جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و من أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة و الطبيعيات كوضع الأفلاك البطليموسية، و كونها طبيعة خامسة، و استحالة الخرق و الالتيام فيها، و قدم الأفلاك و الفلكيات بالشخص و قدم العناصر بالنوع، و قدم الأنواع و نحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المتفلسفين كانوا يظهرونها في زي المسائل المبرهن عليها، و كانت الدهرية و أمثالهم و هم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك أمورا أخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ و نفي المعاد و لا سيما المعاد الجسماني، و يطعنون بذلك كله في ظواهر الدين و ربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الأنبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة و تكميلها، و أما الفيلسوف المتعاطي للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم و عما أتوا به، و كانوا ذوي أقدام في طرق الاستدلال.

فدعا ذلك الفقهاء و المتكلمين و حملهم على تجبيههم بالإنكار و التدمير عليهم بأي وسيلة تيسرت لهم من محاجة و دعوة عليهم و براءة منهم و تكفير لهم حتى كسروا سورتهم و فرقوا جمعهم و أفنوا كتبهم في زمن المتوكل، و كادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 393 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 482 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبي علي بن مسكويه و ابن رشد الأندلسي و غيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها و تجول بين ضعف و قوة.

و هي و إن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندي و ابن رشد، و قد استقرت أخيرا في إيران، و المتكلمون من المسلمين و إن خالفوا الفلسفة و أنكروا على أهلها أشد الإنكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل و الكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري.

غير أنهم - كما سمعت - أخطئوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية و أجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، و استعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التي لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن و القبح و الثواب و العقاب و الحبط و الفضل في أجناسها و فصولها و حدودها، و أين هي من الحد؟ و يستدلون في المسائل الأصولية و المسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة و الامتناع.

و ذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية و يبرهنون في أمور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا و يقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، و يعدونه برهانا، و ليس بحسب الحقيقة إلا من القياس الشعري.

و بلغ الإفراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدب في حكمه و فعله الاعتبار الذي حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه تشريعا أمور حقيقية واقعية، و قال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات و التشريعيات جميعا.

إلى غير ذلك من الأقاويل التي هي لعمري من مصائب العلم و أهله، ثم الاضطرار إلى وضعها و البحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة.

و في هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، و قد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر في لباس الزهد، ثم بان الأمر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بني العباس بظهور رجال منهم كأبي يزيد و الجنيد و الشبلي و معروف و غيرهم.

يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الإنساني و الحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة، و هي نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، و ينتسب المعظم منهم من الخاصة و العامة إلى علي (عليه السلام).



و إذا كان القوم يدعون أمورا من الكرامات، و يتكلمون بأمور تناقض ظواهر الدين و حكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء و عامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم و قابلوهم بالتبري و التكفير، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفي كل ذلك لخلاعتهم و استرسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة، و لو كان الأمر على ما يدعون و كانت هي لب الحقيقة و كانت الظواهر الدينية كالقشر عليها و كان ينبغي إظهارها و الجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها و إعلان أمرها كما يعلنون، و إن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟.

و القوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب و رسائل بعد القرن الثالث الهجري، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة و الطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشئوه نظما و نثرا في أقطار الأرض.

و لم يزالوا يزيدون عدة و عدة و وقوعا في قلوب العامة و وجاهة حتى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس و السابع ثم انتكسوا في المسير و ضعف أمرهم و أعرض عامة الناس عنهم.

و كان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشئون الحيوية التي لها مساس بحال عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه و تولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس و جمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه و ظهروا في صورة أهله و خاصته فأفسدوا فيه و تعقب ذلك تنفر الناس عنه.

و ثانيا: أن جماعة من مشايخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: "و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها": الحديد: 27.

و تلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما و آدابا لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة و تترك أخرى شرعية، حتى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب، و الطريقة في جانب، و آل بالطبع إلى انهماك المحرمات و ترك الواجبات من شعائر الدين و رفع التكاليف، و ظهور أمثال القلندرية و لم يبق من التصوف إلا التكدي و استعمال الأفيون و البنج و هو الفناء.

و الذي يقضي به في ذلك الكتاب و السنة - و هما يهديان إلى حكم العقل - هو أن القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، و القول بأن للإنسان طريقا إلى نيلها حق، و لكن الطريق إنما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير، و حاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر، و الظاهر عنوان الباطن و طريقه، و حاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في أمره أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة و هو القائل عز من قائل: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء": النحل: 89 و بالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق و الكشف عنها: الظواهر الدينية و طريق البحث العقلي و طريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع و التدافع، و جمعهم في ذلك كزوايا المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الأخريين و بالعكس.

و كان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن النظر العلمي في غالب الأمر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلا ما شذ.

و قد عرفت أن الكتاب يصدق من كل من الطرق ما هو حق، و حاشا أن يكون هناك باطن حق و لا يوافقه ظاهره، و حاشا أن يكون هناك حق من ظاهر أو باطن و البرهان الحق يدفعه و يناقضه.



و لذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و العرفان كابن العربي و عبد الرزاق الكاشاني و ابن فهد و الشهيد الثاني و الفيض الكاشاني.

و آخرون أن يوفقوا بين الفلسفة و العرفان كأبي نصر الفارابي و الشيخ السهروردي صاحب الإشراق و الشيخ صائن الدين محمد تركه.

و آخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و الفلسفة كالقاضي سعيد و غيره.

و آخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره و كتبه و صدر المتألهين الشيرازي في كتبه و رسائله و عدة ممن تأخر عنه.

و مع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلا شدة في التعرق، و لا في إخماد ناره إلا اشتعالا: ألفيت كل تميمة لا تنفع و أنت لا ترى أهل كل فن من هذه الفنون إلا ترمي غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة رأي، و العامة تتبرأ منهم جميعا.

كل ذلك لما تخلفت الأمة في أول يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكر الاجتماعي و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تتفرقوا و الكلام ذو شجون.

اللهم اهدنا إلى ما يرضيك عنا و اجمع كلمتنا على الحق، و هب لنا من لدنك وليا، و هب لنا من لدنك نصيرا.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم كثيرا" الآية: أخرج ابن الضريس و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب" قال: فكان الرجم مما أخفوا.

أقول: إشارة إلى ما سيجيء في تفسير قوله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك" إلى آخر الآيات: المائدة: 41 من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كشفه عن ذلك.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يبين لكم على فترة من الرسل" الآية قال: قال: على انقطاع من الرسل. و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي و أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر إلى أبي جعفر (عليه السلام) في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي، فقال: اشهد لآتينه و لأسالنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي قال: فاذهب فاسأله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي قال فرفع أبو جعفر (عليه السلام) رأسه فقال: سل عما بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمد من سنة؟ فقال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما في قولك فستمائة سنة.



أقول: و قد روي في أسباب نزول الآيات، أخبار مختلفة كما رواه الطبري عن عكرمة: أن اليهود سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة و حلقنا الرءوس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله: "يا أهل الكتاب إلى قوله - صراط مستقيم" و ما رواه أيضا عن ابن عباس قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن أبي، و بحري بن عمرو، و شاس بن عدي فكلمهم و كلموه، و دعاهم إلى الله و حذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن و الله أبناء الله و أحباؤه كقول النصارى فأنزل الله فيهم: "و قالت اليهود و النصارى" إلى آخر الآية.

و ما رواه أيضا عن ابن عباس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الإسلام فرغبهم فيه و حذرهم فأبوا عليه؟ فقال لهم معاذ بن جبل و سعد بن عبادة و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده فأنزل الله: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم على فترة" الآية: و قد رواها في الدر المنثور، عنه و عن غيره و روي غير ذلك.

و مضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنما هي تطبيقات للقضايا على مضامين الآيات ثم قضاء بكونها أسبابا للنزول فهي أسباب نظرية و الآيات كأنها مطلقة نزولا.

5 سورة المائدة - 20 - 26

وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَ جَعَلَكُم مّلُوكاً وَ ءَاتَاكُم مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَلَمِينَ (20) يَقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْض الْمُقَدّسةَ الّتى كَتَب اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدّوا عَلى أَدْبَارِكمْ فَتَنقَلِبُوا خَسِرِينَ (21) قَالُوا يَمُوسى إِنّ فِيهَا قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَن نّدْخُلَهَا حَتى يخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يخْرُجُوا مِنهَا فَإِنّا دَخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيهِمُ الْبَاب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَلِبُونَ وَ عَلى اللّهِ فَتَوَكلُوا إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَمُوسى إِنّا لَن نّدْخُلَهَا أَبَداً مّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَب أَنت وَ رَبّك فَقَتِلا إِنّا هَهُنَا قَعِدُونَ (24) قَالَ رَب إِنى لا أَمْلِك إِلا نَفْسى وَ أَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَ بَينَ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنّهَا محَرّمَةٌ عَلَيهِمْ أَرْبَعِينَ سنَةً يَتِيهُونَ فى الأَرْضِ فَلا تَأْس عَلى الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ (26)

بيان

الآيات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم و هو الميثاق بالسمع و الطاعة لموسى، و تجبيههم موسى (عليه السلام) بالرد الصريح لما دعاهم إليه و ابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه و هو عذاب إلهي.

و في بعض الأخبار ما يشعر أن هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجيء الإشارة إليها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: "و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم" إلى آخر الآية الآيات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة - دعوة موسى إياهم إلى دخول الأرض المقدسة - إنما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أن قوله في هذه الآية: "و جعلكم ملوكا" يدل على ذلك أيضا.

و يدل قوله: "و ءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" على سبق عدة من الآيات النازلة عليهم كالمن و السلوى و انفجار العيون من الحجارة و إضلال الغمام.

و يدل قوله: "القوم الفاسقين" المتكرر مرتين على تحقق المخالفة و معصية الرسول منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق.

فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعني قصة التيه في الشطر الأخير من زمان مكث موسى (عليه السلام) فيهم بعد أن بعثه الله تعالى إليهم و أن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم إنما وقعت قبل ذلك.

فقول موسى لهم: "اذكروا نعمة الله عليكم" أريد به مجموع النعم التي أنعم الله بها عليهم، و حباهم بها و إنما بدأ بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الأرض المقدسة فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة و استتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم ببعثة موسى و هذا يتهم إلى دينه، و نجاتهم من آل فرعون، و إنزال التوراة، و تشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون و السؤدد.

و قد قسم النعمة التي ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال: "إذ جعل فيكم أنبياء" و هم الأنبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و من بعدهم من الأنبياء، أو خصوص الأنبياء من بني إسرائيل كيوسف أو الأسباط و موسى و هارون، و النبوة نعمة أخرى.

ثم قال: "و جعلكم ملوكا" أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة و تحكم الجبابرة، و ليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه و أهله و ماله، و قد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن و هي سنة التوحيد التي تأمرهم بطاعة الله و رسوله، و العدل التام في مجتمعهم، و عدم الاعتداء على غيرهم من الأمم من غير أن يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به أمر المجتمع، و ما عليهم إلا موسى و هو نبي غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلي عليهم بغير الحق.

و قيل: المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذي يبتدىء من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر فيهم إلا بعد موسى بزمان.



و هذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله: "و جعلكم ملوكا" و لم يقل: و جعل منكم ملوكا، كما قال: "جعل فيكم أنبياء". و يمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة الشيخوخة، و يكون على هذا موسى (عليه السلام) ملكا و بعده يوشع النبي و قد كان يوسف ملكا من قبل، و ينتهي إلى الملوك المعروفين طالوت و داود و سليمان و غيرهم.

هذا، و يرد على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه.

ثم قال: "و ءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" و هي العنايات و الألطاف الإلهية التي اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، و داموا على ما واثقوا، و هي الآيات البينات التي أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر، و بعد إذ نجاهم الله من فرعون و قومه، فلم يتوافر و يتواتر من الآيات المعجزات و البراهين الساطعات و النعم التي يتنعم بها في الحياة على أمة من الأمم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت و تواترت على بني إسرائيل.

و على هذا فلا وجه لقول بعضهم: إن المراد بالعالمين عالمو زمانهم و ذلك أن الآية تنفي أن يكون أمة من الأمم إلى ذلك الوقت أوتيت من النعم ما أوتي بنو إسرائيل، و هو كذلك.

قوله تعالى: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" أمرهم بدخول الأرض المقدسة، و كان يستنبط من حالهم التمرد و التأبي عن القبول، و لذلك أكد أمره بالنهي عن الارتداد و ذكر استتباعه الخسران.

و الدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه إياهم بالفاسقين بعد ردهم، فإن الرد و هو فسق واحد لا يصحح إطلاق "الفاسقين" عليهم الدال على نوع من الاستمرار و التكرر.

و قد وصف الأرض بالمقدسة، و قد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الأنبياء و المؤمنين فيها، و لم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة.

و الذي يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: "إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله": إسراء: 1 و قوله: "و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها": الأعراف: 173 و ليست المباركة في الأرض إلا جعل الخير الكثير فيها، و من الخير الكثير إقامة الدين و إذهاب قذارة الشرك.

و قوله: "كتب الله لكم" ظاهر الآيات أن المراد به قضاء توطنهم فيها، و لا ينافيه قوله في آخرها: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة" بل يؤكده فإن قوله: "كتب الله لكم" كلام مجمل أبهم فيه ذكر الوقت و حتى الأشخاص، فإن الخطاب للأمة من غير تعرض لحال الأفراد و الأشخاص، كما قيل: إن السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين به ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدسة إلا أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون، و بالجملة لا يخلو قوله: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة" عن إشعار بأنها مكتوبة لهم بعد ذلك.



و هذه الكتابة هي التي يدل عليها قوله تعالى: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض": القصص: 6 و قد كان موسى (عليه السلام) يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله و الصبر حيث يقول: "قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون": الأعراف: 192. و هذا هو الذي يخبر تعالى عن إنجازه بقوله: "و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا": الأعراف: 173 فدلت الآية على أن استيلاءهم على الأرض المقدسة و توطنهم فيها كانت كلمة إلهية و كتابا و قضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة و عن المعصية، و في مر الحوادث.

و إنما عممنا الصبر لمكان إطلاق الآية، و لأن الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم أيام موسى و معها الأوامر و النواهي الإلهية، و كلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم.

و هذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الأرض المقدسة لهم، و الآيات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة و مقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الإسراء: "و إن عدتم عدنا و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا": إسراء: 8 و كذا قول موسى لهم في ذيل الآية السابقة: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون": الأعراف: 192 و قوله أيضا: "و إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم - إلى أن قال - و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد": إبراهيم: 7 و ما يناظرها من الآيات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير و التبدل.

و قد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكي قوله في الآية: "كتب الله لكم" ما وعد الله إبراهيم (عليه السلام)، ثم ذكر ما في التوراة من وعد الله إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنه سيعطي الأرض لنسلهم، و أطال البحث في ذلك.

و لا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الأصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة.

قوله تعالى: "قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر و اجتبر.

قال: و قد يقال الجبر تارة في الإصلاح المجرد نحو قول علي رضي الله عنه: يا جابر كل كسير و يا مسهل كل عسير، و منه قولهم للخبز: جابر بن حبة، و تارة في القهر المجرد نحو قوله (عليه السلام): لا جبر و لا تفويض، قال: و الإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الآخر لكن تعورف في الإكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا كقولك: أكرهته.

قال: و الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، و هذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز و جل: "و خاب كل جبار عنيد" و قوله تعالى.

"و لم يجعلني جبارا شقيا" و قوله عز و جل: "إن فيها قوما جبارين" قال: و لتصور القهر بالعلو على الأقران قيل: نخلة جبارة و ناقة جبارة انتهى موضع الحاجة.

فظهر أن المراد بالجبارين هم أولو السطوة و القوة من الذين يجبرون الناس على ما يريدون.

و قوله: "و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها" اشتراط منهم خروج القوم الجبارين في دخول الأرض، و حقيقته الرد لأمر موسى و إن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم: "فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".

و قد ورد في عدة من الأخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة و عظم أجسامهم و طول قامتهم أمور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها، و لا يوجد في الآثار الأرضية و الأبحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة.



قوله تعالى: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" إلى آخر الآية ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه و أن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره و أمر نبيه، و منهم هذان الرجلان اللذان قالا، ما قالا و أنهما كانا يختصان من بين أولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما، و قد مر في موارد تقدمت من الكتاب أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الإلهية فهما كانا من أولياء الله تعالى، و هذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون": يونس: 62.

و يمكن أن يكون متعلق "أنعم" المحذوف أعني المنعم به هو الخوف، فيكون المراد أن الله أنعم عليهما بمخافته، و يكون حذف مفعول "يخافون" للاكتفاء بذكره في قوله: "أنعم الله عليهما" إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من أولئك القوم الجبارين و إلا لم يدعو بني إسرائيل إلى الدخول بقولهما: "ادخلوا عليهم الباب".

و ذكر بعض المفسرين: أن ضمير الجمع في "يخافون" عائد إلى بني إسرائيل و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، و المعنى: و قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالإسلام، و أيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة "يخافون" بضم الياء قالوا.

و ذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، و لحقا بني إسرائيل ثم قالا لبني إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة و الاستيلاء على بلادهم و أرضهم.

و كان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الأخبار الواردة في تفسير الآيات لكنه من الآحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب و غيره.

و قوله: "ادخلوا عليهم الباب" لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلي بني إسرائيل، و قد كان على ما يقال: أريحا، و هذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة.

و قوله: "فإذا دخلتموه فإنكم غالبون" وعد منهما لهم بالفتح و الظفر على العدو، و إنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى (عليه السلام) أن الله كتب لهم تلك الأرض لإيمانهما بصدق إخباره، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الإلهية.

و قد ذكر المعظم من مفسري الفريقين: أن الرجلين هما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و هما من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر.

ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما: "و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين" لأن الله سبحانه كافي من توكل عليه و فيه تطييب لنفوسهم و تشجيع لهم.

قوله تعالى: "قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها" الآية تكرارهم قولهم: "إنا لن ندخلها" ثانيا لإيئاس موسى (عليه السلام) من أن يصر على دعوته فيعود إلى الدعوة بعد الدعوة.

و في الكلام وجوه من الإهانة و الإزراء و التهكم بمقام موسى و ما ذكرهم به من أمر ربهم و وعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسى (عليه السلام) أولا، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب و الخصوصيات في بادىء كلامهم، و في الإيجاز بعد الإطناب في مقام التخاصم و التجاوب دلالة على استملال الكلام و كراهة استماع الحديث أن يمضي عليه المتخاصم الآخر.



ثم أكدوا قولهم: "لن ندخلها" ثانيا بقولهم: "أبدا" ثم جرأهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كله، و هو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة: "فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون". و في الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين، و هو كذلك فإنهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله: "و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون": الأعراف: 183 و لم يزالوا على التجسيم و التشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم الدائرة بينهم.

قوله تعالى: "قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين" السياق يدل على أن قوله: "إني لا أملك إلا نفسي و أخي" كناية عن نفي القدرة على حمل غير نفسه و أخيه على ما أتاهم به من الدعوة.

فإنه إنما كان في مقدرته حمل نفسه على إمضاء ما دعا إليه و حمل أخيه هارون و قد كان نبيا مرسلا و خليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر الله سبحانه.

أو إن المراد أنه ليس له قدرة إلا على نفسه و لا لأخيه قدرة إلا كذلك.

و ليس مراده نفي مطلق القدرة حتى من حيث إجابة المسئول لإيمان و نحوه حتى ينافي ظاهر سياق الآية أن الرجلين من الذين يخافون و آخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله و أهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا ليتخلفوا عن أوامره.

و ذلك أن المقام لا يقتضي إلا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ و أعذر فرد عليه المجتمع الإسرائيلي دعوته أشنع رد و أقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول: رب إني أبلغت و أعذرت و لا أملك في إقامة أمرك إلا نفسي و كذلك أخي، و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف و لكن القوم واجهونا بأشد الامتناع، و نحن الآن آيسان منهم، و السبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة و مهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة و إيراثهم الأرض و استخلافهم فيها، و احكم و افصل بيننا و بين هؤلاء الفاسقين.

و هذا المورد على خلاف جميع الموارد التي عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية و عبادة العجل و دخول الباب و قول حطة و غيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الإسرائيلي لأمره من غير أي رفق و ملاءمة، و لو تركهم موسى على حالهم، و أغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها، و لم يتمش له بعد ذلك أمر و لا نهي و تلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة.

و يتبين بهذا البيان أولا: أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى (عليه السلام) في شكواه إلى ربه لحال نفسه و أخيه، و هما المبلغان عن الله تعالى، و لا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين و إن كانوا غير متمردين.

إذ لا شأن لهم في التبليغ و الدعوة، و المقام إنما يقتضي التعرض لحال مبلغ الحكم لا العامل الآخذ به المستجيب له.

و ثانيا: أن المقام كان يقتضي رجوع موسى (عليه السلام) إلى ربه بالشكوى و هو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الأمر الإلهي.

و ثالثا: أن قوله: "و أخي" معطوف على الياء في قوله: "إني" و المعنى: و أخي مثلي لا يملك إلا نفسه لا على قوله: "نفسي" فإنه خلاف ما يقتضيه السياق و إن كان المعنى صحيحا على جميع التقادير فإن موسى و هارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة و الامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، و كذا كانا يملكان ممن أخلص لله من المؤمنين السمع و الطاعة.



و رابعا: أن قوله: "فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين" ليس دعاء منه على بني إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما و بينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفيهما فإنه (عليه السلام) كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، و كان هو الذي كتب الله المن على بني إسرائيل بإنجائهم و استخلافهم في الأرض بيده كما قال تعالى: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين": القصص: 5.

و كان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا" الآية: الأعراف: 192.

و يشهد بذلك أيضا قوله تعالى: "فلا تأس على القوم الفاسقين" فإنه يكشف عن أن موسى (عليه السلام) كان يشفق عليهم من نزول السخط الإلهي، و كان من المترقب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم.

: "قوله تعالى قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين" الضمير في قوله: "فإنها" راجعة إلى الأرض المقدسة، و المراد بالتحريم التحريم التكويني و هو القضاء، و التيه التحير، و اللام في "الأرض" للعهد، و قوله "فلا تأس" نهي من الأسى و هو الحزن، و قد أمضى الله تعالى قول موسى (عليه السلام) حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين.

و المعنى: أن الأرض المقدسة أي دخولها و تملكها محرمة عليهم، أي قضينا أن لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الأرض متحيرين لا هم مدنيون يستريحون إلى بلد من البلاد، و لا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل و البدويين، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لأنهم فاسقون لا ينبغي أن يحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم دابة و امرأة كتب ملكا. و فيه: أخرج أبو داود في مراسله عن زيد بن أسلم: في قوله: "و جعلكم ملوكا" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زوجة و مسكن و خادم. أقول: و روي غير هاتين الروايتين روايات أخرى في هذا المعنى غير أن الآية في سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنه و إن كان من الممكن أن يكون من دأب بني إسرائيل أن يسموا كل من كان له بيت و امرأة و خادم ملكا أو يكتبوه ملكا إلا أن من البديهي أنهم لم يكونوا كلهم حتى الخوادم على هذا النعت ذوي بيوت و نساء و خدام فالكائن منهم على هذه الصفة بعضهم و يماثلهم في ذلك سائر الأمم و الأجيال فاتخاذ البيوت و النساء و الخدام عادة جارية في جميع الأمم لا يخلو عن ذلك أمة عن الأمم، و إذا كان كذلك لم يكن أمرا يخص بني إسرائيل حتى يمتن الله عليهم في كلامه بأنه جعلهم ملوكا، و الآية في مقام الامتنان.

و لعل التنبه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنهم أول من ملك الخدم، و التاريخ لا يصدقه.



و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما انتهى لهم موسى إلى الأرض المقدسة قال لهم: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم - و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" و قد كتبها الله لهم "قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها - فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب - فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها - فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون - قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي - فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين" فلما أبوا أن يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين. قال أبو عبد الله (عليه السلام): كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحداء و الزجر حتى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه فيقولون: قد أخطأتم الطريق فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المن و السلوى حتى هلكوا جميعا إلا رجلان: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناؤهم و كانوا يتيهون في نحو أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم. قال: و كان معهم حجر إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابة، الحديث.

أقول: و الروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة و قوله في الرواية: و قال أبو عبد الله إلخ رواية أخرى، و هذه الروايات و إن اشتملت في معنى التيه و غيره على أمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيد به لكنها مع ذلك لا تشتمل على شيء مما يخالف الكتاب، و أمر بني إسرائيل في زمن موسى (عليه السلام) كان عجيبا تحتف بحياتهم خوارق العادة من كل ناحية فلا ضير في أن يكون تيههم على هذا النحو المذكور في الروايات.

و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن قول: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال: كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها و الله يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.

أقول.

و روي هذا المعنى أيضا عن إسماعيل الجعفي عنه (عليه السلام) و عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).

و قد قاس (عليه السلام) الكتابة بالنسبة إلى السامعين لخطاب موسى (عليه السلام) بدخول الأرض، و إلى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص المكتوب لهم فلا ينافي ذلك ظاهر سياق الآية أن المكتوب لهم هم الداخلون، و إنما حرموا الدخول أربعين سنة و رزقوه بعدها فإن الخطاب في الآية متوجه بحسب المعنى إلى المجتمع الإسرائيلي فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم جميعا أمة واحدة كتب لها الدخول إجمالا ثم حرمت الدخول مدة و رزقته بعدها و لا بداء على هذا و إن كان بالنظر إلى خصوص الأشخاص بداء.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مات داود النبي يوم السبت مفجوا فأظلته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى و أي نفس لا تموت.

5 سورة المائدة - 27 - 32

وَ اتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنىْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنّك قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ (27) لَئن بَسطت إِلىّ يَدَك لِتَقْتُلَنى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِى إِلَيْك لأَقْتُلَك إِنى أَخَاف اللّهَ رَب الْعَلَمِينَ (28) إِنى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَ إِثمِك فَتَكُونَ مِنْ أَصحَبِ النّارِ وَ ذَلِك جَزؤُا الظلِمِينَ (29) فَطوّعَت لَهُ نَفْسهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصبَحَ مِنَ الخَْسِرِينَ (30) فَبَعَث اللّهُ غُرَاباً يَبْحَث فى الأَرْضِ لِيرِيَهُ كَيْف يُوَرِى سوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتى أَ عَجَزْت أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِى سوْءَةَ أَخِى فَأَصبَحَ مِنَ النّدِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِك كتَبْنَا عَلى بَنى إِسرءِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فى الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاس جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاس جَمِيعاً وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسلُنَا بِالْبَيِّنَتِ ثُمّ إِنّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِك فى الأَرْضِ لَمُسرِفُونَ (32)

بيان

الآيات تنبىء عن قصة ابني آدم، و تبين أن الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالما فيصبح من الخاسرين و يندم ندامة لا يستتبع نفعا، و هي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل و استنكافهم عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسدا و بغيا، و هذا شأن الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة و حسرة لا مخلص عنها أبدا، فليعتبروا بالقصة و لا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح.

قوله تعالى: "و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" الآية التلاوة من التلو و هي القراءة سميت بها لأن القارىء للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو بعض آخر.

و النبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى و نفع.

و القربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، و هو في الأصل مصدر لا يثنى و لا يجمع.

و التقبل هو القبول بزيادة عناية و اهتمام بالمقبول و الضمير في قوله "عليهم" لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.

و المراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر القرآن أنه أبو البشر، و قد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الآخر، و هو قابيل أو قايين قتل هابيل و لذلك قال تعالى بعد سرد القصة: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل.

و هو فاسد أما أولا: فلأن القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنه أبو البشر، و لو كان المراد بما في الآية غيره لكان من اللازم نصب القرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة.

و أما ثانيا فلأن بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله: "فبعث الله غرابا" إنما يلائم حال الإنسان الأولي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر و بساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجبلي في ادخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدري أن الميت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الأرض، و هذه الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، و قد كانوا أهل حضارة و مدنية بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الأمور قطعا.

و أما ثالثا فلأن قوله: و لذلك قال تعالى بعد تمام القصة - من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، يريد به الجواب عن سؤال أورد على الآية، و هو أنه ما وجه اختصاص الكتابة ببني إسرائيل مع أن الذي تقتضيه القصة - و هو الذي كتبه الله - يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، و من أحيا منهم نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.

فأجاب القائل بقوله و لذلك قال تعالى إلخ إن القاتل و المقتول لم يكونا ابني آدم أبي البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الأولية بين النوع الإنساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما، و إنما هما ابنا رجل من بني إسرائيل و كان نبأهما من الأخبار القومية الخاصة و لذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بني إسرائيل.



لكن ذلك لا يحسم مادة الإشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع و إحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، و قد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بني إسرائيل، و قبل هذا القتل الذي يشير إليه، فما باله رتب على قتل خاص و كتب على قوم خاص؟.

على أن الأمر لو كان كما يقول كان الأحسن أن يقال: من قتل منكم نفسا إلخ ليكون خاصا بهم، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه.

و الجواب عن أصل الإشكال أن الذي يشتمل عليه قوله: "إنه من قتل نفسا بغير نفس" الآية حكمة بالغة و ليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم و لغيرهم كالحكم و المواعظ التي بينت في القرآن لأمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدم انحصار فائدتها فيهم.

و إنما ذكر في الآية أنه بينه لهم لأن الآيات مسوقة لعظتهم و تنبيههم و توبيخهم على ما حسدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصروا في العناد و إشعال نار الفتن و التسبيب إلى القتال و مباشرة الحروب على المسلمين، و لذلك ذيل قوله: "من قتل نفسا" إلخ بقوله: "و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" على أن أصل القصة على النحو الذي ذكره لا مأخذ له رواية و لا تاريخا.

فتبين أن قوله: "نبأ ابني آدم بالحق" يراد به قصة ابني آدم أبي البشر، و تقييد الكلام بقوله: "بالحق" - و هو متعلق بالنبأ أو بقوله "و اتل" - لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أن المعروف الدائر بينهم من النبإ لا يخلو من تحريف و سقط، و هو كذلك فإن القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، و ليس فيها خبر بعث الغراب و بحثه في الأرض، و القصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و قوله: "إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر" ظاهر السياق أن كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به و إنما لم يثن لفظ القربان لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى و لا يجمع.

و قوله: "قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" القائل الأول هو القاتل و الثاني هو المقتول، و سياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما و عدم تقبله من الآخر، و أما أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه؟ فالآية ساكتة عن ذلك.

غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى: أنه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى: "الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات و بالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين": آل عمران: 138 و القربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضا على ذلك النحو، و خاصة بالنظر إلى إلقاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك، و كيف كان فالقاتل و المقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما و رده من الآخر.

ثم السياق يدل أيضا على أن القائل "لأقتلنك" هو الذي لم يتقبل قربانه، و أنه إنما قال ذلك حسدا من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر، و لا أن المقتول كان قد أجرم إجراما باختيار منه حتى يواجه بمثل هذا القول و يهدد بالقتل.



فقول القاتل: "لأقتلنك" تهديد بالقتل حسدا لقبول قربان المقتول دون القاتل فقول المقتول: "إنما يتقبل الله من المتقين" إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عما قاله القاتل فيذكر له أولا: أن مسألة قبول القربان و عدم قبوله لا صنع له في ذلك و لا إجرام، و إنما الإجرام من قبل القاتل حيث لم يتق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه.

و ثانيا: أن القاتل لو أراد قتله و بسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه و خوفه من الله سبحانه، و إنما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل و هو يحمل إثم المقتول و إثم نفسه فيكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين.

فقوله: "إنما يتقبل الله من المتقين" مسوق لقصر الإفراد للدلالة على أن التقبل لا يشمل قربان التقي و غير التقي جميعا، أو لقصر القلب كأن القاتل كان يزعم أنه سيتقبل قربانه دون قربان المقتول زعما منه أن الأمر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال، يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربما يشتبه على الإنسان.

و في الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبل العبادات و القرابين، و موعظة و بلاغ في أمر القتل و الظلم و الحسد، و ثبوت المجازاة الإلهية و أن ذلك من لوازم ربوبية رب العالمين فإن الربوبية لا تتم إلا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل و جزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعده لنفسه و هو النار.

قوله تعالى: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك" إلخ اللام للقسم، و بسط اليد إليه كناية عن الأخذ بمقدمات القتل و إعمال أسبابه، و قد أتى في جواب الشرط بالنفي الوارد على الجملة الإسمية، و بالصفة بباسط دون الفعل و أكد النفي بالباء ثم الكلام بالقسم، كل ذلك للدلالة على أنه بمراحل من البعد من إرادة قتل أخيه، لا يهم به و لا يخطر بباله.

و أكد ذلك كله بتعليل ما ادعاه من قوله: "ما أنا بباسط يدي" إلخ: "بقوله إني أخاف الله رب العالمين" فإن ذكر المتقين لربهم و هو الله رب العالمين الذي يجازي في كل إثم بما يتعقبه من العذاب ينبه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى، و لا يخليهم و إن يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة.

ثم ذكر تأويل قوله: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي" إلخ بمعنى حقيقة هذا الذي أخبر به، و محصله أن الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك، و ليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه و ليس بظالم، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم بقتله و يسعد هو و ليس بظالم، و هذا هو المراد بقوله: "إني أريد، إلخ" كنى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر.

فالآية في كونها تأويلا لقوله: "لئن بسطت إلي يدك" إلخ كالذي وقع في قصة موسى و صاحبه حين قتل غلاما لقياه فاعترض عليه موسى بقوله: "أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا" فنبأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله: "و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما": الكهف: 81.



فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة و إن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء و الدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة و إن استلزم الحزن و الأسى من أبويه على حياته و صيرورته طاغيا كافرا يضل بنفسه و يضل أبويه، و الله يعوضهما منه من هو خير منه زكاة و أقرب رحما.

و الرجل أعني ابن آدم المقتول من المتقين العلماء بالله، أما كونه من المتقين فلقوله: "إنما يتقبل الله من المتقين" المتضمن لدعوى التقوى، و قد أمضاها الله تعالى بنقله من غير رد، و أما كونه من العلماء بالله فلقوله: "إني أخاف الله رب العالمين" فقد ادعى مخافة الله و أمضاها الله سبحانه منه، و قد قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء": فاطر: 28 فحكايته تعالى قوله: "إني أخاف الله رب العالمين" و إمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضا بالعلم إذ قال: "و علمناه من لدنا علما": الكهف: 65.

و كفى له علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة و الموعظة الحسنة فإنه بين عن طهارة طينته و صفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدتهم ثم تختلف بحسب الطبع البشري جماعتهم فيكون منهم متقون و آخرون ظالمون، و أن لهم جميعا و لجميع العالمين ربا واحدا يملكهم و يدبر أمرهم، و أن من التدبير المتقن أن يحب و يرتضي العدل و الإحسان، و يكره و يسخط الظلم و العدوان و لازمه وجوب التقوى و مخافة الله على الإنسان و هو الدين، فهناك طاعات و قربات و معاصي و مظالم، و أن الطاعات و القربات إنما تتقبل إذا كانت عن تقوى، و أن المعاصي و المظالم آثام يحملها الظالم، و من لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء، و جزاء الظالمين النار.

و هذه - كما ترى - أصول المعارف الدينية و مجامع علوم المبدأ و المعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشيء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتى تعلمه من الغراب، و هو لم يقل لأخيه حينما كلمه: إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك و لم أدافع عن نفسي و لا أتقي القتل، و إنما قال: ما كنت لأقتلك.

و لم يقل: إني أريد أن أقتل بيدك على أي تقدير لتكون ظالما فتكون من أصحاب النار فإن التسبيب إلى ضلال أحد و شقائه في حياته ظلم و ضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، و إنما قال: إني أريد ذلك و أختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم و التعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط و الانظلام حيث لم يخاطبه و لم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلم له أمر نفسه و طاوعه في إرادة قتله حيث قال له: "لئن بسطت إلي يدك" إلخ.

وجه الاندفاع أنه، لم يقل: إني لا أدافع عن نفسي و أدعك و ما تريد مني و إنما قال: لست أريد قتلك، و لم يذكر في الآية أنه قتل و لم يدافع عن نفسه على علم منه بالأمر فلعله قتله غيلة أو قتله و هو يدافع أو يحترز.

و كذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال: "إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار" كبعض المتقشفين من أهل العبادة و الورع حيث يرى أن الذي عليه هو التزهد و التعبد، و إن ظلمه ظالم أو تعدى عليه متعد حمل الظالم وزر ظلمه، و ليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر و الاحتساب.



و هذا من الجهل، فإنه من الإعانة على الإثم، و هي توجب اشتراك المعين و المعان في الإثم جميعا لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معا.

وجه الاندفاع: أن قوله: "إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك"، قول على تقدير بالمعنى الذي تقدم بيانه.

و قد أجيب عن الإشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها.

قوله تعالى: "إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار"، أي ترجع بإثمي و إثمك كما فسره بعضهم، و قال الراغب في مفرداته: أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابئا بنازلة، و بوأت له مكانا: سويته فتبوء - إلى أن قال - و قوله: إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك أي تقيم بهذه الحالة.

قال: أنكرت باطلها و بؤت بحقها.

انتهى و على هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى.

و المراد بقوله: "أن تبوء بإثمي و إثمك" أن ينتقل إثم المقتول ظلما إلى قاتله على إثمه الذي كان له فيجتمع عليه الإثمان، و المقتول يلقى الله سبحانه و لا إثم عليه، فهذا ظاهر قوله: "أن تبوء بإثمي و إثمك" و قد ورد بذلك الروايات و الاعتبار العقلي يساعد عليه.

و قد تقدم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و الإشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الإنسان بذنب غيره، و العقل يحكم بخلافه، و قد قال تعالى: "لا تزر وازرة وزر أخرى": النجم: 38. مدفوع بأن ذلك ليس من أحكام العقل النظري حتى يختم عليه باستحالة الوقوع، بل من أحكام العقل العملي التي تتبع مصالح المجتمع الإنساني في ثبوتها و تغيرها، و من الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر عن أحد فعلا صادرا عن غيره و يكتبه عليه و يؤاخذه به، أو الفعل الصادر عنه غير صادر عنه كما إذا قتل إنسانا و للمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه، فمن الجائز أن يستوفي المجتمع حقوقه من القاتل، و كما إذا بغى على المجتمع بالخروج و الإفساد و الإخلال بالأمن العام فإن للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغي كأن لم تكن، إلى غير ذلك.

ففي هذه الموارد و أمثالها لا يرى المجتمع السيئات التي صدرت من المظلوم إلا أوزارا للظالم، و إنما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها، لأنها تملكتها من الغير بما أوقعته عليه من الظلم و الشر نظير ما يبتاع الإنسان ما يملكه غيره بثمن، فكما أن تصرفات المالك الجديد لا تمنع لكون المالك الأول مالكا للعين زمانا لانتقالها إلى غيره ملكا، كذلك لا يمنع قوله: "لا تزر وازرة وزر أخرى" مؤاخذة النفس القاتلة بسيئة بمجرد أن النفس الوازرة كانت غيرها زمانا، و لا أن قوله: "لا تزر وازرة وزر أخرى" يبقى بلا فائدة و لا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى قوله (عليه السلام): "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفسه" بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع و نحوه.

<<        الفهرس        >>