جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بقوله: "بإثمي و إثمك" بإثم قتلي إن قتلتني و إثمك الذي كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود و ابن عباس و غيرهما، أو أن المراد بإثم قتلي و إثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائي و الزجاج، أو أن معناه بإثم قتلي و إثمك الذي هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين.

و هذه وجوه ذكروها ليس على شيء منها من جهة اللفظ دليل، و لا يساعد عليه اعتبار.

على أن المقابلة بين الإثمين مع كونهما جميعا للقاتل ثم تسمية أحدهما بإثم المقتول و غيره بإثم القاتل خالية عن الوجه.

قوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" قال الراغب في مفرداته: الطوع الانقياد و يضاده الكره، و الطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار لما أمر و الارتسام فيما رسم، و قوله: فطوعت له نفسه نحو أسمحت له قرينته و انقادت له و سولت، و طوعت أبلغ من أطاعت و طوعت له نفسه بإزاء قولهم: تابت عن كذا نفسه.

انتهى ملخصا.

و ليس مراده أن طوعت مضمن معنى انقادت أو سولت بل يريد أن التطويع يدل على التدريج كالإطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابي الإفعال و التفعيل فالتطويع في الآية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة و همامة بعد همامة تنقاد لها حتى تتم لها الطاعة الكاملة فالمعنى: انقادت له نفسه و أطاعت أمره إياها بقتل أخيه طاعة تدريجية، فقوله: "قتل أخيه" من وضع المأمور به موضع الأمر كقولهم: أطاع كذا في موضع: أطاع الأمر بكذا.

و ربما قيل: إن قوله: طوعت بمعنى زينت فقوله: "قتل أخيه" مفعول به، و قيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض، و معنى الآية ظاهر.

و ربما استفيد من قوله: "فأصبح من الخاسرين" أنه إنما قتله ليلا، و فيه كما قيل: إن أصبح - و هو مقابل أمسى - و إن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، و في القرآن شيء كثير من هذا القبيل كقوله: "فأصبحتم بنعمته إخوانا": آل عمران: 130 و قوله: "فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين": المائدة: 52 فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصلي في المقام.

قوله تعالى: "فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه" البحث طلب الشيء في التراب ثم يقال: بحثت عن الأمر بحثا كذا في المجمع،.

و المواراة: الستر، و منه التواري للتستر، و الوراء لما خلف الشيء.

و السوأة ما يتكرهه الإنسان.

و الويل الهلاك.

و يا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، و العجز مقابل الاستطاعة.

و الآية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقي زمانا على تحير من أمره، و كان يحذر أن يعلم به غيره، و لا يدري كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب، و لو كان بعث الغراب و بحثه و قتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله: "يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب". و كذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الأرض بعد البحث فإن ظاهر الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية المواراة لا كيفية البحث، و مجرد البحث ما كان يعلمه كيفية المواراة و هو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة و لا تلازم بينهما بوجه؟ فإنما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الأرض ثم دفن فيها شيئا.



و الغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض و بعض ما يقتات بالحب و نحوه من الطير و إن كان ربما بحث في الأرض لكنه للحصول على مثل الحبوب و الديدان لا للدفن و الإدخار.

و ما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في "ليريه" إلى الغراب هو الظاهر من الكلام لكونه هو المرجع القريب، و ربما قيل: إن الضمير راجع إلى الله سبحانه، و لا بأس به لكنه لا يخلو عن شيء من البعد، و المعنى صحيح على التقديرين، و أما قوله: "قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، فإنما قاله لأنه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث و المواراة، و عند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة، و ندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هو الوسيلة القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله: "يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي" و هو تخاطب جار بينه و بين نفسه على طريق الاستفهام الإنكاري، و التقدير أن يستفهم منكرا: أ عجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتواري سوأة أخيك؟ فيجاب: لا.

ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال: فلم غفلت عن ذلك و لم تتوسل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها و أشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب؟ و لا جواب عن هذه المسألة، و فيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الإنسان و تألم باطني يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الأسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة، و إن شئت فقل هي تأثر الإنسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان من الإمكانات.

و هذا حال الإنسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلا بد أن يظهر أثر هذه الأمور المنافية له و إن خفيت على الناس في أول حدوثها، و الإنسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله و ليس بقابل نظير أن يأكل الإنسان أو يشرب شيئا من السم و هو يريد أن يهضمه جهاز هضمه و ليس بهاضم، فهو و إن أمكن وروده في باطنه لكن له موعدا لن يخلفه و مرصدا لن يتجاوزه، و إن ربك لبالمرصاد.

و عند ذلك يظهر للإنسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته و رعايته فيندم لذلك، و لو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر و لا يزال الأمر على ذلك حتى يفضحه الله على رءوس الأشهاد.

و قد اتضح بما تقدم من البيان: أن قوله: "فأصبح من النادمين" إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، و ربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل و ليس ببعيد.

كلام في معنى الإحساس و التفكير



هذا الشطر من قصة ابني آدم أعني قوله تعالى: "فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين" آية واحدة في القرآن لا نظيرة لها من نوعها و هي تمثل حال الإنسان في الانتفاع بالحس، و أنه يحصل خواص الأشياء من ناحية الحس، ثم يتوسل بالتفكر فيها إلى أغراضه و مقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلمي أن علوم الإنسان و معارفه تنتهي إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر و العلم الفطري.

و توضيحه أنك إذا راجعت الإنسان فيما عنده من الصور العلمية من تصور أو تصديق جزئي أو كلي و بأي صفة كانت علومه و إدراكاته وجدت عنده و إن كان من أجهل الناس و أضعفهم فهما و فكرا صورا كثيرة و علوما جمة لا تكاد تنالها يد الإحصاء بل لا يحصيها إلا رب العالمين.

و من المشهود من أمرها على كثرتها و خروجها عن طور الإحصاء و التعديد أنها لا تزال تزيد و تنمو مدة الحياة الإنسانية في الدنيا، و لو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثم تنقص حتى تنتهي إلى الصفر، و عاد الإنسان و ما عنده شيء من العلم بالفعل قال تعالى: "علم الإنسان ما لم يعلم": العلق: 5.

و ليس المراد بالآية أنه تعالى يعلمه ما لم يعلم و أما ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربه فإن من الضروري أن العلم في الإنسان أيا ما كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده و ينتفع به في حياته، و الذي تسير إليه أقسام الأشياء غير الحية بالانبعاثات الطبيعية تسير و تهتدي أقسام الموجودات الحية - و منها الإنسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى.

و قد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50 و قال: الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3 و قال و هو بوجه من الهداية بالحس و الفكر: "أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر": النمل: 63 و قد مر شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة، و بالجملة لما كان كل علم هداية و كل هداية فهي من الله كان كل علم للإنسان بتعليمه تعالى.

و يقرب من قوله: "علم الإنسان ما لم يعلم" قوله: "و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة": النحل: 78.

و التأمل في حال الإنسان و التدبر في الآيات الكريمة يفيدان أن علم الإنسان النظري أعني العلم بخواص الأشياء و ما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدىء من الحس فيعلمه الله من طريقه خواص الأشياء كما يدل عليه قوله: "فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه" الآية.

فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب و إن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذي بعثه، و كذلك ابن آدم لم يكن يدري أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره و تعلمه، و كانت سببية الغراب و بحثه بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهري سببية اتفاقية كسائر الأسباب الاتفاقية التي تعلم الإنسان طرق تدبير المعاش و المعاد، لكن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان و ساقه إلى كمال العلم لغاية حياته، و نظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماس و التصاك تقع بينه و بين أجزاء الكون، فيتعلم بها الإنسان ما يتوسل به إلى أغراضه و مقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذي يبعث الغراب و غيره إلى عمل يتعلم به الإنسان شيئا فهو المعلم للإنسان.



و لهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى: "و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله": المائدة: 4 عد ما علموه و علموه مما علمهم الله و إنما تعلموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، و قوله: "و اتقوا الله و يعلمكم الله": البقرة: 228 و إنما كانوا يتعلمونه من الرسول، و قوله: "و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله": البقرة: 228 و إنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة في الخلق و التدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الذي يستكمل به الإنسان فالله سبحانه هو معلمه بهذه الأسباب كما أن المعلم من الإنسان يعلم بالقول و التلقين، و الكاتب من الإنسان يعلم غيره بالقول و القلم مثلا.

و هذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه و بينه و بين مخلوقة أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر و هي أدوات و آلات لوجود الشيء، و إن شئت فقل: هي من شرائط وجود الشيء الذي تعلق وجوده من جميع جهاته و أطرافه بالأسباب، فمن شرائط وجود زيد "الذي ولده عمرو و هند" أن يتقدمه عمرو و هند و ازدواج و تناكح بينهما، و إلا لم يوجد زيد المفروض، و من شرائط "الإبصار بالعين الباصرة" أن تكون قبله عين باصرة، و هكذا.

فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفي الأسباب و إلغائها، و قدر أن ذلك أبلغ في إثبات قدرته المطلقة و نفي العجز عنه، و زعم أن إثبات ضرورة تخلل الأسباب قول بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الإيجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر.

و بالجملة فالله سبحانه هو الذي علم الإنسان خواص الأشياء التي تنالها حواسه نوعا من النيل، علمه إياها من طريق الحواس، ثم سخر له ما في الأرض و السماء جميعا، قال تعالى: "و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه": الجاثية: 13.

و ليس هذا التسخير إلا لأن يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه و أمانيه في الحياة أي أنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها، و جعله متفكرا يهتدي إلى كيفية التصرف و الاستعمال و التوسل، و من الدليل على ذلك قوله تعالى: "أ لم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض و الفلك تجري في البحر بأمره": الحج: 65، و قوله تعالى: "و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون": الزخرف: 12، و قوله تعالى: "عليها و على الفلك تحملون": غافر: 80 و غير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه و هو من صنع الإنسان، ثم نسب الحمل إليه تعالى و هو من صنع الفلك و الأنعام و نسب جريانها في البحر إلى أمره و هو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار و نحوه، و سمي ذلك كله تسخيرا منه للإنسان لما أن لإرادته نوع حكومة في الفلك و ما يناظرها من الأنعام و في الأرض و السماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.

و بالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه الفكرية الجارية في التكوينيات أعني العلوم النظرية.

قال تعالى: "و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون": النحل: 78 و أما العلوم العملية و هي التي تجري فيما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي فإنما هي بإلهام من الله سبحانه من غير أن يوجدها حس أو عقل نظري، قال تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها": الشمس: 10 و قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم": الروم: 30 فعد العلم بما ينبغي فعله و هو الحسنة و ما لا ينبغي فعله و هو السيئة مما يحصل له بالإلهام الإلهي و هو القذف في القلب.



فجميع ما يحصل للإنسان من العلم إنما هي هداية إلهية و بهداية إلهية، غير أنها مختلفة بحسب النوع: فما كان من خواص الأشياء الخارجية فالطريق الذي يهدي به الله سبحانه الإنسان هو طريق الحس، و ما كان من العلوم الكلية الفكرية فإنما هي بإعطاء و تسخير إلهي من غير أن يبطله وجود الحس أو يستغني الإنسان عنها في حال من الأحوال، و ما كان من العلوم العملية المتعلقة بصلاح الأعمال و فسادها و ما هو تقوى أو فجور فإنما هي بإلهام إلهي بالقذف في القلوب و قرع باب الفطرة.

و القسم الثالث الذي يرجع بحسب الأصل إلى إلهام إلهي إنما ينجح في عمله و يتم في أثره إذا صلح القسم الثاني و نشأ على صحة و استقامة كما أن العقل أيضا إنما يستقيم في عمله إذا استقام الإنسان في تقواه و دينه الفطري، قال تعالى: "و ما يذكر إلا أولوا الألباب: آل عمران: 7 و قال تعالى: "و ما يتذكر إلا من ينيب": غافر: 13 و قال تعالى: "و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة": الأنعام: 101 و قال تعالى: "و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه": البقرة: 103 أي لا يترك مقتضيات الفطرة إلا من فسد عقله فسلك غير سبيله.

و الاعتبار يساعد هذا التلازم الذي بين العقل و التقوى، فإن الإنسان إذا أصيب في قوته النظرية فلم يدرك الحق حقا أو لم يدرك الباطل باطلا فكيف يلهم بلزوم هذا أو اجتناب ذاك؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادية المعجلة شيء فإنه لا يلهم التقوى الديني الذي هو خير زاد للعيشة الآخرة.

و كذلك الإنسان إذا فسد دينه الفطري و لم يتزود من التقوى الديني لم تعتدل قواه الداخلية المحسة من شهوة أو غضب أو محبة أو كراهة و غيرها، و مع اختلال أمر هذه القوى لا تعمل قوة الإدراك النظرية عملها عملا مرضيا.

و البيانات القرآنية تجري في بث المعارف الدينية و تعليم الناس العلم النافع هذا المجرى، و تراعي الطرق المتقدمة التي عينتها للحصول على المعلومات، فما كان من الجزئيات التي لها خواص تقبل الإحساس فإنها تصريح فيها إلى الحواس كالآيات المشتملة على قوله: "أ لم تر أ فلا يرون أ فرأيتم، أ فلا تبصرون" و غير ذلك و ما كان من الكليات العقلية مما يتعلق بالأمور الكلية المادية أو التي هي وراء عالم الشهادة فإنها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما و إن كانت غائبة عن الحس خارجة عن محيط المادة و الماديات، كغالب الآيات الراجعة إلى المبدأ و المعاد المشتملة على أمثال قوله: "لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون، يفقهون، و غيرها، و ما كان من القضايا العملية التي لها مساس بالخير و الشر و النافع و الضار في العمل و التقوى و الفجور فإنها تستند فيها إلى الإلهام الإلهي بذكر ما بتذكره يشعر الإنسان بإلهامه الباطني كالآيات المشتملة على مثل قوله: "ذلكم خير لكم، فإنه آثم قلبه، فيهما إثم، و الإثم و البغي بغير الحق، إن الله لا يهدي" و غيرها، و عليك بالتدبر فيها.

و من هنا يظهر أولا: أن القرآن الكريم يخطىء طريق الحسيين و هم المعتمدون على الحس و التجربة، النافون للأحكام العقلية الصرفة في الأبحاث العلمية، و ذلك أن أول ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه، ثم يرجع إليه و يبتنى عليه جميع المعارف الحقيقية التي يبينها و يدعو إليها.

و من المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس، و بينونة للمادة و ارتباطا بالأحكام العقلية الصرفة.



و القرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله": الروم: 30 أي إن الخلقة الإنسانية نوع من الإيجاد يستتبع هذه العلوم و الإدراكات، و لا معنى لتبديل خلق إلا أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق و الإيجاد، و أما تبديل الإيجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الإنسان، و حاشا ذلك أن يبطل علومه الفطرية، و يسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة، و أما الانحراف المشهود عن أحكام الفطرة فليس إبطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال نظير ما ربما يتفق أن الرامي لا يصيب الهدف في رميته فإن آلة الرمي و سائر شرائطه موضوعة بالطبع للإصابة إلا أن الاستعمال يوقعها في الغلط، و السكاكين و المناشير و المثاقب و الإبر و أمثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوجة تعمل عملها الذي فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب و غير ذلك لكن لا على الوجه المقصود، و أما الانحراف عن العمل الفطري كان يخاط بنشر المنشار، بأن يعوض المنشار فعل الإبرة من فعل نفسه، فيضع الخياطة موضع النشر، فمن المحال ذلك.

و هذا ظاهر لمن تأمل عامة ما استدل به القوم على صحة طريقهم كقولهم: إن الأبحاث العقلية المحضة، و القياسات المؤلفة من مقدمات بعيدة من الحس يكثر وقوع الخطإ فيها كما يدل عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقلية المحضة فلا ينبغي الاعتماد عليها لعدم اطمينان النفس إليها.

و قولهم في الاستدلال على صحة طريق الحس و التجربة: أن الحس آلة لنيل خواص الأشياء بالضرورة و إذا أحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثم تكرر مشاهدة الأثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلف و اختلاف كشف ذلك عن أن هذا الأثر خاصة الموضوع من غير اتفاق لأن الاتفاق لا يدوم البتة.

و الدليلان كما ترى سيقا لإثبات وجوب الاعتماد على الحس و التجربة و رفض السلوك العقلي المحض مع كون المقدمات المأخوذة فيهما جميعا مقدمات عقلية خارجة عن الحس و التجربة ثم أريد بالأخذ بهذه المقدمات العقلية إبطال الأخذ بها، و هذا هو الذي تقدم أن الفطرة لن تبطل البتة و إنما يغلط الإنسان في كيفية استعمالها!.

و أفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الأحكام المشرعة و القوانين الموضوعة كأن يوضع حكم ثم يجري بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء و نحوه فإن غلب على موارد جريانه حسن النتيجة أخذ حكما ثابتا جاريا و إلا ألقى في جانب و أخذ آخر كذلك و هكذا، و نظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان.

و القرآن يبطل ذلك كله بإثبات أن الأحكام المشرعة فطرية بينة، و التقوى و الفجور العامين إلهاميان علميان، و أن تفاصيلها مما يجب أخذه من ناحية الوحي، قال تعالى: "و لا تقف ما ليس لك به علم": إسراء: 36 و قال: "و لا تتبعوا خطوات الشيطان": البقرة: 186 و القرآن يسمى الشريعة المشرعة حقا قال تعالى: "أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": البقرة: 231 و قال: "و إن الظن لا يغني من الحق شيئا": النجم: 28 و كيف يغني و في اتباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل و هو الضلال؟ قال: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال": يونس: 32 و قال: "فإن الله لا يهدي من يضل": النحل: 37 أي إن الضلال لا يصلح طريقا يوصل الإنسان إلى خير و سعادة فمن أراد أن يتوسل بباطل إلى حق أو بظلم إلى عدل أو بسيئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد أخطأ الطريق، و طمع من الصنع و الإيجاد الذي هو الأصل للشرائع و القوانين فيما لا يسمح له بذلك البتة، و لو أمكن ذلك لجرى في خواص الأشياء المتضادة، و تكفل أحد الضدين ما هو من شأن الآخر من العمل و الأثر.

و كذلك القرآن يبطل طريق التذكر الذي فيه إبطال السلوك العلمي الفكري و عزل منطق الفطرة، و قد تقدم الكلام في ذلك.



و كذلك القرآن يحظر على الناس التفكر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه، و قد تقدم الكلام فيه أيضا في الجملة، و لذلك ترى القرآن فيما يعلم من شرائع الدين يشفع الحكم الذي يبينه بفضائل أخلاقية و خصال حميدة تستيقظ بتذكرها في الإنسان غريزة تقواه، فيقوى على فهم الحكم و فقهه، و اعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى: "و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله و اليوم الآخر ذلكم أزكى لكم و أطهر و الله يعلم و أنتم لا تعلمون": البقرة: 223 و قوله تعالى: "و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين": البقرة: 139 و قوله تعالى: "و أقم الصلوة إن الصلوة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون": العنكبوت: 45.

قوله تعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" في المجمع:، الأجل في اللغة الجناية، انتهى.

و قال الراغب في المفردات:، الأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية و ليس كل جناية أجلا.

يقال: فعلت ذلك من أجله، انتهى.

ثم استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إن كذا سبب فعلي، و لعل استعمال الكلمة في التعليل ابتدأ أولا في مورد الجناية و الجريرة كقولنا: أساء فلان و من أجل ذلك أدبته بالضرب أي إن ضربي ناش من جنايته و جريرته التي هي إساءته أو من جناية هي إساءته، ثم أرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبي لك و لأجل حبي لك.

و ظاهر السياق أن الإشارة بقوله: "من أجل ذلك" إلى نبأ ابني آدم المذكور في الآيات السابقة أي إن وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سببا لكتابتنا على بني إسرائيل كذا و كذا، و ربما قيل: إن قوله: "من أجل ذلك" متعلق بقوله في الآية السابقة: "فأصبح من النادمين" أي كان ذلك سببا لندامته، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد كما في قوله تعالى: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون في الدنيا و الآخرة و يسألونك عن اليتامى" الآية: البقرة: 202 إلا أن لازم ذلك كون قوله: "كتبنا على بني إسرائيل" إلخ مفتتح الكلام و المعهود من السياقات القرآنية أن يؤتى في مثل ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفا و غيرها.

و أما وجه الإشارة في قوله: "من أجل ذلك" إلى قصة ابني آدم فهو أن القصة تدل على أن من طباع هذا النوع الإنساني أن يحمله اتباع الهوى و الحسد الذي هو الحنق للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شيء على منازعة الربوبية و إبطال غرض الخلقة بقتل أحدهم أخاه من نوعه و حتى شقيقه لأبيه و أمه.

فأشخاص الإنسان إنما هم أفراد نوع واحد و أشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد منهم من الإنسانية ما يحمله الكثيرون، و يحمل الكل ما يحمله البعض و إنما أراد الله سبحانه بخلق الأفراد و تكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة التي ليس من شأنها أن تعيش إلا زمانا يسيرا، و يدوم بقاؤها فيخلف اللاحق السابق و يعبد الله سبحانه في أرضه، فإفناء الفرد بالقتل إفساد في الخلقة و إبطال لغرض الله سبحانه في الإنسانية المستبقاة بتكثير الأفراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه: "ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" فأشار إلى أن القتل بغير الحق منازعة الربوبية.



فلأجل أن من طباع الإنسان أن يحمله أي سبب واه على ارتكاب ظلم يئول بحسب الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبية و غرض الخلقة في الإنسانية العامة، و كان من شأن بني إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد و الكبر و اتباع الهوى و إدحاض الحق و قد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع و منزلته بحسب الدقة، و أخبرهم بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، و بالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.

و هذه الكتابة و إن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة و الاعتبار، و له تأثير في إثارة الغضب و السخط الإلهي في دنيا أو آخرة.

و بعبارة مختصرة: معنى الجملة أنه لما كان من طباع الإنسان أن يندفع بأي سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، و كان من أمر بني إسرائيل ما كان، بينا لهم منزلة قتل النفس لعلهم يكفون عن الإسراف و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون.

و أما قوله: "إنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس و هو القود و القصاص و هو قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى": البقرة: 187 و قتل النفس بالفساد في الأرض، و ذلك قوله في الآية التالية: "إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا" الآية.

و أما المنزلة التي يدل عليها قوله: "فكأنما" إلخ فقد تقدم بيانه أن الفرد من الإنسان من حيث حقيقته المحمولة له التي تحيا و تموت إنما يحمل الإنسانية التي هي حقيقة واحدة في جميع الأفراد و البعض و الكل، و الفرد الواحد و الأفراد الكثيرون فيه واحد، و لازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الإنسان و بالعكس إحياء النفس الواحدة بمنزلة إحياء الناس جميعا، و هو الذي تفيده الآية الشريفة.

و ربما أشكل على الآية أولا: بأن هذا التنزيل يفضي إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان أهمية قتل النفس و عظمته من حيث الإثم و الأثر، و لازمه أن تزيد الأهمية كلما زاد عدد القتل، و تنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء فإن من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، و تبقى الباقي و ليس بإزائه شيء.

و لا يندفع الإشكال بأن يقال: إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع و إن قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لأن مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، و اللفظ لا يفي ببيان ذلك.

على أن الجميع مؤلف من آحاد كل واحد منها يعدل الجميع المؤلف من الآحاد كذلك، و يذهب إلى ما لا نهاية له، و لا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع من غير آحاد.

على أن الله تعالى يقول: "من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها": الأنعام: 106 و ثانيا: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع إن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره و هو محال بالبداهة، و إن أريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفسا فكأنما قتل غيرها من النفوس، و هو معنى رديء مفسد للغرض من الكلام و هو بيان غاية أهمية هذا الظلم.

على أن إطلاق قوله: "فكأنما قتل الناس جميعا" من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال.

و لا يندفع هذا الإشكال بمثل قولهم: إن المراد هو المعادلة من حيث العقوبة أو مضاعفة العذاب و نحو ذلك و هو ظاهر.



و الجواب عن الإشكالين: أن قوله: "من قتل نفسا - إلى قوله - فكأنما قتل الناس جميعا" كناية عن كون الناس جميعا ذوي حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحد منهم و الجميع فيها سواء، فمن قصد الإنسانية التي في الواحد منهم فقد قصد الإنسانية التي في الجميع كالماء إذا وزع بين أواني كثيرة فمن شرب من أحد الآنية فقد شرب الماء، و قد قصد الماء من حيث إنه ماء - و ما في جميع الآنية لا يزيد على الماء من حيث إنه ماء - فكأنه شرب الجميع، فجملة: "من قتل، إلخ" كناية في صورة التشبيه، و الإشكالان مندفعان، فإن بناءهما على كون التشبيه بسيطا يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبه عددا إذ لو سوي حينئذ بين الواحد و الجميع فسد المعنى و عرض الإشكال كما لو قيل: الواحد من القوم كالواحد من الأسد و الواحد منهم كالجميع في البطش و البسالة.

و أما قوله تعالى: "و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، و المراد بالإحياء ما يعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق و إطلاق الأسير، و قد عد الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحق إحياء قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122 فمن دل نفسا إلى الإيمان فقد أحياها.

و أما قوله تعالى: "و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات" فهو معطوف على صدر الآية أي و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات يحذرونهم القتل و كل ما يلحق به من وجوه الفساد في الأرض.

و أما قوله تعالى: "ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" فهو متمم للكلام، بانضمامه إليه يستنتج الغرض المطلوب من البيان، و هو ظهور أنهم قوم مفسدون مصرون على استكبارهم و عتوهم فلقد بينا لهم منزلة القتل و جاءتهم رسلنا فيها و في غيرها بالبينات، و بينوا لهم و حذروهم و هم مع ذلك لم ينتهوا عن إصرارهم على العتو و الاستكبار فأسرفوا في الأرض قديما و لا يزالون يسرفون.

و الإسراف الخروج عن القصد و تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، و إن كان يغلب عليه الاستعمال في مورد الإنفاق كقوله تعالى: "و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما": الفرقان: 67 على ما ذكره الراغب في المفردات،.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قرب ابنا آدم القربان فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال: تقبل من هابيل و لم يتقبل من قابيل دخله من ذلك حسد شديد، و بغى على هابيل، و لم يزل يرصده و يتبع خلوته حتى ظفر به متنحيا من آدم فوثب عليه و قتله، فكان من قصتهما ما قد أنبأ الله في كتابه مما كان بينهما من المحاورة قبل أن يقتله، الحديث.

أقول: و الرواية من أحسن الروايات الواردة في القصة و هي رواية طويلة يذكر (عليه السلام) فيها: تولد هبة الله شيث لآدم بعد ذلك و وصيته له و جريان أمر الوصية بين الأنبياء، و سننقلها إن شاء الله في موضع يناسبها، و ظاهرها أن قابيل إنما قتل هابيل غيلة من غير أن يمكنه من نفسه، كما هو المناسب للاعتبار، و قد تقدم في البيان المتقدم.

و اعلم: أن الذي ضبطته الروايات من اسم الابنين: هابيل و قابيل، و الذي في التوراة الدائرة: هابيل و قايين.

و لا حجة في ذلك لانتهاء سند التوراة إلى واحد مجهول الحال مع ما هي عليه من التحريف الظاهر.



و في تفسير القمي، قال: حدثنا أبي عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثمالي، عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يحدث رجالا من قريش قال: لما قربا ابنا آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، و قرب الآخر ضغثا من سنبل فتقبل من صاحب الكبش و هو هابيل، و لم يتقبل من الآخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: و الله لأقتلنك، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذي بقي في الأرض بمخالبه، و دفن فيه صاحبه، قال قابيل: يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين، فحفر له حفيرة و دفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى. فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني؟ قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا؟ فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، و أوجس نفس آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدم. فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوما و ليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله فأوحى الله إليه أني واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل فولدت حواء غلاما زكيا مباركا فلما كان في اليوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إن هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله فسماه آدم هبة الله.

أقول: الرواية من أوسط الروايات الواردة في القصة و ما يلحق بها و هي مع ذلك لا تخلو عن تشويش في متنها حيث إن ظاهرها أن قابيل أوعد هابيل بالقتل ثم لم يدر كيف يقتل؟ و هو معنى غير معقول إلا أن يراد أنه تحير في أنه أي سبب من أسباب القتل؟ يختاره لقتله فأشار إليه إبليس - لعنه الله - أن يشدخ رأسه بالحجارة، و هناك روايات أخر مروية من طرق أهل السنة و الشيعة يقرب مضمونها من مضمون هذه الرواية.

و اعلم أن في القصة روايات كثيرة مختلفة المضامين عجيبتها كالقائلة إن الله أخذ كبش هابيل فخزنه في الجنة أربعين خريفا ثم فدى به إسماعيل فذبحه إبراهيم، و القائلة: إن هابيل مكن قابيل من نفسه و أنه تحرج أن يبسط يده إلى أخيه، و القائلة إن قابيل لما قتل أخاه عقل الله إحدى رجليه إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة و جعل وجهه إلى اليمين حيث دار دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، و عليه في الصيف حظيرة من نار و معه سبعة أملاك كلما ذهب ملك جاء الآخر، و القائلة: إنه معذب في جزيرة من جزائر البحر علقه الله منكوسا و هو كذلك إلى يوم القيامة، و القائلة: إن قابيل بن آدم معلق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة صيره الله إلى النار، و القائلة: إن ابن آدم الذي قتل أخاه كان قابيل الذي ولد في الجنة، و القائلة: إن آدم لما بان له قتل هابيل رثاه بعدة أبيات بالعربية، و القائلة: إنه كان من شريعتهم أن الإنسان إذا قصده آخر تركه و ما يريد من غير أن يمتنع منه، إلى غير ذلك من الروايات.

فهذه و أمثالها روايات من طرق جلها أو كلها ضعيفة، و هي لا توافق الاعتبار الصحيح و لا الكتاب يوافقها فهي بين موضوعة بينة الوضع و بين محرفة أو مما غلط فيه الرواة من جهة النقل بالمعنى.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يعجز أحدكم أتاه الرجل أن يقتله أن يقول هكذا؟ و قال: بإحدى يديه على الأخرى فيكون كالخير من ابني آدم، و إذا هو في الجنة و إذا قاتله في النار.

أقول: و هي من روايات الفتن، و هي كثيرة روى أكثرها السيوطي في الدر المنثور، كالذي رواه عن البيهقي عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اكسروا سيفكم يعني في الفتنة و اقطعوا أوتاركم و الزموا أجواف البيوت، و كونوا فيها كالخير من ابني آدم، و ما رواه عن ابن جرير و عبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الأمة فخذوا بالخير منهما، إلى غير ذلك.

و هذه روايات لا تلائم بظاهرها الاعتبار الصحيح المؤيد بالآثار الصحيحة الآمرة بالدفاع عن النفس و الانتصار للحق، و قد قال تعالى: "و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله": الحجرات: 9.



على أنها جميعا تفسر قوله تعالى في القصة حكاية عن هابيل: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" بأن المراد تمكين هابيل لأخيه في قتله و تركه الدفاع، و قد عرفت ما فيه.

و مما يوجب سوء الظن بها أنها مروية عن أناس قعدوا في فتنة الدار و في حروب علي (عليه السلام) مع معاوية و الخوارج و طلحة و الزبير، فالواجب توجيهها بوجه إن أمكن و إلا فالطرح.

و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن علي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: بدمشق جبل يقال له: "قاسيون" فيه قتل ابن آدم أخاه.

أقول: و الرواية لا بأس بها غير أن ابن عساكر روى بطريق عن كعب الأحبار أنه قال: إن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، و بطريق آخر عن عمرو بن خبير الشعباني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران فرأى لجة سائلة في الجبل فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه، و هذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين.

و الروايتان تدلان على أنه كان هناك أثر ثابت يدعى أنه دم هابيل المقتول، و يشبه أن يكون ذلك من الأمور الخرافية التي ربما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة و إيتاء النذور و إهداء الهدايا نظير آثار الأكف و الأقدام المعمولة على الأحجار و قبر الجدة و غير ذلك.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة و الشيعة بغير هذا الطريق.

و في الكافي، بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام)، ما معنى قول الله عز و جل "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل - أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا"؟ قال: قلت: و كيف فكأنما قتل الناس جميعا و إنما قتل واحدة؟ قال: يوضع في موضع من جهنم إليه منتهى شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه: أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن حمران مثله.

و قوله: "قلت: فإن قتل آخر؟" إشارة إلى ما تقدم بيانه من إشكال لزوم تساوي القتل الواحد معه منضما إلى غيره، و قد أجاب (عليه السلام) عنه بقوله: "يضاعف عليه" و لا يرد عليه أنه رفع اليد عن التسوية التي يشير إليه حديث المنزلة: "من قتل نفسا بغير نفس" إلخ حيث إن لازم المضاعفة عدم تساوي الواحد و الكثير أو الجميع، وجه عدم الورود أن تساوي المنزلة راجع إلى سنخ العذاب و هو كون قاتل الواحد و الاثنين و الجميع في واد واحد من أودية جهنم، و يشير إليه قوله (عليه السلام) في الرواية: "لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان".



و يشهد على ما ذكرنا ما رواه العياشي في تفسيره عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال (عليه السلام) منزلة في النار إليها انتهاء شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها، قلت: و إن كان قتل اثنين؟ قال: أ لا ترى أنه ليس في النار منزلة أشد عذابا منها؟ قال: يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل، الحديث فإن الجمع بين النفي و الإثبات في جوابه (عليه السلام) ليس إلا لما وجهنا به الرواية، و هو أن الاتحاد و التساوي في سنخ العذاب، و إليه تشير المنزلة، و الاختلاف في شخصه و نفس ما يذوقه القاتل فيه.

و يشهد عليه أيضا في الجملة ما فيه أيضا عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا" قال: واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه، و لو قتل نفس واحدة كان فيه.

أقول: و كان الآية منقولة فيها بالمعنى.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله عز و جل في كتابه: "و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" قال: من حرق أو غرق قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم: أقول: و رواه الشيخ في أماليه و البرقي في المحاسن، عن فضيل عنه (عليه السلام)، و روي الحديث عن سماعة و حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و المراد بكون الإنقاذ من الضلالة تأويلا أعظم للآية كونه تفسيرا أدق لها، و التأويل كثيرا ما كان يستعمل في صدر الإسلام مرادفا للتفسير.

و يؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله. "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا" فقال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك العذاب. قال: "و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق، و أعظم من ذلك كلها يخرجها من ضلالة إلى هدى.

أقول: و قوله "لم يقتلها" أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته: "و من أحياها فقد أحيا الناس جميعا" قال: من استخرجها من الكفر إلى الإيمان.

أقول: و قد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنة.

و في المجمع:، روي عن أبي جعفر (عليه السلام): المسرفون الذين يستحلون المحارم و يسفكون الدماء.

بحث علمي و تطبيق



في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصه: 1 و عرف آدم حواء امرأته فحبلت و ولدت قايين و قالت اقتنيت رجلا من عند الرب 2 ثم عادت فولدت أخاه هابيل و كان هابيل راعيا للغنم و كان قايين عاملا في الأرض 3 و حدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب 4 و قدم هابيل أيضا من أبكار غنمه و من سمانها فنظر الرب إلى هابيل و قربانه 5 و لكن إلى قايين و قربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا و سقط وجهه 6 فقال الرب لقايين لما ذا اغتظت و لما ذا سقط وجهك 7 إن أحسنت أ فلا رفع و إن لم تحسن فعند الباب خطيئة رابضة و إليك اشتياقها و أنت تسود عليها. 8 و كلم قايين هابيل أخاه و حدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه و قتله 9 فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أ حارس أنا لأخي 10 فقال ما ذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض 11 فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك 12 متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها تائها و هاربا تكون في الأرض 13 فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يتحمل 14 إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض و من وجهك أختفي و أكون تائها و هاربا في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني 15 فقال له الرب لذلك كل من قتله قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه و جعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده 16 فخرج قايين من لدن الرب و سكن في أرض نود شرقي عدن، انتهى.

و الذي في القرآن من قصتهما قوله تعالى: "و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين 27 لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين 28 إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين 29 فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين 30 فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين 31 آية: من المائدة - 27: 31.

و عليك أن تتدبر ما تشتمل عليه القصة على ما قصتها التوراة و على ما قصها القرآن ثم تطبق بينهما ثم تقضي ما أنت قاض.

فأول ما يبدو لك من التوراة أنها جعلت الرب تعالى موجودا أرضيا على صورة إنسان يعاشر الناس، يحكم لهم و عليهم كما يحكم أحد الناس فيهم، و يدنى و يقترب منه و يكلم كما يفعل ذلك أحدهم مع غيره ثم يختفي منه بالابتعاد و الغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب الحاضر، و بالجملة فحاله حال إنسان أرضي من جميع الجهات غير أنه نافذ الإرادة إذا أراد، ماضي الحكم إذا حكم، و على هذا الأساس يبتنى جميع تعليمات التوراة و الإنجيل فيما يبثان من التعليم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

و لازم القصة التي فيها: أن البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة و الحضور عند الله سبحانه، ثم احتجب عن قايين أو عنه و عن أمثاله و بقي الباقون على حالهم مع أن البراهين القاطعة قائمة على أن الإنسان نوع واحد متماثل الأفراد عائش في الدنيا عيشة دنيوية مادية و أن الله جل شأنه متنزه عن الاتصاف بصفات المادة و أحوالها، متقدس عن لحوق عوارض الإمكان و طوارق النقص و الحدثان، و هو الذي يبينه القرآن.

و أما القرآن فإنه يقص القصة على أساس تماثل الأفراد غير أنه يذيل قصة القتل بقصة بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الإنسان تدريجي الكمال بانيا استكماله في مدارج الكمال الحيوي على أساس الحس و الفكر.

ثم يذكر محاورة الأخوين فيقص عن المقتول من غرر المعارف الفطرية الإنسانية و أصول المعارف الدينية من التوحيد و النبوة و المعاد، ثم أمر التقوى و الظلم و هما الأصلان العاملان في جميع القوانين الإلهية و الأحكام الشرعية، ثم العدل الإلهي في مسألة القبول و الرد و المجازاة الأخروية.

ثم ندامة القاتل بعد صنعه و خسرانه في الدنيا و الآخرة، ثم يبين بعد ذلك كله أن القتل من شآمة أمره أن الذي يقع منه على نفس واحدة كالذي يقع منه على الناس جميعا و أن من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.

5 سورة المائدة - 33 - 40

إِنّمَا جَزؤُا الّذِينَ يحَارِبُونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ يَسعَوْنَ فى الأَرْضِ فَساداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصلّبُوا أَوْ تُقَطعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِك لَهُمْ خِزْىٌ فى الدّنْيَا وَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (34) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جَهِدُوا فى سبِيلِهِ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنّ الّذِينَ كفَرُوا لَوْ أَنّ لَهُم مّا فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَ مَا هُم بخَرِجِينَ مِنهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ (37) وَ السارِقُ وَ السارِقَةُ فَاقْطعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسبَا نَكَلاً مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَاب مِن بَعْدِ ظلْمِهِ وَ أَصلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوب عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (40)

بيان

الآيات غير خالية الارتباط بما قبلها، فإن ما تقدمها من قصة قتل ابن آدم أخاه و ما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل من أجله، و إن كان من تتمة الكلام على بني إسرائيل و بيان حالهم من غير أن يشتمل على حد أو حكم بالمطابقة لكنها لا تخلو بحسب لازم مضمونها من مناسبة مع هذه الآيات المتعرضة لحد المفسدين في الأرض و السراق.

قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا".

"فسادا" مصدر وضع موضع الحال، و محاربة الله و إن كانت بعد استحالة معناها الحقيقي و تعين إرادة المعنى المجازي منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الأحكام الشرعية و كل ظلم و إسراف لكن ضم الرسول إليه يهدي إلى أن المراد بها بعض ما للرسول فيه دخل، فيكون كالمتعين أن يراد بها ما يرجع إلى إبطال أثر ما للرسول عليه ولاية من جانب الله سبحانه كمحاربة الكفار مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إخلال قطاع الطريق بالأمن العام الذي بسطه بولايته على الأرض، و تعقب الجملة بقوله: "و يسعون في الأرض فسادا" يشخص المعنى المراد و هو الإفساد في الأرض بالإخلال بالأمن و قطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين، على أن الضرورة قاضية بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعامل المحاربين من الكفار بعد الظهور عليهم و الظفر بهم هذه المعاملة من القتل و الصلب و المثلة و النفي.

على أن الاستثناء في الآية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الإفساد المذكور فإنه ظاهر في أن التوبة إنما هي من المحاربة دون الشرك و نحوه.

فالمراد بالمحاربة و الإفساد على ما هو الظاهر هو الإخلال بالأمن العام، و الأمن العام إنما يختل بإيجاد الخوف العام و حلوله محله، و لا يكون بحسب الطبع و العادة إلا باستعمال السلاح المهدد بالقتل طبعا و لهذا ورد فيما ورد من السنة تفسير الفساد في الأرض بشهر السيف و نحوه، و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "أن يقتلوا أو يصلبوا" إلخ التقتيل و التصليب و التقطيع تفعيل من القتل و الصلب و القطع يفيد شدة في معنى المجرد أو زيادة فيه، و لفظة "أو" إنما تدل على الترديد المقابل للجمع، و أما الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنما يستفاد أحدهما من قرينة خارجية حالية أو مقالية فالآية غير خالية عن الإجمال من هذه الجهة.

و إنما تبينها السنة و سيجيء أن المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الحدود الأربعة مترتبة بحسب درجات الإفساد كمن شهر سيفا فقتل النفس و أخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفا فقط على ما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و أما قوله: "أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف" فالمراد بكونه من خلاف أن يأخذ القطع كلا من اليد و الرجل من جانب مخالف لجانب الأخرى كاليد اليمنى و الرجل اليسرى، و هذا هو القرينة على كون المراد بقطع الأيدي و الأرجل قطع بعضها دون الجميع أي إحدى اليدين و إحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب.



و أما قوله: "أو ينفوا من الأرض" فالنفي هو الطرد و التغييب و فسر في السنة بطرده من بلد إلى بلد.

و في الآية أبحاث أخر فقهية تطلب من كتب الفقه.

قوله تعالى: "ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم" الخزي هو الفضيحة، و المعنى ظاهر.

و قد استدل بالآية على أن جريان الحد على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الآخرة، و هو حق في الجملة.

قوله تعالى: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" إلخ و أما بعد القبض عليهم و قيام البينة فإن الحد غير ساقط، و أما قوله تعالى: "فاعلموا أن الله غفور رحيم" فهو كناية عن رفع الحد عنهم، و الآية من موارد تعلق المغفرة بغير الأمر الأخروي.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة" إلخ قال الراغب في المفردات:، الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، و هي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: و ابتغوا إليه الوسيلة، و حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم و العبادة، و تحري مكارم الشريعة، و هي كالقربة، و إذ كانت نوعا من التوصل و ليس إلا توصلا و اتصالا معنويا بما يوصل بين العبد و ربه و يربط هذا بذاك، و لا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية و توجيه وجه المسكنة و الفقر إلى جنابه تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة، و أما العلم و العمل فإنما هما من لوازمها و أدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم و العمل على نفس هذه الحالة.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: "و جاهدوا في سبيله" مطلق الجهاد الذي يعم جهاد النفس و جهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة، و قد عرفت ما معناه: على أن الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله: "و جاهدوا في سبيله".

و مع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الآيات الآمرة بالجهاد بمعنى القتال، و أما الأعم فخال عن التقييد كقوله تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين": العنكبوت: 69 و على هذا فالأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه، و لعل الأمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الأمر بالتقوى أيضا من هذا القبيل.



قوله تعالى: "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض" إلى آخر الآيتين ظاهره - كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون تعليلا لمضمون الآية السابقة، و المحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله و تبتغوا إليه الوسيلة و تجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن أنفسكم، و لا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله و لم يبتغوا إليه الوسيلة و لم يجاهدوا في سبيله لو أنهم ملكوا ما في الأرض جميعا - و هو أقصى ما يتمناه ابن آدم من الملك الدنيوي عادة - ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الأرض ثم أرادوا أن يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم و لهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار و هي العذاب و ما هم بخارجين منها لأنه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم أبدا.

و في الآية إشارة أولا إلى أن العذاب هو الأصل القريب من الإنسان و إنما يصرف عنه الإيمان و التقوى كما يشير إليه قوله تعالى: "و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا": مريم: 72 و كذا قوله: "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات": العصر: 3.

و ثانيا: أن الفطرة الأصلية الإنسانية و هي التي تتألم من النار غير باطلة فيهم و لا منتفية عنهم و إلا لم يتألموا و لم يتعذبوا بها و لم يريدوا الخروج منها.

قوله تعالى: "و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما" الآية الواو للاستيناف و الكلام في مقام التفصيل فهو في معنى: "و أما السارق و السارقة" إلخ و لذلك دخل الفاء في الخبر أعني قوله: "فاقطعوا أيديهما" لأنه في معنى جواب أما، كذا قيل.

و أما استعمال الجمع في قوله: "أيديهما" مع أن المراد هو المثنى فقد قيل: إنه استعمال شائع، و الوجه فيه: أن بعض الأعضاء أو أكثرها في الإنسان مزدوجة كالقرنين و العينين و الأذنين و اليدين و الرجلين و القدمين، و إذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا و لها لفظ الجمع كأعينهما و أيديهما و أرجلهما و نحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى المثنى و إن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملأت ظهورهما و بطونهما ضربا، قال تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما": التحريم: 4 و اليد ما دون المنكب و المراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة، و يصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة.

قوله: "جزاء بما كسبا نكالا من الله" الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله: "فاقطعوا" أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله، و النكال هو العقوبة التي يعاقب بها المجرم لينتهي عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس.

و هذا المعنى أعني كون القطع نكالا هو المصحح لأن يتفرع عليه قوله: "فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه "إلخ" أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح و لم يحم حول السرقة - و هذا أمر يستثبت به معنى التوبة - فإن الله يتوب عليه و يرجع إليه بالمغفرة و الرحمة لأن الله غفور رحيم، قال تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و ءامنتم و كان الله شاكرا عليما": النساء: 174.

و في الآية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه.

قوله تعالى: "أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض" الآية في موضع التعليل لما ذكر في الآية السابقة من قبول توبة السارق و السارقة إذا تابا و أصلحا من بعد ظلمهما فإن الله سبحانه لما كان له ملك السموات و الأرض، و للملك أن يحكم في مملكته و رعيته بما أحب و أراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء على حسب الحكمة و المصلحة فيعذب السارق و السارقة إن لم يتوبا و يغفر لهما إن تابا.



و قوله: "و الله على كل شيء قدير" في موضع التعليل لقوله: "له ملك السموات و الأرض" فإن الملك بضم الميم من شئون القدرة كما أن الملك بكسر الميم من فروع الخلق و الإيجاد أعني القيمومة الإلهية.

بيان ذلك: أن الله تعالى خالق الأشياء و موجدها فما من شيء إلا و ما له من نفسه و آثار نفسه لله سبحانه، هو المعطي لما أعطى و المانع لما منع، فله أن يتصرف في كل شيء، و هذا هو الملك بكسر الميم قال تعالى: "قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار": الرعد: 16، و قال: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السموات و ما في الأرض": البقرة: 255 و هو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرف شاء و أراد إذ كلما فرض من شيء فهو منه فله مضي الحكم و نفوذ الإرادة و هو الملك بضم الميم و السلطنة على كل شيء فهو تعالى مالك لأنه قيوم على كل شيء، و ملك لأنه قادر غير عاجز و لا ممنوع من نفوذ مشيئته و إرادته.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن أبي صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم من بني ضبة مرضى فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها، و يأكلون من ألبانها فلما برءوا و اشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث إليهم عليا (عليه السلام) و إذا هم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن فأسرهم و جاء بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية: "إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله - و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا - أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف":. أقول: و رواه في التهذيب، بإسناده عن أبي صالح عنه (عليه السلام)، باختلاف يسير، و رواه العياشي، في تفسيره عنه (عليه السلام): و زاد في آخره فاختار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، و القصة مروية في جوامع أهل السنة و منها الصحاح الستة بطرق على اختلاف في خصوصياتها، و منها ما وقع في بعضها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن ظفر بهم قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم، و في بعضها: فقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم و صلب و قطع و سمل الأعين، و في بعضها: أنه سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة، و في بعضها: أن الله نهاه عن سمل الأعين، و أن الآية نزلت معاتبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر هذه المثلة، و في بعضها: أنه أراد أن يسمل أعينهم و لم يسمل، إلى غير ذلك.

و الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) خالية عن ذكر سمل الأعين.



و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز و جل: "إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله - و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا" الآية فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فقتل قتل به، و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب، و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف، و إن شهر السيف فحارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال نفي من الأرض. قلت كيف ينفى من الأرض و ما حد نفيه؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفي فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة، قلت: فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها:. أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و العياشي في تفسيره عن أبي إسحاق المدائني عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا روي ذلك بعدة طرق من طرق أهل السنة، و في بعض رواياتهم أن الإمام بالخيار إن شاء قتل و إن شاء صلب و إن شاء قطع الأيدي و الأرجل من خلاف و إن شاء نفى، و نظيره ما وقع في بعض روايات الخاصة من كون الإمام بالخيار كالذي رواه في الكافي، مسندا عن جميل بن دراج عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال فقلت: أي شيء عليهم من هذه الحدود التي سمى الله عز و جل؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل: قلت: النفي إلى أين؟ قال (عليه السلام) ينفى من مصر إلى آخر، و قال: إن عليا (عليه السلام) نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة.

و تمام الكلام في الفقه غير أن الآية لا تخلو عن إشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإن الترديد بين القتل و الصلب و القطع و النفي - و هي أمور غير متعادلة و لا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة و الضعف - قرينة عقلية على ذلك.

كما أن ظاهر الآية أنها حدود للمحاربة و الفساد فمن شهر سيفا و سعى في الأرض فسادا أو قتل نفسا فإنما يقتل لأنه محارب مفسد و ليس ذلك قصاصا يقتص منه لقتل النفس المحترمة فلا يسقط القتل لو رضي أولياء المقتول بالدية كما رواه العياشي في تفسيره، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و فيه: قال أبو عبيدة: أصلحك الله أ رأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله لأنه قد حارب و قتل و سرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية و يدعونه أ لهم ذلك؟ قال: لا، عليه القتل.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض و حارب، و كلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم. فقال سعيد: و إن كان حارثة بن بدر، فقال سعيد: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه و قبل ذلك منه و كتب له أمانا.

أقول: قول سعيد في الرواية: "و إن كان حارثة بن بدر" ضميمة ضمها إلى الآية لإبانة إطلاقها لكل تائب بعد المحاربة و الإفساد و هذا كثير في الكلام.

و في الكافي، بإسناده عن سورة بني كليب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟ قال: أي شيء يقول فيه من قبلكم؟ قلت: يقولون: هذه ذعارة معلنة و إنما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة: دار الإسلام أو دار الشرك؟ قال: فقلت: دار الإسلام فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية: "إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله" إلى آخر الآية.

أقول: ما أشار إليه الراوي من قول القوم هو الذي وقع في بعض روايات الجمهور كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في المشركين، و ما في تفسير الطبري: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره: أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر من العرنيين و هم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، و قتلوا الراعي، و استاقوا الإبل، و أخافوا السبيل، و أصابوا الفرج الحرام فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق و أخاف السبيل و استحل الفرج الحرام فاصلبه، إلى غير ذلك من الروايات.



و الآية بإطلاقها يؤيد ما في خبر الكافي، و من المعلوم أن سبب النزول لا يوجب تقيد ظاهر الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله - و ابتغوا إليه الوسيلة" الآية قال: فقال: تقربوا إليه بالإمام.

أقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجري و الانطباق على المصداق، و نظيره ما عن ابن شهر آشوب قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: "و ابتغوا إليه الوسيلة": أنا وسيلته:. و قريب منه ما في بصائر الدرجات، بإسناده عن سلمان عن علي (عليه السلام)، و يمكن أن يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبر فيهما.

و في المجمع:، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو.

و في المعاني، بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا سألتم الله فاسألوا لي الوسيلة، فسألنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الوسيلة، فقال: هي درجتي في الجنة الحديث و هو طويل معروف بحديث الوسيلة.

و أنت إذا تدبرت الحديث، و انطباق معنى الآية عليه وجدت أن الوسيلة هي مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ربه الذي به يتقرب هو إليه تعالى، و يلحق به آله الطاهرون ثم الصالحون من أمته، و قد ورد في بعض الروايات عنهم (عليهم السلام): أن رسول الله آخذ بحجزة ربه و نحن آخذون بحجزته، و أنتم آخذون بحجزتنا.

و إلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمي و ابن شهر آشوب أن من المحتمل أن تكونا من التأويل، و لعلنا نوفق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه مما سيأتي.

و من الملحق بهذه الروايات ما رواه العياشي عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: عدو علي هم المخلدون في النار قال الله: "و ما هم بخارجين منها".

و في البرهان،: في قوله تعالى: "و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما" الآية: عن التهذيب، بإسناده عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: تقطع يد السارق و يترك إبهامه و راحته، و تقطع رجله و يترك عقبه يمشي عليها.

و في التهذيب، أيضا بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم تقطع يد السارق؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال: فقلت له: أ رأيت من سرق أقل من ربع الدينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ و هل هو عند الله سارق في تلك الحال؟ فقال: كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، و هو عند الله سارق و لكن لا تقطع إلا في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين.

أقول: يريد (عليه السلام) بقوله: و لو قطعت يد السارق إلخ أن في حكم القطع تخفيفا من الله رحمة منه لعباده، و هذا المعنى أعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو أكثر مروي ببعض طرق الجمهور أيضا ففي صحيحي البخاري و مسلم، بإسنادهما عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.



و في تفسير العياشي، عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال: إذا أخذ السارق فقطع وسط الكف فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم فإن عاد استودع السجن فإن سرق في السجن قتل.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): عن رجل سرق و قطعت يده اليمنى ثم سرق فقطعت رجله اليسرى ثم سرق الثالثة؟ قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخلده في السجن و يقول: إني لأستحيي من ربي أن أدعه بلا يد يستنظف بها و لا رجل يمشي بها إلى حاجته.

قال: فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، و إذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين قال: و كان لا يرى أن يغفل عن شيء من الحدود.



و فيه:، عن زرقان صاحب ابن أبي دواد و صديقه بشدة قال: رجع ابن أبي دواد ذات يوم من عند المعتصم، و هو مغتم فقلت له في ذلك فقال: وددت اليوم أني قدمت منذ عشرين سنة قال: قلت له: و لم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبا جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم قال: قلت: و كيف كان ذلك؟ قال: إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، و قد أحضر محمد بن علي فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم و أيديكم" و اتفق معي على ذلك قوم. و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: و ما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأن الله لما قال: "و أيديكم إلى المرافق" في الغسل دل على ذلك أن حد اليد هو المرفق. قال: فالتفت إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين قال: دعني بما تكلموا به أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه، فقال. أما إذا أقسمت علي بالله إني أقول: إنهم أخطئوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف، قال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أعضاء: الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال الله تبارك و تعالى: "و أن المساجد لله" يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها "فلا تدعوا مع الله أحدا" و ما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال ابن أبي دواد: قامت قيامتي و تمنيت أني لم أك حيا. قال ابن أبي زرقان: إن ابن أبي دواد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين علي واجبة و أنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار قال: و ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر المجلس بنوه و قواده و وزراؤه و كتابه، و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، و يدعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغير لونه، و انتبه لما نبهته له، و قال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا. قال: فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه، و قال: قد علمت أني لا أحضر مجالسكم فقال: إني إنما أدعوك إلى الطعام و أحب أن تطأ ثيابي و تدخل منزلي فأتبرك بذلك و قد: أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه فلما أطعم منها أحس مآلم السم فدعا بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك و ليلته في خلفه حتى قبض.

أقول: و رويت القصة بغيره من الطرق، و إنما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدمها من الروايات المتكررة لاشتمالها على أبحاث قرآنية دقيقة يستعان بها على فهم الآيات.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقطعت يدها اليمنى فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فنزل الله في سورة المائدة: "فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم".

أقول: الرواية من قبيل التطبيق و اتصال الآية بما قبلها، و نزولهما معا ظاهر

5 سورة المائدة - 41 - 50

يَأَيّهَا الرّسولُ لا يحْزُنك الّذِينَ يُسرِعُونَ فى الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا ءَامَنّا بِأَفْوَهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الّذِينَ هَادُوا سمّعُونَ لِلْكذِبِ سمّعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يحَرِّفُونَ الْكلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِن لّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِك لَهُ مِنَ اللّهِ شيْئاً أُولَئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطهِّرَ قُلُوبَهُمْ لهَُمْ فى الدّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سمّعُونَ لِلْكَذِبِ أَكلُونَ لِلسحْتِ فَإِن جَاءُوك فَاحْكُم بَيْنهُمْ أَوْ أَعْرِض عَنهُمْ وَ إِن تُعْرِض عَنْهُمْ فَلَن يَضرّوك شيْئاً وَ إِنْ حَكَمْت فَاحْكُم بَيْنهُم بِالْقِسطِ إِنّ اللّهَ يحِب الْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْف يحَكِّمُونَك وَ عِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِك وَ مَا أُولَئك بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنّا أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَ نُورٌ يحْكُمُ بهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَ الرّبّنِيّونَ وَ الأَحْبَارُ بِمَا استُحْفِظوا مِن كِتَبِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شهَدَاءَ فَلا تَخْشوُا النّاس وَ اخْشوْنِ وَ لا تَشترُوا بِئَايَتى ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَن لّمْ يحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَئك هُمُ الْكَفِرُونَ (44) وَ كَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنّ النّفْس بِالنّفْسِ وَ الْعَينَ بِالْعَينِ وَ الأَنف بِالأَنفِ وَ الأُذُنَ بِالأُذُنِ وَ السنّ بِالسنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَن تَصدّقَ بِهِ فَهُوَ كفّارَةٌ لّهُ وَ مَن لّمْ يحْكم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ (45) وَ قَفّيْنَا عَلى ءَاثَرِهِم بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَ ءَاتَيْنَهُ الانجِيلَ فِيهِ هُدًى وَ نُورٌ وَ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظةً لِّلْمُتّقِينَ (46) وَ لْيَحْكمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَ مَن لّمْ يحْكم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ (47) وَ أَنزَلْنَا إِلَيْك الْكِتَب بِالْحَقِّ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَبِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَ لا تَتّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمّا جَاءَك مِنَ الْحَقِّ لِكلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرْعَةً وَ مِنْهَاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكمْ أُمّةً وَحِدَةً وَ لَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فى مَا ءَاتَاكُمْ فَاستَبِقُوا الْخَيرَتِ إِلى اللّهِ مَرْجِعُكمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تخْتَلِفُونَ (48) وَ أَنِ احْكُم بَيْنهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَ لا تَتّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوك عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْك فَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبهُم بِبَعْضِ ذُنُوبهِمْ وَ إِنّ كَثِيراً مِّنَ النّاسِ لَفَسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الجَْهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

بيان

الآيات متصلة الأجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أحكام التوراة و هم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض: "إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه و إن لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم التوراة - فاحذروا".

و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، و أنه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحكم بينهم على الهوى و رعاية جانب الأقوياء و هو حكم الجاهلية، و من أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ و بذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، و أراد أحبارهم أن يبدلوا حكم الرجم الذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم زنا المحصن، و وصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، و إن حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجم فتولوا عنه فسأل (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك و أقسمه بالله و آياته أن لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن حكم الرجم موجود في التوراة القصة و سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و الآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، و هذا شأن الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، و ليس إلا لأن القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، و لا يختص بقوم أو حادثة خاصة، و قال تعالى: "إن هو إلا ذكر للعالمين": يوسف: 140 و قال تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا": الفرقان: 1 و قال تعالى: "و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه": فصلت: 42.

قوله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه مما لقي من هؤلاء المذكورين في الآية، و هم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، و يسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم و أقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم، و المسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.



و قوله: "من الذين قالوا ءامنا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم" بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، و في وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهي كما أن الأخذ بالوصف السابق أعني قوله: "الذين يسارعون في الكفر" للإشارة إلى علة المنهي عنه، و المعنى - و الله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم و ما أولئك بالمؤمنين، و كذلك اليهود الذين جاءوك و قالوا ما قالوا.

و قوله: "و من الذين هادوا" عطف على قوله: "من الذين قالوا ءامنا" إلخ على ما يفيده السياق، و ليس من الاستيناف في شيء، و على هذا فقوله: "سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" خبر لمبتدء محذوف أي هم سماعون إلخ.

و هذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، و أما المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.

فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب، و إلا لم يكن صفة ذم، و هم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم و يطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، و اختلاف معنى السمع هو الذي أوجب تكرار قوله: "سماعون" فإن الأول يفيد معنى الإصغاء و الثانية معنى القبول.

و قوله: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي بعد استقرارها في مستقرها و الجملة صفة لقوله: "لقوم آخرين" و كذا قوله: "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه و إن لم تؤتوه فاحذروا".

و يتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهي عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه و إن حكم بغير ذلك فليحذروا.

و قوله: "و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا" الظاهر أنها معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الأمر من الله و إليه و ليس يملك منه تعالى شيء في ذلك، و لا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه.

و قوله: "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم" فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، و ما يضل به إلا الفاسقين.

و قوله: "لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم" إيعاد لهم بالخزي في الدنيا و قد فعل بهم، و بالعذاب العظيم في الآخرة.

قوله تعالى: "سماعون للكذب أكالون للسحت" قال الراغب في المفردات:، السحت القشر الذي يستأصل، قال تعالى: "فيسحتكم بعذاب" و قرىء: فيسحتكم أي بفتح الياء يقال: سحته و أسحته، و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه و مروءته، قال تعالى: "أكالون للسحت" أي لما يسحت دينهم، و قال (عليه السلام): كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، و سمي الرشوة سحتا.

انتهى.

فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، و السياق يدل على أن المراد بالسحت في الآية هو الرشا و يتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة و غيروا حكم الله تعالى.



و من هنا يظهر أن قوله تعالى: "سماعون للكذب أكالون للسحت" باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، و أما بحسب التوزيع فقوله: "سماعون للكذب" وصف لقوله: "الذين هادوا" و هم المبعوثون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من في حكمهم من التابعين، و قوله: "أكالون للسحت" وصف لقوم آخرين، و المحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشا، و عامة مقلدون سماعون لأكاذبيهم.

قوله تعالى: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى آخر الآية تخيير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، و من المعلوم أن اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا لمصلحة داعية فيئول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رأيه.

ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرر لو ترك الحكم فيهم و أعرض عنهم، و بين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط و العدل.

فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلا حكمه فإما أن يجري فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم آخر.

قوله تعالى: "و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين" تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب و شريعة و هم منكرون لنبوتك و كتابك و شريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله و الحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب و حكمه ليسوا بالذين يؤمنون بذلك.

و على هذا المعنى فقوله: "ثم يتولون من بعد ذلك" أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم و فيها حكم الله، و قوله: "و ما أولئك بالمؤمنين" أي بالذين يؤمنون بالتوراة و حكمها، فهم تحولوا من الإيمان بها و بحكمها إلى الكفر.

و يمكن أن يفهم من قوله: "ثم يتولون"، التولي عما حكم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من قوله: "و ما أولئك بالمؤمنين" نفي الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان يظهر من رجوعهم إليه و تحكيمهم إياه، أو نفي الإيمان بالتوراة و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الآيات.

و في الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم، و هي التي جمعها لهم عزراء بإذن "كورش" ملك إيران بعد ما فتح بابل، و أطلق بني إسرائيل من أسر البابليين و أذن لهم في الرجوع إلى فلسطين و تعمير الهيكل، و هي التي كانت بيدهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، و هو أيضا يذكر أن فيها تحريفا و تغييرا.

و يستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى (عليه السلام) و أمور حرفت و غيرت إما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك، و هذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، و البحث الوافي عنها أيضا يهدي إلى ذلك.



قوله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون" إلخ بمنزلة التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و هي و ما بعدها من الآيات تبين أن الله سبحانه شرع لهذه الأمم على اختلاف عهودهم شرائع، و أودعها في كتب أنزلها إليهم ليهتدوا بها و يتبصروا بسببها، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، و أمر الأنبياء و العلماء منهم أن يحكموا بها، و يتحفظوا عليها و يقوها من التغيير و التحريف، و لا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس إلا قليلا، و لا يخافوا فيها إلا الله سبحانه و لا يخشوا غيره.

و أكد ذلك عليهم و حذرهم اتباع الهوى، و تفتين أبناء الدنيا، و إنما شرع من الأحكام مختلفا باختلاف الأمم و الأزمان ليتم الامتحان الإلهي فإن استعداد الأزمان مختلف بمرور الدهور، و لا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة و ضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية و العملية على وتيرة واحدة.

فقوله: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور" أي شيء من الهداية يهتدي بها، و شيء من النور يتبصر به من المعارف و الأحكام على حسب حال بني إسرائيل، و مبلغ استعدادهم، و قد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، و خصوصيات أحوال شعبهم و مبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها و من النور إلا بعضه لسبق عهدهم و قدمة أمتهم، و قلة استعدادهم، قال تعالى: "و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء": الأعراف: 154.

و قوله: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" إنما وصف النبيين بالإسلام و هو التسليم لله، الذي هو الدين عند الله سبحانه للإشارة إلى أن الدين واحد، و هو الإسلام لله و عدم الاستنكاف عن عبادته، و ليس لمؤمن بالله - و هو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شيء من أحكامه و شرائعه.

و قوله: "و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء" أي و يحكم بها الربانيون و هم العلماء المنقطعون إلى الله علما و عملا، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، و الأحبار و هم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به و أراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، و كانوا من جهة حفظهم له و تحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير و تحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله: "و كانوا عليه شهداء" بمنزلة النتيجة لقوله: "بما استحفظوا" إلخ أي أمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه.

و ما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذي يلوح من سياق الآية، و ربما قيل: إن المراد بها الشهادة على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرجم أنه ثابت في التوراة، و قيل: إن المراد الشهادة على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، و لا شاهد من جهة السياق يشهد على شيء من هذين المعنيين.

و أما قوله تعالى: "فلا تخشوا الناس و اخشون و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" فهو متفرع على قوله: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها"، أي لما كانت التوراة منزلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضي بها النبيون و الربانيون و الأحبار بينكم فلا تكتموا شيئا منها و لا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس و تنسوا ربكم بل الله فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، و أما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه دنيوي زائل باطل.



و يمكن أن يكون متفرعا على قوله: "بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء" بحسب المعنى لأنه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب و أشهدناهم عليه أن لا يغيروه و لا يخشوا في إظهاره غيري، و لا يشتروا بآياتي ثمنا قليلا، قال تعالى: "و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا": آل عمران: 178 و قال تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق و درسوا ما فيه و الدار الآخرة خير للذين يتقون أ فلا تعقلون و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين": الأعراف: 107.

و هذا المعنى الثاني لعله أنسب و أوفق لما يتلوه من التأكيد و التشديد بقوله: "و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".

قوله تعالى: "و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله و الجروح قصاص" السياق و خاصة بالنظر إلى قوله: "و الجروح قصاص" يدل على أن المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل و القطع و الجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: "النفس بالنفس" و غيره إنما وقعت بين المقتص له و المقتص به و المراد به أن النفس تعادل النفس في باب القصاص، و العين تقابل العين و الأنف الأنف و هكذا و الباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا.

فيئول معنى الجمل المتسقة إلى أن النفس تقتل بالنفس، و العين تفقأ بالعين و الأنف تجدع بالأنف، و الأذن تصلم بالأذن، و السن تقلع بالسن و الجروح ذوات قصاص، و بالجملة أن كلا من النفس و أعضاء الإنسان مقتص بمثله.

و لعل هذا هو مراد من قدر في قوله: "النفس بالنفس" إن النفس مقتصة أو مقتولة بالنفس و هكذا و إلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، و الجمل تامة من دونه و الظرف لغو.

و الآية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذي حكموا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تذكره الآيات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور".

و الحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجيء نقله في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "فمن تصدق به فهو كفارة له" أي فمن عفا من أولياء القصاص كولي المقتول أو نفس المجني عليه و المجروح عن الجاني، و وهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته.

و الظاهر من السياق أن الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو كفارة له، و إن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما أنزله الله من القصاص، و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

و بذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: "و من لم يحكم" للعطف على قوله: "من تصدق" لا للاستيناف كما أن الفاء في قوله: "فمن تصدق" للتفريع: تفريع المفصل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: "فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان": البقرة: 187.

و ثانيا: أن قوله: "و من لم يحكم"، من قبيل وضع العلة موضع معلولها و التقدير: و إن لم يتصدق فليحكم بما أنزل الله فإن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

قوله تعالى: "و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة" التقفية جعل الشيء خلف الشيء و هو مأخوذ من القفا، و الآثار جمع أثر و هو ما يحصل من الشيء مما يدل عليه، و يغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الأرض، و الضمير في "آثارهم" للأنبياء.

فقوله: "و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم" استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به (عليه السلام) المسلك الذي سلكه من قبله من الأنبياء، و هو طريق الدعوة إلى التوحيد و الإسلام لله.

<<        الفهرس        >>