جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج7 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


سورة الأنعام - 1 - 3

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الحَْمْدُ للّهِ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ جَعَلَ الظلُمَتِ وَ النّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مّسمّى عِندَهُ ثُمّ أَنتُمْ تَمْترُونَ (2) وَ هُوَ اللّهُ فى السمَوَتِ وَ فى الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

بيان


غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدأ كل شيء و إليه ينتهي و يعود كل شيء، أرسل رسلا مبشرين و منذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، و لذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد و المعاد و النبوة، و اشتملت على إجمال الوظائف الشرعية و المحرمات الدينية.

و سياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدي إلى نزولها نجوما.

و هذا يدل على نزولها جملة واحدة، و أنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين.

و قد اتفق المفسرون و الرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روي عن بعضهم أنها مدنية.

و هي قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره": آية - 91 إلى تمام ثلاث آيات، و قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم:" آية - 151 إلى تمام ثلاث آيات.

و قيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، و هما قوله تعالى: "قل تعالوا أتل" و التي بعدها.

و قيل: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، و هو الذي قال: "ما أنزل الله على بشر من شيء" الآية.

و قيل: "إنها كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، و هو قوله تعالى: "و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة" الآية.

و هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق و اتصال آيات السورة، و سنبينها بما نستطيعه، و قد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا عن أبي و عكرمة و قتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة.

قوله تعالى: "الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور" افتتح بالثناء على الله و هو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، و ذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، و تضمينه العجب منهم و لومهم على أن عدلوا به غيره و الامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ و الإنذار و التخويف.

و قد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة، و تنحل إلى نظامات ثلاث: نظام الكون العام و هو الذي تشير إليه الآية الأولى، و نظام الإنسان بحسب وجوده، و هو الذي تشتمل عليه الآية الثانية، و نظام العمل الإنساني و هو الذي تومىء إليه الآية الثالثة.

فالمتحصل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، و بما خلق عالما صغيرا هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين و من حيث انتهائه بالأجل المقضي، و بما علم سر الإنسان و جهره و ما يكسبه.

و ما في الآية الثالثة: "و هو الله في السماوات و في الأرض، بمنزلة الإيضاح لمضمون الآيتين، السابقتين و التمهيد لبيان علمه بسر الإنسان و جهره و ما تكسبه نفسه.

فقوله: "خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور" إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها و تفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور و الظلمات اللذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله و تكامله فلا يزال يتولد شيء من شيء، و يتقلب شيء إلى شيء، و يظهر واحد و يخفى آخر، و يتكون جديد و يفسد قديم، و ينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء، و تسير بها إلى مستقرها.

و الجعل في قوله: "و جعل الظلمات" إلخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، و لعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات و الأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة و النور، و لذا خصا باستعمال الجعل.

و الله أعلم.

و قد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، و لعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور و بعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية، و تكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده و تكثره حقيقة.

قوله تعالى: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات و الأرض و جعله الظلمات و النور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شيء و لا يشاركه، و من العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق و التدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم و يسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.

و بذلك يظهر وجه الإتيان بثم الدال على التأخير و التراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع و الإيجاد و توحده بالألوهية و الربوبية ذكر مزعمة المشركين و أصحاب الأوثان أن هذه الحجارة و الأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب زمانا و كفه عن التكلم ثم جرى في كلامه و أشار إلى وجه سكوته، و أن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون.

قوله تعالى: "هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا" يشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان و دبر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه و إن كان بقاء نسله جاريا على سنة الإزدواج و الوقاع كما قال تعالى: "و بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين": السجدة: - 8.

و بين الأجل المقضي الذي يقارن الموت كما قال تعالى: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون": العنكبوت: - 57 و من الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فإن القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون": المؤمنون - 114، و قال أيضا: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون": الروم: - 56.

و قد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكرا في قوله: "ثم قضى أجلا" للدلالة على كونه مجهولا للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية.



قوله تعالى: "و أجل مسمى عنده" تسمية الأجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود و الديون و نحو ذلك بذكر الأجل و هو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، و هو الأجل المسمى، قال تعالى: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه": البقرة: - 282 و هو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة، و كذا قوله تعالى: "من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت": العنكبوت: - 5 و قال تعالى في قصة موسى و شعيب: "قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى أن قال - قال ذلك بيني و بينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي": القصص - 28 و هو الأجل بمعنى تمام المدة المضروبة.

و الظاهر أن الأجل بمعنى آخر المدة فرع الأجل بمعنى تمام المدة استعمالا أي أنه استعمل كثيرا "الأجل المقضي" ثم حذف الوصف و اكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضي، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان "أجل" فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، و أصله استيفاء الأجل، انتهى.

و كيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالأجل و الأجل المسمى هو آخر مدة الحياة لإتمام المدة كما يفيده قوله: "فإن أجل الله لآت" الآية.

فتبين بذلك أن الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند الله تعالى.

و هذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله "عنده" و قد قال تعالى: "و ما عند الله باق": النحل: - 96 و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل قال تعالى: "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون": يونس: 49.

فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

و التدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: "لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب": الرعد: 39 يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو و الإثبات، و سيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو و الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.

و اعتبر ما ذكر من أمر السبب التام و الناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات و تطلع علينا الشمس فتضيء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة، و أما إذا كانت الشمس فوق الأفق و لم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض و بينها فإنها تضيء وجه الأرض لا محالة.

فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو و الإثبات، و طلوعها مع حلول وقته و عدم أي حائل مفروض بينها و بين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ.

فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة و عشرين سنة و هذا هو المكتوب في لوح المحو و الإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا و تأثيرا في الوجود الإنساني فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي، و هو المسمى بالموت الاخترامي.

و بهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى و غير المسمى جميعا، و أن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى، و أن الأجل غير المسمى و المسمى ربما توافقا و ربما تخالفا و الواقع حينئذ هو الأجل المسمى البتة.

هذا ما يعطيه التدبر في قوله: "ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده" و للمفسرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية: منها: أن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق و الموت و الثاني ما بين الموت و البعث،، ذكره عدة من الأقدمين و ربما روي عن ابن عباس.

و منها: أن الأجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، و الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، و نسب إلى المجاهد و الجبائي و غيرهما.

و منها: أن الأجل الأول أجل من مضى، و الثاني أجل من بقي من سيأتي، و نسب إلى أبي مسلم.

و منها: أن الأجل الأول النوم، و الثاني الموت.

و منها: أن المراد بالأجلين واحد، و تقدير الآية الشريفة: ثم قضى أجلا و هذا أجل مسمى عنده.

و لا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه و أشباهها و سقمها يسوغه الوقت على ضيقه، و لا يسمح بإباحته العمر على قصره.

قوله تعالى: "ثم أنتم تمترون" من المرية بمعنى الشك و الريب، و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الحضور، و كأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا و تدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، و كان يكفي في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق و التدبير الواقعين في الإنسان خاصة فكان من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب و يلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه و هو الذي خلقكم و قضى فيكم أجلا و أجل مسمى عنده؟.

قوله تعالى: "و هو الله في السماوات و في الأرض" الآيتان السابقتان تذكران الخلق و التدبير في العوالم عامة و في الإنسان خاصة، و يكفي ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في خلقه و تدبيره.

لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى و شفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة و إله الرزق و إله البر و إله البحر و غير ذلك، و كذا للأنواع و الأقوام و الأمم المتشتتة كإله السماء و إله هذه الطائفة و إله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله: "و هو الله في السماوات و في الأرض".

فالآية نظيرة قوله: "و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله و هو الحكيم العليم": الزخرف: 84 مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات و في الأرض من غير تفاوت أو تحديد، و هي إيضاح لما تقدم و تمهيد لما يتلوها من الكلام.

قوله تعالى: "يعلم سركم و جهركم و يعلم ما تكسبون" السر و الجهر متقابلان و هما وصفان للأعمال، فسرهم ما عملوه سرا و جهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر.

و أما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذي يكسبه الإنسان بعمله السري و الجهري من حسنة أو سيئة فالسر و الجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الأعمال الخارجية، و ما يكسبونه حال روحي معنوي قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية و المعنوية، و لعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في قوله: "يعلم سركم و جهركم و يعلم ما تكسبون".



و الآية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة و المعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الإنسان من عمل سرا أو جهرا، و كان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، و كان إليه زمام التربية و التدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: "إن علينا للهدى": الليل: 12.

و كذا هو تعالى لما كان عالما بالأعمال و بتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: "أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28.

بحث روائي


في الكافي، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها: أقول: و رواه العياشي عنه (عليه السلام) مرسلا.

و في تفسير القمي، قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: نزلت الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.

أقول: و رواه في المجمع، أيضا عن الحسين بن خالد عنه (عليه السلام): إلا أنه قال سبحوا له إلى يوم القيامة.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث.

و في جوامع الجامع، للطبرسي قال: في حديث أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما و ليلة:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عنه بعدة طرق.

و في الكافي، بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، و خلق الرحمة قبل الغضب، و خلق الخير قبل الشر و خلق الأرض قبل السماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشمس قبل القمر، و خلق النور قبل الظلمة.

أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، و أما نسبة الخلق إلى الطاعة و المعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة و المعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، و كيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته و سلطانه و منعزل عن مشيته و إذنه؟.

و لا دليل على انحصار الخلق في الإيجاد و الصنع الذي لا واسطة فيه حتى يكون تعالى مستقلا بإيجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا أنه أبطل إرادة الإنسان العادل أو القاتل، و استقل هو بالعدل و القتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، و قد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول من الكتاب.

و بنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير و الشر أيضا، سواء كانا خيرا و شرا في الأمور التكوينية أو في الأفعال.

و أما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، و كذا الخير قبل الشر فيجري أيضا في بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم و الملكة، و العدم يتوقف في تحققه على الملكة و يظهر به أن خلق الحياة قبل الموت.

و بذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة و الخير و الغضب متعلق بالمعصية و الشر، و الطاعة و الخير قبل المعصية و الشر.

و أما خلق الأرض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: "خلق الأرض في يومين - إلى أن قال - ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين": حم السجدة: 12.

و أما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: "و الشمس و ضحاها، و القمر إذا تلاها": الشمس: 2 و قد رجحت الأبحاث الطبيعية اليوم أن الأرض مشتقة من الشمس و القمر مشتق من الأرض.

و في تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: لكل صلاة وقتان، و وقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية: "الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض - و جعل الظلمات و النور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" قال: يعدلون بين الظلمات و النور و بين الجور و العدل.

أقول: و هذا معنى آخر للآية، و بناؤه على جعل قوله: "بربهم" متعلقا بقوله "كفروا" دون "يعدلون".

و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله عز و جل "قضى أجلا و أجل مسمى عنده" قال: هما أجلان أجل محتوم و أجل موقوف.

و في تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "قضى أجلا و أجل مسمى" قال: فقال هما أجلان أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، و أجل محتوم.

و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده" قال: الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها قال: فذلك قول الله: "إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون".

و فيه، عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: "أجلا و أجل مسمى عنده" قال: المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة، و هو الذي قال الله "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون" و هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر، و الآخر له فيه المشية إن شاء قدمه، و إن شاء أخره.

أقول: و في هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و الذي يدل عليه من معنى الأجل المسمى و غيره هو الذي تقدمت استفادته من الآيات الكريمة.

و في تفسير علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله و حتمه، و المسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء و يؤخر ما شاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير.

أقول: و قد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى و فسر كلا من المسمى و غيره بمعنى الآخر.

على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.



و في تفسير العياشي، عن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "قضى أجلا و أجل مسمى عنده" قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة و الرسل و الأنبياء، و الأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق.

أقول: و مضمون الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا، و لكن من الممكن أن يستفاد من قوله: "نبذه" أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال غير المسماة و أما الأجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، و إن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه و رسله إذا شاء، و ذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، و هو مع ذلك يكشف عن شيء منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر أظنه محمد بن النعمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و هو الله في السماوات و في الأرض" قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إن الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار و غير ذلك.

و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما - و قدرة و إحاطة و سلطانا - و ليس علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء، و لا يبعد منه شيء، و الأشياء له سواء علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إرادة.

6 سورة الأنعام - 4 - 11

وَ مَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَتِ رَبهِمْ إِلا كانُوا عَنهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جَاءَهُمْ فَسوْف يَأْتِيهِمْ أَنبَؤُا مَا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (5) أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مّكّنّهُمْ فى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لّكمْ وَ أَرْسلْنَا السمَاءَ عَلَيهِم مِّدْرَاراً وَ جَعَلْنَا الأَنْهَرَ تجْرِى مِن تحْتهِمْ فَأَهْلَكْنَهُم بِذُنُوبهِمْ وَ أَنشأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ (6) وَ لَوْ نَزّلْنَا عَلَيْك كِتَباً فى قِرْطاسٍ فَلَمَسوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مّبِينٌ (7) وَ قَالُوا لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضىَ الأَمْرُ ثُمّ لا يُنظرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْنَهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسونَ (9) وَ لَقَدِ استهْزِئَ بِرُسلٍ مِّن قَبْلِك فَحَاقَ بِالّذِينَ سخِرُوا مِنْهُم مّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ ثُمّ انظرُوا كيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

بيان

الآيات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول و تماديهم في تكذيب الحق و الاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم و تخويف و إنذار، و جواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق الصريح.

قوله تعالى: "و ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الإعراض عن الآيات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير تفاوت بين آية و آية لأنهم كذبوا بالأصل المقصود الذي هو الحق، و هو قوله تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم".

قوله تعالى: "فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون" تخويف و إنذار فإن الذي يستهزءون به حق، و الحق يأبى إلا أن يظهر يوما و يخرج من حد النبإ إلى حد العيان قال تعالى: "و يمحوا الله الباطل و يحق الحق بكلماته": الشورى: 24، و قال: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون": الصف: 9 و قال في مثل ضربه: "كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض": الرعد: 17.

و من المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستو في مساسه المؤمن و الكافر، و الخاضع و المستهزىء، قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين و أبصرهم فسوف يبصرون أ فبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين": الصافات: 177.

قوله تعالى: "أ لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن" إلى آخر الآية، قال الراغب: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون انتهى.

و قال أيضا: قال تعالى: "و أرسلنا السماء عليهم مدرارا" "يرسل السماء عليكم مدرارا" و أصله من الدر - بالفتح - و الدرة - بالكسر - أي اللبن، و يستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير و أوصافه فقيل: لله دره و در درك، و منه استعير قولهم غسوق دره أي نفاق - بالفتح - انتهى.

و في قوله تعالى: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" التفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله: "ما لم نمكن لكم" أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: "مكناهم" و إلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، و قد تقدم الكلام في الالتفات الواقع في قوله: "هو الذي خلقكم من طين".

و في قوله: "فأهلكناهم بذنوبهم" دلالة على أن للسيئات و الذنوب دخلا في البلايا و المحن العامة، و في هذا المعنى و كذا في معنى دخل الحسنات و الطاعات في إفاضات النعم و نزول البركات آيات كثيرة.

قوله تعالى: "و لو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم" إلى آخر الآية، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر و السمع، و تأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم: "و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه": الإسراء: 93.

و قد نكر الكتاب في قوله: "كتابا في قرطاس" لأن هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما و تدريجا، و قيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، و أبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين": الشعراء: 195.

قوله تعالى: "و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون" قولهم "لو لا أنزل عليه ملك" تحضيض للتعجيز، و قد أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين": كورت: 21 إلى غيرها من الآيات.

فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه: أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود": حم السجدة: 13 و قال: "قل هو نبأ عظيم - إلى أن قال - إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين": ص: 70.

و لما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، و لا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا - و لن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، و لا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: "و لو أنزلنا ملكا لقضي بينهم ثم لا ينظرون".

على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم و اختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها و هو الموت كما قال تعالى: "و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا": الفرقان: 22 و هذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل قوله بعده "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا": الفرقان: 24.

و قال تعالى بعده - و ظاهر السياق أنه يوم آخر -: "و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة، تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا": الفرقان: 26 و لعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم: "أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا": الإسراء: 92.

و بالجملة فقوله تعالى: "و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر" إلخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم، و على هذا ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون، و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - و يستنبؤنك أ حق هو قل إي و ربي إنه لحق و ما أنتم بمعجزين": يونس: 53 و في هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله.

و قال تعالى: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون": الأنفال: 33.

فالمتحصل من الآية أنهم يسألون نزول الملك، و لا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو نزل الملك لقضي بينهم و لم ينظروا و قد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم، و سيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم.



و يمكن أن يقرر معنى الآية على نحو آخر و هو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، و يكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد و الاستكبار و حينئذ قضي بينهم و هم لا ينظرون، و هم لا يريدون ذلك.

و ثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا:" الفرقان: 7. فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام و اكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية و عيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي و شقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته و واقعية رسالته.

و هذا هو الذي تجيب عنه الآية التالية: "و لو جعلناه ملكا" الخ.

قوله تعالى: "و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون" اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك و اللبس بالضم التغطية على الحق، و كأن المعنى استعاري و الأصل واحد.

قال الراغب في المفردات: لبس الثوب استتر به و ألبسه غيره - إلى أن قال - و أصل اللبس بضم اللام ستر الشيء و يقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال: و للبسنا عليهم ما يلبسون و قال: و لا تلبسوا الحق بالباطل، لم تلبسون الحق بالباطل، الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم و، يقال: في الأمر لبسه أي التباس، انتهى.

و معمول يلبسون محذوف، و ربما استفيد من ذلك العموم و التقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، و لبس البعض على البعض الآخر.

أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم و كما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه: "يا قوم أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين و لا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه": الزخرف: 54 و قوله: "ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد": المؤمن: 29.

و أما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل و أن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الإنسان و إن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها، و كان تلهم نفسه فجورها و تقواها غير أن تقويته جانب الهوى و تأييده روح الشهوة و الغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، و الاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، و تغتر بعمله، و لا تدعه يلتفت إلى الحق و يسمع دعوته، و عند ذاك يزين له عمله، و يلبس الحق بالباطل و هو يعلم كما قال تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة": الجاثية: 23 و قال: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا": الكهف: 104.

و هذا هو المصحح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع و هو غير معقول.

على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة و ليس ذلك إلا من الضلال على علم، و لبس الحق بالباطل على النفس و التلهي باللذة الخيالية و التوله إليها عن التثبت على الحق و العمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته.

و على أي حال فقوله تعالى: "و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا" إلخ، الجواب عن مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.

و محصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار، و اكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، و سلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.

قال تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا": الدهر: 3 فإنما هي هداية و إراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق و التمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين و يلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: "و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى": النجم: 41 فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك و إن كان شرا أمضاه له، قال تعالى: "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب": الشورى: 20.

و بالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار و إلجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة و المعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه و إن قدر على ذلك كما قال: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين:" الشعراء: 4.

فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم و يخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم و على أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك و يلبس عليهم كما لبسوا، قال تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف: 5.

فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع و الأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري، و يكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: لو لا أنزل عليه ملك ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله: "و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون".

فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا و جعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية و بدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية.

و ثانيا: أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الإنسانية - الذي ربما يحيله عدة من الباحثين - أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، و تمثل الملائكة الكرام لإبراهيم و لوط (عليهما السلام) في صورة الضيفين من الآدميين.

و جل الآيات الواردة في مورد الملائكة و إن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى: "و لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون": الزخرف: 60 لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول، و للبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر.



و ثالثا: أن قوله تعالى: "و للبسنا عليهم ما يلبسون" من قبيل قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف: 5 فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه.

و رابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم و لبس بعضهم على بعض.

و خامسا: أن محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري و هم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا و إذا صار الملك على هذا النعت - و لا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.

و سادسا: أن في التعبير: "لجعلناه رجلا" و لم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل و المرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويته إلى هوية الإنسان كما قيل.

و غالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، و حينئذ كان يبدو لهم من اللبس و الشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر و لم ينتفعوا به شيئا.

و هذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، و إن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين": الفرقان: 22.

و ذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز و الامتناع، و قد ورد في روايات الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين، و من المقدور لله أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم و يؤمنوا بهم، و لا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.

و كذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك و اللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم و لوط (عليهما السلام) أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم و لم يشكا في أمرهم، و كذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته و لم تشك فيه و لا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم (عليهم السلام) في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته و اليقين بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم و لوط و مريم يستلزم إمحاء غرائزهم و فطرهم، و تبديلها نفوسا طاهرة قادسة، و فيه محذور الإلجاء، فالإلجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان، و هو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.

قوله تعالى: "و لقد استهزىء برسل من قبلك" إلى آخر الآيتين، الحيق الحلول و الإصابة، و في مفردات الراغب:، قيل و أصله حق فقلب نحو زل و زال، و قد قرىء: "فأزلهما الشيطان" فأزالهما، و على هذا ذمه و ذامه، انتهى.

و قد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله و حلوله فحاق بهم عين ما استهزءوا به، و في الآية الأولى تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنذار للمشركين، و في الآية الثانية أمر بالاعتبار و عظة.

6 سورة الأنعام - 12 - 18

قُل لِّمَن مّا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ قُل لِّلّهِ كَتَب عَلى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لا رَيْب فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ مَا سكَنَ فى الّيْلِ وَ النهَارِ وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَ غَيرَ اللّهِ أَتخِذُ وَلِيّا فَاطِرِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ يُطعِمُ وَ لا يُطعَمُ قُلْ إِنى أُمِرْت أَنْ أَكونَ أَوّلَ مَنْ أَسلَمَ وَ لا تَكُونَنّ مِنَ الْمُشرِكِينَ (14) قُلْ إِنى أَخَاف إِنْ عَصيْت رَبى عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مّن يُصرَف عَنْهُ يَوْمَئذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذَلِك الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَ إِن يَمْسسك اللّهُ بِضرٍّ فَلا كاشِف لَهُ إِلا هُوَ وَ إِن يَمْسسك بخَيرٍ فَهُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ هُوَ الحَْكِيمُ الخَْبِيرُ (18)

بيان

فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد و المعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على المعاد، و بقية الآيات و هي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.

قوله تعالى: "قل لمن ما في السماوات و الأرض قل لله" شروع في البرهنة على المعاد، و محصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات و الأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف شاء و أراد، و قد اتصف سبحانه بصفة الرحمة و هي رفع حاجة كل محتاج و إيصال كل شيء إلى ما يستحقه و إفاضته عليه و عدة من عباده و منهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه و رحمته سيتصرف فيهم بحشرهم و إعطائهم ما يستحقونه البتة.

فقوله تعالى: "قل لمن ما في السماوات و الأرض" إلخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة و قوله: "كتب على نفسه الرحمة" يتضمن مقدمة أخرى، و قوله: "و له ما سكن في الليل و النهار" إلخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.

فقوله تعالى: "قل لمن ما في السماوات و الأرض" إلخ، يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم عمن يملك السماوات و الأرض و له التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، و هو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام و أرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها و أمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات و الأرض جميعا.

و لكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل و المسئول جميعا و الخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم و اعترافه به بلسانه، و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر هو الجواب و يتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.

و السؤال عن الخصم، و مباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك و سقاك و كساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك و من بها عليك و أنت تجازيني بالكفر.

و بالجملة ثبت بهذا السؤال و الجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء و رزق و إماتة و بعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل و موت و غيبة و اختلال و غير ذلك.

و بهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى و هي قوله: كتب على نفسه الرحمة.

قوله تعالى: "كتب على نفسه الرحمة" الكتابة هو الإثبات و القضاء الحتم، و إذ كانت الرحمة - و هي إفاضة النعمة على مستحقها و إيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به - من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى، و المعنى: أوجب على نفسه الرحمة و إفاضة النعم و إنزال الخير لمن يستحقه.

و نظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة و نحوها قوله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي": المجادلة: 21 و قوله: "فورب السماء و الأرض إنه لحق": الذاريات: 23 و أما صفات الذات كالحياة و العلم و القدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة و نحوها البتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة و العلم و القدرة.

و لازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم و أعمالهم فيفوز به المؤمنون و يخسر غيرهم.

و لذلك ذيل بقوله و هو كالنتيجة في الحجة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم و نون التأكيد و قوله: لا ريب فيه.

ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين و الخسران على غيرهم فقال: "الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون".

و الحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28 فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، و من جهة أن التسوية بين المؤمن و الكافر و المتقي و الفاجر ظلم لا يليق به تعالى، و هما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة و الشقاوة، و هذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.

قوله تعالى: "و له ما سكن في الليل و النهار و هو السميع العليم" السكون في الليل و النهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل و النهار، و يجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، و عمل التحولات النورية فيه بالقرب و البعد و الكثرة و القلة و الحضور و الغيبة و المسامتة و غيرها.

فالليل و النهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية و مواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها و كل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، و تكملها روحا و جسما.

و كما أن للمسكن عاما و خاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، و يرتزق مما يخرج منها من حب و فاكهة و ما يتربى فيها من حيوان، و يشرب من مائها، و يستنشق من هوائها، و يفعل و ينفعل من كيفيات منطقتها، و ينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل و النهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.

و الإنسان من الأشياء الساكنة في الليل و النهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة و مركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا و بقاء بحياة تقوم على شعور فكري و إرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع و دفع المضار، و تدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات و التباني على اتباع السنن و القوانين و العادات في المعاشرات و المعاملات، و احترام الآراء و العقائد العامة في الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و الجزاء و العفو.

و إذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل و النهار و ما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل و النهار، و هو المالك الحق لجميع الليل و النهار و سكانهما و ما يستعقب وجودها من الحوادث و الأفعال و الأقوال، و له النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات و إشارات، و العليم بأعمالنا و أفعالنا بما لها من صفتي الحسن و القبح، و العدل و الظلم و الإحسان و الإساءة، و ما تكتسبه النفوس من سعادة و شقاء.



و كيف يمكنه الجهل بذلك و قد نشأ الجميع في ملكه و بإذنه؟ و نحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية، و كذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، و لذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا و لا قبيحا و لا طاعة و لا معصية، و الصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به و قصدنا وجهه.

و كيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه و لا يعلم به؟ أجد التأمل فيه.

و الله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة و العنصرية و المركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا و أسكننا الليل و النهار ثم كثرنا و أجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، و اعتبار السنن و وضع الاعتبارات، و لم يزل يصاحبنا و يصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، و يجارينا و إياها في مسير الليل و النهار لحظة لحظة، و ساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.

حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، و أجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، و أسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه، و سار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، و فهم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، و هو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد و الإحصاء قائد و سائق و هاد و حفيظ و رقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، و ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.

و كذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب و أم يولدانه تحت مراقبة الاختيار و الإرادة، و قد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا و أمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعله، و أرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به، و لم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، و الأرض قبضته و السماوات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، و أخذ موضعه من مسكن الليل و النهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، و الله سبحانه عليه شهيد و به محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير.

و مما تقدم يظهر أن قوله تعالى: "و هو السميع العليم" بمنزلة النتيجة لقوله: "و له ما سكن في الليل و النهار".

و السمع و العلم و إن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم و كذا السمع و البصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات و هي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة المتوقفة على وجود مخلوق و مرزوق و حي و ميت.

و الأشياء لما كانت بأنفسها و أعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع و مسموعة له تعالى، و إن كانت أنوارا و ألوانا بصر و مبصرة له تعالى، و الجميع كائنة ما كانت علم و معلومة له تعالى، و هذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، و لا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى و تقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل، و لا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي، فافهم ذلك.

و الآية أعني قوله: "و له ما سكن في الليل و النهار" إلخ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد و إن تمت بقوله: "قل لمن ما في السموات و الأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة" لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها و سمعه بما يسمع منها كالأصوات و الأقوال.

و لذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات و الأرض، و تفريع السمع و العلم عليه فقال: "و له ما سكن في الليل و النهار - و هو في معنى قوله: "له ما في السماوات و الأرض - و هو السميع العليم" فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة.

و الآية - على أنا لم نستوف حقها و لن يستوفى - من أرق الآيات القرآنية معنى و أدقها إشارة و حجة، و أبلغها منطقا.

قوله تعالى: "قل أ غير الله أتخذ وليا فاطر السموات و الأرض و هو يطعم و لا يطعم" شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى و أن لا شريك له.

و الذي يتحصل من تاريخ الوثنية و اتخاذ الأصنام و الآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك و خضعوا للآلهة لأحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام و اللباس و المسكن و الأزواج و الأولاد و العشيرة و نحو ذلك، و عمدتها الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، و قد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى و الكلأ لدوابهم و يمنع بالخصب لأنفسهم، و السبب الذي يدبر أمر السهل و الجبل أو يلقي بالمحبة و الألفة أو إليه أمر البحر و السفائن الجارية فيه.

ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم و اتخاذه إلها ثم عبادته.

و إما لأنهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره و شرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل و الزلزلة و الطوفان و القحط و الوباء، و ببلايا و محن أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض و الأوجاع و السقوط و الفقر و العقم و العدو و الحاسد و الشانىء و غير ذلك، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم، و القاصمة بها ظهورهم، و المكدرة لصفوة عيشهم، و هي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع و أرواح الكواكب و الأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم و عذابهم، و عبدوها ليستميلوها بالعبادة و يرضوها بالخضوع و الاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره و الرزايا و يأمنوا شرورها و المضار النازلة منها إليهم.

و الآية أعني قوله: "قل أ غير الله أتخذ وليا" إلخ، و الآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة و تعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، و ينفى عنه كل شريك موضوع.

فقوله تعالى: "قل أ غير الله أتخذ وليا فاطر السماوات و الأرض و هو يطعم و لا يطعم" إشارة إلى الحجة من المسلك الأول، و هو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته شكرا لإنعامه سببا لمزيده.



أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين لهم في صورة الاستفهام و السؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان و غيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم و لا يطعم، و الدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات و الأرض، و أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، و أنعم عليها بنعمة التحقق و الثبوت، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها، و منها الإطعام للإنسان و غيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان و غيره، و الأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة و إيجاده الأشياء و الأسباب و مسبباتها جميعا من صنعه.

فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.

فظهر بما بيناه أولا: أن التعبير عن العبودية و التأله باتخاذ الولي في قوله: "أ غير الله أتخذ وليا" إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام.

و ثانيا: أن التعلق بقوله: "فاطر السماوات و الأرض" إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره، و ربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله: "و لا يطعم" فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى و غيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.

و من الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا، و محصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، و إلى فطرة ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له.

و وجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الآخرين و إن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء، و هو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى و تقدس، و أما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه.

و ثالثا: أن اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش و منه الإنسان.

ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية، و هو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل و هو التوحيد، و نهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: "قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم" ثم قال: "و لا تكونن من المشركين".

بقي هنا أمران: أحدهما: أن قوله: "أول من أسلم" إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته، و إن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان.

و ثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية و هي نوع خضوع و تسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، و هو الخضوع.

قوله تعالى: "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" و هذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة، و هو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها و نزول عذابها.

و قد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب و أمره و هو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات و الأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادىء النظر من النعم، و هو الإطعام.

و قد قيل: "إن عصيت ربي" دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة: "و لا تكونن من المشركين" من نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم، و هذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي.

و بهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، و هذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: "عصيت" موضع أشركت.

قوله تعالى: "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه" إلخ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.

فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد و نفي الشريك على غيرك، و تصير الحجة عليك لا على غيرك.

فأفاد بقوله: "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه" أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو" إلى آخر الآية، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان و هو الإطعام و أنموذجا مما يخافه و هو عذاب يوم القيامة، و تممتا بهما البيان، و لم تتعرضا لسائر أنواع الضر و أقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان، و الكل من الله عز اسمه.

فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، و أن من الخير ما يمس الله به الإنسان و لا راد لفضله و لا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء، و رجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا.

و لما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا، و الخصم لا ينكر ذلك.

و أما قصر الألوهية و المعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة و شفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها.

دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد و لا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، و كذا أفعالهم و آثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه و مشيته غير مستقلين بأمر البتة و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا غير ذلك، فما يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره و مشيته و إذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه و عزته من الاستناد.

فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا، و هو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية، و المتفرد بالمعبودية لا إله غيره، و لا معبود سواه.

و قد عبر عن إصابة الضر و الخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: "إن يمسسك" "و إن يمسسك" ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شيء يسير مما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء، و لا يطيقها و لا يتحملها مخلوق محدود.



و كأن قوله تعالى في جانب الخير: "فهو على كل شيء قدير" وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض، و تنكشف به علة قوله: فلا كاشف له إلا هو إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، و كذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من خير.

و تخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله: "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" و يفيد قوله: "و هو القاهر فوق عباده" من التعميم نظير ما أفاد قوله: "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه".

قوله تعالى: "و هو القاهر فوق عباده و هو الحكيم الخبير" القهر هو نوع من الغلبة، و هو أن يظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود، و النار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته.

و إذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، و هي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها و بها، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره تعالى و قهر غيره فرقا، و هو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا و هما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما و درجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق و الاشتعال، و هما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.

و الله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق و الإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا إحراق جسم و إشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به، قاهر عليه بالخواص و الكيفيات التي أعطاها له و عبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه و إشعاله، و هو المالك لجميع ما للنار من ذات و أثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، و وضع الاحتراق و الاشتعال موضعه فلا مقاومة و لا تعصي و لا جموح و لا شبه ذلك قبال إرادته و مشيته لكونها من أفق أعلى.

فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئا و هما متزاملان.

و قد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة و هما هذه الآية و آية 61.

و قيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: "فوق عباده" و الغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة، و لذا فسره الراغب بالتذليل، و الذلة في أولي العقل أظهر، و لا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.

و الله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر و بالخير و يذللهم لمطاوعته و قاهر فوق عباده فيما يفعلونه و يؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم.

و لما نسب في الآيتين إليه المس بالضر و الخير، و قد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية: "و هو الحكيم الخبير" فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا و جهلا، الخبير لا يخطىء و لا يغلط كغيره.

6 سورة الأنعام - 19 - 20

قُلْ أَى شىْءٍ أَكْبرُ شهَدَةً قُلِ اللّهُ شهِيدُ بَيْنى وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِىَ إِلىّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَ مَن بَلَغَ أَ ئنّكُمْ لَتَشهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لا أَشهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَ إِنّنى بَرِىءٌ ممّا تُشرِكُونَ (19) الّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

بيان

احتجاج على الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الإله و انتفاء الشريك عنه و إن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الذي لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له، و إذا فرض حصوله من طريق الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكىء على التحدي فلا مانع من الاستناد إليه.

قوله تعالى: "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم" أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، و الشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار و نحوه، و أداء ما تحمل كذلك بالإخبار و الإنباء، و إذ كان التحمل و الأداء - و خاصة التحمل - مما يختلف بحسب إدراك المتحملين و بحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل، و بحسب قوة المؤدى بيانا و ضعفه اختلافا فاحشا.

فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو و النسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه و يقع عليه بصره، و ليس الصاحي كالسكران و لا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل.

و إذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شيء شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق و جل من الأشياء، و إليه ينتهي كل أمر و خلق، و هو المحيط بكل شيء و مع كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات و الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لا يضل و لا ينسى.

و لكون الأمر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال: قل الله أكبر شهادة، كما قيل: "قل لمن ما في السماوات و الأرض قل لله": الأنعام - 12 أو يقال: سيقولون الله، كما قيل: "قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله": المؤمنون: 85.

على أن قوله: "قل الله شهيد بيني و بينكم" يدل عليه و يسد مسده، و ليس من البعيد أن يكون قوله "شهيد" خبرا لمبتدإ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله، و التقدير: "قل الله هو شهيد بيني و بينكم" فتشتمل الجملة على جواب السؤال و على ما استؤنف من الكلام.

و قوله: "قل الله شهيد بيني و بينكم" على أنه يشتمل على إخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله: "قل" إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك، و على هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) و على نزول القرآن من عنده كقوله تعالى: "و الله يعلم إنك لرسوله": المنافقون: 1 أو قوله: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه": النساء: 166 و غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره.

و تقييد شهادته تعالى بقوله "بيني و بينكم" يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قومه، و النبي لم ينعزل عنهم و لم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة و الرسالة و دعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله: "و أوحي إلي هذا القرآن" فالمراد بشهادته تعالى بينه و بينهم شهادته بنبوته، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" على ما سيجيء إن شاء الله.

قوله تعالى: "و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ" من مقول القول و هو معطوف على قوله: "الله شهيد" إلخ، و جعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية، و هو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء و الوعد و إن كان أحد الطريقين في الدعوة، و قد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا إلزاميا و إنما يورث شوقا و رغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا.

و لأن دعوة الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة، و هو مخزون مكنوز في فطرة الناس و إنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك و المعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة و نزول السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة و الحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار، و لهذا كله ربما حصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإنذار كما في قوله: "إن أنت إلا نذير": الفاطر - 23 و قوله: "و إنما أنا نذير مبين": العنكبوت: 50.

هذا في عامة الناس و أما الخاصة من عباد الله، و هم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار و لا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف و الرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد و سخط فيخافونها لذلك، و من الجنة أنها ساحة قرب و رضوان فيشتاقون إليها لذلك.

و ظاهر قوله: "لأنذركم به و من بلغ" أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب و بين من بلغ - و المراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة في زمن حياته أو بعده - يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله: "لأنذركم به" هم الذين شافههم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه.

فقوله: "و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ" يدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، و إن شئت فقل: تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله و كتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.

و قد قيل: "لأنذركم به" و لم يقل: لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه و عرف معناه و اهتدى إلى مقاصده، أو فسر له لفظه و قرع سمعه بمضامينه فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته و تشملهم مضامينه، و قد دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتابه إلى مصر و الحبشة و الروم و إيران و لسانهم غير لسان القرآن، و قد كان فيمن آمن به في حياته و قبل إيمانهم سلمان الفارسي و بلال الحبشي و صهيب الرومي و عدة من اليهود و لسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه.

قوله تعالى: "أ إنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد" إلى آخر الآية، لما ذكر شهادة الله و هو أكبر شهادة على رسالته و لم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد، و ليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر: هل يشهدون بتعدد الآلهة، و هذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن و اللام، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.



ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال: "قل لا أشهد" أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثم قال: "قل إنما هو إله واحد و إنني بريء مما تشركون" و هو شهادة على وحدانيته تعالى، و البراءة مما يدعون له من شركاء.

قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" و هذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب، و علمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وصفه بما لا يعتريه شك و لا يطرأ عليه ريب.

فهم بما استحضروا من نعته (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل": الأعراف: 157 و قال تعالى: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل:" الفتح: 29، و قال تعالى: "أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل": الشعراء: 197.

و لما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته و نعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) و يستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال: "الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون".

و قد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة آية 146 و بينا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة و سيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف آية 156 إن شاء الله تعالى.

بحث روائي


في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عز و جل أ شيء أم لا شيء؟ قال: قلت: قد أثبت الله عز و جل نفسه شيئا حيث يقول: "قل أي شيء أكبر شهادة - قل الله شهيد بيني و بينكم" و أقول: إنه شيء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه نفيه و إبطاله: قال لي: صدقت و أحسنت.

قال الرضا (عليه السلام): للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، و تشبيه، و إثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز، و مذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك و تعالى لا يشبهه شيء، و السبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.

أقول: المراد بمذهب النفي نفي معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة، و في معناه إرجاع الصفات الثبوتية إلى نفي ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس بعاجز، و معنى العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره (عليه السلام) من المذهب الثالث.

و المراد بمذهب التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره - و ليس كمثله شيء - أي أن يثبت له من الصفة معناه المحدود الذي فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا و علمه كعلمنا، و هكذا، و لو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجبا تعالى عن ذلك.

و المراد بمذهب الإثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه و تنفى عنه خصوصيته التي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة و ينفي الحد.

و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم" و ذلك أن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله رسولا أرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ذلك في أول ما دعاهم و هم يومئذ بمكة قالوا: و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله شهيد بيني و بينكم.

و في تفسير العياشي، عن بكير عن محمد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: "لأنذركم به و من بلغ" قال: علي (عليه السلام) ممن بلغ.

أقول: ظاهره أن "من بلغ" معطوف على ضمير "كم"، و لقد ورد في بعض الروايات أن المراد بمن بلغ هو الإمام، و لازمه عطف "من بلغ" على فاعل "لأنذركم" المقدر، و ظاهر الآية هو الأول.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز و جل: "و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ" قال: بكل لسان.

أقول: قد مر وجه استفادته من الآية.

و في تفسير المنار،: أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ: "و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ" ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا.

و في تفسير القمي: أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: هل تعرفون محمدا في كتابكم؟ قال: نعم و الله نعرفه بالنعت الذي نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان. و الذي يحلف به ابن سلام: لأنا بمحمد هذا أشد معرفة مني بابني.

6 سورة الأنعام - 21 - 32

وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّب بِئَايَتِهِ إِنّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نحْشرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشرَكُوا أَيْنَ شرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمّ لَمْ تَكُن فِتْنَتهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَ اللّهِ رَبِّنَا مَا كُنّا مُشرِكِينَ (23) انظرْ كَيْف كَذَبُوا عَلى أَنفُسِهِمْ وَ ضلّ عَنهُم مّا كانُوا يَفْترُونَ (24) وَ مِنهُم مّن يَستَمِعُ إِلَيْك وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَ فى ءَاذَانهِمْ وَقْراً وَ إِن يَرَوْا كلّ ءَايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بهَا حَتى إِذَا جَاءُوك يجَدِلُونَك يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (25) وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْئَوْنَ عَنْهُ وَ إِن يُهْلِكُونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَشعُرُونَ (26) وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ فَقَالُوا يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَ لا نُكَذِّب بِئَايَتِ رَبِّنَا وَ نَكُونَ مِنَ المُْؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لهَُم مّا كانُوا يخْفُونَ مِن قَبْلُ وَ لَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عَنْهُ وَ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ (28) وَ قَالُوا إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَ مَا نحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبهِمْ قَالَ أَ لَيْس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقَاءِ اللّهِ حَتى إِذَا جَاءَتهُمُ الساعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَحَسرَتَنَا عَلى مَا فَرّطنَا فِيهَا وَ هُمْ يحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلى ظهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَيَوةُ الدّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ الاَخِرَةُ خَيرٌ لِّلّذِينَ يَتّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

بيان

تعود الآيات إلى أصل السياق و هو الحضور فتلتفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد الطاهرة و هي التوحيد و الاعتقاد بالنبوة و المعاد، و ذلك قوله تعالى: "و من أظلم" إلخ، و قوله: "و منهم من يستمع إليك" إلخ، و قوله: "و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا" إلخ.

ثم تبين أن ذلك منهم أشد الظلم و إهلاك لأنفسهم و خسران لها، و تبين كيف تنعكس إليهم و توافيهم هذه المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في الدنيا و يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات، و يبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه.

قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته" الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضي أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم، و هو الانحراف و الخروج عن الوسط العدل.

و الظلم كما يكبر و يصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر و الصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه و عظم شأنه كان الظلم أكبر و أعظم، و لا أعز قدرا و أكرم ساحة من الله سبحانه و لا من آياته الدالة عليه، فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه، و لا يظلم إلا نفسه.

و قد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته" أما افتراء الكذب عليه تعالى فبإثبات الشريك له، و لا شريك له، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا و ابتداعا، و أما تكذيب آياته الدالة عليه فكتكذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق، و منه إنكار الصانع أصلا.

و الآية تنطبق على المشركين، و هم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون، و إليهم ينتهي تدبير شئون العالم مستقلين بذلك، و من جهة أنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة و المعاد.

و ربما ألحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الطاهرين من ذريته أو الأولياء الكرام من أمته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شيء من حوائج الدنيا أو الآخرة شركا تشمله الآية و ما يناظرها من الآيات الشريفة.

و كأنه خفي عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الإذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو آخرة، فقال عز من قائل: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه": البقرة: 255.



على أنه تعالى قال: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": الزخرف: 86 فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق، و القدر المتيقن منهم الأنبياء و منهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله: "و جئنا بك على هؤلاء شهيدا": النساء: 41 و نص على علمه حيث قال: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء": النحل: 89، و قال: "نزل به الروح الأمين على قلبك": الشعراء: 194 و هل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شيء على قلب من غير علم به، أو بعثه تعالى إياه شهيدا و ليس بشهيد بالحق؟ و قال الله تعالى: "لتكونوا شهداء على الناس": البقرة: 143، و قال: "و يتخذ منكم شهداء": آل عمران: 140، و قال تعالى: "و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون": العنكبوت: 43 فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء و لا يثبت إلا الحق.

و قال تعالى في أهل بيته (عليهم السلام): "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا": الأحزاب: 33 فبين أنهم مطهرون بتطهيره، ثم قال: "إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة: 79 فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو تبيان كل شيء و المطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة في الشهادة بالحق التي لا سبيل للغو و التأثيم إليها، و قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب فليراجع.

قوله تعالى: "إنه لا يفلح الظالمون" الفلاح و الفوز و النجاح و الظفر و السعادة ألفاظ قريبة المعنى، و لهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذي هو معنى السعادة تقريبا، قال في المفردات: الفلح: الشق، و قيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق، و الفلاح الأكار لذلك و الفلاح الظفر و إدراك البغية، و ذلك ضربان دنيوي و أخروي: فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العز و إياه قصد الشاعر بقوله: أفلح بما شئت فقد يدرك.

بالضعف و قد يخدع الأريب.

و فلاح أخروي، و ذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل.

انتهى، فمن الممكن أن يقال: إن الفلاح هو السعادة سميت به لأن فيها الظفر و إدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب.

و هذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله: "قد أفلح المؤمنون": المؤمنون: 1، و قوله: "قد أفلح من زكاها": الشمس: 9، و قوله: "إنه لا يفلح الكافرون": المؤمنون: 117 إلى غير ذلك من الموارد.

فقوله: "إنه لا يفلح الظالمون" - و قد أخذ الظلم وصفا - معناه أن الظالمين لا يدركون بغيتهم التي تشبثوا لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدي الظالم إلى ما يبتغيه من السعادة و الظفر بواسطة ظلمه.

و ذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية و مطلوبا بحسب واقع الأمر و خارج الوجود، و يكون حينئذ الشيء الذي يطلب هذه البغية و السعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب و الأدوات كالإنسان الذي من سعادته المطلوبة أن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي يناسب ذلك، و الأدوات و الأسباب الملائمة له، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب و الأدوات المهيأة لذلك، ثم يصفيه و يبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه، و هذا حكم عام جار في جميع الأنواع الخارجية التي تناله حواسنا و يسعه استقراؤنا من غير تخلف و اختلاف البتة.



و على هذا يجري نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة و سعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه، و لو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب و بطلان الطريق، و في عطله و بطلانه فساد جميع ما يرتبط و يتعلق به من الأسباب و العلائق كالإنسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول و الالتقام و الهضم فإن ذلك يفضي إلى عطل قوته الغاذية، و في عطله انحراف قوتيه المنمية و المولدة مثلا جميعا.

و قد اقتضت العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور و الإرادة أن تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك بطلان العمل، و لو تكرر ذلك بطلت الذات كالإنسان المريد للأكل إذا غلط و حسب السم غذاء أو الطين خبزا و نحو ذلك.

و للإنسان عقائد و آراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا و يطبق عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدإ و المعاد، و الأحكام العملية التي يجعلها مقاييس لأعماله من العبادات و المعاملات.

و هذه طرق إلى السعادات الإنسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الإنسان أدرك بغيته و ظفر بسعادته، و لو انحرف عنها إلى غيرها - و هو الظلم - لم يوصله إلى بغيته و لئن أوصله إليه لم يثبت عليه، و لم يدم له ذلك فإن سائر الطرق و السبل مربوطة به فتنازعه في ذلك، و تخالفه و تضاده بجميع ما لها من الوسع و الطاقة، ثم أجزاء الكون الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء و الأحكام لا توافقه في عمله، و لا تزال على هذا الحال حتى تقلب له الأمر، و تفسد عليه سعادته، و تنغص عليه عيشته.

فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالإثم و القدرة الكاذبة في الحصول على بغية و سعادة من غير طريقه المشروع، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما، أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة، أو إلى دمائهم و نفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصي في شيء من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو غيرها، أو يقترف شيئا من الذنوب المتعلقة بذلك، كالكذب و الفرية و الخدعة و نحوها.

يأتي بشيء من ذلك و ربما أدرك ما قصده، و هو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه، و قد ذهب عن خسران صفقته و خيبة مسعاه في دنياه و آخرته.

أما في دنياه فلأن ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج و المرج و اختلال النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم و لو عم أبطل النظام، و لو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الإنساني فالنظام الذي يضمن بقاء النوع الإنساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع، و لا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله و نتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على مهل و لن يدوم ظلمه البتة.

و أما في الآخرة فلأن ظلمه مكتوب في صحيفة عمله، و هو منقوش في لوح نفسه بما يورد عليها من الأثر ثم هو مجزي به عائش على وتيرته، و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.



قال الله تعالى: "أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون": البقرة: 85، و قال: "كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون": الزمر: 26، و قال: "و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد": الحج: 10 إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.

و الآيات - كما ترى - تشمل المظالم الاجتماعية و الفردية فهي تصدق ما تقدم من البحث، و أشملها مضمونا الآية المبحوث عنها: "إنه لا يفلح الظالمون".

قوله تعالى: "و يوم نحشرهم جميعا" إلى آخر الآيتين، الظرف متعلق بمقدر و التقدير: و اذكر يوم "إلخ"، و قد تعلقت العناية في الكلام بقوله "جميعا" للدلالة على أن العلم و القدرة لا يتخلفان عن أحد منهم، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما و قدرة سيحصيهم و يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا.

و الجملة في مقام بيان قوله: "إنه لا يفلح الظالمون" كأنه لما قيل: "إنه لا يفلح الظالمون" سئل فقيل: و كيف ذلك؟ فقيل: لأن الله سيحشرهم و يسألهم عن شركائهم فيضلون عنهم و يفقدونهم فينكرون شركهم و يقسمون لذلك بالله كذبا، و لو أفلح هؤلاء الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم، و لم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة و الشفاعة و نالوا شفاعتهم.

و قوله: "ثم لم تكن فتنتهم" إلخ، قيل: المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و المراد: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا "إلخ"، و قيل: المراد بالفتنة المعذرة، و لكل من الوجوه وجه.

قوله تعالى: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون" بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة، و المراد أنهم سيكذبون على أنفسهم و يفقدون ما افتروا به، و لو أفلحوا في ظلمهم و سعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك و إنكاره على أنفسهم.

أما كذبهم على أنفسهم فلأنهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء، و هم كانوا يصرون عليه و يعرضون فيه عن كل حجة واضحة و آية بينة ظلما و عتوا، و هذا كذب منهم على أنفسهم.

و أما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلأن اليوم يوم ينجلي فيه عيانا أن الأمر و الملك و القوة لله جميعا ليس لغيره من شيء إلا ذلة العبودية، و الفقر و الحاجة من غير أي استقلال قال تعالى: "و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب": البقرة: 165، و قال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": المؤمن: 16 و قال: "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، و الأمر يومئذ لله": الانفطار: 19.

فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له، و يظهر لهم أوثانهم و شركاؤهم و هم لا يملكون ضرا و لا نفعا لأنفسهم و لا لغيرهم، و وجدوا الأوصاف التي أثبتوها لهم من الربوبية و الشفاعة و غيرهما إنما هي لله وحده، و قد كان اشتبه عليهم الأمر فتوهموها لغيره و ضل عنهم ما كانوا يفترون.



فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى: "و إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، و ألقوا إلى الله يومئذ السلم و ضل عنهم ما كانوا يفترون": النحل: 87 و قال تعالى: "ذلكم الله ربكم له الملك و الذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم و لو سمعوا ما استجابوا لكم و يوم القيامة يكفرون بشرككم": الفاطر: 14 و قال تعالى: "و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون، فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين، هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون": يونس: 30.

و بالتدبير في هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة و الشفاعة و تبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى: "و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد الله عنده فوفاه حسابه": النور: 39.

فإن قلت: إن الآيات المتعرضة لوصف يوم القيامة - كما تقدم - ظاهرة في بروز الحقائق و خروجها عن مكمن الخفاء و الالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية كما قال تعالى: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء": المؤمن: 16 فأي نفع حينئذ لكذبهم؟ و كيف يكذبون و ما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا؟ و قد قال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء": آل عمران: 30.

قلت: كذبهم و حلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة، و مثل الآية قوله تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم": المجادلة: 18 و ليس كذبهم و حلفهم عليه للتوصل به إلى الأغراض الفاسدة و ستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل و اكتساب.

لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات و المهالك و يجلبوا المنافع إليهم بالأيمان الكاذبة و الأخبار المزورة خدعة و غرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب، و الملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه، و ذلك كما أن البذي الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه و إن عزم عليه و المستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع، و إن خضع في موقف المهلكة و الذلة أحيانا فإنما يخضع ظاهرا و بلسانه، و أما باطنا و في قلبه فهو على حاله لم يتغير و لن يتغير البتة.

و هذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر و السريرة المعقودة على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى: "و لا يكتمون الله حديثا": النساء: 42 و نظيره التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم، و قد قص الله سبحانه ذلك في مواضع كثيرة من كلامه، و أجمله في قوله: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار": ص: 64 هذا في أهل العذاب و أما أهل المغفرة و الجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم هاهنا من الصفا و السلامة، قال تعالى: "لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما": الواقعة: 26 فافهم ذلك.

قوله تعالى: "و منهم من يستمع إليك" إلى آخر الآية، الأكنة جمع كن بكسر الكاف و هو الغطاء الذي يكن فيه الشيء و يغطى، و الوقر هو الثقل في السمع، و الأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب و المين على ما نقل عن المبرد، و كان أصله السطر و هو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع و نظم و رتب من الأخبار الكاذبة.

و كان ظاهر السياق أن يقال: يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، و لعل الإظهار للإشعار بالسبب في هذا الرمي و هو الكفر.



قوله تعالى: "و هم ينهون عنه و ينئون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون" ينهون عنه أي عن اتباعه، و النأي الابتعاد، و القصر في قوله: "و إن يهلكون إلا أنفسهم" من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهي عنه و النأي عنه إهلاك له و إبطال للدعوة الإلهية، و يأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا يشعرون.

قوله تعالى: "و لو ترى إذ وقفوا على النار" إلى آخر الآيتين.

بيان لعاقبة جحودهم و إصرارهم على الكفر و الإعراض عن آيات الله تعالى.

و قوله: "يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا" إلخ، على قراءة النصب في "نكذب" و "نكون" تمن منهم للرجوع إلى الدنيا و الانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من عذاب النار يوم القيامة، و هذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله و حلفهم بالله على ذلك كذبا من باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمني فيما لا سبيل لهم إلى حيازته من الخيرات و المنافع الفائتة عنهم، و خاصة إذا كان فوتها مستندا إلى سوء اختيارهم و قصور تدبيرهم في العمل، و نظيره أيضا ما سيجيء من تحسرهم على ما فرطوا في أمر الساعة.

على أن التمني يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني رجوع الأيام الخالية و غير ذلك قال الشاعر: ليت و هل ينفع شيئا ليت.

ليت الشباب بوع فاشتريت.

و قوله: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" إلخ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر أعني ضمائر "لهم" و "كانوا" و "يخفون" واحد و هو المشركون السابق ذكرهم، و أن المراد بالقبل هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا، و الإيمان بآيات الله، و الدخول في جماعة المؤمنين.

و لم يبد لهم إلا النار التي وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا أخفوها في الدنيا بالكفر و الستر للحق و التغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22.

و أما نفس الحق الذي كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من قبل و السياق يأبى أن يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار و هول يوم القيامة باعثا لهم على هذا التمني.

و يشعر بذلك بعض ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله: "و إذا قيل إن وعد الله حق و الساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون": الجاثية: 33، و قوله: "و لو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، و بدا لهم سيئات ما كسبوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون": الزمر: 48.

و قد ذكروا في الآية أعني قوله: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" وجوها كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال: و فيه أقوال الأول أنه أعمالهم السيئة و قبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم، و شهدت بها عليهم جوارحهم.

الثاني: أنه أعمالهم التي كانوا يفترون بها و يظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا.

الثالث: أنه كفرهم و تكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله تعالى: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين".



الرابع: أنه الحق أو الإيمان الذي كانوا يسرونه و يخفونه بإظهار الكفر و التكذيب عنادا للرسول و استكبارا عن الحق، و هذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا".

الخامس: أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل بدا للأتباع الذين كانوا مقلدين لهم، و منه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) و صفاته و بشارة أنبيائهم به.

السادس: أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر و إظهار الإيمان و الإسلام.

السابع: أنه البعث و الجزاء و منه عذاب جهنم، و أن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به، و هو المعنى الأصلي لمادة الكفر.

الثامن: أن في الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر و السيئات و نزل بهم عقابه فتبرموا و تضجروا و تمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا، و ترك ما أفضي إليه من التكذيب بالآيات و عدم الإيمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب في نفسه، و نحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب عندنا قول آخر، و هو: التاسع: أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم و لأشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، انتهى، ثم عمم الكلام لرؤساء الكفار و أتباعهم المقلدة و للمنافقين و الفساق ممن يقترف الفواحش و يخفيها عن الناس أو يترك الواجبات و يعتذر بأعذار كاذبة و يخفي حقيقة الحال في كلام طويل.

و بالرجوع إلى ما قدمناه من الوجه و التأمل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه الأقوال من وجوه الخلل فلا نطيل.

و قوله: "و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات الرذيلة في نشأة الدنيا فإن الذي بعثهم إلى تمني الرجوع إلى الدنيا و الإيمان فيها بآيات الله و الدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب يوم القيامة، و هو من مقتضيات نشأة الآخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية ظهور عيان.

و لو عادوا إلى الدنيا لزمهم حكم النشأة، و أسدلت عليهم حجب الغيب، و رجعوا إلى اختيارهم، و معه هوى النفس و وسوسة الشيطان و قرائح العباد و الاستكبار و الطغيان فعادوا إلى سابق شركهم و عنادهم مع الحق فإن الذي دعاهم و هم في الدنيا إلى مخالفة الحق و التكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا بعد البعث، فحكمه حكمه من غير فرق.

و قوله: "و إنهم لكاذبون" أي في قولهم: "يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا" إلخ، و التمني و إن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق و الكذب إلا أنهم لما قالوا: "نرد و لا نكذب" أي ردنا الله إلى الدنيا و لو ردنا لم نكذب، و لم يقولوا: نعود و لا نكذب، كان كلامهم مضمنا للمسألة و الوعد أعني مسألة الرد و وعد الإيمان و العمل الصالح كما صرح بذلك في قوله: "و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون": السجدة: 12 و قوله: "و هم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل": الفاطر: 37.



و بالجملة قولهم: "يا ليتنا نرد و لا نكذب" إلخ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا لا نكذب بآياتك و نكن من المؤمنين، و بهذا الاعتبار يحتمل الصدق و الكذب، و يصح عدهم كاذبين.

و ربما وجه نسبة الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الأمل و التمني و هو عدم تحققه خارجا كما يقال: كذبك أملك، لمن تمنى ما لا يدرك.

و ربما قيل: إن المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة الواقع و اعتقاد الحق، هو كما ترى.

قوله تعالى: "و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا" إلى آخر الآيتين.

ذكر لإنكارهم الصريح للحشر و ما يستتبعه يوم القيامة من الإشهاد و أخذ الاعتراف بما أنكروه، و الوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم ذلك في كلامه غير مرة، و قولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الأمور الدنيوية من جلب المنافع إليهم و دفع المضار و المخاوف عنهم.

فقوله: "و قالوا إن هي" إلخ، حكاية لإنكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، و ما نحن بمبعوثين بعد الممات، و قوله: "و لو ترى إذ وقفوا" كالجواب و هو بيان ما يستتبعه قولهم: إن هي إلا، "إلخ" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة التمني لمكان قوله: "و لو ترى" و هو أنهم سيصدقون بما جحدوه، و يعترفون بما أنكروه بقولهم: "و ما نحن بمبعوثين" إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذي أخبروا به في الدنيا، و هو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في الدنيا.

و من هنا يظهر أن الله سبحانه فسر البعث في قوله: "و لو ترى إذ وقفوا على ربهم" بلقاء الله، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة" إلخ، حيث بدل الحشر و البعث و القيامة المذكورات في سابق الكلام لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء.

و قوله: "أ ليس هذا" أي أ ليس البعث الذي أنكرتموه في الدنيا و هو لقاء الله "بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" به و تسترونه.

قوله تعالى: "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله" إلى آخر الآية، قال في المجمع،: كل شيء أتى فجأة فقد بغت يقال: بغته الأمر يبغته بغتة انتهى، و قال الراغب في المفردات،: الحسر كشف الملبس عما عليه يقال: حسرت عن الذراع، و الحاسر من لا درع عليه و لا مغفر، و المحسرة المكنسة - إلى أن قال - و الحاسر المعيا لانكشاف قواه - إلى أن قال - و الحسرة الغم على ما فاته و الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه.

انتهى موضع الحاجة.

و قال: الوزر بفتحتين الملجأ الذي يتلجأ إليه من الجبل، قال: "كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر" و الوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال "ليحملوا أوزارهم كاملة" الآية كقوله: "و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم"، انتهى.

و الآية تبين تبعة أخرى من تبعات إنكارهم البعث و هو أن الساعة سيفاجئهم فينادون بالحسرة على تفريطهم فيها و يتمثل لهم أوزارهم و ذنوبهم و هم يحملونها على ظهورهم و هو أشق أحوال الإنسان و أردؤها ألا ساء ما يزرون و يحملونه من الثقل أو من الذنب أو من وبال الذنب.



و الآية أعني قوله: "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله" بمنزلة النتيجة المأخوذة من قوله: "و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا" إلى آخر الآيتين، و هي أنهم بتعويضهم راحة الآخرة و روح لقاء الله من إنكار البعث و ما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة.

قوله تعالى: "و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو و للدار الآخرة خير" إلخ، تتمة للكلام فيه بيان حال الحياتين: الدنيا و الآخرة و المقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب و لهو ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة من العقائد الاعتبارية و المقاصد الوهمية كما يدور عليه اللعب فهي لعب، ثم هي شاغلة للإنسان عما يهمه من الحياة الأخرى الحقيقية الدائمة فهي لهو، و الحياة الآخرة لكونها حقيقية ثابتة فهي خير و لا ينالها إلا المتقون فهي خير لهم.

بحث روائي


و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد حتى يقول أهل الشرك: "و الله ربنا ما كنا مشركين".

و في المجمع،: في قوله تعالى: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا" الآية: أن المراد: لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا، إلخ:، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و هم ينهون عنه و ينأون عنه" الآية، قال: قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يمنعون قريشا، و ينأون أي يباعدون عنه و لا يؤمنون.

أقول: و الرواية تقرب مما روي عن عطاء و مقاتل: أن المراد أبو طالب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه كان ينهى قريشا عن النبي و ينأى عن النبي و لا يؤمن به.

و السياق يأبى ذلك فإن ظاهر الآية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

على أن الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) متظافرة بإيمانه.

قال في المجمع،: قد ثبت إجماع أهل البيت (عليهم السلام) بإيمان أبي طالب، و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين الذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما بقوله: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا.

و يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا تركت الشيخ فآتيه؟ و كان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): صدقت.

و روى الطبري، بإسناده: أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمعوا عليه و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا، و سفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه، و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرىء منكم بولده فأقتله، و قال: منعنا الرسول رسول المليك. ببيض تلألأ كلمع البروق. أذود و أحمي رسول المليك. حماية حام عليه شفيق. و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله: أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا.

نبيا كموسى خط في أول الكتب.

أ ليس أبونا هاشم شد أزره.

و أوصى بنيه بالطعان و بالحرب.

و قوله من قصيدة: و قالوا لأحمد أنت امرؤ.



خلوف اللسان ضعيف السبب.

ألا إن أحمد قد جاءهم.

بحق و لم يأتهم بالكذب.

و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و قد كان في أمر الصحيفة عبرة.

متى ما يخبر غائب القوم يعجب.

محا الله منها كفرهم و عقوقهم.

و ما نقموا من ناطق الحق معرب.

و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا.

على سخط من قومنا غير معتب.

و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته: صبرا أبا يعلى على دين أحمد.

و كن مظهرا للدين وفقت صابرا.

فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن.

فكن لرسول الله في الله ناصرا.

و قوله من قصيدة: أقيم على نصر النبي محمد.

أقاتل عنه بالقنا و القنابل.

و قوله يحض النجاشي على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تعلم مليك الحبش أن محمدا.

وزير لموسى و المسيح بن مريم.

أتى بهدى مثل الذي أتيا به.

و كل بأمر الله يهدي و يعصم.

و إنكم تتلونه في كتابكم.

بصدق حديث لا حديث المرجم.

فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا.

و إن طريق الحق ليس بمظلم.

و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة: أوصى بنصر النبي الخير مشهده.

عليا ابني و شيخ القوم عباسا.

و حمزة الأسد الحامي حقيقته.

و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا.

كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت.

في نصر أحمد دون الناس أتراسا.

و أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه يطول بها الكتاب، انتهى.

و العمدة في مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك، و في الجانب الآخر إجماع أهل البيت (عليهم السلام) و بعض الروايات من طريق الجمهور، و أشعاره المنقولة عنه، و لكل امرىء ما اختار.

و في تفسير العياشي، عن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل. و فيه، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام)، قال: إن الله قال للماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال للماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي فأجرى المائين على الطين ثم قبض قبضة بيده و هي يمين فخلقهم خلقا كالذر ثم أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم و عليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار: كوني نارا فإذا نارا تأجج، و قال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع، و منهم من أبطأ في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد. ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل أولئك ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين، ثم قال لهم: قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ، و منهم من أسرع و منهم من مر بطرف العين فوقعوا فيها كلها، فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شيء. و قال الآخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من أسرع في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الأولى، فذلك قوله: "و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون".



أقول: هذه الرواية و التي قبلها من روايات الذر و سيأتي استيفاء البحث عنها في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم، قالوا بلى" الآية.

و محصلها أنه كما أن لنظام الثواب و العقاب في الآخرة ارتباطا تاما بنشأة أخرى قبلها و هي نشأة الدنيا من حيث الطاعة و المعصية كذلك للطاعة و المعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة أخرى قبلها رتبة، و هي عالم الذر.

فالمراد بقوله في الرواية: فذلك قوله تعالى: "و لو ردوا لعادوا إلخ، أن معنى الآية و لو ردوا من عرصات الحشر إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون من عالم الذر إذ كذبوا الله فيه، و هذا هو المراد بعينه بقوله (عليه السلام) في الرواية الأولى: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه.

و على هذا فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الآية غير الوجوه الثلاثة المتقدمة في البيان السابق.

و في المجمع، عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: "يا حسرتنا على ما فرطنا فيها" الآية، قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا، اه.

6 سورة الأنعام - 33 - 36

قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُك الّذِى يَقُولُونَ فَإِنهُمْ لا يُكَذِّبُونَك وَ لَكِنّ الظلِمِينَ بِئَايَتِ اللّهِ يجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَت رُسلٌ مِّن قَبْلِك فَصبرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتى أَتَاهُمْ نَصرُنَا وَ لا مُبَدِّلَ لِكلِمَتِ اللّهِ وَ لَقَدْ جَاءَك مِن نّبَإِى الْمُرْسلِينَ (34) وَ إِن كانَ كَبرَ عَلَيْك إِعْرَاضهُمْ فَإِنِ استَطعْت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فى الأَرْضِ أَوْ سلّماً فى السمَاءِ فَتَأْتِيهُم بِئَايَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الْهُدَى فَلا تَكُونَنّ مِنَ الْجَهِلِينَ (35) إِنّمَا يَستَجِيب الّذِينَ يَسمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

بيان

تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هفوات المشركين في أمر دعوته، و تطييب لنفسه بوعد النصر الحتمي، و بيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر فالقدرة و المشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول، و لو شاء الله لجمعهم على الهدى.

قوله تعالى: "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون" إلى آخر الآية، "قد" حرف تحقيق في الماضي، و تفيد في المضارع التقليل و ربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، و هو المراد في الآية، و حزنه كذا و أحزنه بمعنى واحد، و قد قرىء بكلا الوجهين.

و قوله: "فإنهم لا يكذبونك" قرىء بالتشديد من باب التفعيل، و بالتخفيف، و الظاهر أن الفاء في قوله: "فإنهم" للتفريع و كأن المعنى قد نعلم أن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا و ليس لك فيه إلا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها.

فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات: "ثم إليه يرجعون" في معنى قوله تعالى: "و من كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور":" لقمان: 23 و قوله: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون": يس: 76 و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليته (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا على قراءة التشديد.

و أما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجتك بحجة و إنما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم.

و قوله: "و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون" كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلا عتوا و بغيا و طغيانا و سيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة فقيل: "بآيات الله" و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية و استعلاء عليه و هو المقام الذي لا يقوم له شيء.

و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى: أحدها: ما عن الأكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، و إنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا.

و ثانيها: أنهم لا يكذبونك و إنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست مختصا به، و هذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه و إن كان قريبا منه، و الوجهان جميعا على قراءة التشديد.

و ثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدم.

قوله تعالى: "و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا" إلى آخر الآية.

هداية له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله، و قد قال تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده": الأنعام: 90.

و قوله: "حتى أتاهم نصرنا" بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهي بالنصر، و في قوله: "و لا مبدل لكلمات الله" تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي": المجادلة: 21، و قوله: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون": الصافات: 172.

و وقوع المبدل في قوله: "و لا مبدل لكلمات الله" في سياق النفي ينفي أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم و يغيره بوجه من الوجوه.

و من هنا يظهر أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى: "قال فالحق و الحق أقول": ص: 84 و قال تعالى: "و الله يقول الحق": الأحزاب: 4، و قال تعالى: "ألا إن وعد الله حق": يونس: 55 و قال تعالى: "لا يخلف الله الميعاد": الزمر: 20 و قد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى: "منهم من كلم الله": البقرة: 253.

و قوله في ذيل الآية: "و لقد جاءك من نبإ المرسلين" تثبيت و استشهاد لقوله: "و لقد كذبت رسل من قبلك" إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكة قبل الهجرة، و الله أعلم.

قوله تعالى: "و إن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله - فتأتيهم بآية" قال الراغب: النفق الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبه بقوله: إن المنافقين هم الفاسقون أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، و نيفق السراويل معروف، انتهى.

و قال: السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب قال تعالى: أم لهم سلم يستمعون فيه، و قال: أو سلما في السماء، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلم،.

انتهى.

و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل.

و المراد بالآية في قوله تعالى: "فتأتيهم بآية" الآية التي تضطرهم إلى الإيمان فإن الخطاب عنى قوله: "و إن كان كبر عليك إعراضهم" إلخ، إنما ألقي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر و يشق عليك إعراضهم فإن الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحق و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و أنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهية.



و أما ما احتمله بعضهم: أن المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصة قوله "و لو شاء الله لجمعهم على الهدى" فإنه ظاهر في الاضطرار.

و من هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطروا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.

لكنه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى: "و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها، و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين": السجدة: 13 يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله: "قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين": ص: 85 فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين.

و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم و إبليس: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، و إن جهنم لموعدهم أجمعين": الحجر: 43 و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة: "و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم - إلى أن قال - إني كفرت بما أشركتمون من قبل": إبراهيم: 22.

فالآيات تبين أن المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الإنسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله منه المشية كقوله تعالى: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، و ما تشاءون إلا أن يشاء الله": الإنسان: 30، و قال تعالى: "إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين": التكوير: 29.

فمشية الإنسان في تحققها و إن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته، و تعرض منه لرحمته، قال تعالى: "و يهدي إليه من أناب": الرعد: 27 أي انعطف و رجع إليه، و أما الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26 و قال: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف: 5 و قال: "و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه": الأعراف: 176.

و بالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهية لا تنزل إلا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته و استعد لهدايته من طريق الاختيار.

و بهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصة أن يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حريتهم في العمل.

و ذلك أنه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله و زكى نفسه و قد أفلح من زكاها و لا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه و دس نفسه و قد خاب من دساها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا، كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء: 20 أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه و إن أراد الشر أوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكب على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام و إفساد أمر الأسباب.

و تؤيد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون" إلى آخر الآية على ما سيجيء من معناها.

قوله تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون" الآية كالبيان لقوله: "و إن كان كبر عليك إعراضهم" إلى آخر الآية فإن ملخصه أنك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبين في هذه الآية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنما يستجيب الذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهرا في صور الأحياء و هؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله: "و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون": السجدة: 12 فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفار بالموت و الصمم كما قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122 و قال تعالى: إنك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون": النمل: 81 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قد تكرر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور من المفسرين على الكناية و التشبيه، و أن لها معنى من الحقيقة فليراجع.

و في الآية دلالة على أن الكفار و المشركين سيفهمهم الله الحق و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق عاجلا أو آجلا.

بحث روائي


في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: "و إن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله نفقا في الأرض"، يقول: سربا.



أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الإشارة بالآية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق

6 سورة الأنعام - 37 - 55

وَ قَالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رّبِّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلى أَن يُنزِّلَ ءَايَةً وَ لَكِنّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَ مَا مِن دَابّةٍ فى الأَرْضِ وَ لا طئرٍ يَطِيرُ بجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مّا فَرّطنَا فى الْكِتَبِ مِن شىْءٍ ثُمّ إِلى رَبهِمْ يحْشرُونَ (38) وَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا صمّ وَ بُكْمٌ فى الظلُمَتِ مَن يَشإِ اللّهُ يُضلِلْهُ وَ مَن يَشأْ يجْعَلْهُ عَلى صرَطٍ مّستَقِيمٍ (39) قُلْ أَ رَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَاب اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ الساعَةُ أَ غَيرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (40) بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شاءَ وَ تَنسوْنَ مَا تُشرِكُونَ (41) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا إِلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِك فَأَخَذْنَهُم بِالْبَأْساءِ وَ الضرّاءِ لَعَلّهُمْ يَتَضرّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جَاءَهُم بَأْسنَا تَضرّعُوا وَ لَكِن قَست قُلُوبهُمْ وَ زَيّنَ لَهُمُ الشيْطنُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمّا نَسوا مَا ذُكرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَب كلِّ شىْءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مّبْلِسونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الّذِينَ ظلَمُوا وَ الحَْمْدُ للّهِ رَب الْعَلَمِينَ (45) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سمْعَكُمْ وَ أَبْصرَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُم مّنْ إِلَهٌ غَيرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظرْ كيْف نُصرِّف الاَيَتِ ثُمّ هُمْ يَصدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَاب اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَك إِلا الْقَوْمُ الظلِمُونَ (47) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسلِينَ إِلا مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَ أَصلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ (48) وَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا يَمَسهُمُ الْعَذَاب بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ (49) قُل لا أَقُولُ لَكمْ عِندِى خَزَائنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْب وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنى مَلَكٌ إِنْ أَتّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلىّ قُلْ هَلْ يَستَوِى الأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكّرُونَ (50) وَ أَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يخَافُونَ أَن يحْشرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْس لَهُم مِّن دُونِهِ وَلىّ وَ لا شفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ (51) وَ لا تَطرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَوةِ وَ الْعَشىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْك مِنْ حِسابِهِم مِّن شىْءٍ وَ مَا مِنْ حِسابِك عَلَيْهِم مِّن شىْءٍ فَتَطرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظلِمِينَ (52) وَ كذَلِك فَتَنّا بَعْضهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَ هَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَ لَيْس اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشكرِينَ (53) وَ إِذَا جَاءَك الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَتِنَا فَقُلْ سلَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَب رَبّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سوءَا بجَهَلَةٍ ثُمّ تَاب مِن بَعْدِهِ وَ أَصلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (54) وَ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ وَ لِتَستَبِينَ سبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

بيان

احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوة.

قوله تعالى: "و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر" إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لما صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم: "لو لا نزل عليه آية من ربه" هي آية غير القرآن، و أنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوسات.

و قد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا: "لو لا نزل عليه آية من ربه" و لم يقولوا: من ربنا أو من الله و نحوهما إزراء بأمره و تأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه و يدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.

و الذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البر و إله البحر و إله الحب و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو رب الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها.

و كان يحضهم على هذه المزعمة و يؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شيء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

و ثانيهما: أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: "و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون": الأنعام: 8، و قوله: و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها": الإسراء: 59.

و قد أشير في الآية الكريمة أعني قوله: "و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية و لكن أكثرهم لا يعلمون"، إلى الجهتين جميعا.



فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم "الله" و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدل في الجواب لفظة "الرب" إلى اسم "الله" للدلالة على برهان الحكم، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أن اجتراءهم على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات: "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني و بينكم و الله أعلم بالظالمين": الأنعام: 58.

و في قوله تعالى: "نزل" و "ينزل" مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: "و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة - إلى أن قال - أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه" الآيات: الإسراء: 93، و قوله: "و قال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا": الفرقان: 21 و قوله: "و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة": الفرقان: 32.

و روي عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف.

7 قوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" إلى آخر الآية، الدابة كل حيوان يدب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدب بالفتح و الدبيب هو المشي الخفيف.

و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الأمور الاجتماعية.

و الظاهر أن توصيف الطائر بقوله: "يطير بجناحيه" محاذاة لتوصيف الدابة بقوله: "في الأرض" فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضي و لا هوائي، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: "يطير بجناحيه" كلام في المجتمعات الحيوانية



و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده، و لا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك و إن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية: "ثم إلى ربهم يحشرون" يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى سعادته و شقائه، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانية و نور العبودية.

بل حياة الإنسان الشعورية و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانية و ما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معا، و إن لم يعمل بها و تخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة.

و هذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشر و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحق فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها و يشرح له تفاصيلها.

و هذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنية تفيد ذلك و تؤيده كقوله تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها": الشمس: 10، و قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم": البقرة: 213.

و الإمعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد و آراء فردية و اجتماعية تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء.

فالواحد منا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه، و أن يتزوج و أن ينسل و هكذا، و أن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرك و يسكن على طبق ما اتخد له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراء و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضار كما في الإنسان، و ربما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدو من الطرق الاجتماعية و الفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد طي قرون و أحقاب من عمره النوعي.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنية و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة و المدنية من الإنسان.



و قد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكر في خلقها و أعمالها عامة كقوله تعالى: "و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون": الجاثية: 4 و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل.

و هذه الآراء و العقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان أمور و استقباح أمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

و هو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة.

و كذا يؤيده جزئيات أخرى من حب و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعد و غير ذلك مما نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الإنسان الأخروية، و ملاكا لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة أخروية.

و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر و يستدل به عليه كما في قوله تعالى: "أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28 بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلانا لفعله و صيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة على هذه الآية: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار": ص: 27.

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟.

هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف: أما السؤال الأول هل للحيوان غير الإنسان حشر؟ فقوله تعالى في الآية: "ثم إلى ربهم يحشرون" يتكفل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى: "و إذا الوحوش حشرت": كورت: 5.

بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجن و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.



و أما السؤال الثاني، و هو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أما مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار": إبراهيم: 48 و قوله: "و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه": الزمر: 67 و قوله: "و جمع الشمس و القمر": القيامة: 9" و قوله: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها": الأنبياء: 99.

على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: "إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون": السجدة: 25 و قوله: "ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون": آل عمران: 55 و غير ذلك من الآيات.

و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: "إنا من المجرمين منتقمون": السجدة: 22 و قوله: "فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام، يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار": إبراهيم: 48 و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

و يؤيده ظاهر قوله تعالى: "و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى": فاطر: 45 فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم و الظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.

و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته و روحياته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله.

و ذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة و المناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد.

على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه و التعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله: "حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون": النمل: 18 و ما حكاه من قول هدهد له (عليه السلام) في قصة غيبته عنه: "فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم، وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون" إلى آخر الآيات: النمل: 24 فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقف على معارف جمة و إدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني و مركباتها.

و ربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حاد.



و أما السؤال الثالث و الرابع أعني أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي و الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية و يمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان - و تؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليته من عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية و لا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.

و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان.

و ليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي و النمو و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة.

و ربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.

لكن التأمل في معنى الاختيار و الحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة و ذلك أن الشعور و الإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، و لذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور و الإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به إرادة من فوره و فعله و تصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، و أما ما كان من الأمور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشيء من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به.



فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها و فعلت كما لو كانت بينة النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ و أنه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرف فيه؟ و حينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، و لا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.

و إن لم يشك في أمره و كان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، و لم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.

فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي و التفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، و أما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو و لا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم.

ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادىء اختيارهم أعني الصفات الروحية و الأحوال الباطنية من شجاعة و جبن و عفة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفة، و كذا في قوة التعقل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، و ربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، و لا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا و لعبا، و أفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

و هذا الاختلاف الفاحش في مبادىء الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، و يبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسط من الاستطاعة و الفهم.

فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.



و الإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط.

و إذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة و إن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة، و مؤاخذتها و الانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.

و قوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" جملة معترضة، و ظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، و لفظ "من شيء" بيان للفرط الذي يقع التفريط به، و المعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله و القيام بواجب حقه و بيان نعته في الكتاب إلا و قد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.

و المراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شيء مما كان و ما يكون و ما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا و لا يذهب وجودها سدى، و لا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.

فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: "و ما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء: 20، و قوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم": هود: 56.

و إن كان هو القرآن الكريم و قد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق و محض الحقيقة لم يفرط فيه في بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم و آخرتهم كما قال تعالى: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء": النحل: 89.

و مما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر و هو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا، و أن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم و يجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، و يترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى و لطيف قدرته و عنايته بأمر الخليقة و النظام العام الجاري في العالم، و من أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، و بعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان و ما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان.

و قد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان و النظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، و عد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية و هو اليقين بالله سبحانه حيث قال: "و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون": الجاثية: 4، و الآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.



و من الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، و يكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شيء، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي و يقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، و أما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس و سعادة عاجلهم و آجلهم و لا يفرط في ذلك، و من ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، و بين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان.

و قوله تعالى: "ثم إلى ربهم يحشرون" بيان لعموم الحشر لهم و أن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، و لذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور و العقل، فقال: "إلى ربهم يحشرون" إشارة إلى أن أصل الملاك و هو الأمر الذي يدور عليه الرضا و السخط و الإثابة و المؤاخذة موجود فيهم.

و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، و التدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة و إنما تحول السياق في قوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق.

و من عجيب ما قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ و هو أن تتعلق نفس الإنسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب، و نفس المفسد الحقود ببدن الذئب، و نفس من يتبع سقطات الناس و عوراتهم ببدن خنزير، و نفس الشره الأكول ببدن البقر، و هكذا و لا تزال تنتقل من بدن إلى بدن و تعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة، و إن كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان و معنى الآية على هذا: ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات.

و قد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: "ثم إلى ربهم يحشرون" لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها و البحث عن صحتها و سقمها.

و من عجيب ما قيل فيها أيضا: إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت و البعث.

أما الأول فينفيه ظاهر قوله: "إلى ربهم" إذ لا معنى للموت إلى الله، و أما الثاني فهو من الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، و لا أن في الآية ما يستوجبه.

قوله تعالى: "و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم في الظلمات" إلى آخر الآية يريد تعالى أن المكذبين لآياته محرومون من نعمة السمع و التكلم و البصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق و أن يستجيبوا له، و لبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق و يشهدوا بالتوحيد و الرسالة، و لإحاطة الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا.

و في قوله تعالى: "من يشأ الله يضلله" إلخ، دلالة على أن هذا الصمم و البكم و الوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: "و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26.



فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الأمر بالعكس و على هذا فالمراد بالإضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات و المراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته.

و بالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعي الله بلسانه و يتبصر بالحق ببصره، و أن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشأ الله يضلله و لا يشاء إلا إضلال من يستحقه و من يشأ يجعله على صراط مستقيم و لا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته.

و قد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم و البكم و العمى و ما يشابه ذلك من الصفات، و قد عني في الآية بنكتة أخرى، و هي ما يفيده الوصل و الفصل في قوله: "صم و بكم في الظلمات" حيث ذكر الصمم و هو من أوصافهم ثم ذكر البكم و عطفه عليه و هو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات و لم يعطفها و هي صفة ثالثة، و بالجملة وصل بعض الصفات و فصل بعضها، و قد أتى في مثل الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين: "صم بكم عمي": البقرة: 18، و في آية أخرى يماثلها بالعطف و هي قوله في الكفار: "ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة": البقرة: 7.

و لعل النكتة في الآية التي نحن فيها أعني قوله: "صم و بكم في الظلمات "، الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، و البكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد و بطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم و بغيهم بكم لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق و الشهادة بها، و الطائفتان جميعا تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، و لا يسع غيرهما أن يبصرهما بشيء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة.

و يؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: "و هم ينهون عنه و ينأون عنه": آية: 26، و كذا قوله: "و لكن أكثرهم لا يعلمون": آية: 37.

هذا في الآية التي نحن فيها، و أما آية المنافقين: "صم بكم عمي"، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، و أما آية الكفار: "ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة" فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: "و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه و في آذاننا وقر و من بيننا و بينك حجاب": حم السجدة: 5 و ربما وجهت الآية بغير ذلك من الوجوه.

قوله تعالى: "قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة" إلى آخر الآيتين لفظ "أ رأيتكم" بهمزة الاستفهام و صيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية و ضمير الجمع المخاطب، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات:، و يجري "أ رأيت" مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف و يترك التاء على حالته في التثنية و الجمع و التأنيث، و يسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: "أ رأيتك هذا الذي" قل أ رأيتكم، انتهى.



و في الآية تجديد احتجاج على المشركين، و إقامة حجة على بطلان شركهم من وجه، و هو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الإنسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه.

ثم تسألهم أنه من الذي تدعونه و تتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أ غير الله تدعون من أصنامكم و أوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟ و هيهات أن تدعوا غيره و أنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا ينفعكم دعاؤها شيئا.

بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لأن الإنسان إذا أحاطت به البلية و هزهزته الهزاهز ينسى كل شيء دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية، و الرافع الذي يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم و تدعون من يرفعها من دونهم و هو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، و ليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة و لا مضطرا إلى الكشف إذا دعي بل هو القادر على كل شيء في كل حال.

فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الإنسان و إن نسي كل شيء إلا نفسه و يضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها.

فمعنى الآية "قل" يا محمد "أ رأيتكم" أخبروني "إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة" فرض إتيان عذاب من الله و لا ينكرونه، و فرض إتيان الساعة و لم يعبأ بإنكارهم لظهوره "أ غير الله تدعون" لكشفه، و قد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا و يوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الإنسان "إن كنتم صادقين" و جئتم بالنصفة "بل إياه" الله سبحانه دون غيره من أصنامكم "تدعون فيكشف ما تدعون إليه" من العذاب "إن شاء" أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، و ليس بمجبر و لا مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية "و تنسون ما تشركون" من الأصنام و الأوثان على ما في غريزة الإنسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شيء بنفسه، و لا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله و الحال هذه بدعاء الله سبحانه و نسيانه الأصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره و لا معبود سواه.

و بما تقدم من تقرير معنى الآية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة، و كذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الآية، و المطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عز اسمه دون الأصنام، و أما أصل الدعاء عند الشدائد و المصائب، و أن للإنسان توجها جبليا عند ما تطل عليه البلية و يتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى غير هذه الحجة، و المطلوب بهذه الحجة - و هي التي في هذه الآية - التوحيد و بتلك الحجة إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، و إن تلازم المطلوبان.



و ثانيا: أن تقييد قوله: "فيكشف ما تدعون إليه"، بقوله: "إن شاء" لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التي لا ريب فيها، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور و إن كان يحتمه و يوجبه لكنه لا يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، و ما لم يقض به و مثل الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود و أمر محتوم إن يشأ يأت به و إن لم يشأ لم يأت به و إن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما و وعده وعدا جزما و الله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك.

و له سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه و إن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال: "و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان": البقرة: 186 و وعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: "ادعوني أستجب لكم": المؤمن: 60 فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة و إن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء، و تجري على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب و السنة أن الساعة لا ريب فيها و لا محيص عن وقوعها و أن عذاب الاستئصال لا مرد له، و قد قال تعالى: "و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال": المؤمن: 50. وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء و أنه قادر على كل شيء، و أما أنه يشاء كل شيء و يفعل كل شيء فلا دلالة فيها على ذلك و لا ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء و إن كان لا يخلف الميعاد و لا ينقض ما أراد.

و أما قوله تعالى: "و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال" فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابها و تخفيفه عنهم، و من المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم و فصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع إليه الخلق على حسب أعمالهم فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة معناها، و أما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة و يتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة كما هو ظاهر قوله: "أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية، فإن ذلك لا يرد البتة، و الدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا و لو حين الدعاء كما قال تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون": العنكبوت: 65.

فما في قوله: "و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال" دعاء منهم و هم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء و إن كان من الجائز أن يفارقهم في دار العمل بالتوبة و الإيمان.

فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم - كما حكى الله - و الله ربنا ما كنا مشركين، و لا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا و رسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر، و نظير أكلهم و شربهم و خصامهم في النار، و لا غنى لهم في شيء من ذلك، كما قال تعالى: "تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع": الغاشية: 7، و قال تعالى: "ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم": الواقعة: 55، و قال تعالى: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار": ص: 64، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم.



و ما قبل الآية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته و هو قوله تعالى: "و قال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أ و لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال": المؤمن: 50، فإن مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم، و الدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء و مسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة.

و ثالثا: أن النسيان في قوله: "و تنسون ما تشركون" حقيقة معناه على ما هو المشهود من حال الإنسان عند ما تغشاه الشدائد و الخطوب إذ يشتغل بنفسه و ينسى كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: "و تنسون ما تشركون" تعرضون عنها إعراض من نسي الشيء عنه.

و إن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان، و قد استعمل في القرآن النسيان بمعنى الإعراض عن الشيء و عدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى: "و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا": الجاثية: 34 إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: "و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون" البأساء و البأس و البؤس هو الشدة و المكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب و نحوه و البأس و البأساء في غيره كالفقر و الجدب و القحط و نحوها، و الضر و الضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم و جهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض و نقص بدني أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، و لعل المقصود من الجمع بين البأساء و الضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب و السيل و الزلزلة، و ما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف و الفقر و رثاثة الحال.

و الضراعة هي المذلة و التضرع التذلل و المراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل عليهم من نوازل الشدة و الرزية.

و الله سبحانه يذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه و التضرع و إخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة و المحن و يأخذهم بالبأساء و الضراء و لكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع و لا يضطرهم إلى الابتهال و الاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، و يلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية و عن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم و زين لهم الشيطان أعمالهم، و أنساهم ذلك ذكر الله.

فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شيء و صب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم و اغتروا و استقلوا بأنفسهم من دون الله أخذهم الله بغتة و من حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين.

و هذه السنة سنة الاستدراج و المكر الذي لخصها الله تعالى في قوله: "و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين": الأعراف: 183.



و بالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية و التدبر في سياقها يظهر أن الآية لا تنافي سائر الآيات الناطقة بأن الإنسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته و جبلته إلى الإقرار به و التوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما قال تعالى: "و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد و ما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور": لقمان: 32.

و ذلك أن الآية لا تريد من البأساء و الضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة و المهابة مبلغا يذهلون به عن كل سبب و ينسون به كل وسيلة عادية، و من الدليل على ذلك قوله في الآية: "لعلهم يتضرعون" إذ "لعل" كلمة رجاء و لا رجاء مع الإلجاء و الاضطرار، و كذا قوله تعالى: "و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون" فإن ظاهره أنهم اغتروا بذلك و توسلوا في رفع البأساء و الضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم و دبروها بتدابيرهم للغلبة على موانع الحياة و أضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله سبحانه و الاعتصام به، كقوله تعالى: "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين": المؤمن: 84، فالآية الأولى - كما ترى - تحكي عنهم نظير ما تحكيه الآية التي نحن فيها من الإعراض عن التضرع و الاغترار بالأعمال، و الآية الثانية تحكي ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار.

و من هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية: أقسم الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، و أشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق، و ينسون ما اتخذوه من الأولياء و الأنداد، و أما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، و لم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى.

و لازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة و الانقطاع عن الأسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، و قد قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله": الروم: 30 فأفاد أن دين التوحيد فطري، و أن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير و أيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الإنسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة.

على أن الإقرار بالإله الواحد عند الشدة و الانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا و لا يختلف في ذلك الإنسان الأولي و إنسان اليوم البتة.

قوله تعالى: "فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا و لكن قست قلوبهم" إلخ، "لو لا" للتحضيض أو للنفي، و على أي حال تفيد في المقام فائدة النفي بدليل قوله: "و لكن قست قلوبهم" و قسوة القلب مقابل لينه، و هو كون الإنسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير.

و المعنى: فلم يتضرعوا حين مجيء البأس و لم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه، و تلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه، و أخلدوا إلى الأسباب الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم.



قوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" إلخ، المراد بفتح أبواب كل شيء إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس للتمتع من مزايا الحياة من المال و البنين و صحة الأبدان و الرفاهية و الخصب و الأمن و الطول و القوة، كل ذلك توفيرا من غير تقتير و منع كما أن خزانة المال إذا أعطي منها أحد بقدر و ميزان فتح بابها فأعطي ما أريد ثم سد، و أما إذا أريد الإعطاء من غير تقدير فتح بابها و لم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام.

على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات و النعم و أما السيئات و النقم فإنما تتحقق بالمنع و يناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده": فاطر: 2.

و مبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس - إلى أن قال - و لما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت و ينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان إذا سكت و إذا انقطعت حجته، انتهى.

و على هذا المعنى المناسب لقوله: "فإذا هم مبلسون" أي خامدون منقطعوا الحجة.

و معنى الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم و فرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأة فانخمدت أنفاسهم و لا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك.

قوله تعالى: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين" دبر الشيء مقابل قبله و هما الجزءان: المقدم و المؤخر من الشيء، و لذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين، و ربما توسع فيهما فأطلقا على ما يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشيء، و قد اشتق منهما الأفعال بحسب المناسبة نحو أقبل و أدبر و قبل و دبر و تقبل و تدبر و استقبل و استدبر، و من ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشيء و يليه من ورائه، و يقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، و يطلق الدابر بهذا المعنى على أثر الشيء كدابر الإنسان على أخلافه و سائر آثاره، فقوله: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" أي إن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا و لا أثرا أو أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: "فهل ترى لهم من باقية": الحاقة: 8.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: "دابر القوم الذين ظلموا" دون أن يقال: دابرهم للدلالة على سبب الحكم و هو الظلم الذي أفنى جمعهم و قطع دابرهم، و هو مع ذلك يمهد السبيل إلى إيراد قوله: "و الحمد لله رب العالمين".

و من هذه الآية بما تشتمل على وصفهم بالظلم و على حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم و السوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لأنهم القوم الذين ظلموا، و أنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة، و لم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي و السوء على الكافرين، و أن الحمد لله رب العالمين.

قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم" إلى آخر الآية، أخذ السمع و الأبصار هو سلب قوتي السمع و الإبصار و هو الإصمام و الإعماء و الختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شيء من خارج حتى تتفكر في أمرها، و تميز الواجب من الأعمال من غير: و الخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية و هو صلاحية التعقل و إلا كان جنونا و خبلا.



و إذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه و لا يبصرون آياته الدالة على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شيء من واردات السمع و البصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الإله تعالى و وحدته.

و ملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه و ذلك أن القول بالشركاء لإثبات الشفاعة، و هي أن تشفع و تتوسط في جلب المنافع و دفع المضار، و إذ كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم فعل ذلك و لم يعارضه أحد من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، و لو فعل ذلك و سلب ما سلب لم يقدر أحد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق و الإيجاد.

و إذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الإله إلا من يوجد و يعدم و يتصرف في الكون كيف شاء، و إنما اضطرت الفطرة الإنسانية إلى الإقرار بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدإ حوادث الخير و الشر التي تشاهدها في الوجود، و إذ كان شيء لا يضر و لا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول.

و ليس لإنسان صحيح العقل و التمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية أو فلزية عملته يد الإنسان و صنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالإيجاد و الإعدام و كذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه عبدا مربوبا.

و الحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع و الإيجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف و التعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، و الواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا و مبدأ لا واسطة و شفيعا و إن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدأ و إلها.

و لذا كانت الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الإله و الأداة كسببية الأكل للشبع و الشرب للري و الوالدين للولد و القلم للكتابة و المشي لانطواء المسافة و هكذا.

و قوله: "انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون" تصريف الآيات تحويلها إلى نحو أفهامهم، و الصدوف الإعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشيء.

قوله تعالى: "قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة" إلى آخر الآية، الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب و لذا قابلت البغتة التي هي إتيان الشيء فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه و غشيانه فلا يترك له مجال التحذر.

و هذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم، و لا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم، ثم بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة الإلهية و تكذيبهم بآيات الله تعالى.

و ذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه و يدمره من جزاء إجرامه و لا إجرام إلا مع ظلم فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا ما يدل عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون.

قوله تعالى: "و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين" إلى آخر الآيتين يبين بالآيتين أنهم هم الظالمون، و لا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.



و لذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر و جيء بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة و الكبرياء.

فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة الآتين بالعذاب نخبرك أن إرسالنا الرسل إنما هو للتبشير و الإنذار فمن آمن و أصلح فلا عليه، و من كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه و خروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم؟.

و قد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الإيمان و الإصلاح و الفسق و معنى نفي الخوف و الحزن عن المؤمنين.

قوله تعالى: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك" لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق": الإسراء: 100 و خزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن أثره، قوله تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له" الآية،: فاطر: 2 و هي فائضة الوجود التي تفيض من عنده تعالى على الأشياء من وجودها، و آثار وجودها و قد بين قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس: 82 أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله، و هو كلمة "كن" الصادرة عن مقام العظمة و الكبرياء، و هذا هو الذي يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21.

فالمراد بخزائن الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل و سماحة، و هذا مما يختص بالله سبحانه، و أما غيره كائنا ما كان و من كان فهو محدود و ما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل، و ما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، و إرضاء أي طالب، و إجابة أي سؤال.

و أما قوله: "و لا أعلم الغيب" فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي و ذلك أنه تعالى يثبت الوحي في ذيل الآية بقوله: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي"، و قد بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول": الجن: 26، و كقوله بعد سرد قصة يوسف: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون": يوسف: 102، و قوله في قصة مريم: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون": آل عمران: 44، و قوله بعد قصة نوح: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا": هود: 49.

فالمراد بنفي علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت.



و أما قوله: "و لا أقول لكم إني ملك" فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل و شرب و نكاح و ما يلحق بذلك، و قد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي": الكهف: 110، و إنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق": الفرقان: 7.

و من هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي - كأنها - ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سؤال الآيات المعجزة و الاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها": الفرقان: 8، و قوله: "و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا": الإسراء: 93، و قوله: "فسينغضون إليك رءوسهم و يقولون متى هو": الإسراء: 51، و كقوله: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها": الأعراف: 187. فمعنى قوله: "قل لا أقول لكم" إلخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه و أبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الإنسان حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه مني فلم أدع أني أملك خزائن الألوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف، و لا ادعيت أني أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار الغيوب كقيام الساعة و لا ادعيت أني ملك حتى تعيبوني و تبطلوا قولي بأكل الطعام و المشي في الأسواق للكسب.

قوله تعالى: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي: إني رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله و لا أني أعلم الغيب و لا أني ملك بل إن الله يوحي إلي بما يوحي.

و لم يثبته في صورة الدعوى بل قال: "إن أتبع" إلخ، ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له إلا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا و لا كذا و لا كذا قيل له: فإذا كان كذلك و كنت بشرا مثلنا و عاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أن أبشركم و أنذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد.

و الدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: "قل لا يستوي الأعمى و البصير أ فلا تتفكرون" فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أني و إن ساويتكم في البشرية و العجز لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم فأنا و أنتم كالبصير و الأعمى و لا يستويان في الحكم و إن كانا متساويين في الإنسانية فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى، و العالم يجب أن يتبعه الجاهل.

قوله تعالى: "و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" إلى آخر الآية الضمير في "به" راجع إلى القرآن و قد دل عليه قوله في الآية السابقة: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" و قوله: "ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع" حال و العامل فيه يخافون أو يحشرون.



و المراد بالخوف معناه المعروف دون العلم و ما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر من السياق، و الأمر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافي عموم الإنذار لهم و لغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة: "و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ": آية: 19 بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا لنفوسهم على القبول و مقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الأمر بالإنذار بهم و وصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم و تحريضا له أن لا يسامح في أمرهم و لا يضعهم موضع غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لأن موقفهم أقرب من الحق و إيمانهم أرجى فالآية بضميمة سائر آيات الأمر بالإنذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة و لا سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.

و قوله: "ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع" نفي مطلق لولاية غير الله و شفاعته فيقيده الآيات الأخر المقيدة كقوله: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه": البقرة: 255 و قوله: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى": الأنبياء: 28 و قوله: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": الزخرف: 86.

و إنما لم يستثن في الآية لأن الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الأوثان و شفاعتها، و لم يكونوا يقولون بذلك بالإذن و الجعل فإن الولاية و الشفاعة عن إذن يحتاج القول به إلى العلم به، و العلم إلى الوحي و النبوة، و هم لم يكونوا قائلين بالنبوة، و أما الذي أثبتوه من الولاية و الشفاعة فكأنه أمر متهيء لأوليائهم و شركائهم بالضرورة من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه بالطبع و إن لم يأذن به الله سبحانه، و إن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا اضطراريا في التصرف في ما دونها.

و بالجملة قيل: "ما لهم من دونه ولي و لا شفيع" و لم يقل: إلا بإذنه لأن المشركين إنما قالوا إن الأوثان أولياء و شفعاء من غير تقييد فنفي ما ذكروه من الولي و الشفيع من دون الله محاذاة بالنفي لإثباتهم، و أما الاستثناء فهو و إن كان صحيحا كما وقع في مواضع من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض هاهنا.

و قد تبين مما تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين و غيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنة فإن الخوف من شيء يتحقق بمجرد احتمال وجوده و إن لم يوقن بتحققه.

و قد اختلفت أنظار المفسرين في الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر، و أنهم هم الذين عنوا في الآية التالية بقوله: "و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي".

و من قائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت و إن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق،.

و من قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، و إنما خص هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجب عليهم لاعترافهم بالمعاد.

لكن الآية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، و لا يتوقف الخوف من الشيء على العلم بتحققه و لا الاعتراف بوجوده بل الشك - و هو الاحتمال المتساوي طرفاه - و المظنة و هي الإدراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم و هو ظاهر.



فالآية إنما تحرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة كان لأن بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر و إقامة المحاسبة على السيئة و الحسنة و المجازاة عليهما، و أدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه، و كلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف و قوي التأثير حتى يتلبس باليقين و ينتفي احتمال الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام.

قوله تعالى: "و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه" إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية التالية: "و كذلك فتنا بعضهم ببعض" إلخ، أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك.

و ذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء و الفقراء من المؤمنين استكبارا و تعززا، و قد حكى الله تعالى ذلك عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته (عليه السلام) حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون - إلى أن قال - و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم - إلى أن قال - و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين": هود - 31.

و التطبيق بين هذه الآيات و الآيات التي نحن فيها يقضي أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة و العشي و يريدون وجهه هم المؤمنين، و إنما ذكر دعاءهم بالغداة و العشي و هو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى و ليوضح ما سيذكره من قوله: "أ ليس الله بأعلم بالشاكرين".

و قوله: "يريدون وجهه" أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته:، أصل الوجه الجارحة قال: فاغسلوا وجوهكم و أيديكم، و تغشى وجوههم النار، و لما كان الوجه أول ما يستقبلك و أشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شيء و في أشرفه و مبدئه فقيل: وجه كذا و وجه النهار، و ربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام، قيل: ذاته و قيل أراد بالوجه هاهنا التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة.

و قال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شيء هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله، إنما نطعمكم لوجه الله، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته و يعني بذلك كل شيء هالك إلا هو و كذا في أخواته، و روي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه و معناه: كل شيء من أعمال العباد هالك و باطل إلا ما أريد به الله، و على هذا الآيات الأخر، و على هذا قوله: يريدون وجهه، يريدون وجه الله، انتهى.



أقول: أما الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشيء غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشيء أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشيء من ظواهر نفسه من صفاته و أسمائه، و هي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة.

فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال و تخاطيط و كيفيات و غير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لأعراضها و أوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها و يحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشيء الذي نسبته إلى أوصاف زيد و خواصه كنسبتنا إلى أوصافنا و خواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس و النسبة.

و إذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها و آثارها بضرب من القياس و النسبة فالأمر في الله سبحانه و لا حد لذاته و لا نهاية لوجوده أوضح و أبين، و لا يقع العلم على شيء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى قال: "و عنت الوجوه للحي القيوم": طه: 111 و قال: "و لا يحيطون به علما": طه: 110.

لكن وجه الشيء لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، و بهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان و هذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: "يريدون وجه الله" و قوله: "إنما نطعمكم لوجه الله" و غير ذلك، و كذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة و الخلق و الرزق و الهداية و نحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة و العلم و القدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها و يتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى: "و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام": الرحمن: 27 فإن ظاهر الآية أن قوله: "ذو الجلال و الإكرام" نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.

و إذا صح أن ناحيته تعالى جهته و وجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه و صفاته و كدينه، و كالأعمال الصالحة و كذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء و الملائكة و الشهداء و كل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.

و بذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: "و ما عند الله باق": النحل: 96، و قوله: "و من عنده لا يستكبرون عن عبادته": الأنبياء: 19، و قوله: "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه": الأعراف: 206، و قوله فيمن يقتل في سبيل الله: "بل أحياء عند ربهم يرزقون": آل عمران: 169، و قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه:" الحجر: 21، فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك و البوار إليها، ثم قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه": القصص: 88 فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه و بعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه و ناحيته.



و ثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: "يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا": المائدة: 2، و قوله: "ابتغاء رحمة من ربك": الإسراء: 28 و قوله: "و ابتغوا إليه الوسيلة": المائدة: 35 فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة و المرضاة و الفضل و نحو ذلك من وجهه، و كذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم، و قال تعالى: "إلا ابتغاء وجه الله": البقرة: 272.

و قوله: "ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء" الحساب هو استعمال العدد بالجمع و الطرح و نحو ذلك، و لما كان تمحيص الأعمال و تقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة و نحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال.

و إذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، و الجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته و كفايته كما قال: "إن حسابهم إلا على ربي": الشعراء: 113، و قال: "ثم إن علينا حسابهم": الغاشية: 26 و عكس في قوله: "إن الله كان على كل شيء حسيبا": النساء: 86 للدلالة على سلطانه تعالى و هيمنته على كل شيء.

و على هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم و كره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا و استعلاء عليهم طردهم، و على هذا فكل من الجملتين: "ما عليك" إلخ، "و ما عليهم" إلخ، مقصودة في الكلام مستقلة.

و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: "ما عليك من حسابهم من شيء" نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله و ذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شيء من ثقل أعمالهم عليك، و على هذا فاستتباعه بقوله: "و ما من حسابك عليهم من شيء" - و لا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال و تأكيد مطابقة الكلام، و من الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين أعني قوله: "ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء" كناية عن نفي الارتباط بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم من حيث الحساب.

و ربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال و المراد: ليس عليك حساب رزقهم، و إنما الله يرزقهم و عليه حساب رزقهم، و قوله: "و ما من حسابك عليهم" إلخ، جيء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، و الوجهان و إن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.

و قوله: "فتطردهم فتكون من الظالمين" الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله: "فتكون من الظالمين"، على قوله في أول الآية: "و لا تطرد الذين" إلخ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع و المتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله: "فتكون من الظالمين" بنحو الاتصال و يرتفع اللبس.

فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشيء على نفسه فإن ملخصه: و لا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، و ذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله: "فتكون من الظالمين"، إلى أصله كما عرفت.



قوله تعالى: "و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا" إلى آخر الآية، الفتنة هي الامتحان، و السياق يدل على أن الاستفهام في قوله: "أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا" للتهكم و الاستهزاء، و معلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه من المجتمع، و لم يكن ذلك إلا لفقرهم و مسكنتهم و انحطاط قدرهم عند الأقوياء و الكبرياء منهم.

فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذا التفاوت و الاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران و الاستكبار في الفقراء المؤمنين: أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن بها من الشرافة و الخسة، و كذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء و الأذلاء و العبيد يستذلها الأغنياء و الأعزة، و العمل الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول و القوة.

فانتحال الفقراء و الأجراء و العبيد بالدين، و اعتناء النبي بهم و تقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين و أنه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء و الأعزة.

و قوله تعالى: "أ ليس الله بأعلم بالشاكرين" جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد، بقولهم: "أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا" و محصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم و لذلك قدم هؤلاء لمنه و أخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون، و من المسلم أن المنعم إنما يمن و ينعم على من يشكر نعمته و قد سمى الله تعالى توحيده و نفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف (عليه السلام): "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون:" يوسف: 38.

فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة و العزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال و بنين و جاه، و لا قدر لها عند الله و لا كرامة، و إنما الأمر يدور مدار صفة الشكر و النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.

قوله تعالى: "و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم" إلى آخر الآية، قد تقدم معنى السلام، و المراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، و الإصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم و إن كان بحسب الحقيقة متعديا و أصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.

و الآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم و يسلم عليهم و يبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله و رحمته فتطيب بذلك نفوسهم و يسكن طيش قلوبهم.

و يتبين بذلك أولا: أن الآية - و هي من آيات التوبة - إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي و السيئات دون الكفر و الشرك بدليل قوله: "من عمل منكم" أي المؤمنين بآيات الله.

و ثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود و العناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة و العشي يريد وجهه و هو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا و استعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.



و ثالثا: أن تقييد قوله: "تاب" بقوله: "و أصلح" للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه و اللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع، و ليست التوبة قول: "أتوب إلى الله" قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، و قد قال تعالى: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة: 284.

و رابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور و الرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه و إن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر و لا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح.

و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: "إنما التوبة على الله" إلى آخر الآيتين: النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلق بالمقام.

قوله تعالى: "و كذلك نفصل الآيات و لتستبين سبيل المجرمين" تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية و تخليصها من الإبهام و الاندماج، و قوله: "و لتستبين سبيل المجرمين" اللام فيه للغاية، و هو معطوف على مقدر طوي عن ذكره تعظيما و تفخيما لأمره و هو شائع في كلامه تعالى، كقوله: "و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا": آل عمران: 140، و قوله: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين": الآية: 75.

فالمعنى: و كذلك نشرح و نميز المعارف الإلهية بعضها من بعض و نزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا، و على هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة بتوحيد الله سبحانه و المعارف الحقة التي تتعلق به و هي سبيل الجحود و العناد و الإعراض عن الآيات و كفران النعمة.

و ربما قيل إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين، و هي سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالآخرة، و سوء الحساب و أليم العقاب في الآخرة، و المعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.

بحث روائي


في الكافي، بإسناده فيه رفع عن الرضا (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين، و أنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج إليه الناس كملا، و قال عز و جل: ما فرطنا في الكتاب من شيء.

و في تفسير القمي، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم" يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير "في الظلمات" يعني ظلمات الكفر "من يشأ الله يضلله و من يشأ يجعله على صراط مستقيم" و هو رد على قدرية هذه الأمة يحشرهم الله يوم القيامة من الصابئين و النصارى و المجوس فيقولون "ربنا ما كنا مشركين، يقول الله: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم - و ضل عنهم ما كانوا يفترون" قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن لكل أمة مجوسا و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة إليهم و لهم.



قال في البرهان، عند نقل الحديث: و في نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: ألا إن لكل أمة مجوسا، و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست لهم و لا عليهم، و في نسخة ثالثة، يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست إليهم و لا لهم، انتهى.

أقول: مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر - و هو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم و أثبتوا المشية و القدرة المستقلتين للإنسان في فعله و أنه هو الخالق له المستقل به، و سموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "القدرية مجوس هذه الأمة، و انطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان و لغيرها خالقا هو الله سبحانه و هو قول الثنوية و هم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، و خالق للشر.

و هناك روايات أخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل بيته (عليهم السلام) تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم، و تثبت أن هناك قدرا و أن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن.

و قد أول المعتزلة و هم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر، و هم كالمجوس في إسنادهم الخير و الشر كله إلى خالق غير الإنسان، و قد تقدم بعض الكلام في ذلك، و سيجيء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.

و مما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، و القول بأنه ليست المشية و القدرة للإنسان و لا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشية و الاستطاعة، و القول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية و القدرة.

و على هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، و قولهم: إن المشية و القدرة ليست لهم و لا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، و قد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله "لا قدر" و غير الباقي.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني في الكبير و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا و هو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. الآية و الآية التي بعدها.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تبارك و تعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد و العفاف و إذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود: خفني على كل حال، و أخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.

أقول: قوله: لا أصرعك نهي يفيد التحذير، و قوله: ثم لا أنظر "إلخ" منصوب للتفريع على النهي.



و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة" الآية، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل و المرض فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: قل لهم يا محمد أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة - أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون أي لا يصيبكم إلا الجهد و الضر في الدنيا فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين.

أقول: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة.

على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة و الذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و أنذر به الذين يخافون الآية قال قال الصادق (عليه السلام): أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.

أقول: و ظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: "من دونه" إلى القرآن، و هو معنى صحيح و إن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عنده صهيب و عمار و بلال و خباب و نحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك؟ أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أ نحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: "و أنذر به - الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم": إلخ. أقول: و رواه في المجمع، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا و عسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا و أطوع له عندنا و أدنى لاتباعنا إياه و تصديقه. فذكر ذلك أبو طالب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم؟ و ما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله: "و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أ ليس الله بأعلم بالشاكرين". قال: و كانوا بلالا و عمار بن ياسر و سالما مولى أبي حذيفة و صبحا مولى أسيد، و من الحلفاء ابن مسعود و المقداد بن عمرو و واقد بن عبد الله الحنظلي و عمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين و مرثد بن أبي مرثد و أشباههم. و نزلت في أئمة الكفر من قريش و الموالي و الحلفاء: "و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا" الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: "و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" الآية.



و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبو يعلى و أبو نعيم في الحلية و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة و دعا عليا ليكتب، و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: "و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي - إلى قوله فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه و هو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله: و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم - بالغداة و العشي يريدون وجهه الآية. قال: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم. أقول: و رواه في المجمع، عن سلمان و خباب و في معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر، و الرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها و دفعة لحدوث تلك الواقعة و رفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة و نظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: و لا تطرد الذين يدعون الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة و عنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين و في مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.

و على هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص و الحوادث الواقعة في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة و الواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث و التوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول و خاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و لا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع و الدس في هذه الروايات و الضعف الذي فيها و ما سامح به القدماء في أخذها و نقلها.

و قد روى في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاجر: أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الضعفاء من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة، و يضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة و في مكة قبل الهجرة.

و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة و منقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة - أنه من عمل منكم سوءا بجهالة - ثم تاب من بعده و أصلح - فإنه غفور رحيم، و من يعمل سوءا - أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله توابا رحيما.

و في تفسير البرهان، روي عن ابن عباس: في قوله تعالى: و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية نزلت في علي و حمزة و زيد.

أقول: و في عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت (عليهم السلام) و الظاهر أنها جميعا من قبيل الجري و التطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول و لذلك طوينا عن إيرادها، و الله أعلم.

6 سورة الأنعام - 56 - 73

قُلْ إِنى نهِيت أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لا أَتّبِعُ أَهْوَاءَكمْ قَدْ ضلَلْت إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنى عَلى بَيِّنَةٍ مِّن رّبى وَ كذّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَستَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا للّهِ يَقُص الْحَقّ وَ هُوَ خَيرُ الْفَصِلِينَ (57) قُل لّوْ أَنّ عِندِى مَا تَستَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضىَ الأَمْرُ بَيْنى وَ بَيْنَكمْ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِالظلِمِينَ (58) وَ عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَ يَعْلَمُ مَا فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسقُط مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَ لا حَبّةٍ فى ظلُمَتِ الأَرْضِ وَ لا رَطبٍ وَ لا يَابِسٍ إِلا فى كِتَبٍ مّبِينٍ (59) وَ هُوَ الّذِى يَتَوَفّام بِالّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنهَارِ ثُمّ يَبْعَثُكمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مّسمّى ثُمّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً حَتى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت تَوَفّتْهُ رُسلُنَا وَ هُمْ لا يُفَرِّطونَ (61) ثُمّ رُدّوا إِلى اللّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الحُْكْمُ وَ هُوَ أَسرَعُ الحَْسِبِينَ (62) قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِّن ظلُمَتِ الْبرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضرّعاً وَ خُفْيَةً لّئنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشكِرِينَ (63) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنهَا وَ مِن كلِّ كَرْبٍ ثُمّ أَنتُمْ تُشرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلى أَن يَبْعَث عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضكم بَأْس بَعْضٍ انظرْ كَيْف نُصرِّف الاَيَتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَ كَذّب بِهِ قَوْمُك وَ هُوَ الْحَقّ قُل لّست عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكلِّ نَبَإٍ مّستَقَرّ وَ سوْف تَعْلَمُونَ (67) وَ إِذَا رَأَيْت الّذِينَ يخُوضونَ فى ءَايَتِنَا فَأَعْرِض عَنهُمْ حَتى يخُوضوا فى حَدِيثٍ غَيرِهِ وَ إِمّا يُنسِيَنّك الشيْطنُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكرَى مَعَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ (68) وَ مَا عَلى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسابِهِم مِّن شىْءٍ وَ لَكن ذِكرَى لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ (69) وَ ذَرِ الّذِينَ اتخَذُوا دِينهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدّنْيَا وَ ذَكرْ بِهِ أَن تُبْسلَ نَفْس بِمَا كَسبَت لَيْس لهََا مِن دُونِ اللّهِ وَلىّ وَ لا شفِيعٌ وَ إِن تَعْدِلْ كلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنهَا أُولَئك الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسبُوا لَهُمْ شرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَ نَدْعُوا مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَ لا يَضرّنَا وَ نُرَدّ عَلى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كالّذِى استَهْوَتْهُ الشيَطِينُ فى الأَرْضِ حَيرَانَ لَهُ أَصحَبٌ يَدْعُونَهُ إِلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَ أُمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَب الْعَلَمِينَ (71) وَ أَنْ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ اتّقُوهُ وَ هُوَ الّذِى إِلَيْهِ تحْشرُونَ (72) وَ هُوَ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كن فَيَكونُ قَوْلُهُ الْحَقّ وَ لَهُ الْمُلْك يَوْمَ يُنفَخُ فى الصورِ عَلِمُ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ وَ هُوَ الحَْكيمُ الْخَبِيرُ (73)

بيان

الآيات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد و ما يرتبط به من المعارف في النبوة و المعاد، و هي ذات سياق متصل متسق.

قوله تعالى: "قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله" إلى آخر الآية.

أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية ثم أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله: "قل لا أتبع أهواءكم" و هو أن عبادتهم اتباع للهوى و قد نهي عنه ثم أشار بقوله: "قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين" إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى و هو الضلال و الخروج عن جماعة المهتدين و هم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه، و عرفوا بذلك، فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان، و يمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به.

و قد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، و هو أن في عبادتها اتباعا للهوى، و في اتباع الهوى الضلال و الخروج عن صف المهتدين بالهداية الإلهية.

قوله تعالى: "قل إني على بينة من ربي و كذبتم به" إلى آخر الآية.

البينة هو الدلالة الواضحة من البيان و هو الوضوح، و الأصل في معنى هذه المادة هو انعزال شيء عن شيء و انفصاله عنه بحيث لا يتصلان و لا يختلطان، و منه البين و البون و البينونة و غير ذلك، قد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن الباطل فيتضح و يسهل الوقوف عليه من غير تعب و مئونة.

و المراد بمرجع الضمير في قوله: "و كذبتم به" هو القرآن و ظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى، و يؤيده قوله بعده: "ما عندي ما تستعجلون به" إلخ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذا الذيل: أن الذي أيد الله به رسالتي من البينات و هو القرآن تكذبون به، و الذي تقترحونه علي و تستعجلون به من الآيات ليس في اختياري و لا مفوضا أمره إلي فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أني أوتيت ما لا تريدون و أنتم تريدون ما لم أوت.

فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله: "و كذبتم به" راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن، و أن قوله: "ما عندي ما تستعجلون به" أريد به نفي التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الإنسان عليه و خاصة في باب الإعطاء و الإنفاق أن يكون ما يعطيه و ينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه و تحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله: "ما عندي" نفي التسلط و القدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم.

و قوله: "إن الحكم إلا لله" إلخ، بيان لسبب النفي، و لذلك جيء فيه بالنفي و الاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شيء قط و أنه إلى الله سبحانه فحسب.

كلام في معنى الحكم و أنه لله وحده



مادة الحكم تدل على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء و ينسد به خلله و فرجه فلا يتجزى إلى الأجزاء و لا يتلاشى إلى الأبعاض حتى يضعف أثره و ينكسر سورته، و إلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالإحكام و التحكيم و الحكمة و الحكومة و غير ذلك.

و قد تنبه الإنسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية و الحقوق الدائرة بين الناس فإن الموالي و الرؤساء إذا أمروا بشيء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين و يقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل و تقييدا لا يسعهم معه الانطلاق، و كذلك مالك سلعة كذا أو ذو حق في أمر كذا كان بينه و بين سلعته أو الأمر الذي فيه نوعا من الالتيام و الاتصال الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه و بين سلعته بالتصرف أو بينه و بين مورد حقه فيقصر عنه يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الإحكام و ضعف هذا الإتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضي الذي رفعت إليه القضية الملك أو الحق لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد فتور، و قوة إحكاما بعد ضعف و وهن، و قوله: ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع و المشاجرة، و لا يتخلل غير المالك و ذي الحق بين الملك و الحق و بين ذيهما، و بالجملة الآمر في أمره و القاضي في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الأمر و القضاء يحكمانه بها و يرفعان به وهنا و فتورا، و هو الذي يسمى الحكم.

فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه و قدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا و أغصانا و تورق و تثمر و كون النطفة تتبدل جسما ذا حياة و حس و هكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه و قضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم و هو إثبات شيء لشيء أو إثبات شيء عند شيء.

و نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، و إن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، و كذلك العلم و القدرة و الحياة و المشية و الرزق و الحسن إلى غير ذلك، و بالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذي هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، و قد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله: "إن الحكم إلا لله": الأنعام: 57 يوسف: 67 و قوله تعالى: "ألا له الحكم": الأنعام: 62 و قوله: "له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم": القصص: 70 و قوله تعالى: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41 و لو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه و يعارض مشيته، و قوله: "فالحكم لله العلي الكبير": المؤمن: 12 إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.



و يدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم:" يوسف: 40 فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم و خاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: "يحكم به ذوا عدل منكم": المائدة: 95 و قوله لداود (عليه السلام): "إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق": ص: 26 و قوله للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أن احكم بينهم بما أنزل الله": المائدة: 49 و قوله: "فاحكم بينهم بما أنزل الله": المائدة: 48 و قوله: "يحكم بها النبيون": المائدة: 44 إلى غير ذلك من الآيات و ضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة و أولا لا يستقل به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و ثانيا، و لذلك عد تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لما أنه لازم الأصالة و الاستقلال و الأولية فقال: "أ ليس الله بأحكم الحاكمين": التين: 8 و قال "و هو خير الحاكمين": الأعراف: 87.

و الآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن و نحوه - كما ترى - تختص بالحكم الوضعي الاعتباري، و أما الحكم التكويني فلا يوجد فيها - على ما أذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره و إن كانت معاني عامة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه و نحوه كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق و الإحياء و المشية و غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

و لعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة كما أن القضاء و الأمر التكوينيين كذلك، و نظيرتها في ذلك ألفاظ البديع و البارىء و الفاطر و ألفاظ أخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبىء عن نوع من الاختصاص، و إنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى: "إن الحكم إلا لله" أريد بالحكم فيه القضاء التكويني، و الجملة تعليل للنفي في قوله: "ما عندي ما تستعجلون به" و المعنى - على ما يعطيه السياق - أن الحكم لله وحده و ليس إلي أن أقضي بيني و بينكم، و هو الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون علي من الآية.

و على هذا فقوله: "ما عندي ما تستعجلون به" مستعمل استعمال الكناية كأنهم باقتراحهم إتيان آية أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي بينه و بينهم و لعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول و الصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى: "قل لو أن عندي ما تستعجلون به" و كان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو أن عندي ذلك، و ذلك أنه أريد بقوله: "ما تستعجلون به" في الآية الأولى لازم الآية و هو القضاء بينه و بينهم على ما جرت به السنة الإلهية، و في الآية الثانية نفس الآية، و من المحتمل أيضا أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الأولى، و الآية بالتكنية في الآية الثانية.

و قوله: "يقص الحق و هو خير الفاصلين" قرأ عاصم و نافع و ابن كثير من السبعة بالقاف و الصاد المهملة من القص و هو قطع شيء و فصله من شيء و منه قوله تعالى: "و قالت لأخته قصيه": القصص: 11، و قرأ الباقون بالقاف و الضاد المعجمة من القضاء، و قد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى: "فما تغن النذر": القمر: 5 و لكن من القراءتين وجه، و مآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق و فصله من الباطل لازم القضاء و الحكم بالحق و إن كان قوله: "و هو خير الفاصلين" أنسب مع القص بمعنى الفصل.

و أما أخذ قوله "يقص الحق" من القص بمعنى الإخبار عن الشيء أو بمعنى تتبع الأثر على ما احتمله بعض المفسرين فمما لا يلائم المورد: أما الأول فلأن الله سبحانه و إن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء و أممهم غير أن المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له و توصيفه تعالى به.



و أما الثاني فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق و يقتفى أثره في تدبير مملكته و تنظيم أمور خليقته، و الله سبحانه و إن كان لا يحكم إلا الحق و لا يقضي إلا الحق إلا أن أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع و الاقتفاء إليه تعالى، و قد قال تعالى فيما قال: "الحق من ربك": آل عمران: 60 و لم يقل: الحق مع ربك، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد و التأيد و الإيهام إلى الضعف.

كلام في معنى حقيقة فعله و حكمه تعالى

فعله و حكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك أن الشيء إنما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية و الأرض التي يعيش عليها و النبات و الحيوانات التي يغتذي بها، و الخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن إدراكنا و الحكم و القضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشيء أو قضى القاضي بشيء فإنما يكون حكم هذا و قضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، و يكون حقا نسبيا إذا وافق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.

فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها و خيرها، و قد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا، و قضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه و لا يزاحم بعضها بعضا، و لا يفسد طرف منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، و يتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، و يطابقها الأمر بالعدل و النهي عن الظلم فكل منهما حكم حق، و لا يطابقها الأمر بالظلم و النهي عن العدل فهما من الباطل، و التوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية، و الشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك و عذاب خالد.

و كذلك القضاء بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة، و المصلحة الحقيقية - كما عرفت - مأخوذة من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.

فقد تبين أن الحق أيا ما كان إنما هو مأخوذ من الكون الخارجي و النظام المنبسط عليه و السنة الجارية فيه، و لا ريب أن الكون و الوجود مع ما له من النظام و السنن و النواميس فعله سبحانه منه يبتدىء و به يقوم، و إليه ينتهي، فالحق أيا ما كان و المصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله و يقتفيان أثره، و يثبتان بالاستناد إليه لا أنه تعالى يتبع الحق في فعله و يقفو أثره فهو تعالى حق بذاته و كل ما سواه حق به.

و نحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا و رفع حوائج حياتنا، و كانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا و ربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا و سعادة جدنا و أدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية و أحكام عامة، و اعتبار شرائع و سنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية و موافقتها السعادة المطلوبة.



و أدى ذلك إلى الإذعان بأن للمصالح و المفاسد ثبوتا واقعيا و ظروفا من التحقق منحازا عن العالمين: - الذهن و الخارج - منعزلا عن الدارين: - العلم و العين - و هي تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة و المخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة و انتهت إلى السعادة، و إذا خالفتها و طابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر و شر، و هذا النحو من الثبوت ثبوت واقعي غير قابل للزوال و التغير فللمصالح و المفاسد الواقعية و كذا لما معها من الصفات الداعية إلى الفعل و الترك كالحسن و القبح و كذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل و الترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعي يتأبى عن الفناء و البطلان، و يمتنع عن التغير و التبدل و هي حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، و العقل ينال هذه الأمور النفس الأمرية كما ينال سائر الأمور الكونية.

ثم لما وجدوا أن الأحكام و الشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام و القوانين الإنسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم، و كذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية و الأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق على المصالح الواقعية و الاتصاف بصفة الحسن، فللمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى و حكومة على أحكامه و خاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده.

و هذا كله من إفراط الرأي، و قد عرفت مما تقدم أن هذه أحكام و علوم اعتبارية غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها و جعلها الحوائج الطبيعية و ضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع، و لا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع و الاعتبار يميز بها الإنسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره، و ما يصلح شأنه مما يفسده، و ما يسعده مما يشقيه.

و قد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الإسلام إلى تقابل عجيب بالإفراط و التفريط في هذا المقام فطائفة - و هم المفوضة - أثبتوا مصالح و مفاسد نفس أمرية و حسنا و قبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير و لا متبدل و هي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب و التحريم، مؤثرة في أفعاله تكوينا و تشريعا بالحظر و الترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه، و أبطلوا إطلاق ملكه.

و طائفة - و هم المجبرة - نفت ذلك كله، و أصرت على أن الحسن في الشيء إنما هو تعلق الأمر به، و القبح تعلق النهي به، و لا غرض و لا غاية في تكوين و لا تشريع، و أن الإنسان لا يملك من فعله شيئا و لا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن الفعل مخلوق للإنسان و أن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئا و لا تتعلق به قدرته.

و القولان - كما ترى - إفراط و تفريط فلا هذا و لا ذاك بل حقيقة الأمر أن هذه و نظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي و هو أن الإنسان - و نظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على قدره - في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا إبقاء الحياة و نيل السعادة ناقص محتاج يرفع جهات نقصه و حاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور و الإرادة فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله و الأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته و التجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن و قبح و وجوب و حرمة و جواز و ملك و حق و غير ذلك و يجري فيها نواميس الأسباب و المسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة و خاصة، و يعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم له بذلك أمر حياته الاجتماعية.



فترانا نعتقد أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل، و الظلم قبيح شاءه كما أن الميتة المنتنة كذلك، و أن المال لنا كما أن أعضاءنا لنا، و العمل الكذائي واجب كما أن الآثار واجبة لعللها التامة، و على هذا القياس، و لذلك ترى أن هذه الآراء تختلف بين الأقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون و تجد طائفة تلغي من الأحكام ما تعتبره أخرى، و تلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها ما يستشنعه غيرها، و ربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمة واحدة على نسق الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي و مساسه بلوازم الحياة، هذا في المقاصد التي تختلف في المجتمعات، و أما المقاصد العامة التي لا يختلف فيه اثنان كأصل الاجتماع و العدل و الظلم و نحو ذلك فما لها من وصف الحسن و القبح و الوجوب و الحرمة و غيرها لا تختلف البتة و لا يختلف فيه، هذا فيما يرجع إلينا.

و الله سبحانه لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف الحقيقية المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن نفكر فيما يرجع إلى معارفه، و نتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر و نتلقى ما عندنا من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا، و عدنا عبادا مربوبين، و ذكرنا أن له دينا مؤلفا من عقائد أصلية و قوانين عملية تستعقب ثوابا و عقابا و أن في اتباعه صلاح حالنا، و حسن عاقبتنا، و سعادة جدنا على نحو المسلك الذي نسلكه في آرائنا الاجتماعية.

فهناك عقائد أصلية يجب علينا أن نعتقد بها و نلزمها، و هناك وظائف عملية و قوانين إلهية في العبادات و المعاملات و السياسات يجب علينا أن نعمل بها و نراعيها كما أن الأمر في جميع المجتمعات الإنسانية على ذلك.

و هذا هو الذي يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث عن المعارف الاجتماعية اعتقادية أو عملية، و أن نستند في المعارف الدينية من الآراء العقلية و القضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار لعباده من الوظائف و التكاليف إلا ما فيه المصلحة التي تصلح شأنهم في دنياهم و آخرتهم، و لا يأمر إلا بالحسن الجميل، و لا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذي فيه فساد دين أو دنيا، و لا يفعل إلا ما يؤثره العقل، و لا يترك إلا ما ينبغي أن يترك.

إلا أنه تعالى ذكرنا مع ذلك بأمرين: أحدهما: أن الأمر في نفسه أعظم من ذلك و أعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة من مواد الآراء الاجتماعية و هي في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع، و لا ترقى إلى عالم السماء كما قال: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4 و قال في مثل ضربه: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل:" الآية الرعد: 17 و قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب و السنة.

و ليس معنى هذا البحث نفي الحسن و المصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى إثبات ما يقابله حتى يستتبع ذلك إثبات القبح و المفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي كأفعال الصبيان تعالى عن ذلك كما أن نفي البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب إثبات العمى له أو سقوطه عن مرتبة الإدراك بل تنزيه عن النقص.



و ثانيهما: أن جهات الحسن و مزايا المصالح و إن كانت تعلل بها أفعاله تعالى و شرائع أحكامه و تبين بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الأحكام و الأعمال العقلائية إلا أن بين البابين فرقا و هو أنها في جانبنا حاكمة على الإرادة مؤثرة في الاختيار فنحن بما أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى اقتراف العمل و إذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه و حكمنا به و أجريناه في مجتمعنا مثلا.

و ليست هذه الوجوه و العلل أعني جهات الحسن و المصلحة إلا معاني أخذناها من سنة التكوين و الوجود الخارجي الذي هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في اختيار الأعمال الحسنة ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا و تنطبق أعمالنا على سنة التكوين و تقع في صراط الحقيقة، فهذه الجهات و المصالح معان منتزعة من خارج الأعيان متفرعة عليه، و أعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها، و الكلام في أحكامنا المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا.

و أما فعله تعالى فهو نفس الكون الخارجي و الوجود العيني الذي كنا ننتزع منه وجوه الحسن و المصلحة و كانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها، و كذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع لا أنها تتبع الواقع فافهم ذلك.

فقد تبين: أن جهات الحسن و المصلحة و ما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله تعالى و أحكامه، و في أفعالنا و أحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا و أحكامنا حاكمة مؤثرة، و إن شئت قلت دواع و علل غائية، و بالنسبة إلى أفعاله و أحكامه تعالى لازمة غير منفكة و إن شئت قلت: فوائد مطردة، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل و نحكم ما نحكم لأنا نريد به تحصيل الخير و السعادة و تملك ما لا نملكه بعد، و هو تعالى يفعل ما يفعل و يحكم ما يحكم لأنه الله، و يترتب على فعله ما يترتب على فعلنا من الحسن و المصلحة، و أفعالنا مسئول عنها معللة بغاياتها و مصالحها، و أفعاله غير مسئول عنها و لا معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها و نعوتها اللازمة و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون فافهم ذلك.

و هذا هو الذي يهدي إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": الأنبياء: 23 و قوله: "له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم": القصص: 70 و قوله: "و يفعل الله ما يشاء": إبراهيم: 27 و قوله: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41.

و لو كان فعله تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة محسنة و لم يكن له ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة، و قوله: "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء": الأعراف: 28 و قوله: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم": الأنفال: 24 و غير ذلك من الآيات التي تعلل الأحكام بوجوه الحسن و المصلحة.

قوله تعالى: "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني و بينكم" إلى آخر الآية، أي لو قدرت على ما تقترحونه علي من الآية و الحال أنها بحيث إذا نزلت على رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه و بين أمته لقضي الأمر بيني و بينكم، و نجي بذلك أحد المتخاصمين المختلفين و عذب الآخر و أهلك، و لم يعذب بذلك و لا يهلك إلا أنتم لأنكم ظالمون، و العذاب الإلهي إنما يأخذ الظالمين بظلمهم، و هو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه عليه الأمر و لا يميز الظالمين من غيرهم فيعذبني دونكم.



ففي قوله تعالى: "و الله أعلم بالظالمين" نوع تكنية و تعليل أي إنكم أنتم المعذبون لأنكم ظالمون و العذاب الإلهي لا يعدو الظالمين إلى غيرهم، و في الجملة إشارة إلى ما تقدم من قوله تعالى: "قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون:" آية: 47.

قوله تعالى: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" إلى آخر الآية.

ذكروا في وجه اتصال الآية بما قبلها أن الآية السابقة لما ختمت بقوله: "و الله أعلم بالظالمين" زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها إلا هو، و يعلم كل دقيق و جليل.

و هذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله: "لا يعلمها إلا هو" فالأولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين السابقتين أعني قوله: "قل إني على بينة من ربي - إلى قوله - و الله أعلم بالظالمين" حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الآية و ما يستتبعه من الحكم الفصل و القضاء بينه و بينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، و لا يغلط في حكمه الفصل و تعذيب الظالمين لأنه أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، و عالم بكل ما جل و دق لا يضل و لا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: "و عنده مفاتح الغيب" الآية فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب و شمول علمه كل شيء، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها.

و بذلك تصير الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصة هود و قومه: "قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به:" الأحقاف: 23.

ثم نقول: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم و هو الخزينة، و ربما احتمل أن يكون جمع مفتح بكسر الميم و هو المفتاح، و يؤيده ما قرىء شاذا: "و عنده مفاتيح الغيب" و مآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه و خزائن رحمته - و ذلك في سبعة مواضع - و لم يذكر لها مفاتيح في شيء من كلامه قال تعالى: "أم عندهم خزائن ربك": الطور: 37 و قال: "لا أقول لكم عندي خزائن الله": الأنعام: 50 و قال: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه": الحجر: 21 و قال: "و لله خزائن السماوات و الأرض" : المنافقون: 7 و قال: "أم عندهم خزائن رحمة ربك": ص: 9 فالأقرب أن يكون المراد بمفاتح الغيب خزائنه.

و كيف كان فقوله: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لأن خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، و إما لأن مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها إلى فتحها و التصرف فيها.

و صدر الآية و إن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبىء عن شمول علمه تعالى بكل شيء أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب و يابس لا يختص بما يكون غيبا و هو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب و شهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، و ذيلها ينبىء عن علمه بكل شيء أعم من الغيب و الشهادة.



و من جهة أخرى صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء و أقفال الإبهام، و قد ذكر الله سبحانه في قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:" الحجر: 21 أن التي في خزائن الغيب عنده من الأشياء أمور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء، و لا يحصرها الأقدار المعهودة، و لا شك أنها إنما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد و القدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود و مقدر، و أما التي في خزائن الغيب من الأشياء فهي قبل النزول في منزل الشهود و الهبوط إلى مهبط الحد و القدر، و بالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية.

فالأمور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها و حدوثها موجودة عند الله ثابتة في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر و إن لم نستطع أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب و خزائنه الأشياء قبل حدوثها و استقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، و لعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة، و لنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق.

و أما الأشياء بعد تلبسها بلباس التحقق و الوجود و نزولها في منزلها بالحد و القدر فالذي في داخل حدودها و أقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب و يرجع إلى الغيب المطلق، و أما هي مع ما لها من الحد و القدر فهي التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا و يتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة و عند ما نجهل بها تصير غيبا، و من الحري أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب و الإضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، و من قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، و كذا الأضواء و الألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر، و من الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، و المسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه و غيب بالنسبة إلى البصر، و محسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه و من الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي.

و التي عدها تعالى في الآية بقوله: "و يعلم ما في البر و البحر و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس" من هذا الغيب النسبي فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا و لا أن يكون مشهودة لنا فهي من الغيب النسبي.

و قد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أ هو هذه الأشياء من جهة شهادتها و غيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ و بعبارة أخرى: الكتاب المبين أ هو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شيء منها و إن غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق.

و بلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أ هي واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف و الرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين؟.



لكن قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها": الحديد: 22 يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، و يقرب منه قوله تعالى: "و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين": يونس: 61 و قوله: "لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين": سبأ: 3 و قوله: "قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى": طه: 52 إلى غير ذلك من الآيات.

فالكتاب المبين أيا ما كان هو شيء غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة، و هو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها و انقضائها كالبرنامجات المكتوبة للأعمال التي تشتمل على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع.

على أن هذه الموجودات و الحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة و الآيات تدل على عدم جواز التغير و الفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى: "يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب": الرعد: 39 و قوله: "في لوح محفوظ": البروج: 22 و قوله: "و عندنا كتاب حفيظ": ق: 4 فالآيات - كما ترى - تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث و خصوصيات الأشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه و لا يتسرب إليه أي تغير و فساد.

و من هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب و خزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح و الخزائن بأنها غير مقدرة و لا محدودة، و أن القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة، و وصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء و حدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، و إنما هو شيء مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء و يحفظها بعد نزولها من الخزائن و قبل بلوغها منزل التحقق و بعد التحقق و الانقضاء.

و يشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء و الحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، و أما الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه و المفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى: "في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة: 79.

فما من شيء مما خلقه الله سبحانه إلا و له في خزائن الغيب أصل يستمد منه، و ما من شيء مما خلقه الله إلا و الكتاب المبين يحصيه قبل وجوده و عنده و بعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، و من هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين - في عين أنه كتاب محض - ليس من قبيل الألواح و الأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت و كيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شيء في مدى الأبد.

فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء قبل تفريغها في قالب الأقدار، و هي تشتمل على غيب كل شيء على حد ما يدل عليه قوله تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21.



و ثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين و تقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء و معها و بعدها، و هو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال و النسيان إليه، و لذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء و تحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع، و هو الذي يقال: إن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.

و بالجملة هذا الكتاب يحصي جميع ما وقع في عالم الصنع و الإيجاد مما كان و ما يكون و ما هو كائن من غير أن يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها و تحددها، و وراء ذلك ألواح و كتب تقبل التغيير و التبديل، و تحتمل المحو و الإثبات كما يدل عليه قوله تعالى: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب" فإن المحو و الإثبات - و خاصة إذا قوبلا بأم الكتاب - إنما يكونان في الكتاب.

و عند ذلك يتضح اتصال الآية أعني قوله: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه علي من الآيات القاضية بيني و بينكم ليس في مقدرتي، و لا الحكم الحق راجع إلي بل هو عند ربي في علمه و قدرته و لو كان ذلك إلي لقضي بيني و بينكم و أخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لأن الله يعلم أنكم أنتم الظالمون و هو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف و التسلط على ما يريده و يقضيه من آية قاضية فلأن مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا هو، و أما أنه أعلم بالظالمين و لا يخطئهم إلى غيرهم فلأنه يعلم ما في البر و البحر و يعلم كل دقيق و جليل، و الكل في كتاب مبين.

فقوله تعالى: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و قوله: "لا يعلمها" "إلخ" حال و هو يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها و تقدرها بأقدارها و مفاتح الغيب - كما تبين - علم بالأشياء و هي غير موجودة و لا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم.

و قوله: "و يعلم ما في البر و البحر" تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض و ربما يغيب بعضه عن بعض، و إنما قدم ما في البر لأنه أعرف عند المخاطبين من الناس.

و قوله: "و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها" اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة التي في أوراق الأشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرأ عليه من الأحوال، و يتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط.

و قوله: "و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس" إلخ، معطوفات على قوله: "من ورقة" على ظاهر السياق، و المراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو و يفسد ما يفسد فالمعنى: و لا تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة و لا يسقط من رطب و لا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، و على هذا فقوله: "إلا في كتاب مبين" بدل من قوله: "إلا يعلمها" سد مسده، و تقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين.



و توصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شيء على حقيقة ما هو عليه من غير أن يطرأ عليه إبهام التغير و التبدل و سترة الخفاء في شيء من نعوته، و إن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب، و المكتوب هو المحكي عنه، و إذا كان ظاهرا لا سترة عليه و لا خفاء فيه فالكتاب كذلك.

قوله تعالى: "و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار" التوفي أخذ الشيء بتمامه، و يستعمله الله سبحانه في كلامه بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما في قوله في الآية التالية: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا".

قد عد الإنامة توفيا كما عد الإماتة توفيا على حد قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها": الزمر: 42 لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في البدن كما أن البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع، و في تقييد التوفي بالليل كالبعث بالنهار جري على الغالب من أن الناس ينامون بالليل و يستيقظون بالنهار.

و في قوله تعالى "يتوفاكم" دلالة على أن الروح تمام حقيقة الإنسان الذي يعبر عنه بأنا لا كما ربما يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الإنسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة له، و أوضح منه دلالة قوله تعالى: "و قالوا أ ءذا ضللنا في الأرض أ ئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون": السجدة: 11 فإن استبعاد الكفار مبني على أن حقيقة الإنسان هو البدن الذي يتلاشى و يفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الأرض، و الجواب مبني على كون حقيقته هو الروح النفس و إذ كان ملك الموت يتوفاه و يقبضه فلا يفوت منه شيء.

و قوله: "و يعلم ما جرحتم بالنهار" الجرح هو الفعل بالجارحة و المراد به الكسب أي يعلم ما كسبتم بالنهار، و الأنسب أن يكون الواو حالية و الجملة حالا من فاعل يتوفاكم، و يتصل حينئذ قوله: "ثم يبعثكم فيه" بقوله: "و هو الذي يتوفاكم" إلخ، من غير تخلل معنى أجنبي فإن الآيتين في مقام شرح وقوع التدبير الإلهي بالإنسان في حياته الدنيا و عند الموت و بعده حتى يرد إلى ربه، و الأصل العمدة من جمل الآيتين المسرودة لبيان هذا المعنى قوله تعالى: "و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه - أي في النهار - ليقضى أجل مسمى و يرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق" فهذا هو الأصل في المقصود، و ما وراء ذلك مقصود بالتبع، و المعنى و هو الذي يتوفاكم بالليل و الحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار، ثم يبعثكم في النهار إلخ.

قوله تعالى: "ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى" إلخ.

سمي الإيقاظ و التنبيه بعثا محاذاة لتسمية الإنامة توفيا و جعل الغرض من البعث قضاء الأجل المسمى و هو الوقت المعلوم عند الله الذي لا يتخطاه حياة الإنسان الدنيوية كما قال: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون": الأعراف: 34.
<<        الفهرس        >>