الكعبة.

و ذكر بعضهم أن قوله: وجه النهار متعلق بقوله: آمنوا بصيغة الأمر و المراد به أول النهار، و قوله: آخره ظرف بتقدير في، و متعلق بقوله و اكفروا، و المراد بقولهم: آمنوا بالذي أنزل "الخ" أن يظهر عدة منهم الإيمان بالقرآن و يلحقوا بجماعة المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم إنما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من أمارات الصدق و الحق من ظاهر الدعوة الإسلامية، و إنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلان و عدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة و علائم الحقانية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم، و يهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم و تبطل أحدوثتهم.

و هذا المعنى في نفسه غير بعيد و خاصة من اليهود الذين لم يألوا جهدا في الكرة على الإسلام لإطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه، و سيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله العزيز.

و قال بعضهم: إن المراد آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار و اكفروا به آخره لعلهم يرجعون و قال آخرون: المعنى أظهروا الإيمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم، و هذان الوجهان لا شاهد عليهما.



و كيف كان المراد، لا إجمال في الآية.

قوله تعالى: و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم "الخ"، الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم: آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا، و كذا قوله تعالى: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، و يكون قوله: "قل إن الهدى هدى الله" جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم: آمنوا بما أنزل إلى قوله دينكم، على ما يفيده تغيير السياق، و كذا قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله جوابه تعالى عن قولهم: أن يؤتى أحد إلى آخره، هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام و اتساق المعاني في الآيتين أولا، و ما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال و الكيد ثانيا.

و المعنى - و الله أعلم - أن طائفة من أهل الكتاب - و هم اليهود - قالت أي قال بعضهم لبعض: صدقوا النبي و المؤمنين في صلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس و لا تصدقوهم في صلاتهم إلى الكعبة آخر النهار، و لا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة و إفشائكم ما تعلمونه من كونها من أمارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم و يبطل تقدمكم في أمر القبلة، و محذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القلبة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا.

فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار و الكفر في آخره و أمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى الله دون هداكم، فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا و إن شئتم فاكفروا و إن شئتم فأفشوا و إن شئتم فاكتموا.

و أجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم و تمنعوا منه غيركم، و أما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه: "و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أ تحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أ فلا تعقلون أ و لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون": البقرة - 77، فقوله: أ و لا يعلمون، إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر و العلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح، و ليس جوابا لمكان الواو في قوله: أ و لا يعلمون.

و على ما مر من المعنى فقوله تعالى: و لا تؤمنوا معناه، لا تثقوا و لا تصدقوا لهم الوثاقة و حفظ السر على حد قوله تعالى: "و يؤمن للمؤمنين": البراءة - 61، و المراد بقوله لمن تبع، اليهود.

و المراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام - إلى أن قال: و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم - إلى أن قال: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون": البقرة - 146.

و في معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم: إن قوله تعالى: و لا تؤمنوا إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود، و خطاب الجمع في قوله: و لا تؤمنوا و قوله: ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم جميعا للمؤمنين، و خطاب الإفراد في قوله: قل، في الموضعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله: أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، لليهود في الكلام عتاب و تقريع.



و قول آخرين إن قوله: و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من كلام اليهود، و قوله: قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد "الخ" كلام لله تعالى جوابا عما قالته اليهود، و كذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك.

و هذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه و لذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.

قوله تعالى: قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم، الفضل هو الزائد عن الاقتصاد، و يستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم، قال الراغب: و كل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله: و اسألوا الله من فضله - ذلك فضل الله - ذو الفضل العظيم، و على هذا قوله: قل بفضل الله - و لو لا فضل الله انتهى.

و على هذا فقوله: إن الفضل بيد الله، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى البيان القياسي، و التقدير: قل إن هذا الإنزال و الإيتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان و الكفر، و الإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى بل هو من الفضل، و الفضل بيد الله الذي له الملك و له الحكم فله أن يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم.

ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم و فعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين و القبلة، و حرمان غيرهم إما أن يكون لأن الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية، و يحبس فضله عن جانب، و يصرفه إلى آخر، و ليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

و إما أن يكون لأن الفضل قليل غير واف و المفضل عليهم كثيرون فيكون إيتاؤه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه، و ليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل و المقدرة.

و إما أن يكون لأن الفضل و إن كان واسعا و بيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه و ستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله، و ليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل.

قوله تعالى: يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم، فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و كان واسعا عليما أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، و ليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله و إيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضا نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء.

و قد ختم الكلام بقوله: و الله ذو الفضل العظيم و هو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء، و أن يكون واسعا في فضله، و أن يكون عليما بحال عباده و ما هو اللائق بحالهم من الفضل، و أن يكون له أن يختص بفضله من يشاء.

و في تبديل الفضل بالرحمة في قوله: يختص برحمته من يشاء، دلالة على أن الفضل و هو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة، قال تعالى: "و رحمتي وسعت كل شيء": الأعراف - 156، و قال: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": النور - 21، و قال تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق": إسراء - 100.

قوله تعالى: و من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك - إلى قوله: سبيل - إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات و العهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التضاد و أن هذا و إن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة أخرى اعتقادية و هي ما يشتمل عليه قولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، فإنهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب، و غيرهم بالأميين فقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل، و قد أسندوا الكلمة إلى الدين، و الدليل عليه قوله تعالى: و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون بلى "الخ".



فقد كانوا يزعمون - كما أنهم اليوم على زعمهم - أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة و كتابا و ملكا فلهم السيادة و التقدم على غيرهم، و استنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا و أكل مال الغير: و هضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله، و المحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته، و بالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب، و أما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا و يفعلوا في من دونهم ما أرادوا، و هذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان.

و هذا و إن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة و غيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم، و تولد من ذلك أن هذه الكرامة و السؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف و عنصر السؤدد و المنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره، و هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض و أماته روح الإنسانية و آثارها الحاكمة في الجامعة البشرية.

نعم أصل هذه الكلمة - و هو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد و الجوامع - مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق و هدم المجتمع، و الذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له و لا ذمة، فلا حق له من الحيوة و هو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالا عند المجتمع الإنساني.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى: و من أهل الكتاب، كان الظاهر أن يقال: و منهم، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير و الوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت: آمنوا بالذي أنزل "الخ" و لذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية: و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية.

و هناك وجه آخر و هو أن ذكر الوصف - و هو كونهم من أهل الكتاب مشعر بنوع من التعليل، و ذلك أن صدور هذا القول و الفعل منهم - أعني قولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، و أكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا أميين لأخبر عندهم من النبوة و الوحي لكنهم أهل الكتاب و عندهم الكتاب فيه حكم الله، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك، و لا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه.

و هم أهل الكتاب منهم أغرب و أبعد، و التوبيخ و التقبيح عليهم أوجه و ألزم.

و القنطار و الدينار معروفان و المقابلة بينهما - على ما فيها من المحسنات البديعية - و المقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير و القليل، و المراد أن منهم من لا يخون الأمانة و إن كثرت و ثقلت قيمتها، و منهم من يخونها و إن قلت و خفت.

و كذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله: إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد، و الكلام في معنى قولنا: إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه.

و ما في قوله: إلا ما دمت عليه قائما، مصدرية على ما قيل، و التقدير إلا أن تدوم قائما عليه، و ذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح و الاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك و ربما قيل: إن ما ظرفية، و ليس بشيء.



و قوله: ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة و إن كانت خطيرة مهمة، و بعضهم لا يؤديها و إن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم، ليس علينا في الأميين سبيل فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات و الاتقاء عن تضييع حقوق الناس، و الاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب و لا رضي بمثل هذه الأفعال منهم.

و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله: و منهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، و يكون ذكر الطائفة الأولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام، و التحفظ على النصفة، و يجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله: و يقولون و في قوله: و هم يعلمون راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله: من إن تأمنه بدينار، بحسب المعنى و كذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله: علينا، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض، و يختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة، و عليك بالتدبر فيها.

قوله تعالى: و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون إبطال لدعواهم أنه ليس علينا في الأميين سبيل، و دليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي و التشريع الديني كما مر.

قوله تعالى: بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين، رد لكلامهم و إثبات لما نفوه بقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، و إيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر و النقص، و التوفية البذل و الإعطاء وافيا، و الاستيفاء الأخذ و التناول وافيا.

و المراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به و يعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية: إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا، أو مطلق العهد الذي منه عهد الله تعالى.

و قوله: فإن الله يحب المتقين من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا للإيجاز، و التقدير فإن الله يحبه لأنه متق و الله يحب المتقين، و المراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل.

فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله و ميثاقه و التقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة و هي المحبة و الولاية الإلهية التي لا تعدو عبادة المتقين، و أثرها النصرة الإلهية، و الحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا و تصلح بال أهلها، و ترفع درجات الآخرة.

فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح و طالح و يطلقهم و يخلي بينهم و بين ما يشاءون و ما يعملون فيقولوا يوما: ليس علينا في الأميين سبيل، و يوما نحن أولياء لله من دون الناس، و يوما: نحن أبناء الله و أحباؤه فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض، و إهلاك الحرث و النسل.

قوله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة، و المعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده و اتقى لأن غيرهم - و هم الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا - لا كرامة لهم.

و لما كان نقض عهد الله و ترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا و إيثار شهوات الأولى على الأخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد و التقوى، و تبديل العهد به، و لذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعا يشترى بالمتاع، و سمي متاع الدنيا و هو قليل بالثمن القليل و الاشتراء هو البيع فقيل: يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا، أي يبدلون العهد و الأيمان من متاع الدنيا.



قوله تعالى: أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله إلى آخر الآية، الخلاق النصيب، و التزكية هي الإنماء نموا صالحا، و لما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلا للوصف المأخوذ في الطائفة الأخرى المذكورة في قوله: من أوفى بعهده و اتقى، ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم أمورا سلبية أفاد ذلك:.

أولا: أن الإتيان في الإشارة بلفظ أولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم.

و ثانيا: أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة، و التكليم و النظر يوم القيامة، و التزكية و المغفرة، و هي رفع أليم العذاب.

و الخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله و أيمانهم أمور ثلاثة: أحدها: أنهم لا نصيب لهم في الآخرة، و المراد بالآخرة هي الدار الآخرة من قيام الوصف مقام الموصوف و يعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا و هي الحياة الدنيا قبل الموت.

و نفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه، و من هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا، و إنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل، و قد وصف به متاع الدنيا في قوله - عز من قائل -: "قل متاع الدنيا قليل": النساء - 77، على أن متاع الدنيا هو الدنيا.

و ثانيها: أن الله لا يكلمهم و لا ينظر إليهم يوم القيامة، و قد حوذي به المحبة - الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر و التكليم عند الحضور و الوصال، و إذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم و لا ينظر إليهم يوم القيامة و هو يوم الإحضار و الحضور، و التدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة و الضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل: لا نشرفهم لا كثيرا و لا قليلا.

و ثالثها: أن الله لا يزكيهم و لهم عذاب أليم، و إطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية و العذاب في الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب، اللي هو فتل الحبل، و لي الرأس و اللسان إمالتهما.

قال تعالى: "لووا رءوسهم: المنافقون - 5، و قال تعالى: "ليا بألسنتهم": النساء - 46، و الظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرءون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرءون بها الكتاب تلبيسا على الناس ليحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب.

و تكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم و نسبوه إلى الله سبحانه، و بالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي، و بالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس و للإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات، و ذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية.

و نظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله: و يقولون هو من عند الله و ما هو من عند الله، فالمعنى و ما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى: "و الحق أقول": ص - 84.

و أما قوله: و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله: و ما هو من الكتاب ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله: أولا بقوله: و ما هو من عند الله، و ثانيا بقوله: و يقولون على الله الكذب، و زاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم و ديدنهم، و ثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية أخرج يعني ابن جرير عن السدي، قال: ثم دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني الوفد من نصارى نجران فقال: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية.

أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضا عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير و ظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم، و قد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن صدر السورة إلى نيف و ثمانين آية نزلت في نصارى نجران، و هذه الآية منها لوقوعها قبل تمام العدد.

و ورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى قبلوا الجزية، و ذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران.

و في صحيح البخاري، بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل: يذكر فيه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هرقل عظيم الروم، قال أبو سفيان ثم دعا يعني هرقل بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، و أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله إلى قوله: اشهدوا بأنا مسلمون الحديث.

أقول: و رواه أيضا مسلم في صحيحه، و رواه السيوطي في الدر المنثور، عن النسائي و عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

و قد قيل إن كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مقوقس عظيم القبط أيضا كان مشتملا على قوله تعالى: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، و هناك نسخة منسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هرقل و قد استنسخ منها أخيرا بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين.

و كيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كتب الكتب و أرسل الرسل إلى الملوك من قيصر و كسرى و النجاشي سنة ست من الهجرة، و لازمه نزول الآية في سنة ست أو قبلها و قد ذكر المؤرخون كالطبري و ابن الأثير و المقريزي أن نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله - (صلى الله عليه وآله وسلم) - سنة عشر من الهجرة، و ذكر آخرون كأبي الفداء في البداية و النهاية و نظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة تسع من الهجرة، و لازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر.

و ربما قيل: إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية، و ربما قيل: إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر.

و الذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقا كما مرت الإشارة إليه في أول السورة: أن الآية نزلت قبل سنة تسع، و أن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو قبلها، و من البعيد أن يكاتب (صلى الله عليه وآله وسلم) عظماء الروم و القبط و فارس و يغمض عن نجران مع قرب الدار.

و في الرواية نكتة أخرى و هي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم، و منه يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل،: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد و إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، و إن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام، الحديث.



و ذلك أن سورة النمل من السور المكية و مضامين آياتها كالنص في أنها نزلت قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على أمور أخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية و الإيذان بالحرب و غير ذلك، و الله أعلم.

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن كتاب رسول الله إلى الكفار: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم الآية و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجون الآية أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران و أحبار يهود عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، و قالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله فيهم: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم - و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده إلى قوله و الله ولي المؤمنين فقال أبو رافع القرظي أ تريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم فقال رجل من أهل نجران أ ذلك تريد يا محمد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني و لا أمرني فأنزل الله في ذلك من قولهما ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة - ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون ثم ذكر ما أخذ عليهم و على آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم و إقرارهم به على أنفسهم فقال و إذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله من الشاهدين.

أقول الآيات أعني قوله ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة إلى آخر الآيات أوفق سياقا و أسهل انطباقا على عيسى بن مريم (عليهما السلام) منه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيجيء في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استنباط و تطبيق من ابن عباس على أن المعهود من دأب القرآن التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال و الجواب أو الحكاية و الرد.

و في تفسير الخازن، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال لما هاجر جعفر بن أبي طالب و أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أرض الحبشة و استقرت بهم الدار و هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و كان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة و قالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثارا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا و اهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم و لينتدب إليه رجلان من ذوي رأيكم.

فبعثوا عمرو بن العاص و عمارة بن أبي معيط معهم الهدايا الأدم و غيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له و سلما عليه و قالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون و لأصحابك محبون و إنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله و لم يتابعه أحد منا إلا السفهاء و إنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر و ألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع و العطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكم قال و آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك و لا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك و سنتك.

قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله تعالى، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله و ذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال: أ لا تسمع كيف يرطنون بحزب الله و ما أجابهم به الملك؟ فأساءهما ذلك.

ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: أ لا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي و تحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك و ملكك، و إنما كانت تلك التحية لنا و نحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا، فأمرنا بالتحية التي رضيها الله و هي السلام تحية أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق و أنه في التوراة و الإنجيل، قال: أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال: إنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب، و لا يصلح عندك كثرة الكلام و لا الظلم، و إنما أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما و لينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر: تكلم.



فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين، أ عبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم.

فقال النجاشي: أ عبيد هم أم أحرار؟ فقال بل أحرار كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية فقال جعفر: سلهما: هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا و لا قطرة، قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها، قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو لا و لا قيراط، فقال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال: كنا و إياهم على دين واحد، على دين آبائنا فتركوا ذلك، و اتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه و الدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله و نعبد الحجارة، و أما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.

ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب و اجتمع إليه كل قسيس و راهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال: من آمن به فقد آمن بي و من كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل؟ و ما يأمركم به؟ و ما ينهاكم عنه؟ فقال يقرأ علينا كتاب الله، و يأمرنا بالمعروف و ينهانا عن المنكر، و يأمرنا بحسن الجوار و صلة الرحم و بر اليتيم، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال له: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت و الروم ففاضت عينا النجاشي و أصحابه من الدمع، و قالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى و أمه فقال النجاشي: فما تقولون في عيسى و أمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، و قال: و الله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر و أصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول: آمنون من سبكم و آذاكم غرم.

ثم قال: أبشروا و لا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو يا نجاشي و من حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط و صاحبهم الذي جاءوا من عنده و من اتبعهم فأنكر ذلك المشركون و ادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه و قال: إنما هديتكم إلي رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني و لم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار، و أنزل الله عز و جل في ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصومتهم في إبراهيم و هو في المدينة: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين.

أقول: و هذه القصة مروية من طرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و إنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين، و ليست من سبب النزول في شيء.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا، قال: قال أمير المؤمنين لا يهوديا يصلي إلى المغرب، و لا نصرانيا يصلي إلى المشرق لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة و قد حولت القبلة إليها في المدينة و الكعبة في نقطة جنوبها تقريبا، و تأبى اليهود و النصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى جهتي المغرب التي بها بيت المقدس، و المشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافا عن حاق الوسط، و قد أيد هذه العناية لفظ الآية و كذلك جعلناكم أمة وسطا الآية، و بالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان.

<<        الفهرس        >>