جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


بحث علمي في فصول ثلاثة

1 - النكاح من مقاصد الطبيعة:

أصل التواصل بين الرجل و المرأة مما تبينه الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.

و من هنا يظهر أن الحرية و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم و كذا الزنا و خاصة زنا المحصنة منه.

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع و التربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة و قد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه.



نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الأم إياه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الروية مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعم، فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية و خواص روحية تستعقب أفعالا و أعمالا فإذا حول بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا و تغيرا في صفاته و خواصه الروحية و انحرف بذلك جميع الخواص و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي و الغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدد الإنسانية بالسقوط و الانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكن الخرق و القسوة و الشدة و الشره من نفوس الجوامع البشرية و أعظم أسبابه و علله الحرية و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية و تربية الأولاد فإن سنة الاجتماع المنزلي و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفة و الحياة و التواضع من الإنسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أما تدارك هذه النواقص بالفكر و الروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها، و لو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شئون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدة من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعا و شمولا.

نعم ربما قال القائل من هؤلاء: إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الأساطير و التوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذل السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليومية، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل إن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقر الناس في مستقر أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح و حرم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوية المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

2 - استيلاء الذكور على الإناث:

ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الأنثى، و لذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللذة، و أما نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

و هذا المعنى أعني لزوم الشدة و البأس لقبيل الذكور و اللين و الانفعال لقبيل الإناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كل لين سهل الانفعال بالأنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الأمم المتنوعة في الجملة و إن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض: "النساء: 34" فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

3 - تعدد الزوجات:



و أمر الوحدة و التعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث و تختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكان القرى و الجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس و السؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة.

و ما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم، و ما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولا و بالذات كما أن شيوع الادعاء و التبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض.

على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم و هو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات - هذا.

و الإسلام شرع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف: "البقرة: 228".

و قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات: أولا: أنه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن و يخيب آمالهن و يسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساءوا إليهن فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت.

و ثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم و الأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثا: أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوة في المجتمع.

و رابعا: أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه و هذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الإسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهية و الغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كما و كيفا باختلاف التربية و العادة، كما أن كثيرا من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين و بالعكس، و كل أمة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها.

نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد.

و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال و النساء في الأمم المتمدنة! اليوم.

أ ليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيب و من ذات بعل أو غيرها، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية، و أما النساء و خاصة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب و أفظع.

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرجن و لا تنكسر قلوبهن و لا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ و كيف لا تتألم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الأقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم و نزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت و تثاقلهن في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.



على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي و سائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء و رغبة منهن و هن من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهن الرجال من مجتمعات أخرى، و لا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا و إنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات، و لا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شيء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها و على بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألم فيما كان إنما منشؤه حالة عرضية التوحد بالبعل لا غريزة طبيعية.

و الجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختل من وجوه.

منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل و شرائط أخرى لهذا الأمر فأولا الرشد الفكري و التهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيئون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين و هو الذي اعتبره الإسلام للنكاح.

و من الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الأولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الأولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانيا أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال و لازمه أن تهيىء سنة الوفاة و الموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال.

و ثالثا: أن خاصة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين و يمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، و ربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي و هي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد و هو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة و هو أربعون تقريبا، و إذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة و الخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد و المنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل و الأسباب الجارية.

و رابعا: أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب و المقاتل و غيرهما تحل بالرجال و تفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل و النساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن و بطلانها.

و مما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة و سألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الإسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة و يرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك و امتنعت الكنيسة من قبوله و رضيت بفشو الزنا و شيوعه و فساد النسل به.

و منها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال و النساء في العدد مع الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك و لا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم و الإسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض و الوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، و من أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا و لا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين و كذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء و إعوازهن على الرجال.

بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الأزواج و الاجتماع المنزلي و اكتفين بالزنا.

و منها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم و لم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف و في القسم و الفراش و فرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن و لا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا و من يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة و غير ذلك إلا لبعض أولي الطول و السعة من الناس لا لجميعهم.

على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها و الإغماض عن التكثير.

و الجواب عن الثالث: أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية و مقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر و العفاف و الحياء و عدم الخرق تنمي المرأة و شهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد و أكثر و استدل عليه بتولعها المفرط بالزينة و الجمال طبعا و هذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل و المرأتين و الثلاث.

و من جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع و مشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل و لا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور و الفحشاء و المرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة و المصاحبة كأيام العادة و بعض أيام الحمل و الوضع و الرضاع و نحو ذلك و الإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء و الخواطر السوء كحال التعزب و نحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

و من جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الإسلام تكثر نسل المسلمين و عمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك و الفساد.

فهذه الجهات و أمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة و ترغيب الناس إلى الانكباب عليها و لو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء و الترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.



على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص، و لا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع و الحبس، فالمسلم و إن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن و طيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه، و هذا نوع تسكين لطيش النفس، و إحصان لها عن الميل إلى الفحشاء و هتك الأعراض المحرمة.

و قد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا و الفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات.

و الجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق.

المرأة في الإسلام: أنه لم يحترم النساء و لم يراع حقوقهن كل المراعاة أي سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها و حديثها بمثل ما احترمهن الإسلام و سنزيد في ذلك وضوحا.

و أما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي و إماتة حقوقهن و الاستخفاف بموقفهن في الحياة و إنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها.

و قد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي و ما في منعه من المفاسد الاجتماعية و المحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال و النساء من أراده فليراجع إلى مظانه.

و أقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب و زوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة و لا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر، و عندئذ تنقلب جميع العواطف و الإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب و لين الجانب و الرقة و الرأفة و الشفقة و النصح و حفظ الغيب و الوفاء و المودة و الرحمة و الإخلاص بالنسبة إلى الزوج و أولاده من غير الزوجة و بيته و جميع ما يتعلق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي و تألم الروح و الجسم من مشاق الأعمال و الجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس و العرض و المال و الجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، و يتكدر فيه صفو العيش و ترتحل لذة الحياة، و يحل محلها الضرب و الشتم و السب و اللعن و السعاية و النميمة و الرقابة و المكر و المكيدة، و اختلاف الأولاد و تشاجرهم، و ربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج، و قتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم، و تتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء و هلاك النسل و فساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء و فساد الأخلاق و القسوة و الظلم و البغي و الفحشاء و انسلاب الأمن و الوثوق و خاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات و الطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات و الحرص و التولع على أخذ هذه و ترك تلك، و رفع واحدة و وضع أخرى، و ليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع و إشقاؤه و هو قبيل النساء، و بذلك يفسد النصف الآخر.

هذا محصل ما ذكروه، و هو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام و تعاليمه، و متى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ و قد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين و نقض قوانينه و إبطال حدوده هي طبقة الحكام و الولاة على المسلمين، و الناس على دين ملوكهم، و لو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك و الفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام و ولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك و السلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا، و بالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم و نحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، و الذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء و الأولاد و إن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم، و ذلك أن سيرة هؤلاء الرجال و تفديتهم سعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و صفاء جو مجتمعهم في سبيل شرهم و جهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد و المنبت لكل هذه الشقوة المبيدة.

و أما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب و الفرض على كل رجل، و إنما نظر في طبيعة الأفراد و ما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة، و اعتبر الصلاح القاطع في ذلك كما مر تفصيله ثم استقصى مفاسد التكثير و محاذيره و أحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني، و قيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة و هو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن و يعدل فمن وثق من نفسه بذلك و وفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات، و أما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و لا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم و فروجهم، و لا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل و لذته فلا شأن للإسلام فيهم، و لا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك و الحال هذه.

على أن في أصل الإشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الإسلام، و هما جهتا التشريع و الولاية.

توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح و الفساد في القوانين الموضوعة و السنن الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار و النتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع و قبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة و عدم قبولها، و ما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن و عادات و عوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه و أنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره؟ و ما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده و يستدعيه المجتمع بحاضر إرادته و ظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم و مستدعياتهم فهو القانون الصالح و ما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

و لذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم و معادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب و الخيانة و الخنا و هضم الحقوق و فشو البغي و فساد البيوت و اختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس و تأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، و يستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية و منه ينشأ هذا البغي و الفساد و فيهم أبغى البغي و أخنى الخنا، و كل الصيد في جوف الفراء و لو كان دينا واقعيا و كانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس و سعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، و لم ينقلب وبالا عليهم!.



و لكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، و بين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، و الإسلام مجموع معارف أصلية و أخلاقية و قوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع و انحرافها في التأثير كالأدوية و المعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها و إلى محل معد مهيأ لورودها و عملها، و لو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، و ربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها.

هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس و محق الذمائم و الرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في البلاد الأوربية؟ و ما بالنا كلما أمعنا في السير و الكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى و لا يشك شاك أن الذمائم و الرذائل اليوم أشد تصلبا و تعرقا فينا و نحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن و نحن همجيون، و ليس لنا حظ من العدل الاجتماعي و حياة الحقوق البشرية و المعارف العامة العالية و كل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها و ألفاظا نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها، و لا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها و ينجع و لا يجري في الإسلام و لا ينجع؟.

و هب أن الإسلام لوهن أساسها و العياذ بالله عجز عن التمكن في قلوب الناس و النفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته و لم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديمقراطية و كانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا و انمحت آثارها و خلفتها السنة الشيوعية؟ و ما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين و لتوني و إستوني و ليتواني و رومانيا و المجر و يوغوسلاوي و غيرها، و هي تهدد سائر الممالك و قد نفذت فيها نفوذا؟.

و ما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة، و انبسطت و حكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني و لم يزل دعاتها و أولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد و لا استثمار الديمقراطية و أن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة و الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد ستالين الذي كان يتولى إمامتها و قيادتها منذ ثلاثين سنة، و أوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم و استبداد و استعباد في صورة الشيوعية، و لا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة و إجرائها و سائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شيء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة و حكومة فردية تحيي ألوفا و تميت ألوفا و تسعد أقواما و تشقي آخرين.

و الله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء و يقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.

و السنن و الآداب و الرسوم الدائرة في المجتمعات أعم من الصحيحة و الفاسدة ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها و ضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.

فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنها سنة اجتماعية و بين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها و لا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية و جهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها و لا أرض تقلها و على أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس و عدمه و كذا بقاؤها بين الناس و ارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها و فسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل و الأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار و العهود إلا و هي تنتج يوما و تعقم آخر و تقيم بين الناس برهة من الزمان و ترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء.

و بالجملة القوانين الإسلامية و الأحكام التي فيها، تخالف بحسب المبنى و المشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف و التبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها و كل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها و يتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد و الوالي نفسه المتفكرة المريدة.

فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات و غير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته، و إنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.

بحث علمي آخر ملحق به في تعدد أزواج النبي

و مما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة: و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة.

و المسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن، و البحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها و لذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له و إنما نشير هاهنا إلى ذلك إشارة إجمالية.

فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تزوج - أول ما تزوج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصرا عليها نيفا و عشرين سنة و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوج بعدها من النساء منهن البكر و منهن الثيب و منهن الشابة و منهن العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء و الولوع بهن و الوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك.

على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن و الخلاء بهن و الصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السن و طراوة الخلقة، و هذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه بنى بالثيب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة و هي مسنة، و بنى بزينب بنت جحش و سنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و أم حبيبة و هكذا.



و قد خير (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كن يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيين و التجمل إن كن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا و إن كنتن تردن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما: - الأحزاب 29، و هذا المعنى أيضا - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن.

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره و آخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره و الشبق و التلهي.

فقد تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة و ازديادا للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقيا من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملا لكسر السنن المنحطة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني و كانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل فيها الآيات.

و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر.

و تزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد و كانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.

و تزوج بأم سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي و أخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و تزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوج بها فوقاها بذلك من الذل و وصل سببه ببني إسرائيل.

و تزوج بجويرية و اسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراري، فتزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جما غفيرا و أثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب.

و تزوج بميمونة و اسمها برة بنت الحارث الهلالية و هي التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تزوج بها و قد نزل فيها القرآن.

و تزوج بأم حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيد الله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحصنها.

و تزوج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر.

فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعه (صلى الله عليه وآله وسلم) في النساء، و إحياء ما كانت قرون الجاهلية و أعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة، و أخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو توصيتهن لجامعة الرجال قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم" الحديث.

و كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهن و رعاية جانبهن مما يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به.

4 سورة النساء - 7 - 10

لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمّا تَرَك الْوَلِدَانِ وَ الأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِّمّا تَرَك الْوَلِدَانِ وَ الأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً (7) وَ إِذَا حَضرَ الْقِسمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً (8) وَ لْيَخْش الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيّةً ضِعَفاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سدِيداً (9) إِنّ الّذِينَ يَأْكلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظلْماً إِنّمَا يَأْكلُونَ فى بُطونِهِمْ نَاراً وَ سيَصلَوْنَ سعِيراً (10)

بيان

شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات، و قد قدم بيان جملي لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الأرحام و القرابات كتحريم صغار الورثة و النساء، و زيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما و قد شدد الله في النهي عنه.

و قد ذكر مع ذلك مسألة رزق أولي القربى و اليتامى و المساكين إذا حضروا قسمة التركة و لم يكونوا ممن يرث تطفلا.

قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون" الآية، النصيب هو الحظ و السهم، و أصله من النصب بمعنى الإقامة لأن كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره، و التركة ما بقي من مال الميت بعده كأنه يتركه و يرتحل فاستعماله الأصلي استعمال استعاري ثم ابتذل، و الأقربون هم القرابة الأدنون، و اختيار هذا اللفظ على مثل الأقرباء و أولي القربى و نحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الإرث أقربية الميت من الوارث على ما سيجيء البحث عنه في قوله تعالى: آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا: "النساء: 11"، و الفرض قطع الشيء الصلب و إفراز بعضه من بعض، و لذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه و امتثال الأمر به مقطوعا معينا من غير تردد، و النصيب المفروض هو المقطوع المعين.

و في الآية إعطاء للحكم الكلي و تشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين، فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل و قد كانت العادات و الرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس و تحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.

و قد مهد له في الإسلام أولا بتحكيم الحب في الله و الإيثار الديني بين المؤمنين فعقد الإخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الأخوين، و انتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث، و انقلع المؤمنون من الأنفة و العصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين، و قام صلبه شرع التوارث بين أولي الأرحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية.

و بهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح و رفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله: للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون، فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا، كما أن موضوعه أعني الرجال عام غير مخصص بشيء متصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار.

ثم قال: و للنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و هو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد، و قد أظهر في قوله مما ترك الوالدان و الأقربون مع أن المقام مقام الإضمار إيفاء لحق التصريح و التنصيص، ثم قال: مما قل منه أو كثر زيادة في التوضيح و أن لا مجال للمسامحة في شيء منه لقلة و حقارة، ثم قال: نصيبا "إلخ"، و هو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدري، و هو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد و زيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط و الإبهام.

و قد استدل بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيره، و على بطلان التعصيب في الفرائض.

قوله تعالى: "و إذا حضر القسمة أولوا القربى" "إلخ" ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصي و نحو ذلك، و هو ظاهر.

و على هذا فالمراد من أولي القربى الفقراء منهم، و يشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى و المساكين، و لحن قوله: فارزقوهم منه و قولوا لهم قولا معروفا، الظاهر في الاسترحام و الاسترفاق، و يكون الخطاب حينئذ لأولياء الميت و الورثة.

و قد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب، و هو بحث فقهي خارج عن وضع هذا الكتاب، كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأن آية المواريث تعين فرائض الورثة، و هذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ و خاصة بناء على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه.

قوله تعالى: "و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم" الآية الخشية التأثر القلبي مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم و إكبار، و سداد القول و سدده كونه صوابا مستقيما.

و لا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله: للرجال نصيب الآية لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث، و يكون حينئذ قوله: و ليقولوا قولا سديدا كناية عن اتخاذ طريقة التحريم و العمل بها و هضم حقوق الأيتام الصغار، و الكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى: و قولوا للناس حسنا الآية: - البقرة 83، و يؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف و اللين و نحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد و العمل به لا قابلا لأن يحفظ به كرامة الناس و حرمتهم.

و كيف كان فظاهر قوله: الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم إنه تمثيل للرحمة و الرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولي لهم يتكفل أمرهم و يذود عنهم الذل و الهوان، و ليس التخويف و التهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله: لو تركوا، و لم يقل: لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال، و المراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية و رأفة و شفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم و هم الأيتام و الذين من صفتهم كذا هم الناس و خاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا: و ليخش الناس و ليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم و يعتنى بشأنهم و لا يضطهدوا و لا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذل و الامتهان فليشتغل بالكسب و كل يخاف ذلك.

و لم يؤمر الناس في الآية بالترحم و الترؤف و نحو ذلك بل بالخشية و اتقاء الله و ليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم و أكل مالهم ظلما بأيتام أنفسهم بعدهم، و ارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم.

و أما قوله: و ليتقوا الله و ليقولوا قولا سديدا فقد تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجري العملي و من الممكن أن يراد به الرأي.

كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه



من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه، و هذا من الحقائق العجيبة القرآنية، و هو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الأعمال الحسنة و السيئة و بين الحوادث الخارجية ارتباطا، و قد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الناس يتسلمون في الجملة أن الإنسان إنما يجني ثمر عمله و أن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته، و الظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله، و في القرآن الكريم آيات تدل على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى: من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها: - حم السجدة 46، و قوله: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره: - الزلزال: 8، و كذا قوله تعالى: قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: - يوسف: 90، و قوله: له في الدنيا خزي: - الحج: 9، و قوله و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الآية: - الشورى: 30، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير و الشر من العمل له نوع انعكاس و ارتداد إلى عامله في الدنيا.

و السابق إلى أذهاننا - المأنوسة بالأفكار التجربية الدائرة في المجتمع - من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الأمر أوسع من ذلك، و أن عمل الإنسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته و أعقابه قال تعالى: و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك: - الكهف: 82، فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما، و قال تعالى و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية.

و على هذا فأمر انعكاس العمل أوسع و أعم، و النعمة أو المصيبة ربما تحلان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.

و التدبر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى: و إذا سألك عبادي عني: - البقرة: 186، دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الإنسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه، و أن ما مهده من مقدمة و داخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث و المسببات قال تعالى: يسأله من في السموات و الأرض كل يوم هو في شأن: - الرحمن: 29، و قال تعالى: و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها: - إبراهيم: 34، و لم يقل: و إن تعدوه لا تحصوه لأن فيما سألوه ما ليس بنعمة، و المقام مقام الامتنان بالنعم و اللوم على كفرها و لذا ذكر بعض ما سألوه و هو النعمة.

ثم إن ما يفعله الإنسان لنفسه و يوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه و هو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه و يسأله لشخصه فليس هناك إلا الإنسانية و من هاهنا يتضح للإنسان أنه إن أحسن لأحد فإنما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجابا و سؤالا غير مردود، و إن أساء على أحد أو ظلمه فإنما طلب ذلك لنفسه و ارتضاه لها و ما يرتضيه لأولاد الناس و يتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه و يسأله لهم من خير أو شر، قال تعالى: و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: - البقرة: 148، فإن معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا.

و الاشتراك في الدم و وحدة الرحم يجعل عمود النسب و هو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد، و أي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنما عرضت و نزلت على متنه و هو في حساب جميع الأطراف، و قد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة.

فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله، و إنما استثنينا لأن في الوجود عوامل و جهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان، و من الممكن أن تجري هناك عوامل و أسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى: و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير: "الشورى: 30".

قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا" الآية يقال: أكله و أكله في بطنه و هما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح و الآية كسابقتها متعلقه للمضمون بقوله: للرجال نصيب الآية و هي تخويف و ردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث.

و الآية مما يدل على تجسم الأعمال على ما مر في الجزء الأول من هذا الكتاب في قوله تعالى: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما: "البقرة: 26" و لعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله: إنما يأكلون في بطونهم نارا، كلام على الحقيقة دون المجاز و على هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين: أن قوله: يأكلون أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله: و سيصلون سعيرا عليه و هو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل - و وقته يوم القيامة - لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم نارا و يصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازي، و أنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا و هو غفلة عن معنى تجسم الأعمال.

و أما قوله: و سيصلون سعيرا فهو إشارة إلى العذاب الأخروي، و السعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى و صليا أي احترق بها و قاسى عذابها.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية: اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها محكمة غير منسوخة، و هو المروي عن الباقر (عليه السلام).

أقول: و عن تفسير علي بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم الآية، و لا وجه له، و قد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلي لحكم المواريث و لا تنافي بينها و بين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عكرمة: في الآية قال: نزلت في أم كلثوم و ابنة أم كحلة أو أم كحلة و ثعلبة بن أوس و سويد و هم من الأنصار كان أحدهم زوجها و الآخر عم ولدها فقالت: يا رسول الله توفي زوجي و تركني و ابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا و لا تنكي عدوا و يكسب عليها و لا تكتسب، فنزلت: للرجال نصيب الآية.

أقول: و في بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار مات و ترك ابنتين فجاء ابنا عمه و هما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما - و كان بهما دمامة فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت آيات المواريث.

الرواية.

و لا بأس بتعدد هذه الأسباب كما مر مرارا.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و إذا حضر القسمة أولوا القربى الآية: اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال: و هو المروي عن الباقر (عليه السلام): و في نهج البيان، للشيباني: أنه مروي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام).



أقول: و في بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث، و قد تقدم في البيان المتقدم أنها غير صالحة للنسخ.

و في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله و أبي الحسن (عليه السلام): أن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين: أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار، و أما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله: و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم و ليتقوا الله و ليقولوا قولا سديدا، قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى: أقول: و روي مثله في الكافي عن الصادق (عليه السلام)، و في المعاني عن الباقر (عليه السلام).

و فيه، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله (عليه السلام) مبتدئا: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال: فذكرت في نفسي فقلت: يظلم هو فيسلط على عقبه و عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إن الله يقول: و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم و ليتقوا الله و ليقولوا قولا سديدا.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم و المرأة ايتمه ثم أوصى به، و ابتلاه و ابتلى به.

أقول: و الأخبار في أكل مال اليتيم و أنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة

4 سورة النساء - 11 - 14

يُوصِيكمُ اللّهُ فى أَوْلَدِكمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظ الأُنثَيَينِ فَإِن كُنّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَ إِن كانَت وَحِدَةً فَلَهَا النِّصف وَ لأَبَوَيْهِ لِكلِّ وَحِدٍ مِّنهُمَا السدُس مِمّا تَرَك إِن كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لّمْ يَكُن لّهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثّلُث فَإِن كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدُس مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصى بهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَب لَكمْ نَفْعاً فَرِيضةً مِّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) * وَ لَكمْ نِصف مَا تَرَك أَزْوَجُكمْ إِن لّمْ يَكُن لّهُنّ وَلَدٌ فَإِن كانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لّمْ يَكن لّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كانَ لَكمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكتُم مِّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ إِن كانَ رَجُلٌ يُورَث كلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكلِّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا السدُس فَإِن كانُوا أَكثَرَ مِن ذَلِك فَهُمْ شرَكاءُ فى الثّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيرَ مُضارٍّ وَصِيّةً مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْك حُدُودُ اللّهِ وَ مَن يُطِع اللّهَ وَ رَسولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَن يَعْصِ اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ يَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَلِداً فِيهَا وَ لَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ (14)

بيان

قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، انتهى.

و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة، و أما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتصلون به، و أما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد.

و أما قوله تعالى في ذيل الآية: "آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا" فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.

و أما قوله: "للذكر مثل حظ الأنثيين" ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا و أخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء و إن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية و الآية التي في آخر السورة.

و بالجملة قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين في محل التفسير لقوله: يوصيكم الله في أولادكم، و اللام في الذكر و الأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين، و هذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و أنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما و لم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيء.

و على أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكل ذكر سهمان و لكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.

قوله تعالى: "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك" ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله: "للذكر مثل حظ الأنثيين" إنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل: هذا إذا كانوا نساء و رجالا فإن كن نساء "إلخ" و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي: "البقرة: 196" و قوله: أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: "البقرة: 184".

و الضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله: في أولادكم و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.

قوله تعالى: "و إن كانت واحدة فلها النصف" الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.



و لم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين فإن ذكرا و أنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظ الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا و ليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الذي في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين، فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين.

على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و جرى العمل عليه منذ عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.

و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين، قال الكليني رحمه الله في الكافي: إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين، و ذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا و ابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين و هو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان، و اكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن أبي مسلم المفسر: أنه يستفاد من قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين و ذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه.

و هناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين، الاثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعا.

و مثل قول بعضهم: إن حكم البنتين هاهنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى.

قوله تعالى: "و لأبويه لكل واحد منهما السدس" إلى قوله: "فلأمه السدس" في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله: فإن كان له إخوة "إلخ" بعد قوله: فإن لم يكن له ولد و ورثه أبواه، دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث.

قوله تعالى: "من بعد وصية يوصي بها أو دين" أما الوصية فهي التي تندب إليها قوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية: "البقرة: 180" و لا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لأن الأهم لمكانته و قوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: أو دين في مقام الإضراب و الترقي طبعا.

و بذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت و مراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه الآية: "البقرة: 181".

قوله تعالى: "آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا" الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان "لا تدرون" و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان.



على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنهم سيموتون و يورثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله: أقرب لكم نفعا فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.

و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء، كما في قوله تعالى: إن الصفا و المروة من شعائر الله: "البقرة: 158" و قد مرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث.

و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانية فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاء لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطا و أمس وجودا به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا و إن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس.

و هذه الآية أعني قوله: آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم، نفعا من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإسلامية.

على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: "الروم: 30" تدل على ذلك، و كيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية و فرائض غير متغيرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة.

و ربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله: آباؤكم و أبناؤكم إلخ، تقدم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدات فإن الأجداد و الجدات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد.

قوله تعالى: "فريضة من الله" إلخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم و هي مفرزة معينة لا تتغير عما وضعت عليه.

و هذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى و هي الأولاد و الأب و الأم على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الأب و الأم و هو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفردن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظ الأنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدم.

و إما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين و قوله في البنت: و إن كانت واحدة فلها النصف، و كذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين، أن الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب.

و اعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين سائر الناس و قد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب.

الآية، و ما ربما قيل: إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه.



نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة و الشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة و منشؤه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له.

قوله تعالى: "و لكم نصف ما ترك أزواجكم" إلى قوله: "توصون بها أو دين" المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشيء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشيء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى: السدس مما ترك، و قال: فلأمه الثلث، و قال: فلكم الربع بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال: و لكم نصف ما ترك، و قال: فلهن ثلثا ما ترك بالإضافة، و قال: فلها النصف أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.

قوله تعالى: "و إن كان رجل يورث كلالة أو امرأة" إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكل - بضم الكاف - لإحاطته بالأجزاء، و منه الكل - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة، قال: و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسما للميت، و كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعا، انتهى.

أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصة و رجل اسمها و يورث وصفا للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له و لا ابنا.

و يمكن أن يكون كان تامة و رجل يورث فاعله و كلالة مصدرا وضع موضع الحال، و يئول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة، و قال الزجاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول، و من قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.

و قوله: غير مضار منصوب على الحال، و المضارة هو الإضرار و ظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كان يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.

قوله تعالى: "تلك حدود الله" إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحد الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبينة، و قد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية.

كلام في الإرث على وجه كلي



هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم إلى آخر الآيتين، و الآية التي في آخر السورة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية، مع قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية، و مع قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: "الأحزاب: 6، الأنفال: 7"، خمس آيات أو ست هي الأصل القرآني للإرث في الإسلام و السنة تفسرها أوضح تفسير و تفصيل.

و الكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الأحكام أمور: منها: ما تقدم في قوله: آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، و يظهر منها أن للقرب و البعد من الميت تأثيرا في باب الإرث، و إذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم و قلته و عظمه و صغره، و إذا ضمت إلى قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أفادت أن الأقرب نسبا في باب الإرث يمنع الأبعد.

فأقرب الأقارب إلى الميت الأب و الأم و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.

و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميت و أخواته و جده و جدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم، و أولاد الأخ و الأخت يقومون مقام أبيهم و أمهم، و كل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر.

و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت و أخواله و عماته و خالاته فإن بينهم و بين الميت واسطتين و هما الجد أو الجدة و الأب أو الأم، و الأمر على قيام ما مر.

و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد، و من ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أما كلالة الأم فلا تزاحمها كلالة الأبوين.

و منها: أنه قد اعتبر في الوراث تقدم و تأخر من جهة أخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها و كالأم تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد، و منهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الأخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.

و منها: أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان و ثلثان و ربع.



و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الأم و الزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالرد.

و قد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجيء الكلام فيهما في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و منها: أن التأمل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين فإن سهم الأم قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعل تغليب جانب الأم على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمس رحما بولدها و مقاساتها كل شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى: و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله و فصاله ثلاثون شهرا: "الأحقاف: 15" و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.

و أما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا و كون الإنفاق اللازم على عهدته، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم: "النساء: 34" و القوام من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية و حياة المرأة إحساسية عاطفية، و إعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي و هذا الإعطاء.

و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة.

و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الذي تتملكه و بيدها أمر ملكه و مصرفه.

و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أن الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير المالي بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمس بروح التعقل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة، و ذلك بالمصرف أمس و ألصق فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء.



و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل و مزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية، دون الزيادة في البأس و الشدة و الصلابة فإن الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقة و تحمل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شئون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة و العواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامة في أبواب الأنس و المحبة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللينة و الرقة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.

و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم، و لا يظلم ربك أحدا و هو القائل: بعضكم من بعض: "آل عمران: 195" و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضية بقوله في الآية: بما فضل الله بعضهم على بعض.

و قال أيضا: و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون: "الروم: 21" فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان و هو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة و الشدة حتى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر و آخر يفر.

لكن الله سبحانه خلق النساء و جهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودة و الرحمة، فالنساء هن الركن الأول و العامل الجوهري للاجتماع الإنساني.

و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الأنثى و ظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب و القبائل.

و من ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية، إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا، و ليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإن الإسلام لا يعبأ بشيء من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة المادية و إنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.

فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي أوجب تفاوتا في أمر الإرث و ما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة و أما الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.

بحث روائي



في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه من طرق جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.

أقول: قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد و تجتمع عدة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت "إلخ"، مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية، و أعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعودني و أنا مريض فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا و نزلت: يوصيكم الله في أولادكم.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: أم كحة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله هذه الآية: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - و إن كانت واحدة فلها النصف ثم قال في أم كحة: و لهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن.

و فيه، أيضا عنهما عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.

أقول: و كان منه التعصيب و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة، و ربما وجد شيء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) بنفي التعصيب، و أن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر.

و فيه، أخرج الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و الله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص! ثم قال ابن عباس: و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيها قدم الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، و كل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالذي قدم كالزوجين و الأم، و الذي أخر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدم الله و أخر بدىء بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لهن، و إن لم يبق شيء فلا شيء لهن.



و فيه، أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في المال نصفا و ثلثا و ربعا؟ إنما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع.

و فيه، أيضا عنه عن عطاء قال: قلت لابن عباس: إن الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو مت أنا و أنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.

أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي.

في الكافي، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و نصفا و ثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا قال: و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد شيئا أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص و أدخل على كل ذي حق حقه فأدخل عليه من عول الفرائض و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيها قدم و أيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، و أما ما أخر الله فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر، فأما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء، و الأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شيء فهذه الفرائض التي قدم الله عز و جل، و أما التي أخر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر الله، فإذا اجتمع ما قدم الله و ما أخر بدىء بما قدم الله فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخر و إن لم يبق شيء فلا شيء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.

أقول: و هذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي (عليه السلام) بنفي العول، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما يأتي.

في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة.

أقول: في الصحاح: أن عالج موضع بالبادية به رمل، و قوله (عليه السلام): إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها، و الستة هي السهام المصرح بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن.



و فيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لا مقدم لما أخر، و لا مؤخر لما قدم، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدم الله و أخرتم من أخر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الأمة في شيء من أمر الله إلا و عند علي علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم و ما فرطتم فيما قدمت أيديكم، و ما الله بظلام للعبيد، و سيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.

أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الأولى كبنت و أب و أم و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كأخت و جدين للأب و الأم و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كأختين و جدين و زوج.

فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الأم و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها - لأن الله عين هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الأنثى عند الوحدة و الكثرة - ورد النقص دائما على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مر.

و أما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و البيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله يقول: فإن كان له إخوة و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة.

أقول: و هو المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و إن كان المعروف أن الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يحجب الأم عن الثلث إلا أخوان أو أربع أخوات لأب و أم أو لأب أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أما الإخوة لأم فإنهم يتقربون بالأم و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أن الإخوة يحجبون الأم و لا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الأم مع عدم إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة للأم فإنهم ليسوا عالة للأب.

و في المجمع، في قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنكم تقرءون في هذه الآية الوصية قبل الدين، و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى بالدين قبل الوصية: أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع و التفاسير.

و في الكافي، في معنى الكلالة عن الصادق (عليه السلام): من ليس بوالد و لا ولد.

و فيه، عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: و إن كان رجل يورث كلالة الآية، إنما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الأم خاصة.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أن حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.



و من الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الأم و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الأم يسري إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الأم و يكشف بذلك أن القليل لكلالة الأم و الكثير لغيره.

و في المعاني، بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفر على الرجال و علة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عز و جل: الرجال قوامون على النساء - بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم.

و في الكافي، بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا و يأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا، و للرجل سهمين.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك.

بحث علمي في فصول

1 - ظهور الإرث:

كان الإرث أعني تملك بعض الأحياء المال الذي تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنساني، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الأمم و الملل الحصول على مبدإ حصوله، و من طبيعة الأمر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الإنسان الاجتماعية أن المال و خاصة لو كان مما لا يد عليه يحن إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصة فيما لا مانع عنه من دءوبه الأولية القديمة، و الإنسان في ما كونه من مجتمعة همجيا أو مدنيا لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية المنتجين للأقربية و الأولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار الذي عليه المدار في تشكل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرءوسه حتى القوي بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط.

و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية.

2 - تحول الإرث تدريجيا:

لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية تتحول من حال إلى حال و تلعب بها يد التطور و التكامل منذ أول ظهورها غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به.

و القدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنما كان يختص بالأقوياء و ليس إلا لأنهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخر و السلع و الأمتعة التي ليس لها إلا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التي لا تتجاوز النوع الإنساني.



و مع ذلك كان يختلف مصداق القوي في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة أخرى أشجع القوم و أشدهم بأسا، و كان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الإرث تغيرا جوهريا.

و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير و التبدل حتى أن الملل المتمدنة التي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الإرث الإسلامية فقد حكمت في الأمم الإسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا.

3 - الوراثة بين الأمم المتمدنة:

من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام و يصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية، فكان يستقل في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك.

و كان رب البيت هو معبودا لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت، و كان هو الولي عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه.

و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا و أذن لها رب البيت أو بعض الأقارب فإنما كان يرثه رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته و ملكه المطلق للبيت و أهله.

و إذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة.

و كذا كان يرثه الأدعياء لأن الادعاء و التبني كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية.

و أما النساء كالزوجة و البنت و الأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت أخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الذي ربما ذكره بعضهم فقال: إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية و أظن أن مأخذه شيء آخر غير الملك الاشتراكي فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محمياتهم و هذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذي مالكه هيئة المجتمع الإنساني دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.

و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدم، قال تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا: "البقرة: 29" فالمجتمع الإنساني و هو المجتمع الإسلامي و من هو تحت ذمته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثم المجتمع الإسلامي هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.
<<        الفهرس        >>