جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


7 سورة الأعراف - 1 - 9

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْك فَلا يَكُن فى صدْرِك حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رّبِّكمْ وَ لا تَتّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ (3) وَ كَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا بَيَتاً أَوْ هُمْ قَائلُونَ (4) فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسنَا إِلا أَن قَالُوا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسئَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسئَلَنّ الْمُرْسلِينَ (6) فَلَنَقُصنّ عَلَيهِم بِعِلْمٍ وَ مَا كُنّا غَائبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَت مَوَزِينُهُ فَأُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفّت مَوَزِينُهُ فَأُولَئك الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُم بِمَا كانُوا بِئَايَتِنَا يَظلِمُونَ (9)

بيان

السورة تشتمل من الغرض على مجموع ما تشتمل عليه السور المصدرة بالحروف المقطعة "الم" و السورة المصدرة بحرف "ص" فليكن على ذكر منك حتى نستوفي ما استيفاؤه من البحث في أول سورة حم عسق إن شاء الله تعالى عن الحروف المقطعة القرآنية.

و السورة كأنها تجعل العهد الإلهي المأخوذ من الإنسان على أن يعبد الله و لا يشرك به شيئا أصلا يبحث عما آل إليه أمره بحسب مسير الإنسانية في الأمم و الأجيال فأكثرهم نقضوه و نسوه ثم إذا جاءتهم آيات مذكرة لهم أو أنبياء يدعونهم إليه كذبوا و ظلموا بها و لم يتذكر بها إلا الأقلون.

و ذلك أن العهد الإلهي الذي هو إجمال ما تتضمنه الدعوة الدينية الإلهية إذا نزل بالإنسان - و طبائع الناس مختلفة في استعداد القبول و الرد - تحول لا محالة بحسب أماكن نزوله و الأوضاع و الأحوال و الشرائط الحافة بنفوس الناس فأنتج في بعض النفوس - و هي النفوس الطاهرة الباقية على أصل الفطرة - الاهتداء إلى الإيمان بالله و آياته، و في آخرين و هم الأكثرون ذوو النفوس المخلدة إلى الأرض المستغرقة في شهوات الدنيا خلاف ذلك من الكفر و العتو.

و استتبع ذلك ألطافا إلهية خاصة بالمؤمنين من توفيق و نصر و فتح في الدنيا، و نجاة من النار و فوز بالجنة و أنواع نعيمها الخالد في الآخرة، و غضبا و لعنا نازلا على الكافرين و عذابا واقعا يهلك جمعهم، و يقطع نسلهم، و يخمد نارهم، و يجعلهم أحاديث و يمزقهم كل ممزق، و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون.

فهذه هي سنة الله التي قد خلت في عباده و على ذلك ستجري، و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو على صراط مستقيم.

فتفاصيل هذه السنة إذا وصفت لقوم ليدعوهم ذلك إلى الإيمان بالله و آياته كان ذلك إنذارا لهم، و إذا وصفت لقوم مؤمنين و لهم علم بربهم في الجملة و معرفة بمقامه الربوبي كان ذلك تذكيرا لهم بآيات الله و تعليما بما يلزمه من المعارف و هي معرفة الله و معرفة أسمائه الحسنى و صفاته العليا و سنته الجارية في الآخرة و الأولى و هذا هو الذي يلوح من قوله تعالى في الآية الثانية من السورة: "لتنذر به و ذكرى للمؤمنين" أن غرضها هو الإنذار و الذكرى.

و السورة على أنها مكية - إلا آيات اختلف فيها - وجه الكلام فيها بحسب الطبع إلى المشركين و طائفة قليلة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يظهر من آيات أولها و آخرها إنذار لعامة الناس بما فيها من الحجة و الموعظة و العبرة، و قصة آدم (عليه السلام) و إبليس و قصص نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام)، و هي ذكرى للمؤمنين تذكرهم ما يشتمل عليه إجمال إيمانهم من المعارف المتعلقة بالمبدإ و المعاد و الحقائق التي هي آيات إلهية.

و السورة تتضمن طرفا عاليا من المعارف الإلهية منها وصف إبليس و قبيله، و وصف الساعة و الميزان و الأعراف و عالم الذر و الميثاق و وصف الذاكرين لله، و ذكر العرش، و ذكر التجلي، و ذكر الأسماء الحسنى، و ذكر أن للقرآن تأويلا إلى غير ذلك.

و هي تشتمل على ذكر إجمالي من الواجبات و المحرمات كقوله: "قل أمر ربي بالقسط": الآية 29، و قوله: "إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن": الآية 33، و قوله: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق": الآية 32 فنزولها قبل نزول سورة الأنعام التي فيها قوله: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه" الآية: الأنعام: 145، فإن ظاهر الآية أن الحكم بإباحة غير ما استثني من المحرمات كان نازلا قبل السورة فالإشارة بها إلى ما في هذه السورة.

على أن الأحكام و الشرائع المذكورة في هذه السورة أوجز و أكثر إجمالا مما ذكر في سورة الأنعام في قوله: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" الآيات، و ذلك يؤيد كون هذه السورة قبل الأنعام نزولا على ما هو المعهود من طريقة تشريع الأحكام في الإسلام تدريجا آخذا من الإجمال إلى التفصيل.

قوله تعالى: "المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به و ذكرى للمؤمنين" تنكير الكتاب و توصيفه بالإنزال إليه من غير ذكر فاعل الإنزال كل ذلك للدلالة على التعظيم و يتخصص وصف الكتاب و وصف فاعله بعض التخصص بما يشتمل عليه قوله: "فلا يكن في صدرك حرج منه" من التفريع كأنه قيل: هذا كتاب مبارك يقص آيات الله أنزله إليك ربك فلا يكن في صدرك حرج منه كما أنه لو كان كتابا غير الكتاب و ألقاه إليك ربك لكان من حقه أن يتحرج و يضيق منه صدرك لما في تبليغه و دعوة الناس إلى ما يشتمل عليه من الهدى من المشاق و المحن.

و قوله: "لتنذر به" غاية للإنزال متعلقة به كقوله: "و ذكرى للمؤمنين" و تخصيص الذكرى بالمؤمنين دليل على أن الإنذار يعمهم و غيرهم، فالمعنى: أنزل إليك الكتاب لتنذر به الناس و هو ذكرى للمؤمنين خاصة لأنهم يتذكرون بالآيات و المعارف الإلهية المذكورة فيها مقام ربهم فيزيد بذلك إيمانهم و تقر بها أعينهم، و أما عامة الناس فإن هذا الكتاب يؤثر فيهم أثر الإنذار بما يشتمل عليه من ذكر سخط الله و عقابه للظالمين في الدار الآخرة، و في الدنيا بعذاب الاستئصال كما تشرحه قصص الأمم السالفة.

و من هنا يظهر: أن قول بعضهم: إن قوله: "لتنذر به" متعلق بالحرج و المعنى: لا يكن في صدرك حرج للإنذار به، ليس بمستقيم فإن تعقبه بقوله: "و ذكرى للمؤمنين" بما عرفت من معناه يدفع ذلك.

و يظهر أيضا ما في ظاهر قول بعضهم: إن المراد بالمؤمنين كل من كان مؤمنا بالفعل عند النزول و من كان في علم الله أنه سيؤمن منهم! فإن الذكرى المذكور في الآية لا يتحقق إلا فيمن كان مؤمنا بالفعل.

قوله تعالى: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون" لما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كتاب أنزل إليه لغرض الإنذار شرع في الإنذار و رجع من خطابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطابهم فإن الإنذار من شأنه أن يكون بمخاطبة المنذرين - اسم مفعول - و قد حصل الغرض من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و خاطبهم بالأمر باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، و هو القرآن الآمر لهم بحق الاعتقاد و حق العمل أعني الإيمان بالله و آياته و العمل الصالح الذين يأمر بهما الله سبحانه في كتابه و ينهى عن خلافهما، و الجملة أعني قوله: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم" موضوعة وضع الكناية كنى بها عن الدخول تحت ولاية الله سبحانه و الدليل عليه قوله "و لا تتبعوا من دونه أولياء" حيث لم يقل في مقام المقابلة: و لا تتبعوا غير ما أنزل إليكم.

و المعنى: و لا تتبعوا غيره تعالى - و هم كثيرون - فيكونوا لكم أولياء من دون الله قليلا ما تذكرون، و لو تذكرتم لدريتم أن الله تعالى هو ربكم لا رب لكم سواه فليس لكم من دونه أولياء.



قوله تعالى: "و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون" تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الأمم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم.

و البيات التبييت و هو قصد العدو ليلا، و القائلون من القيلولة و هو النوم نصف النهار، و قوله: "بياتا أو هم قائلون" و لم يقل ليلا أو نهارا كأنه للإشارة إلى أخذ العذاب إياهم و هم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الإلهي الشديد غافلون مغفلون.

قوله تعالى: "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين" تتميم للتذكير يبين أن الإنسان بوجدانه و سره يشاهد الظلم من نفسه إن اتخذ من دون الله أولياء بالشرك، و أن السنة الإلهية أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعا و لم يخضع لمقام الربوبية فليعترف اختيارا و إلا فسيعترف اضطرارا.

قوله تعالى: "فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين" دل البيان السابق على أنهم مكلفون بتوحيد الله سبحانه موظفون برفض الأولياء من دونه غير مخلين و ما فعلوا، و لا متروكون و ما شاءوا، فإذا كان كذلك فهم مسئولون عما أمروا به من الإيمان و العمل الصالح، و ما كلفوا به من القول الحق، و الفعل الحق و هذا الأمر و التكليف قائم بطرفين: الرسول الذي جاءهم به و القوم الذين جاءهم، و لهذا فرع على ما تقدم من حديث إهلاك القرى و أخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله: "فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين".

و قد ظهر بذلك أن المراد بالذين أرسل إليهم الناس و بالمرسلين الأنبياء و الرسل (عليهم السلام)، و ما قيل: إن المراد بالذين أرسل إليهم الأنبياء، و بالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لإخراج المشركين عن شمول السؤال و الكلام فيهم.

على أن الآية التالية لا تلائم ذلك أيضا.

على أن الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات و لا بالتبع.

قوله تعالى: فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين" دل البيان السابق على أنهم مربوبون مدبرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا، و هذا إنما يتم فيما إذا كان السائل على علم من أمر أعمالهم فإن المسئول لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه و دفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الذي يهدده بالهلاك الخالد و الخسران المؤبد.

و لذلك فرع عليه قوله: "فلنقصن عليهم بعلم" إلخ، و قد نكر العلماء للاعتناء بشأنه و أنه علم لا يخطىء و لا يغلط، و لذلك أكده بعطف قوله: "و ما كنا غائبين" عليه للدلالة على أنه كان شاهدا غير غائب، و إن وكل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنه بكل شيء محيط.

قوله تعالى: "و الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون إلى آخر الآيتين" الآيتان تخبران عن الوزن و هو توزين الأعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم، و الدليل عليه قوله تعالى: "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - إلى أن قال - و كفى بنا حاسبين" الأنبياء: 47، حيث دل على أن هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، و أوضح منه قوله: "يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره": الزلزال: 8، حيث ذكر العمل و أضاف الثقل إليه خيرا و شرا.

و بالجملة الوزن إنما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزنا سواء كان خيرا أو شرا غير أن قوله تعالى: "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا": الكهف: 105، يدل على أن الأعمال في صور الحبط - و قد تقدم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب - لا وزن لها أصلا، و يبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله.

فما لم يحبط من الأعمال الحسنة و السيئة، له وزن يوزن به لكن الآيات في عين أنها تعتبر للحسنات و السيئات ثقلا إنما تعتبر فيها الثقل الإضافي و ترتب القضاء الفصل عليه بمعنى أن ظاهرها أن الحسنات توجب ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثم السيئات و يؤخذ ما لها من الثقل ثم يقايس الثقلان فأيهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجنة و إن كان للسيئة كان القضاء بالنار، و لازم ذلك صحة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفتين و القبان و غيرهما لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان و السيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون" و نظيره قوله تعالى: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون": المؤمنون: 103، و قوله تعالى: "فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية و أما من خفت موازينه فأمه هاوية و ما أدراك ما هيه نار حامية": القارعة: 11، فالآيات - كما ترى - تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما و الخفة في جانب السيئات دائما.

و من هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الأعمال و الثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه و وزن به و هو ثقل الميزان، و ما كان منها سيئة لم ينطبق عليه و لم يوزن به و هو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا و هو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الأخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به و إلا فهو الترك لا محالة، و المثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به، و أما القبان و ذو الكفتين و نظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا و خفة كما أن واحد الطول و هو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو و إلا ترك.

ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاة مثلا ميزان توزن به و هي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة، و للزكاة و الإنفاق نظير ذلك، و للكلام و القول حق القول الذي لا يشتمل على باطل، و هكذا كما يشير إليه قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته": آل عمران: 102.

فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله: "و الوزن يومئذ الحق" أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره و قيمته و الحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه و ثقله.



و لعله إليه الإشارة بالقضاء بالحق في قوله: "و أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون": الزمر: 69 و الكتاب الذي ذكر الله أنه يوضع يومئذ - و إنما يوضع للحكم به - هو الذي أشار إليه بقوله: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق": الجاثية: 29، فالكتاب يعين الحق و ما اشتمل عليه العمل منه، و الوزن يشخص مقدار الثقل.

و على هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري، و إنما عبر بالموازين - بصيغة الجمع - في قوله:، "فمن ثقلت موازينه" "و من خفت موازينه" الدال على أن لكل أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحق الذي يوزن به باختلاف الأعمال فالحق في الصلاة و هو حق الصلاة غير الحق في الزكاة و الصيام و الحج و غيرها، و هو ظاهر، فهذا ما ينتجه البيان السابق.

و الذي ذكره جمهور المفسرين في معنى قوله: "و الوزن يومئذ الحق" أن الوزن مرفوع على الابتداء و يومئذ ظرف و الحق صفة الوزن و هو خبره و التقدير: و الوزن يومئذ الوزن الحق و هو العدل، و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة": الأنبياء: 47.

و ربما قيل: إن الوزن مبتدأ و خبره يومئذ و الحق صفة الوزن، و التقدير: و الوزن الحق إنما هو في يوم القيامة، و قال في الكشاف،: و رفعه يعني الوزن على الابتداء و خبره يومئذ، و الحق صفته أي و الوزن يوم يسأل الله الأمم و رسلهم الوزن الحق أي العدل انتهى و هو غريب إلا أن يوجه بحمل قوله: الوزن الحق "إلخ" على الاستئناف.

و قوله تعالى: "فمن ثقلت موازينه" الموازين جمع ميزان على ما تقدم من البيان و يؤيده الآية المذكورة آنفا: "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة" و الأنسب بما ذكره القوم في معنى قوله: "و الوزن يومئذ الحق" أن يكون جمع موزون و هو العمل و إن أمكن أن يجعل جمع ميزان و يوجه تعدد الموازين بتعدد الأعمال الموزونة بها.

لكن يبقى الكلام على قول المفسرين: إن الوزن الحق هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات و خفتها بالسيئات فإن فيما يوزن به الأعمال حسناتها و سيئاتها خفاء، و القسط و هو العدل صفة للتوزين و هو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين": الأنبياء: 47، فإن ظاهر قوله: "فلا تظلم"، إلخ إن الله لا يظلمهم فالقسط قسطه و عدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ، فافهم ذلك.

و هذا هو الذي بعثهم على أن فسروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوز فالمراد بثقل الموازين رجحان الأعمال بكونها حسنات و خفتها مرجوحيتها بكونها سيئات و معنى الآية: و الوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فأولئك هم المفلحون، و من لم يترجح أعماله لغلبة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها.

و يعود الكلام حينئذ إلى الملاك الذي به تترجح الحسنة على السيئة و سيما إذا اختلطت الأعمال و اجتمعت حسنات و سيئات، و الحسنات و السيئات مختلفة كبرا و صغرا فيما هو الملاك الذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر؟ فإخباره تعالى بأن أمر الوزن جار على العدل يدل على جريانه بحيث تتم به الحجة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيئة، و به الترجيح، و به يعلم غلبة الثقيل على الخفيف و الحسنة على السيئة إذا اجتمعت من كل منهما عدد مع الأخرى و إلا لزم القول بالجزاف البتة.

و هذا كله مما يؤيد ما قدمناه من الاحتمال، و هو أن يكون توزين الأعمال بالحق، و هو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحق فأولئك هم المفلحون، و من خفت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحق الواجب في العبودية فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها و عدم تزودهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلوها دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار.

فقد تبين بما قدمناه أولا: أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها، و بقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب و إن لم تشتمل فهو الهلاك، و هذا التوزين هو العدل، و الكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل.

و قيل: إن المراد بالوزن هو العدل، و ثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة، و قد تقدم.

و قيل: إن الله ينصب يوم القيامة ميزانا له لسان و كفتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات و السيئات، و قد اختلف هؤلاء في كيفية توزين الأعمال، و هي أعمال انعدمت بصدورها، و لا يجوز إعادة المعدوم من الأعراض عندهم، على أنها لا وزن لها، فقيل: إنما توزن صحائف الأعمال لا أنفسها، و قيل: تظهر للأعمال من حسناتها و سيئاتها آثار و علائم خاصة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس، و قيل: تظهر الحسنات في صور حسنة و السيئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور، و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيئة، و قيل: الوزن ظهور قدر الإنسان، و ثقل الميزان كرامته و عظم قدره، و خفة الميزان هوانه و ذلته.

و هذه الأقوال على تشتتها لا تعتمد على حجة من ألفاظ الآيات، و هي جميعا لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لأن الحجة لا تتم بذلك على العبد، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

و ثانيا: أن هناك بالنسبة إلى كل إنسان موازين توزن بها أعماله و الميزان في كل باب من العمل هو الحق الذي يشتمل عليه ذلك العمل - كما تقدم - فإن يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحق و لا ولاية فيه إلا لله الحق، قال تعالى: "ذلك اليوم الحق": النبأ: 39، و قال تعالى: "هنالك الولاية لله الحق": الكهف: 44، و قال: "هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون": يونس: 30.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و النحاس في ناسخه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: سورة الأعراف نزلت بمكة:. أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن ابن الزبير.

و فيه، أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية، و هي "و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" إلى آخر الآية، و سائرها مكية.

أقول: و هو منه اجتهاد و سيأتي ما يتعلق به من الكلام.

و فيه،: قوله تعالى: "فلنسألن الذين أرسل إليهم" الآية: أخرج أحمد عن معاوية بن حيدة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن ربي داعي و إنه سائلي: هل بلغت عبادي؟ و إني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه و كفه.

و فيه،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن الناس، و الرجل يسأل عن أهله، و المرأة تسأل عن بيت زوجها، و العبد يسأل عن مال سيده.



أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة، و الروايات في السؤال يوم القيامة كثيرة واردة من طرق الفريقين سنورد جلها في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.

و فيه، أخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة و من رجحت سيئاته على حسناته دخل النار.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص عن علي بن أبي طالب قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفف ميزانه يوم القيامة، و من كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة.

أقول: الروايتان لا بأس بهما من حيث المضمون لكنهما لا تصلحان لتفسير الآيتين و لم تردا له لأخذ الرجحان فيهما في جانبي الحسنة و السيئة جميعا.

و فيه،: أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خلق الله كفتي الميزان مثل السماء و الأرض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت، و خلق الله الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت.

أقول: و روى الحاكم في الصحيح عن سلمان مثله، و ظاهر الرواية أن الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المعمول لتشخيص الأثقال و هناك روايات متفرقة تشعر بذلك، و هي واردة لتقريب المعنى إلى الأفهام الساذجة بدليل ما سيوافيك من الروايات.

و في الإحتجاج، في حديث هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام): أنه سأله الزنديق فقال أو ليس يوزن الأعمال؟ قال: لا أن الأعمال ليست بأجسام و إنما هي صفة ما عملوا، و إنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء، و لا يعرف ثقلها و خفتها، و إن الله لا يخفى عليه شيء، قال: فما معنى الميزان؟ قال: العدل. قال: فما معناه في كتابه فمن ثقلت موازينه؟ قال: فمن رجح عمله، الخبر.

أقول: و في الرواية تأييد ما قدمناه في تفسير الوزن، و من ألطف ما فيها قوله (عليه السلام) "و إنما هي صفة ما عملوا" يشير (عليه السلام) إلى أن ليس المراد بالأعمال في هذه الأبواب هو الحركات الطبيعية الصادرة عن الإنسان لاشتراكها بين الطاعة و المعصية بل الصفات الطارئة عليها التي تعتبر لها بالنظر إلى السنن و القوانين الاجتماعية أو الدينية مثل الحركات الخاصة التي تسمى وقاعا بالنظر إلى طبيعة نفسها ثم تسمى نكاحا إذا وافقت السنة الاجتماعية أو الإذن الشرعي، و تسمى زنا إذا لم توافق ذلك، و طبيعة الحركات الصادرة واحدة، و قد استدل (عليه السلام) لما ذكره من طريقين: أحدهما: أن الأعمال صفات لا وزن لها و الثاني: أن الله سبحانه لا يحتاج إلى توزين الأشياء لعدم اتصافه بالجهل تعالى شأنه.

قال بعضهم: إنه بناء على ما هو الحق من تجسم الأعمال في الآخرة، و إمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، و كون الحكمة في الوزن تهويل العاصي و تفضيحه و تبشير المطيع و ازدياد فرحه و إظهار غاية العدل، و في الرواية وجوه من الإشكال فلا بد من تأويلها إن أمكن و إلا فطرحها أو حملها على التقية، انتهى.

أقول: قد تقدم البحث عن معنى تجسم الأعمال و ليس من الممتنع أن يتمثل الأعمال عند الحساب، و العدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال و سلعها لكن الرواية لا تنفي ذلك و إنما تنفي كون الأعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل و الخفة، أولا.

و الإشكال مبني على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان.

و السيئات في كفة أخرى ثم الوزن و القياس، و قد عرفت: أن الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك أصلا، ثانيا.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي معمر السعداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و أما قوله: "فمن ثقلت موازينه و خفت موازينه" فإنما يعني: الحسنات توزن الحسنات و السسيئات فالحسنات ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان.

أقول: و تأييده ما تقدم ظاهر فإنه يأخذ المقياس هو الحسنة و هي لا محالة واحدة يمكن أن يقاس بها غيرها، و ليست إلا حق العمل.

و في المعاني، بإسناده عن المنقري عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا تظلم نفس شيئا" قال: هم الأنبياء و الأوصياء:. أقول: و رواه في الكافي، عن أحمد بن محمد عن إبراهيم الهمداني رفعه إليه (عليه السلام)، و معنى الحديث ظاهر بما قدمناه فإن المقياس هو حق العمل و الاعتقاد، و هو الذي عندهم (عليهم السلام).

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليهما السلام) فيما كان يعظ به قال: ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي و الذنوب، فقال عز و جل: "و لئن مستهم نفحة من عذاب ربك - ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين" فإن قلتم أيها الناس إن الله عز و جل إنما عنى بها أهل الشرك فكيف ذلك؟ و هو يقول: و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا تظلم نفس شيئا - و إن كانت مثقال حبة من خردل أتينا بها - و كفى بنا حاسبين فاعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين و لا تنشر لهم الدواوين و إنما يحشرون إلى جهنم زمرا، و إنما نصب الموازين و نشر الدواوين لأهل الإسلام، الخبر.

أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: "فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا" الآية.

و في تفسير القمي، في قوله: "و الوزن يومئذ الحق" الآية قال (عليه السلام): المجازاة بالأعمال إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.

أقول: و هو تفسير بالنتيجة.

و فيه، في قوله تعالى: "بما كانوا بآياتنا يظلمون" قال (عليه السلام): بالأئمة يجحدون.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و في المعاني المتقدمة روايات أخر.

7 سورة الأعراف - 10 - 25

وَ لَقَدْ مَكّنّكمْ فى الأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِش قَلِيلاً مّا تَشكُرُونَ (10) وَ لَقَدْ خَلَقْنَكمْ ثُمّ صوّرْنَكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلَئكَةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس لَمْ يَكُن مِّنَ السجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَك أَلا تَسجُدَ إِذْ أَمَرْتُك قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنى مِن نّارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِط مِنهَا فَمَا يَكُونُ لَك أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّك مِنَ الصغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنّك مِنَ الْمُنظرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنى لأَقْعُدَنّ لهَُمْ صرَطك الْمُستَقِيمَ (16) ثُمّ لاَتِيَنّهُم مِّن بَينِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَنهِمْ وَ عَن شمَائلِهِمْ وَ لا تجِدُ أَكْثَرَهُمْ شكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنهَا مَذْءُوماً مّدْحُوراً لّمَن تَبِعَك مِنهُمْ لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَ يَئَادَمُ اسكُنْ أَنت وَ زَوْجُك الْجَنّةَ فَكُلا مِنْ حَيْث شِئْتُمَا وَ لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظلِمِينَ (19) فَوَسوَس لهَُمَا الشيْطنُ لِيُبْدِى لهَُمَا مَا وُرِى عَنهُمَا مِن سوْءَتِهِمَا وَ قَالَ مَا نهَاكُمَا رَبّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَينِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَْلِدِينَ (20) وَ قَاسمَهُمَا إِنى لَكُمَا لَمِنَ النّصِحِينَ (21) فَدَلّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمّا ذَاقَا الشجَرَةَ بَدَت لهَُمَا سوْءَتهُمَا وَ طفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَْنّةِ وَ نَادَاهُمَا رَبهُمَا أَ لَمْ أَنهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجَرَةِ وَ أَقُل لّكُمَا إِنّ الشيْطنَ لَكُمَا عَدُوّ مّبِينٌ (22) قَالا رَبّنَا ظلَمْنَا أَنفُسنَا وَ إِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَسرِينَ (23) قَالَ اهْبِطوا بَعْضكمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَ لَكمْ فى الأَرْضِ مُستَقَرّ وَ مَتَعٌ إِلى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنهَا تخْرَجُونَ (25)

بيان

تصف الآيات بدء خلقة الإنسان و تصويره، و ما جرى هناك من أمر الملائكة بالسجدة له، و سجودهم و إباء إبليس، و غروره آدم و زوجته، و خروجهما من الجنة.

و ما قضى الله في ذلك من القضاء.

قوله تعالى: "و لقد مكناكم في الأرض و جعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون" التمكين في الأرض هو الإسكان و الإيطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض، و يمكن أن يكون من التمكين بمعنى الإقدار و التسليط، و يؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم و إبليس و قد بدئت الآيات فيها بقوله: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا": البقرة: 29، و هو التسليط و التسخير.

غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين" كان المعنى الأول هو الأنسب و قوله: "و لقد مكناكم في الأرض إلخ كالإجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة.

و المعايش جمع معيشة و هي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها، و الآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلط و الاستيلاء عليها، و جعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، و لذلك ختم الكلام بقوله: "قليلا ما تشكرون.

قوله تعالى: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" صورة قصة تبتدىء من هذه الآية إلى تمام خمس عشرة آية يفصل فيها إجمال الآية السابقة و تبين فيها العلل و الأسباب التي انتهت إلى تمكين الإنسان في الأرض المدلول عليه بقوله: "و لقد مكناكم في الأرض و جعلنا لكم فيها معايش".

و لذلك بدىء الكلام في قوله: "و لقد خلقناكم" إلخ بلام القسم، و لذلك أيضا سيقت القصتان أعني قصة الأمر بالسجدة، و قصة الجنة في صورة قصة واحدة من غير أن تفصل القصة الثانية بما يدل على كونها قصة مستقلة كل ذلك ليتخلص إلى قوله: "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر" إلى آخر الآيتين فينطبق التفصيل على إجمال قوله: "و لقد مكناكم في الأرض" الآية.

و قوله: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم" الخطاب فيه لعامة الآدميين و هو خطاب امتناني كما مر نظيره في الآية السابقة لأن المضمون هو المضمون و إنما يختلفان بالإجمال و التفصيل.

و على هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص أعني قوله: "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" بعد قوله: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم" يفيد بيان حقيقتين: الأولى: أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانية و إن كان آدم (عليه السلام) هو القبلة المنصوبة للسجدة فهو (عليه السلام) في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الإنسانية نائبا مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجودا له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجه إليها في العبادات، و تمثل بها ناحية الربوبية.



و يستفاد هذا المعنى أولا من قصة الخلافة المذكورة في سورة البقرة آية 30 - 33 فإن المستفاد من الآيات هناك أن أمر الملائكة بالسجدة متفرع على الخلافة، و الخلافة المذكورة في الآيات كما استفدناه هناك - غير مختصة بآدم بل جارية في عامة الآدميين فالسجدة أيضا للجميع.

و ثانيا: أن إبليس تعرض لهم أي لبني آدم ابتداء من غير توسيط آدم و لا تخصيصه (عليه السلام) بالتعرض حين قال على ما حكاه الله سبحانه: "فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم" إلخ من غير سبق ذكر لبني آدم، و قد ورد نظيره في سورة الحجر حيث قال: "رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39، و في سورة ص حيث قال: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين": ص: 82، و لو لا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء و هو ظاهر.

و ثالثا: أن الخطابات التي خاطب الله سبحانه بها آدم (عليه السلام) كما في سورة البقرة و سورة طه عممها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه، قال تعالى: "يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم" إلخ.

و الحقيقة الثانية: أن خلق آدم (عليه السلام) كان خلقا للجميع كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين": السجدة: 8 و قوله: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة": المؤمن: 67، على ما هو ظاهر الآيتين أن المراد بالخلق من تراب هو الذي كان في آدم (عليه السلام).

و يشعر بذلك أيضا قول إبليس في ضمن القصة على ما حكاه الله سبحانه في سورة إسراء: "لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا" الآية، و لا يخلو عن إشعار به أيضا قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم" الآيات: الأعراف: 172 على ما سيجيء من بيانه.

و للمفسرين في الآية أقوال مختلفة قال في مجمع البيان،: ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم" قال الأخفش: "ثم" هاهنا في معنى الواو، و قال الزجاج: و هذا خطأ لا يجوزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعلمه إنما "ثم" للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، و إنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتدأ خلق آدم من التراب ثم وقعت السورة بعد ذلك فهذا معنى خلقناكم ثم صورناكم "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" بعد الفراغ من خلق آدم، و هذا مروي عن الحسن، و من كلام العرب: فعلنا بكم كذا و كذا و هم يعنون أسلافهم، و في التنزيل: "و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور" أي ميثاق أسلافكم.

و قد قيل في ذلك أقوال أخر: منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و قتادة و السدي.

و منها: أن الترتيب واقع في الإخبار فكأنه قال: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل: أنا راجل ثم أنا مسرع، و هذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى و القاضي أبو سعيد السيرافي و غيرهما، و على هذا فقد قيل: إن المعنى: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة و قيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع و البصر و سائر الأعضاء انتهى.



أما ما نقله عن الزجاج من الوجه ففيه أولا أن نسبة شيء من صفات السابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم إنما تصح إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك كما فيما أورده من المثال لا بمجرد علاقة النسب و السبق و اللحوق حتى يصح بمجرد الانتساب النسلي أن تعد خلقة نفس آدم خلقا لبنيه من غير أن يكون خلقه خلقا لهم بوجه.

و ثانيا: أن ما ذكره لو صح به أن يعد خلق آدم و تصويره خلقا و تصويرا لبنيه صح أن يعد أمر الملائكة بالسجدة له أمرا لهم بالسجدة لبنيه كما جرى على ذلك في قوله: "و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور" فما باله قال: "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" و لم يقل: "ثم قلنا للملائكة اسجدوا للإنسان".

و أما ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية، و لعل القائلين بها لا يرضون أن يتأول في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام؟.

قوله تعالى: "فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين" أخبر تعالى عن سجود الملائكة جميعا كما يصرح به في قوله: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون": الحجر: 30، و استثنى منهم إبليس و قد علل عدم ائتماره بالأمر في موضع آخر بقوله: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50، و قد وصف الملائكة بمثل قوله: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء: 27، و هو بظاهره يدل على أنه من غير نوع الملائكة.

و لهذا وقع الخلاف بينهم في توجيه هذا الاستثناء: أ هو استثناء متصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر و أشرف أو أنه استثناء منفصل و إنما أمر بأمر على حدة غير الأمر المتوجه إلى جمع الملائكة و إن كان ظاهر قوله: "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك" أن الأمر لم يكن إلا واحدا و هو الذي وجهه الله إلى الملائكة.

و الذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أن إبليس كان مع الملائكة من غير تميز له منهم و المقام الذي كان يجمعهم جميعا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصة ذكر الخلافة "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك": البقرة: 30، و إن الأمر بالسجود إنما كان متوجها إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: "قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" و الضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنة و مآلهما إلى المنزلة و المقام و لو كان الخطاب متوجها إليهم من غير دخل المنزلة و المقام في ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: "فما يكون لك أن تتكبر".

و على هذا لم يكن بينه و بين الملائكة فرق قبل ذلك؟ و عند ذلك تميز الفريقان، و بقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم و منزلتهم التي حلوا فيها، و هو الخضوع العبودي و الامتثال كما حكاه الله عنهم: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون فهذه حقيقة حياة الملائكة و سنخ أعمالهم، و قد بقوا على ذلك و خرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه" و الفسق خروج التمرة عن قشرها فتميز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلا الخروج من الكرامة الإلهية و طاعة العبودية.



و القصة و إن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا و تضمنت أمرا و امتثالا و تمردا و احتجاجا و طردا و رجما و غير ذلك من الأمور التشريعية و المولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن إبليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الإنسانية فتفرعت عليه المعصية، و يشعر به قوله تعالى: "فما يكون لك أن تتكبر فيها" فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه و هبوطه إلى ما هو دونه.

على أن الأمر بالسجود - كما عرفت - أمر واحد توجه إلى الملائكة و إبليس جميعا بعينه، و الأمر المتوجه إلى الملائكة ليس من شأنه أن يكون مولويا تشريعيا بمعنى الأمر المتعلق بفعل يتساوى نسبة مأمورة إلى الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاوة فإن الملائكة مجبولون على الطاعة مستقرون في مقر السعادة كما أن إبليس واقع في الجانب المخالف لذلك على ما ظهر من أمره بتوجيه الأمر إليه.

فلو لا أن الله سبحانه خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس جميعا بالسجود له لكان إبليس على ما كان عليه من منزلة القرب غير متميز من الملائكة لكن خلق الإنسان شق المقام مقامين: مقام القرب و مقام البعد، و ميز السبيل سبيلين: سبيل السعادة و سبيل الشقاوة.

قوله تعالى: "قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" يريد ما منعك أن تسجد كما وقع في سورة ص من قوله: "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي": ص: 75، و لذلك ربما قيل: إن "لا" زائدة جيء بها للتأكيد كما في قوله: "لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله": الحديد: 29.

و الظاهر أن "منع" مضمن نظير معنى حمل أو دعا، و المعنى: ما حملك أو ما دعاك على أن لا تسجد مانعا لك.

و قوله: "قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" يحكي عما أجاب به لعنه الله، و هو أول معصيته و أول معصية عصي بها الله سبحانه فإن جميع المعاصي ترجع بحسب التحليل إلى دعوى الإنية و منازعة الله سبحانه في كبريائه، و له رداء الكبرياء لا شريك له فيه، فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته و يقول: أنا قبال الإنية الإلهية التي عنت له الوجود، و خضعت له الرقاب، و خشعت له الأصوات، و ذل له كل شيء.

و لو لم تنجذب نفسه إلى نفسه، و لم يحتبس نظره في مشاهدة إنيته لم يتقيد باستقلال ذاته، و شاهد الإله القيوم فوقه فذلت له إنيته ذلة تنفي عنه كل استقلال و كبرياء فخضع للأمر الإلهي، و طاوعته نفسه في الائتمار و الامتثال، و لم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراءى من كونه خيرا منه لأنه من النار و هو من الطين بل انجذبت نفسه إلى الأمر الصادر عن مصدر العظمة و الكبرياء و منبع كل جمال و جلال.

و كان من الحري إذا سمع قوله: "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك" أن يأتي بما يطابقه من الجواب كأن يقول: منعني أني خير منه لكنه أتى بقوله: "أنا خير منه" ليظهر به الإنية، و يفيد الثبات و الاستمرار، و يستفاد منه أيضا أن المانع له من السجدة ما يرى لنفسه من الخيرية فقوله: "أنا خير منه" أظهر و آكد في إفادة التكبر.

و من هنا يظهر أن هذا التكبر هو التكبر على الله سبحانه دون التكبر على آدم.



ثم إنه في قوله: "أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" استدل على كونه خيرا من آدم بمبدإ خلقته و هو النار و أنها خير من الطين الذي خلق منه آدم و قد صدق الله سبحانه ما ذكره من مبدإ خلقته حيث ذكر أنه كان من الجن، و أن الجن مخلوق من النار قال تعالى: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50 و قال: "و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون و الجان خلقناه من قبل من نار السموم": الحجر: 27، و قال أيضا: "خلق الإنسان من صلصال كالفخار و خلق الجان من مارج من نار": الرحمن: 15.

لكنه تعالى لم يصدقه فيما ذكره من خيريته منه فإنه تعالى و إن لم يرد عليه قوله "أنا خير منه خلقتني من نار" إلخ، في هذه السورة إلا أنه بين فضل آدم عليه و على الملائكة في حديث الخلافة الذي ذكره في سورة البقرة للملائكة.

على أنه تعالى ذكر القصة في موضع آخر بقوله: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر و كان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" إلخ:، ص: 76.

فبين أولا أنهم لم يدعوا إلى السجود له لمادته الأرضية التي سوي منها، و إنما دعوا إلى ذلك لما سواه و نفخ فيه من روحه الخاص به تعالى الحاملة للشرف كل الشرف و المتعلقة لتمام العناية الربانية، و يدور أمر الخيرية في التكوينيات مدار العناية الإلهية لا لحكم من ذواتها فلا حكم إلا لله.

ثم بين ثانيا لما سأله عن سبب عدم سجوده بقوله: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" أنه تعالى اهتم بأمر خلقته كل الاهتمام و اعتنى به كل الاعتناء حيث خلقه بكلتا يديه بأي معنى فسرنا اليدين، و هذا هو الفضل فأجاب لعنه الله بقوله: "أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" فتعلق بأمر النار و الطين، و أهمل أمر تكبره على ربه كما أنه في هذه السورة سئل عن سبب تكبره على ربه إذ قيل له: "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك" فتعلق بقوله: "أنا خير منه" إلخ، و لم يعتن بما سئل عنه أعني السبب في تكبره على ربه إذ لم يأتمر بأمره.

بلى قد اعتنى به إذ قال: "أنا خير منه" فأثبت لنفسه استقلال الإنية قبال الإنية الإلهية التي قهرت كل شيء فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى و وجد نفسه مثل ربه و أن له استقلالا كاستقلاله، و أوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال أمره لأنه الله بل اشتغل بالمرجحات فوجد الترجيح للمعصية على الطاعة و للتمرد على الانقياد و ليس إلا أن تكبره بإثبات الإنية المستقلة لنفسه أعمى بصره فوجد مادة نفسه و هي النار خيرا من مادة نفس آدم و هي الطين فحكم بأنه خير من آدم، و لا ينبغي للفاضل أن يخضع بالسجود لمفضوله، و إن أمر به الله سبحانه لأنه يسوي بنفسه نفس ربه بما يرى لنفسه من استقلال و كبرياء كاستقلاله فيترك الآمر و يتعلق بالمرجحات في الأمر.

و بالجملة هو سبحانه الله الذي منه يبتدىء كل شيء و إليه يرجع كل شيء فإذا خلق شيئا و حكم عليه بالفضل كان له الفضل و الشرف واقعا بحسب الوجود الخارجي و إذا خلق شيئا ثانيا و أمره بالخضوع للأول كان وجوده ناقصا مفضولا بالنسبة إلى ذلك الأول فإن المفروض أن أمره إما نفس التكوين الحق أو ينتهي إلى التكوين فقوله الحق و الواجب في امتثال أمره أن يمتثل لأنه أمره لا لأنه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير و النفع حتى يعزل عن ربوبيته و مولويته و يعود زمام الأمر و التأثير إلى المصالح و الجهات، و هي التي تنتهي إلى خلقه و جعله كسائر الأشياء من غير فرق.



فجملة ما تدل عليه آيات القصة أن إبليس إنما عصى و استحق الرجم بالتكبر على الله في عدم امتثال أمره، و أن الذي أظهر به تكبره هو قوله: "أنا خير منه" و قد تكبر فيه على ربه كما تقدم بيانه و إن كان ذلك تكبرا منه على آدم حيث إنه فضل نفسه عليه و استصغر أمره و قد خصه الله بنفسه و أخبرهم بأنه أشرف منهم في حديث الخلافة و في قوله: "و نفخت فيه من روحي" و قوله: "خلقت بيدي" إلا أن العناية في الآيات باستكباره على الله لا استكباره على آدم.

و من الدليل على ذلك قوله تعالى: "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50 حيث لم يقل: فاستنكف عن الخضوع لآدم بل إنما ذكر الفسق عن أمر الرب تعالى.

فتلخص أن آيات القصة إنما تعتني بمسألة استعلائه على ربه، و أما استكباره على آدم و ما احتج به على ذلك فذلك من المدلول عليه بالتبع، و الظاهر أنه هو السر في عدم التعرض للجواب عن حجته صريحا إلا ما يؤمي إليه بعض أطراف الكلام كقوله: "خلقت بيدي" و قوله: "و نفخت فيه من روحي" و غير ذلك.

فإن قلت: القول بكون الأمر بالسجود تكوينيا ينافي ما تنص عليه الآيات من معصية إبليس فإن القابل للمعصية و المخالفة إنما هو الأمر التشريعي و أما الأمر التكويني فلا يقبل المعصية و التمرد البتة فإنه كلمة الإيجاد الذي لا يتخلف عنه الوجود قال: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون": النحل: 40.

قلت: الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر و الامتثال و التمرد و الطرد و غير ذلك و إن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الإنسان و الملائكة و إبليس فهي في الحقيقة تبين ما عليه خلق الملائكة و إبليس و هما مرتبطان بالإنسان، و ما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان و شقائه، و هذا غير كون الأمر تكوينيا.

فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد و تمام القابلية فاستخلصه لنفسه و خصه بمزيد عنايته، و جعله خليفته في مملكته مقدما له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه و العمل بين يديه فلباه في دعوته و امتثال أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك و أقرهم على مكانتهم، و استكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا و أغزر عملا فغضب عليه و طرده عن نفسه و ضرب عليه الذلة و الصغار لأن الملك إنما يطاع ملك بيده زمام الأمر و إليه إصدار الفرامين و الدساتير، و ليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير و الرشد.

و بالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك - أعم من المطيع و العاصي - كانوا متفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة و حظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين و يتفرقون طائفتين: طائفة مطيعة مؤتمرة، و أخرى عاصية مستكبرة و تظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة و وجوه قدرته و صور إرادته من رحمة و غضب و تقريب و تبعيد و عفو و مغفرة و أخذ و انتقام و وعد و وعيد و ثواب و عقاب، و الحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة.



فقصة سجود الملائكة و إباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق و الأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة و نعمة الخلافة و كرامة الولاية تشريفا أخضع له الملائكة و أبعد منه إبليس لمضادة جوهر السعادة الإنسانية فصار يفسد الأمر عليه كلما مسه و يغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله.

و قد عبر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله: "فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين": حم السجدة: 11، و قوله: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها": الأحزاب: 72 و أشمل من الجميع قوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس: 82.

فإن قلت: رفع اليد عن ظاهر القصة و حملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى، و لا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ و المعاد بل و القصص و العبر و الشرائع على الأمثال، و في تجويز ذلك إبطال للدين.

قلت: إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها و على صراحتها و نصوصيتها كالمعارف الأصلية و الاعتقادات الحقة و قصص الأنبياء و الأمم في دعواتهم الدينية و الشرائع و الأحكام و ما تستتبعه من الثواب و العقاب و نظائر ذلك، و ربما دل الدليل و قامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها، و مثل قصة الذر و عرض الأمانة و غير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين، و لا يخالف آية محكمة و لا سنة قائمة و لا برهانا يقينيا.

و الذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج: "أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين" من القياس و هو استدلال ظني لا يعبأ به في سوق الحقائق، و قد ذكر المفسرون وجوها كثيرة في الرد عليه لكنك عرفت أن القرآن لم يعتن بأمره، و إنما أخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلا الانقياد و التذلل، و لذلك أغمضنا عن التعرض لما ذكروه.

قوله تعالى: "قال اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" التكبر هو أخذ الإنسان مثلا الكبر لنفسه و ظهوره به على غيره فإن الكبر و الصغر من الأمور الإضافية، و يستعمل في المعاني غالبا فإذا أظهر الإنسان بقول أو فعل أنه أكبر من غيره شرفا أو جاها أو نحو ذلك فقد تكبر عليه و عده صغيرا، و إذ كان لا شرف و لا كرامة لشيء على شيء إلا ما شرفه الله و كرمه كان التكبر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر و المذلة في أنفسهم من غير فرق بين شيء و شيء و لا كرامة إلا بالله و من قبله، فليس لأحد من دون الله أن يتكبر على أحد، و إنما هو صفة خاصة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الإطلاق فمن التكبر ما هو حق محمود و هو الذي لله عز اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبر على أعداء الله الذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله، و منه ما هو باطل مذموم و هو الذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحق.



و الصاغرين جمع صاغر من الصغار و هو الهوان و الذلة، و الصغار في المعاني كالصغر في الصور، و قوله: "فاخرج إنك من الصاغرين" تفسير و تأكيد لقوله "فاهبط منها" لأن الهبوط هو خروج الشيء من مستقره نازلا فيدل ذلك على أن الهبوط المذكور إنما كان هبوطا معنويا لا نزولا من مكان جسماني إلى مكان آخر، و يتأيد به ما تقدم أن مرجع الضمير في قوله: "منها" و قوله: "فيها" هو المنزلة دون السماء أو الجنة إلا أن يرجعا إلى المنزلة بوجه.

و المعنى: قال الله تعالى: فتنزل عن منزلتك حيث لم تسجد لما أمرتك فإن هذه المنزلة منزلة التذلل و الانقياد لي فما يحق لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين أهل الهوان، و إنما أخذ بالصغار ليقابل به التكبر.

قوله تعالى: "قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين" استمهال و إمهال، و قد فصل الله تعالى ذلك في موضع آخر بقوله: "قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم": الحجر: 38، ص: 81، و منه يعلم أنه أمهل بالتقييد لا بالإطلاق الذي ذكره فلم يمهل إلى يوم البعث بل ضرب الله لمهلته أجلا دون ذلك و هو يوم الوقت المعلوم، و سيجيء الكلام فيه في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

فقوله تعالى: "إنك من المنظرين" إنما يدل على إجمال ما أمهل به، و فيه دلالة على أن هناك منظرين غيره.

و استمهاله إلى يوم البعث يدل على أنه كان من همه أن يديم على إغواء هذا النوع في الدنيا و في البرزخ جميعا حتى تقوم القيامة فلم يجبه الله سبحانه إلى ما استدعاه بل لعله أجابه إلى ذلك إلى آخر الدنيا دون البرزخ فلا سلطان له في البرزخ سلطان الإغواء و الوسوسة و إن كان ربما صحب الإنسان بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج و القرين كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: "و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين و إنهم ليصدونهم عن السبيل و يحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين و لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون": الزخرف: 39، و ظاهر قوله: "احشروا الذين ظلموا و أزواجهم": الصافات: 22.

قوله تعالى: "قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم" إلى آخر الآية.

الإغواء هو الإلقاء في الغي و الغي و الغواية هو الضلال بوجه و الهلاك و الخيبة، و الجملة أعني قوله: "أغويتني" و إن فسر بكل من هذه المعاني على اختلاف أنظار المفسرين غير أن قوله تعالى في سورة الحجر فيما حكاه عنه: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين" يؤيد أن مراده هو المعنى الأول، و الباء في قوله: "فبما" للسببية أو المقابلة، و المعنى: فبسبب إغوائك إياي أو في مقابلة إغوائك إياي لأقعدن لهم إلخ، و قد أخطأ من قال: إنها للقسم و كان القائل أراد أن يطبقه على قوله تعالى في موضع آخر حكاية عنه: "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين": ص: 82.

و قوله: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم و سبيلك السوي الذي يوصلهم إليك و ينتهي بهم إلى سعادتهم لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه و الترصد لعابريه ليخرجهم منه.

و قوله: "ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم" بيان لما يصنعه بهم و قد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم، و هو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة.



و إذ كان الصراط المستقيم الذي كمن لهم قاعدا عليه أمرا معنويا كانت الجهات التي يأتيهم منها معنوية لا حسية و الذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهاد كقوله تعالى: يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": النساء: 120، و قوله: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه": آل عمران: 175 و قوله: "و لا تتبعوا خطوات الشيطان": البقرة: 168، و قوله: "الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء": البقرة 268 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة هو أن المراد مما بين أيديهم ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم مما يتعلق به الآمال و الأماني من الأمور التي تهواه النفوس و تستلذه الطباع، و مما يكرهه الإنسان و يخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله أو ذم الناس و لومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير و الثواب.

و المراد بخلقهم ناحية الأولاد و الأعقاب فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد آمال و أماني و مخاوف و مكاره فإنه يخيل إليه أنه يبقى ببقائهم فيسره ما يسرهم و يسوؤه ما يسوؤهم فيجمع المال من حلاله و حرامه لأجلهم، و يعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك نفسه في سبيل حياتهم.

و المراد باليمين و هو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم و هو الدين و إتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية، و التكلف بما لم يأمرهم به الله و هو الذي يسميه الله تعالى باتباع خطوات الشيطان.

و المراد بالشمال خلاف اليمين، و إتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء و المنكر و يدعوهم إلى ارتكاب المعاصي و اقتراف الذنوب و اتباع الأهواء.

قال الزمخشري في الكشاف،: فإن قلت: كيف قيل: "من بين أيديهم و من خلفهم" بحرف الابتداء، و "عن أيمانهم و عن شمائلهم" بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا و كانت لغة تؤخذ و لا تقاس، و إنما يبحث عن صحة موقعها فقط.

فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه و على يمينه و جلس عن شماله و على شماله قلنا: معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، و معنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي و غيره كما ذكرنا في "تعال"، انتهى موضع الحاجة.

و قوله تعالى: "و لا تجد أكثرهم شاكرين" نتيجة ما ذكره من صنعه بهم بقوله: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم" إلخ، و قد وضع في ما حكاه الله من كلامه في غير هذا الموضع بدل هذه الجملة أعني "و لا تجد أكثرهم شاكرين" جملة أخرى قال: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا": إسراء: 62 فاستثنى من وسوسته و إغوائه القليل مطابقا لما في هذه السورة، و قال: "لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": الحجر: 40، ص: 83.

و منه يظهر أنه إنما عنى بالشاكرين في هذا الموضع المخلصين، و التأمل الدقيق في معنى الكلمتين يرشد إلى ذلك فإن المخلصين - بفتح اللام - هم الذين أخلصوا لله فلا يشاركه فيهم أي في عبوديتهم و عبادتهم سواه، و لا نصيب فيهم لغيره، و لا يذكرون إلا ربهم و قد نسوا دونه كل شيء حتى أنفسهم فليس في قلوبهم إلا هو سبحانه، و لا موقف فيها للشيطان و لا لتزييناته.

و الشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الإطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها و يتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شيء - أعم من أنفسهم و غيرهم - إلا و هم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه و معه و بعده، و أنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الأمر شيء فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله، و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.



فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين، و استثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه و إضلاله جرى منه على حقيقة الأمر اضطرارا و لم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.

فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة و العظمة أعني قوله: "فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم - إلى قوله - و لا تجد أكثرهم شاكرين" فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة، و يفسد الأمر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم، و لم يبين نحو فعله و كيفية صنعه.

لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين: إحداهما: أن الغواية التي تمكنت في نفسه و هو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لإضلاله و إغوائه لهم أي إنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه، و هذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى: "احشروا الذين ظلموا و أزواجهم - إلى أن قال - و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - إلى أن قال - فأغويناكم إنا كنا غاوين": الصافات: 32.

و الثانية: أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم - و هو نوع عمله و صنعه - هو الشعور الإنساني و تفكره الحيوي المتعلق بتصورات الأشياء و التصديق بما ينبغي فعله أو لا ينبغي، و سيجيء تفصيله في الكلام في إبليس و عمله.

قوله تعالى: "قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك" إلخ المذءوم من ذامه يذامه و يذيمه إذا عابه و ذمه، و المدحور من دحره إذا طرده و دفعه بهوان.

و قوله: "لمن تبعك منهم" إلخ، اللام للقسم و جوابه هو قوله: "لأملأن جهنم" إلخ، لما كان مورد كلام إبليس - و هو في صورة التهديد بالانتقام - هو بني آدم و أنه سيبطل غرض الخلقة فيهم و هو كونهم شاكرين أجابه تعالى بما يفعل بهم و به فقال: "لمن تبعك منهم" محاذاة لكلامه ثم قال: "لأملأن جهنم منكم أجمعين" أي منك و منهم فأشركه في الجزاء معهم.

و قد امتن تعالى في كلمته هذه التي لا بد أن تتم فلم يذكر جميع من تبعه بل أتى بقوله: "منكم" و هو يفيد التبعيض.

قوله تعالى: "و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة" إلى آخر الآية.

خص بالخطاب آدم (عليه السلام) و ألحق به في الحكم زوجته، و قوله: "فكلا من حيث شئتما" توسعة في إباحة التصرف إلا ما استثناه بقوله: "و لا تقربا هذه الشجرة" و الظلم هو الظلم على النفس دون معصية الأمر المولوي فإن الأمر إرشادي.

قوله تعالى: "فوسوس لهما الشيطان" إلى آخر الآية.

الوسوسة هي الدعاء إلى أمر بصوت خفي، و المواراة ستر الشيء بجعله وراء ما يستره، و السوآة جمع السوأة و هي العضو الذي يسوء الإنسان إظهاره و الكشف عنه، و قوله: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين" إلخ، أي إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.

و الملك و إن قرىء بفتح اللام إلا أن فيه معنى الملك - بالضم فالسكون - و الدليل عليه قوله في موضع آخر: "قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى": طه: 120.



و نقل في المجمع، عن السيد المرتضى رحمه الله احتمال أن يكون المراد بقوله: "إلا أن تكونا ملكين" إلخ، أنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة و الخالدون دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا، و إنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك، و هذا أوكد في الشبهة و اللبس عليهما انتهى.

لكن آية سورة طه المنقولة آنفا تدفعه.

قوله تعالى: "و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين" المقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما و أغلظ في حلفه إنه لهما لمن الناصحين، و النصح خلاف الغش.

قوله تعالى: "فدلاهما بغرور إلى آخر الآية.

التدلية التقريب و الإيصال كما أن التدلي الدنو و الاسترسال، و كأنه من الاستعارة من دلوت الدلو أي أرسلتها، و الغرور إظهار النصح مع إبطان الغش، و الخصف الضم و الجمع، و منه خصف النعل.

و في قوله: "و ناداهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة" دلالة على أنهما عند توجه هذا الخطاب كانا في مقام البعد من ربهما لأن النداء هو الدعاء من بعد، و كذا من الشجرة بدليل قوله: "تلكما الشجرة" بخلاف قوله عند أول ورودهما الجنة: "و لا تقربا هذه الشجرة".

قوله تعالى: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين" هذا منهما نهاية التذلل و الابتهال، و لذلك لم يسألا شيئا و إنما ذكرا حاجتهما إلى المغفرة و الرحمة و تهديد الخسران الدائم المطلق لهما حتى يشاء الله ما يشاء.

قوله تعالى: "قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو" إلى آخر الآية، كان الخطاب لآدم و زوجته و إبليس، و عداوة بعضهم لبعض هو ما يشاهد من اختلاف طبائعهم، و هذا قضاء منه تعالى و القضاء الآخر قوله: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين أي إلى آخر الحياة الدنيوية، و ظاهر السياق أن الخطاب الثاني أيضا يشترك فيه الثلاثة.

قوله تعالى: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون" قضاء آخر يوجب تعلقهم بالأرض إلى حين البعث، و ليس من البعيد أن يختص هذا الخطاب بآدم و زوجته و بنيهما، لما فيه من الفصل بلفظة "قال" و قد مر تفصيل الكلام في قصة الجنة في سورة البقرة فليراجعها من شاء.

كلام في إبليس و عمله

عاد موضوع "إبليس" موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا و نلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية و وساوسه و نزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، و ما له من عجيب التصرف و الولاية في العالم الإنساني.

و كيف لا و هو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله و ينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، و هو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته و سره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته لا يحجبه عنه حاجب، و لا يغفل عنه بشغل شاغل.



و أما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك و بنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، و هي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامية لأول مرة تلقوا الكلام الإلهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة، خاصة و التحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، و الاشتغال بإحصاء إشكالات القصة و تقرير السؤال و الجواب بالوجه بعد الوجه.

لم خلق الله إبليس و هو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة و ليس منهم؟ لم أمره بالسجدة و هو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة و أغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل و رجل و سلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ و لم لم يكتم أسرار خلقه آدم و بنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ و كيف جازت المشافهة بينه و بين الله سبحانه و هو أبعد الخليقة منه و أبغضهم إليه و لم يكن بنبي و لا ملك؟ فقيل بمعجزة و قيل: بإيجاد آثار تدل على المراد، و لا دليل على شيء من ذلك.

ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ و كيف جاز وقوع الوسوسة و الكذب و المعصية هناك و هي مكان الطهارة و القدس؟ و كيف صدقه آدم و كان قوله مخالفا لخبر الله؟ و كيف طمع في الملك و الخلود و ذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ و كيف جازت منه المعصية و هو نبي معصوم؟ و كيف قبلت توبته و لم يرد إلى مقامه الأول و التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ و كيف...؟ و كيف...؟.

و قد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي و استرسالهم في الجدال إشكالا و جوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي و القصة تخييلية محضة و اختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.

و ذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح و الشنائع إليه تعالى و أن جميع المعاصي من فعله، و أنه يخلق الشر و القبيح فيفسد ما يصلحه، و أن الحسن هو الذي أمر به و القبيح هو الذي نهى عنه، و آخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، و آخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا، و آخرون: إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة و قصة الجنة قبل بعثة آدم، و آخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان و اختبار و لم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون و يهلك به الأكثرون، و لو لا وجود ملاك يحسم مادة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعهم.

و الذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث و يختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، و لم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، و حكموا في ناحية التكوين غالبا الأصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات و الاجتماعيات.



و الذي يجب تحريره و تنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات: الأولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد في نفسه - أعني وجوده النفسي من غير إضافة - لا يكون إلا خيرا و لا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدىء من الله و يرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر و القبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها و سعادتها، و هذه هي الإضافة المذكورة.

و لذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها و ذلك قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة : 7، و قوله: "تبارك الله رب العالمين": الأعراف: 54، و قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44.

و الثانية: أن عالم الصنع و الإيجاد على كثرة أجزائه و سعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، و إصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود و هو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي و التضاد أو بالكمال و النقص و الوجدان و الفقدان و النيل و الحرمان، و لو لا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه و لا اختلاف و يبطل بذلك الوجود قال تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50.

فلو لا الشر و الفساد و التعب و الفقدان و النقص و الضعف و أمثالها في هذا العالم لما كان للخير و الصحة و الراحة و الوجدان و الكمال و القوة مصداق، و لا عقل منها معنى لأنا إنما نأخذ المعاني من مصاديقها.

و لو لا الشقاء لم تكن سعادة، و لو لا المعصية لم تتحقق طاعة، و لو لا القبح و الذم لم توجد حسن و لا مدح، و لو لا العقاب لم يحصل ثواب، و لو لا الدنيا لم تتكون آخرة.

فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، و مع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل، و مع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعة و لا مفهوم لها كما عرفت.

و مع بطلان الطاعة و المعصية يبطل المدح و الذم المتعلق بهما و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير ثم الدين و الشريعة و الدعوة ثم النبوة و الرسالة ثم الاجتماع و المدنية ثم الإنسانية ثم كل شيء، و على هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.

و من هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر و المعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجري على سنة الاختيار و يقصد سعادة النوع.

و هو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، و من المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه الحافة به فلو لا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك و تذكر قوله تعالى: "قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم": الأعراف: 16، و قوله "قال: هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42.



إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني و الملائكة و إبليس عبر عنها بالأمر و الامتثال و الاستكبار و الطرد و الرجم و السؤال و الجواب، و أن جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض من تنبه لوجه الصواب و أنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان و الملك و الشيطان ذكر أن الأمر و النهي - يريد أمر إبليس بالسجدة و نهي آدم عن أكل الشجرة - تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، و ذهل عن أن الأمر و النهي التكوينيين لا يقبلان التخلف و المخالفة، و قد خالف إبليس الأمر و خالف آدم النهي.

الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها - على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة - ينبىء عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، و أدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الأرضية، و يغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض، و يتربى في حجر الأمر و النهي فيستحق السعادة و الجنة بالطاعة، و إن كان دون ذلك فدون ذلك، و لا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب و ينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.

و بذلك ينكشف أن لا شيء من الإشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبدا، و لا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع و يحكم فيها الأمر و النهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم (عليه السلام) بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له و لا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.

رجعنا إلى أول الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا و هو قوله تعالى: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50، و ما حكاه عنه في كلامه: "خلقتني من نار" فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن و أما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.

نعم هناك آيات واصفة لصنعه و عمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين": الأعراف: 17.

فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف و رجاء و أمنية و أمل و شهوة و غضب ثم في أفكارهم و إرادتهم المنبعثة منها.

كما يقارنه في المعنى قوله: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39، أي لأزينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف و زينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها و لأغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان و تزينه في نظره الشهوة و يضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، و نظير ذلك قوله "يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": النساء: 120، و قوله: "فزين لهم الشيطان أعمالهم": النحل: 63.

كل ذلك - كما ترى - يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني و وسيلة عمله العواطف و الإحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة و الأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله: "الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس": الناس: 5.



لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الأفكار و الأوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشيء كما في سائر أفكاره و آرائه التي لا تتعلق بعمل و غيره كقولنا: الواحد نصف الاثنين و الأربعة زوج و أمثال ذلك.

فالإنسان هو الذي يوجد هذه الأفكار و الأوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه و يخطرها بباله من غير تزاحم، و لو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، و لانتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم و الترجيح و الإرادة له لا لنا، و لم يترتب على الفعل لوم و لا ذم و لا غيره، و قد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: "و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم: 22، فنسب الفعل و الظلم و اللوم إليهم و سلبها عن نفسه، و نفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة و الوعد الكاذب كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42 فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع و نظيره قوله تعالى: "قال قرينة ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد": ق: 27.

و بالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان و انتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.

فله أن يتصرف في الإدراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور و التزيين فيضع الباطل مكان الحق و يظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشيء إلا من وجهه الباطل الذي يغره و يصرفه عن الحق، و هذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق و يلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفادة ذلك من قوله المحكي: "فبما أغويتني لأقعدن لهم": الأعراف: 16، و قوله: "رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39.

و يؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق، و هو الأصل الذي ينتهي و يحلل إليه كل ذنب قال تعالى: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس و الجن لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون": الأعراف: 179.

فاستقلال الإنسان بنفسه و غفلته عن ربه و جميع ما يتفرع عليه من سيىء الاعتقاد و رديء الأوهام و الأفكار التي يرتضع عنها كل شرك و ظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين أن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد و لا عمل إلا صبغه بها.

و هذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان و تدبيره و تصرفه من غير أن يتنبه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه قال تعالى: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون": الأعراف: 27.



و ولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي و المظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات و القربات، قال تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا": حم السجدة: 31، و الله من ورائهم محيط و هو الولي لا ولي سواه قال تعالى: "ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع": السجدة: 4.

و هذا هو الاحتناك أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي إلى قوله لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": إسراء: 64، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم و يتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان و جماح.

و يظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به و يساعدونه على ما يريد و هو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم" و هؤلاء و إن بلغوا من كثرة العدد و تفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: "لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39، و غيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": السجدة: 11، ثم قال: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون": الأنعام 61 إلى غير ذلك.

و تدل الآية: "الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس": الناس: 6 على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة و بعضهم من الإنس و يدل قوله: "أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو": الكهف: 50، أن له ذرية هم من أعوانه و جنوده لكن لم يفصل كيفية انتشاء ذريته منه.

كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: "و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" في الآية المتقدمة، و هو الاختلاف من جهة الشدة و الضعف و سرعة العمل و بطئه فإن الفارق بين الخيل و الرجل هو السرعة في اللحوق و الإدراك و عدمها.

و هناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، و هو الاجتماع عليه و الانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و أعوذ بك رب أن يحضرون": المؤمنون: 98، و لعل قوله تعالى: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع و أكثرهم كاذبون": الشعراء: 223 من هذا الباب.

فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور و إرادة يدعو إلى الشر و يسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان و حينئذ تميز منهم و وقع في جانب الشر و الفساد، و إليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و ميله إلى جانب الشقاء و الضلال، و وقوعه في المعصية و الباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك و إرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة و منزل الكمال و القرب، و أن لإبليس أعوانا من الجن و الإنس و ذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا و ما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، و تزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.



و هم يتصرفون في قلب الإنسان و في بدنه و في سائر شئون الحياة الدنيا من أموال و بنين و غير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا و انفرادا، و سرعة و بطءا، و بلا واسطة و مع الواسطة و الواسطة ربما كانت خيرا أو شرا و طاعة أو معصية.

و لا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم و لا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه و لا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان و لا ذواتهم و أعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن و أنهم مخلوقون من النار، و كأن أول وجوده و آخره مختلفان.

بحث عقلي و قرآني مختلط

قال في روح المعاني،: و قد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة و بين إبليس بعد هذه الحادثة، و قد ذكرت في التوراة، و هي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي و موجدي لكن لي على حكمه أسئلة: الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟. الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر، و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟ الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني و أوجب عقابي مع أنه لا فائدة له و لا لغيره فيه و لي فيه أعظم الضرر؟. الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟. السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني و معلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا؟. قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة و الكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل، انتهى.

ثم قال الآلوسي: قال الإمام - الرازي - إنه لو اجتمع الأولون و الآخرون من الخلائق و حكموا بتحسين العقل و تقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، و كان الكل لازما.

ثم قال الآلوسي: و يعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس و كان أبو فراس جالسا، فقيل له: ما هو؟ فقال قولي.

لك جسمي تعله.

فدمي لن تطله.

فابتدر أبو فراس قائلا: قال إن كنت مالكا.

فلي الأمر كله.

انتهى.

أقول: ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها و يكفي مئونتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين و الآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الإمام فليست بذاك الذي يحسب، و لتوضيح الأمر نقول: أما الشبهة الأولى: فالمراد بالحكمة - و هي جهة الخير و الصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق أما الحكمة في مطلق الخلق و هو ما سوى الله سبحانه من العالم، و أما الحكمة في خلق الإنسان خاصة.



فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق و الإيجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته و يصلح له ألوهيته فهو مبدأ لما سواه منبع لكل خير و رحمة بذاته، و اقتضاء المبدإ لما هو مبدأ له ضروري، و السؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها و تظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر و إلا لم تكن ملكة، فظهور أثرها ضروري لها و هو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده و استحقاقه، و اختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدأ الخير.

و أما حديث الحكمة في الخلق و الإيجاد بمعنى الغاية و جهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله و يكتسب به تماما و كمالا، و أما الفاعل الذي عنده كل خير و كمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود، نعم يترتب على فعله فوائد و منافع كثيرة لا تحصى و نعم إلهية لا تنقطع و هي غير مقصودة إلا ثانيا و بالعرض، هذا في أصل الإيجاد.

و إن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد: لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمة بمعنى غاية الفاعل و الفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شيء مما سواه حتى يتم أو يكمل به، و أما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل و تحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه، و يتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شيء غيره فهذه غاية النوعية الإنسانية.

غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم و التنافي محفوفا بعلل و أسباب موافقة و مخالفة لا ينجو منها بكله، و لا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده، و لا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها.

و ليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال و السعادة و حرمان البعض مما يختص به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان و النبات و جميع التركيبات المعدنية و غيرها كذلك فشيء من هذه الأنواع الموجودة - و هي ألوف و ألوف - لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده، و هي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته، و أما الأفراد و الأشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، و تفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل و الأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها و لا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها و سببيتها.

و لو فرض شيء من هذه الأنواع غير متأثر من شيء من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة و برودة و نور و ظلمة و رطوبة و يبوسة و السمومات و المواد الأرضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، و إبطال العلل و الأسباب ثانيا، و فيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.

و لا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال و الغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع و غايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك، و صرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.



فالعلة الموجبة لوجود النوع الإنساني لا تريد بفعلها إلا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه و آخرته إلا أن الإنسان لا يوجد إلا بتركيب مادي، و هذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الأجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها و تأثراتها المختلفة، و لازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانية فعلة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانية أولا و بالذات، و أما سقوط بعض الأفراد فإنما هو مقصود ثانيا و بالعرض ليس بالقصد الأولي.

فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكمالية، و أما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الإنساني، و لا أنه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف؟ و علة كفره التامة بعد وجوده علل و عوامل خارجية كثيرة جدا، و آخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره، و أما تعلق القضاء الإلهي بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره و إرادته و يضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا.

و أما الشبهة الثانية فقوله: "ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر؟" مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته.

فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، و لا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشيء فهو يمتنع صدور فعل عنه.

و التكليف و إن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين: توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة و البرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله، و وجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص و ينتهي إلى حالة الكمال، و بين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه، و يتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.

فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوءا و عليها سنابلها، و النطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية و هكذا، و ليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة إنسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.

و الإنسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية، و العيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين و سنن جارية بين أفراد المجتمع و هي عقائد و أحكام وضعية اعتبارية - التكاليف الدينية أو غير الدينية - تتكون بالعمل بها في الإنسان عقائد و أخلاق و ملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه و كذا في آخرته و هي لوازم الأعمال المسماة بالثواب و العقاب.



فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للإنسان بحسب حالاته و ملكاته النفسانية نحو كماله و سعادته يستكمل بطي هذا الطريق و العمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له و أبقى، و يخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه إن ساعدته موافقة الأسباب، و يفسد في مسيره نحو الكمال إن خذلته و منعته.

فقول القائل "و ما الفائدة في التكليف؟" كقوله: ما الفائدة في تغذي النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟.

و أما قوله: "و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف" مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الإنسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله و نقصه في وجوده الذي إنما يتم و يكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف و وضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق و حال الطريقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأول: لم عين هذا الطريق و هو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم بغيره؟ و الجواب أن العلل و الأسباب التي تجمعت على الإنسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة.

و إن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا و إفاضة جميع مراحل الكمال و مراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية و انتفاء المادة و القوة و جميع شئون الإمكان و الموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، و ليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجا ففي الفرض خلف.

و أما الشبهة الثالثة فقوله "هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟" فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالائتمار به صفة العبودية لله سبحانه، و يظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله و استكمال من إبليس إما في جانب السعادة و إما في جانب الشقاوة، و قد اختار الثاني.

على أن في تكليفه و تكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم و ذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الإنسان إلى هداه و هو الملائكة، و عدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه و الغواية فيه و هو إبليس و جنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام.

و أما الشبهة الرابعة: فقوله "لما ذا لعنني و أوجب عقابي بعد المعصية و لا فائدة له فيه؟ إلخ".

جوابه أن اللعن و العقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية، و ليس الفعل الإلهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه.

و ليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما و شربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاء و ليس له في إماتته به نفع و له فيه أعظم الضرر؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه و ينمو به بدنه؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل و الأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع و الإيجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل و عوامل خاصة من غير تخلف و اختلاف قانونا كليا.



فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، و إبطال العقاب من غير وجود شيء من أسبابه هدم لقانون العلية العام، و في انهدامه انهدام كل شيء.

و أما الشبهة الخامسة: أعني قوله "إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟" فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى و الحق العملي و الطاعة و أمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال و الباطل و المعصية و أمثالها، و الدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل، و الصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.

فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانية قائمة على ساقها، و الإنسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنساني، و لم يمكنه الله منهم و لا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح به القرآن الكريم و حكاه عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.

و أما الشبهة السادسة: فأما قوله "لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟" فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا.

و أما قوله: "و معلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا" فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي، و لا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة و الخير من غير شر و النفع من غير ضر و الثبات من غير تغير و الطاعة من غير معصية و الثواب من غير عقاب.

و أما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: "يا إبليس أنت ما عرفتني و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل" فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": الأنبياء: 23.

و ظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد، و محصله: أن هذه الشبهات جميعا سؤال و اعتراض عليه تعالى: و لا يتوجه إليه اعتراض لأنه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل.

و ظاهر قوله تعالى أن قوله "لا يسأل" متفرع على قوله: "فإني" إلخ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بآنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الإله المبدىء المعيد الذي يبتدىء منه كل شيء و ينتهي إليه كل شيء فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه، و لا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل، و الغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه و إن القوة لله جميعا، و كل غاية إنما تقصد و تطلب لكمال ما فيه و خير ما عنده و بيده الخير كله.



و يتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل و إما غاية و هو فاعل كل فاعل و غاية كل غاية، و أما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله، و ما يكتسبه من جهة الخير و المصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب و تنظيم العوامل و الشرائط فإنه مسئول عن فعله لم فعله؟ و أكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية و جهة الخير و المصلحة، و خاصة في الأفعال التي يجري فيه الحسن و القبح و المدح و الذم من الأفعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان و الوحي.

و أما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أن أفعال الله هل تعلل بالأغراض؟ و ما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالأشاعرة لتجويزهم الإرادة الجزافية و استناد الشرور و القبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة و ليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض و هو ترتب مصلحة محسنة على الفعل.

و المعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض و غاية لاستلزامه اللغو و الجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسئولا في فعله بأنه حكيم و الحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا و لا لغوا و لا جزافا، و الذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح و اللغو و الجزاف فهو تعالى غير مسئول عما يفعل و هم يسألون.

و البحث طويل الذيل و قد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين و من وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، و لا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.

لا ريب أن لنا علوما و تصديقات نركن إليها، و لا ريب أنها على قسمين: القسم الأول: العلوم و التصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا و إنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع و تطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و العالم موجود، و إن هناك أرضا و شمسا و قمرا إلى غير ذلك، و هي إما بديهية لا يدخلها شك.

و إما نظرية تنتهي إلى البديهيات و تتبين بها.

و القسم الثاني: العلوم العملية و التصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، و الاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنساني فنستند إليها في إرادتنا و نعلل بها أفعالنا الاختيارية، و ليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول و إن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع و الاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة و الواقعية كالأحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين و السنن و الشئون الاعتبارية كالولاية و الرئاسة و السلطنة و الملك و غيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا "زيد رئيس" وصف اعتباري، و ليس في الخارج بحذائه شيء غير زيد الإنسان و ليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا "زيد طويل القامة، أسود البشرة" و إنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الأغراض الحيوية و سلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه و ينتفع بآثاره و فوائده.



فالاعتقاد بأن زيدا رأس و رئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، و على هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الإنساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالأعمال الإنسانية فإنها جميعا مما وضعه الإنسان و قلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.

فهذان قسمان من العلوم، و الفرق بين القسمين: أن القسم الأول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، و هو معنى كونه صدقا و يطابقه الخارج و هو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج و بالعكس: و أما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره و نتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى و إن لم ينطبق حقيقته.

فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا بالتشبيه و الاستعارة لغرض التخيل الشعري، و توصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي، و على هذا القياس جميع المعاني الاعتبارية من تصور أو تصديق و هذه المعاني الاعتبارية و إن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى و ذلك أن نقص الإنسان مثلا و حاجته إلى كماله الوجودي و نيله غاية النوع الإنساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا و تصديقا فإبقاء الوجود و المقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان و يبتغيها في حياته هي التي توجب له أن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.

و لذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال و أمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا و هي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية، و كذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين و الغربيين و بين الحاضرين و البادين، و ربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة، و كذلك اختلاف النظر بين الغني و الفقير، و بين المولى و العبد، و بين الرئيس و المرءوس، و بين الكبير و الصغير، و بين الرجل و المرأة.

نعم هناك أمور اعتبارية و أحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات و هي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، و حسن العدل، و قبح الظلم، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج و إن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الأول.

إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا و أحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع و نأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع و الإيجاد و هو فعله.

و على هذا فيعود معنى قولنا مثلا: "الواحد نصف الاثنين بالضرورة" إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد و الاثنين على هذه النسبة الضرورية، و على هذا القياس، و معنى قولنا: "زيد رئيس يجب احترامه" أن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى و المزعمة ثم إلى العمل على طبقه، و على هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.

و إذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة و الإمكان، و العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح المعتمد على المصالح و المفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.



فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد و التقييد، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا و حرمة فعل كذا و أنه يحسن منه كذا و يقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته و الحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود و الشيء لا يحد نفسه بالضرورة، و في تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين و السنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.

و من عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين و التشريع أعني أحكام العقل النظرية و العملية.

أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله، و نسلك بها إلى إثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته و درجات صفاته، و أنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية، و الفعل و الترك بالنسبة إليه على السوية و أنه لا غرض له في فعله و لا غاية، و أن الخير و الشر يستندان إليه جميعا، و لو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله و سننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف عن أصل وجوده، و أشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام و القوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، و المنتزعة للمنتزع منه و هو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم و الخروج عن الفطرة الإنسانية إذ لو خالف شيء من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه - و هو فعله - و لو جاز الشك في صحة شيء من هذه الأحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، و هو السفسطة.

و أما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الأحكام العملية و الأمور الاعتبارية دعاو اعتقادية و مخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية و سعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها و ندب إليها، و ما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح و المساءة ثم نهى عنها و حذر منها - و حسن الفعل و قبحه موافقته لغرض الحياة و عدمها - و الغايات التي تضطر الإنسان إلى جعل هذه الأوامر و النواهي و تقنين هذه الأحكام و اعتبار الحسن و القبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي و لا حسن في العمل به و لا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الأطراف لا محصل له.

و الذي شرعه الله سبحانه من الأحكام و الشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه و حرمته و أمره و نهيه و وعده و وعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب و الحرمة و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد لا شك في ذلك، و هي معان اعتبارية و عناوين ادعائية غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطإ الذهن فهذه الدعاوي منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي و التمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الأحكام المشرعة منه تعالى كالأحكام المشرعة منا متعلقة بالإنسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال، و المتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة و غرضا تشريعيا، و لما أمر به أو نهى عنه حسنا و قبحا ثابتين بثبوت المصالح و المفاسد.



فقول القائل: إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالأغراض كما لو قال قائل: إن ما مهده من الطريق لا غاية له، و من الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته، و الوسط إنما يكون وسطا بطرفه، و قول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، و لو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: إن الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك و الفناء كان فيه حياته السعيدة، و لو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.

فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه و يقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة و الحياة، و استناد الموجودات إليه و سائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة و المغفرة و الرزق و الإنعام و الهداية و غير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.

غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية و هو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، و المفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه، و هذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشيء من النعوت السلبية تنزيها، و هو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف، و أعظم من أن يحيط به تقييد و تحديد فمجموع التشبيه و التنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر، و قد تقدم في ذيله قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة": المائدة: 73، من غرر خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان و يبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت.

هذا كله في العقل النظري.

و أما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع و اعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا و هو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالإنسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، و لتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.

و إذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام و يطلب الحصول على الحسن و القبح و المصلحة و المفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره و ينهاه و يوجب و يحرم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنه تعالى شرع الشرائع و سن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية و ترجع إليه حياتنا و مماتنا و رزقنا و تدبير أمورنا و دساتير أعمالنا و حساب أفعالنا و الجزاء على حسناتنا و سيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة، و لا يقبل منا معذرة إلا بحجة، و لا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء: 165، و قال: "ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة": الأنفال: 42 إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الإنس و الجن و لازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها.

و على ذلك جرى كلامه سبحانه قال: "إن الله لا يظلم الناس شيئا": يونس: 44، و قال: "إن الله لا يخلف الميعاد": آل عمران: 9، و قال: "و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين": الدخان: 38، و في هذا المعنى الآيات الكثيرة التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية.



و في ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري و العملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الأول كقوله تعالى: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين": آل عمران: 60 و لم يقل: الحق مع ربك لأن القضايا الحقة و الأحكام الواقعية مأخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتأيد بها مثلنا، و قوله: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع و المعقبات إنما تتحقق بفعله و هي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه، و قوله: "و هو الواحد القهار": الرعد 16، و قوله: "و الله غالب على أمره": يوسف: 21، و قوله: "إن الله بالغ أمره": الطلاق: 3، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شيء و لا يغلب عن شيء و لا يحول بينه و بين أمره حائل يزاحمه، و قوله: "ألا له الخلق و الأمر": الأعراف: 54، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد.

نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات و كشف المجهولات لا لأن يكون متبوعا بل لأنه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج، و يدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل و التذكر و التفكر و التدبر و نحوها فلو لا أنها حجة فيما أفادته لم يكن لذلك وجه.

و في القسم الثاني: نحو قوله: "استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم": الأنفال: 24، يدل على أن في العمل بالأحكام مصلحة الحياة السعيدة، و قوله: "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء": الأعراف: 28، و ظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، و قوله: "لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم": لقمان: 13، و آيات كثيرة أخرى تعلل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة و الصوم و الصدقات و الجهاد و غير ذلك لا حاجة إلى نقلها.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم و كان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج الله ما في نفسه بالحمية فقال: "خلقتني من نار و خلقته من طين".

و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية و الديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين. قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس.

و في الكافي، بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس. قال: نعم، أنا أقيس. قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين.

و في العيون، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن إبليس أول من كفر و أنشأ الكفر: أقول: و رواه العياشي عن الصادق (عليه السلام).

و في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:، أن أول معصية ظهرت الأنانية من إبليس.

أقول: و قد تقدم بيانه.

و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها.

أقول: قد ظهر مما تقدم من البيان أن مرجعه إلى الأنانية كما في الحديث المتقدم.

و في النهج،: من خطبة له (عليه السلام) في صفة خلق آدم: و استأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لهم، و عهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له و الخشوع لتكرمه فقال سبحانه: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس و جنوده اعترتهم الحمية، و غلبت عليهم الشقوة. الخطبة.

أقول: و فيها تعميم الأمر بالسجدة لجنود إبليس كما يعم نفسه، و فيه تأييد ما تقدم أن آدم إنما جعل مثالا يمثل به الإنسانية من غير خصوصية في شخصه، و إن مرجع القصة إلى التكوين.



و في المجمع، عن الباقر (عليه السلام) في معنى قوله: "ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم - و عن أيمانهم و عن شمائلهم" الآية "من بين أيديهم" أهون عليهم الآخرة "و من خلفهم" آمرهم بجمع الأموال و منعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم "و عن أيمانهم" أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة "و عن شمائلهم" بتحبيب اللذة و تغليب الشهوات على قلوبهم.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): و الذي بعث محمدا للعفاريت و الأبالسة على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم.

و في المعاني، عن الرضا (عليه السلام): أنه سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله.

و في تفسير القمي، حدثني أبي رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا. قال: فلما أسكنه الله تعالى الجنة و أباحها له إلا الشجرة لأنه خلق خلقة لا تبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و جل حكاية عنه: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين - أو تكونا من الخالدين، و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين" فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكان كما حكى الله: "بدت لهما سوآتهما" و سقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة، و أقبلا يستتران من ورق الجنة، و ناداهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة - و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين فقالا كما حكى الله عنها: "ربنا ظلمنا أنفسنا - و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين" فقال الله لهما: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو - و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين" قال: إلى يوم القيامة.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل فقال: يا آدم أ ليس خلقك الله بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته، و زوجك حواء أمته، و أسكنك الجنة و أباحها لك و نهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها و عصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا.

أقول: و قد تقدمت عدة من روايات القصة في سورة البقرة و سيأتي إن شاء الله بعضها في مواضع أخر مناسبة لها.

و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: فقال إبليس: يا رب فكيف و أنت العدل الذي لا يجور فثواب عملي بطل؟ قال: لا، و لكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك. فأول ما سأل: البقاء إلى يوم الدين فقال الله: و قد أعطيتك. قال: سلطني على ولد آدم. قال: سلطتك. قال: أجرني فيهم مجرى الدم في العروق. قال: قد أجريتك. قال: لا يولد لهم ولد إلا ولد لي اثنان و أراهم و لا يروني و أتصور لهم في كل صورة شئت. فقال: قد أعطيتك. قال: يا رب زدني. قال: قد جعلت لك و لذريتك صدورهم أوطانا. قال: رب حسبي. قال إبليس عند ذلك: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.



أقول: تقدم ما يتضح به معنى الحديث، و قوله: "أتصور لهم في كل صورة شئت" لا يدل على أزيد من أن له يتصرف في حاسة الإنسان بظهوره في أي صورة شاء عليها، و أما تغير ذاته في نفسه كيفما شاء و أراد فلا.

و الذي ذكره بعضهم: أن أهل العلم أجمعوا على أن إبليس و ذريته من الجن و أن الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب و الخنزير، و أن الملائكة أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب و الخنزير - و كأنهم يريدون بذلك تغيرهم في ذواتهم - لا دليل عليه من نقل ثابت أو عقل، و أما ما ادعي من الإجماع و مآله إلى الاتفاق في الفهم فلا حجية لمحصله فضلا عن منقوله، و المأخذ في ذلك من الكتاب و السنة ما عرفت.

و كذا حديث ذريته و كثرتهم لا يتحصل منه إلا أن لها كثرة في العدد تنشعب من إبليس نفسه، و أما كيف ذلك؟ و هل هو بطريق التناسل المعهود بيننا أو بنحو البيض و الإفراخ أو بنحو آخر لا سبيل لنا إلى فهمه فمما هو مجهول لنا.

نعم هناك روايات معدودة تذكر أنه ينكح نفسه و يبيض و يفرخ أو أن له في فخذيه عضوا التناسل الموجودان في الذكر و الأنثى فينكح بهما نفسه و يولد له كل يوم عشرة و أما ولده فكلهم ذكران لا توالد بينهم أو توالدهم بالازدواج نظير الحيوان فكل ذلك مما لا دليل عليه إلا بعض الآحاد من الأخبار و هي ضعاف و مراسيل و مقاطيع و موقوفات لا يعول عليها و خاصة في أمثال هذه المسائل مما لا اعتماد فيها إلا على آية محكمة أو حديث متواتر أو محفوف بقرينة قطعية، و ليست ظاهرة الانطباق على القرآن الكريم حتى تصحح بذلك.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قلب إلا و له أذنان على إحداهما ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، و الملك يزجره عنها، و ذلك قول الله عز و جل: "عن اليمين و عن الشمال قعيد - ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

و في البحار،: الشهاب: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم و في صحيح مسلم، عن ابن مسعود: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من أحد إلا و قد وكل به قرينه من الجن. قالوا: و إياك يا رسول الله؟ قال: و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير.

أقول: و قوله: "فأسلم" أخذه بعضهم بضم الميم و بعضهم بالفتح.

و في تفسير العياشي، عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان الله يعلم أنه ليس منها، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء و لا كرامة. فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر و قال: كيف لا يكون من الملائكة؟ و الله يقول للملائكة: "اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" فدخل عليه الطيار فسأله و أنا عنده فقال له قول الله عز و جل: "يا أيها الذين آمنوا" في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون و الضلال و كل من أقر بالدعوة الظاهرة.

أقول: و في الحديث رد ما روي أنه كان من الملائكة و أنه كان خازنا في السماء الخامسة أو خازن الجنة.



و اعلم أن الأخبار الواردة من طرق الشيعة و أهل السنة في أنحاء تصرفاته أكثر من أن تحصى، و هي على قسمين: أحدهما: ما يذكر تصرفا منه من غير تفسير، و الثاني: ما يذكره مع تفسير ما.

فمن القسم الأول: ما في الكافي، عن علي (عليه السلام): لا تؤووا منديل اللحم في البيت فإنه مربض الشيطان، و لا تؤووا التراب خلف الباب فإنه مأوى الشيطان.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن على ذروة كل جسر شيطانا فإذا انتهيت إليه فقل: بسم الله يرحل عنك.

و فيه، عن علي (عليه السلام) قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت الشيطان في بيوتكم بيت العنكبوت.

و فيه، عن أحدهما عليهما السلام قال: لا تشرب و أنت قائم، و لا تبل في ماء نقيع، و لا تطف بقبر، و لا تخل في بيت وحدك، و لا تمش بنعل واحدة، فإن الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الأحوال.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): إذا ذكر اسم الله تنحى الشيطان، و إن فعل و لم يسم أدخل ذكره و كان العمل منهما جميعا و النطفة واحدة.

و في تفسير القمي، عنه (عليه السلام): ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان.

و في الحديث: من نام سكران بات عروسا للشيطان.

أقول: و من هذا الباب قوله تعالى: "إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان": المائدة: 90.

و من القسم الثاني ما في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): أن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم.

و عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع.

و في المحاسن، عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث: فأما كحله فالنوم و أما سفوفه فالغضب، و أما لعوقه فالكذب.

و في الحديث: أن موسى (عليه السلام) رآه و عليه برنس فسأله عن برنسه فقال: به اصطاد قلوب بني آدم.



و في مجالس ابن الشيخ، عن الرضا عن آبائه عليهم السلام: أن إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله المسيح يتحدث عندهم و يسألهم، و لم يكن بأحد منهم أشد أنسا منه بيحيى بن زكريا فقال له يحيى: يا أبا مرة إن لي إليك حاجة فقال: أنت أعظم قدرا من أن أردك بمسألة فاسألني ما شئت فإني غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا أبا مرة أحب أن تعرض علي مصائدك و فخوخك التي تصطاد بها بني آدم، فقال له إبليس: حبا و كرامة و واعده لغد. فلما أصبح يحيى قعد في بيته ينتظر الوعد، و أغلق عليه الباب إغلاقا، فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته فإذا وجهه صورة وجه القرد، و جسده على صورة الخنزير، و إذا عيناه مشقوقتان طولا، و إذا أسنانه و فمه مشقوقات طولا عظما واحدا بلا ذقن و لا لحية، و له أربعة أيد يدان في صدره و يدان في منكبه، و إذا عراقيبه قوادمه و أصابعه خلفه و عليه قباء و قد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين أحمر و أصفر و أخضر و جميع الألوان، و إذا بيده جرس عظيم و على رأسه بيضة، و إذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب. فلما تأمله يحيى قال: ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال: هذه المجوسية أنا الذي سننتها و زينتها لهم. فقال له: ما هذه الخطوط الألوان؟ فقال: هذه جميع أصناع النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع حتى يقع مع لونها فأفتن الناس بها فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال: هذا مجمع كل لذة من طنبور و بربط و معزفة و طبل و ناي و صرناي، و إن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخف بهم الطرب فمن بين من يرقص، و من بين من يفرقع أصابعه، و من بين من يشق ثيابه. فقال له: و أي الأشياء أقر لعينك؟ قال: النساء، من فخوخي و مصائدي فإذا اجتمعت إلى دعوات الصالحين و لعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن فقال: له يحيى: فما هذه البيضة على رأسك؟ قال: بها أتوقى دعوة المؤمنين. قال: فما هذه الحديدة التي أرى فيها؟ قال: بهذه أقلب قلوب الصالحين. قال يحيى: فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال: لا، و لكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟ قال: أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت و بشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك بالليل. قال يحيى: فإني أعطي الله عهدا أن لا أشبع من الطعام حتى ألقاه. قال له إبليس: و أنا أعطي الله عهدا أن لا أنصح مسلما حتى ألقاه، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك.

أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة بوجه أبسط من ذلك: و قد روي له مجالس و محاورات و مشافهات مع آدم و نوح و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و عليهم، و هناك - كما مرت الإشارة إليه - روايات لا تحصى كثرة في أنحاء تسويلاته و أنواع تزييناته عند أنواع المعاصي و الذنوب رواها الفريقان، و الجميع تشهد أوضح شهادة على أنها تشكلات مثالية على حسب ما يلائم نوع المعصية من الشكل و الكيفية و يناسبها نظير ما تتمثل الحوادث في الرؤيا على حسب المناسبات المألوفة و الاعتقادات المعتادة.

و من التأمل في هذا القسم الثاني يظهر أن الكيفيات و الخصوصيات الواردة في القسم الأول المذكور من الأخبار إنما هي أنواع نسب بين هذا الموجود أعني إبليس و بين الأشياء تدعو إلى وساوس و خطرات تناسبها.

فالجميع من التجسمات المثالية التي تناسبها الأعمال أو الأشياء غير التجسم المادي الذي ربما مال إليه الحشوية و بعض أهل الحديث حتى تكون المجوسية مثلا اعتقادا عند الإنسان و هي بعينها منطقة من أديم عند إبليس يشد بها وسطه، أو أن يصير إبليس تارة آدميا له حقيقة الإنسان و قواه و أعماله و تارة شيئا من الحيوان الأعجم له حقيقة نوعية و تارة جمادا ليس بذي حياة و شعور، أو أن هذه النوعيات جميعا هي أشكال و صور عارضة على مادة إبليس فالروايات أجنبية عن الدلالة على أمثال هذه المحتملات.

و إنما هي روايات جمة لا ريب في صدور مجموعها من حيث المجموع و تأييد القرآن لها كذلك و هي تدل على أن لإبليس أن يظهر لحواسنا بمختلف الصور هذا من حيث المجموع و أما كل واحد واحد فما صح منها سندا - و ليس الجميع على هذه الصفة - فهو من الآحاد التي لا يعول عليها في أمثال هذه المسائل الأصلية نعم ربما أمكن استفادة حكم فرعي منها من استحباب أو كراهة على ما هو شأن الفقيه

7 سورة الأعراف - 26 - 36

يَبَنى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكمْ لِبَاساً يُوَرِى سوْءَتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاس التّقْوَى ذَلِك خَيرٌ ذَلِك مِنْ ءَايَتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ (26) يَبَنى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنّكمُ الشيْطنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنهُمَا لِبَاسهُمَا لِيرِيَهُمَا سوْءَتهِمَا إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْث لا تَرَوْنهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشيَطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَ إِذَا فَعَلُوا فَحِشةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا ءَابَاءَنَا وَ اللّهُ أَمَرَنَا بهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبى بِالْقِسطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كلِّ مَسجِدٍ وَ ادْعُوهُ مخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَ فَرِيقاً حَقّ عَلَيهِمُ الضلَلَةُ إِنّهُمُ اتخَذُوا الشيَطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللّهِ وَ يحْسبُونَ أَنهُم مّهْتَدُونَ (30) يَبَنى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكمْ عِندَ كلِّ مَسجِدٍ وَ كلُوا وَ اشرَبُوا وَ لا تُسرِفُوا إِنّهُ لا يحِب الْمُسرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلّذِينَ ءَامَنُوا فى الْحَيَوةِ الدّنْيَا خَالِصةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبىَ الْفَوَحِش مَا ظهَرَ مِنهَا وَ مَا بَطنَ وَ الاثْمَ وَ الْبَغْىَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَ أَن تُشرِكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سلْطناً وَ أَن تَقُولُوا عَلى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) وَ لِكلِّ أُمّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَستَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَستَقْدِمُونَ (34) يَبَنى ءَادَمَ إِمّا يَأْتِيَنّكُمْ رُسلٌ مِّنكُمْ يَقُصونَ عَلَيْكمْ ءَايَتى فَمَنِ اتّقَى وَ أَصلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ (35) وَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ استَكْبرُوا عَنهَا أُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (36)

بيان

التدبر في هذه الخطابات و ما تقدم عليها من قصة السجدة و الجنة ثم عرض ذلك جميعا على ما ورد من القصة و المخاطبة في غير هذه السورة و خاصة سورة طه المكية التي هي كإجمال هذه السورة المفصلة و سورة البقرة المدنية يهدينا إلى أن هذه الخطابات العامة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصة التي وجهت إلى آدم كما أن القصة عممت نحوا من التعميم في هذه السورة، و قد أشرنا إليه فيما تقدم.

و هذه الخطابات الأربعة المصدرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان و إلى الأكل و الشرب و اللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه: "يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى" الآيات: طه: 119، و الرابعة تعميم قوله فيها: "فإما يأتينكم مني هدى" إلخ،: طه: 123.

و يعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته و تعميمها بعد التخصيص ثم تفريع أحكام أخرى عليها ذيلت بها الخطابات المذكورة أن هذه الأحكام المشرعة المذكورة هاهنا على الإجمال أحكام مشرعة في جميع الشرائع الإلهية من غير استثناء كما يعلم أن ما قدر للإنسان من سعادة و شقاوة و سائر المقدرات الإنسانية كالأحكام العامة جميعها تنتهي إلى تلك القصة فهي الأصل تفرعت عليه هذه الفروع، و الفهرس الذي يشير إلى التفاصيل.

قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا" اللباس كل ما يصلح للبس و ستر البدن و غيره، و أصله مصدر يقال: لبس يلبس لبسا - بالكسر و الفتح - و لباسا، و الريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال و الزينة، و ربما يطلق على أثاث البيت و متاعه.

و كان المراد من إنزال اللباس و الريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى: "و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع": الحديد: 25، و قوله: و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج": الزمر: 6، و قد قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر 21، فقد أنزل الله اللباس و الريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة و هو الخلق.

و اللباس هو الذي يعمله الإنسان صالحا لأن يستعمله بالفعل دون المواد الأصلية من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الإنسان فيضيف إليه أعمالا صناعية من تصفية و غزل و نسج و قطع و خياطة فيصير لباسا صالحا للبس فعد اللباس و الريش من خلق الله و هما من عمل الإنسان نظير ما في قوله تعالى: "و الله خلقكم و ما تعملون": الصافات: 96، من النسبة.

و لا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبة ما عمله الإنسان إلى الله سبحانه و ما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الإنسان، و نسبة سائر ما عملته الطبائع و لها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض و صفرة الذهب و حلاوة العسل فإن جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه و هو محيط بها.



و ليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيرة واحدة و إن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص و القبح و الشناعة من المعاصي و نحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإلهي، و ليست بمخلوقة له و إنما هي أوصاف نقص في أعمال الإنسان مثلا في باطنه أو ظاهره، و قد تكررت الإشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب.

و توصيف اللباس بقوله: "يواري سوآتكم" للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإنسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس و هي مواراة سوآته التي يسوؤه انكشافها و أما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.

و في الآية امتنان بهداية الإنسان إلى اللباس و الريش و فيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة.

قوله تعالى: "و لباس التقوى ذلك خير" إلى آخر الآية.

انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الإنسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره، إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الإنسان ظهورها و هي رذائل المعاصي من الشرك و غيره، و هذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به.

و ذلك أن الذي يصيب الإنسان من ألم المساءة و ذلة الهوان من ظهور سوآته روحي من سنخ واحد في السوآتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد و أمر و أبقى فالمحاسب هو الله، و التبعة شقوة لازمة، و نار تطلع على الأفئدة، و لذلك كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر.

و للإشارة إلى هذا المعنى و تتميم الفائدة عقب الكلام بقوله: "ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون" فاللباس الذي اهتدى إليه الإنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوآته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الإنسان و تبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت و هي رذائل النفس، و سترها عليه أوجب و ألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر و اللباس الذي يسترها و يرفع حاجة الإنسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به و بينه بلسان أنبيائه.

و في تفسير لباس التقوى أقوال أخر مأثورة عن المفسرين، فقيل: هو الإيمان و العمل الصالح، و قيل: هو حسن السمت الظاهر، و قيل: هو الحياء، و قيل: هو لباس النسك و التواضع كلبس الصوف و الخشن، و قيل: هو الإسلام، و قيل: هو لباس الحرب، و قيل: هو ما يستر العورة، و قيل: هو خشية الله، و قيل: هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، و أنت ترى أن شيئا من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق.

قوله تعالى: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" إلى آخر الآية.

الكلام و إن كان مفصولا عما قبله بتصديره بخطاب "يا بني آدم" إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق، و لذا أعاد ذكر السوآت ثانيا فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم و لم يؤمن بآياتنا.

و من هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما كان مثالا لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة و إن الإنسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.



و قوله: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم" تأكيد للنهي و بيان لدقة مسلكه و خفاء سربه دقة لا يميزه حس الإنسان و خفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر و يهديه إلى الشقوة.

و قوله: "إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون" تأكيدا آخر للنهي، و ليست ولايتهم و تصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة و الغرور فإذا افتتن و اغتر بهم تصرفوا بما شاءوا و كما أرادوا كما قال تعالى مخاطبا لإبليس: "و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا": إسراء: 65، و قال: "إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون": النحل: 99، و قال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42.

و من الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين و إن مسهم طائف منهم أحيانا، و أن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين و هم الذين عدهم الله عبادا له بقوله: "عبادي" فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون.

و الظاهر أن المراد به عدم الإيمان بآيات الله بتكذيبها و هو أخص من وجه من عدم الإيمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، و ذلك لأن هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى - إلى أن قال - و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": البقرة 39، و في ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال: "و الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": الأعراف: 36.

قوله تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها" إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العام لبني آدم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ليتوسل به إلى انتزاع خطابات خاصة يوجهها إلى أمته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا حيث قال: "ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون" لنظير الغرض.

و بالجملة فقد استخرج من هذا الأصل الثابت في قصة الجنة و هو أمر ظهور السوآت الذي أفضى إلى خروج آدم و زوجته من الجنة أن الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء و استنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم و أمر الله سبحانه بها فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء، و يذكرهم أن ذلك من القول على الله بغير علم و الافتراء عليه، كيف لا؟ و قصة الجنة شاهدة عليه.

و قد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما و مستندين يستندون إليهما و هما فعل آبائهم و أمر الله إياهم بها، و كان الثاني هو الذي يرتبط بالخطاب العام المستخرج من قصة الجنة فقط، و لذلك تعرض لدفعه و رده عليهم، و أما استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك و إن لم يكن مما يرتضيه الله سبحانه و قد رده في سائر كلامه بمثل قوله: "أ و لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون" فلم يتعرض لرده هاهنا لخروجه عن غرض الكلام.



و قد ذكر جمع من المفسرين أن قوله: "و إذا فعلوا فاحشة" إلخ، إشارة إلى ما كان معمولا عند أهل الجاهلية من الطواف بالبيت الحرام عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، و نقل عن الفراء أنهم كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا و إن عمل من صوف سمي رهطا و كانت المرأة تضع على قبلها نسعة أو شيئا آخر فتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله.

و ما بدا منه فلا أحله.

و لم يزل دائرا بينهم حتى منعهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفتح حين بعث عليا (عليه السلام) بآيات البراءة إلى مكة.

و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم: "وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها" فرد الله سبحانه عليهم و ذمهم بقوله: "إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون".

و ليس ما ذكروه ببعيد و في الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء و هي الأمر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك.

و لازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمرا شنيعا أتوا به في صفة العبادة و النسك كالطواف عاريا، و الآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، و على مصاديق أخرى ما أكثر وجودها بين الناس و خاصة في زماننا الذي نعيش فيه.

قوله تعالى: "قل أمر ربي بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد و ادعوه مخلصين له الدين" لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء و ذكرت أن ذلك افتراء عليه و قول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحى به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به و هو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة و عدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح و الإفراط و التفريط فقال: "قل أمر ربي بالقسط" إلخ.

و القسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف و النصفة قال: "ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط" "و أقيموا الوزن بالقسط" و القسط هو أن يأخذ قسط غيره، و ذلك جور و الإقساط أن يعطي قسط غيره، و ذلك إنصاف و لذلك قيل: قسط الرجل إذا جار و أقسط إذا عدل قال: "و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" و قال: "و أقسطوا إن الله يحب المقسطين" انتهى كلامه.

فالمراد: قل أمر ربي بالنصيب العدل و لزوم وسط الاعتدال في الأمور كلها و أن تجتنبوا جانبي الإفراط و التفريط فأقسطوا و أنيبوا و أقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه و ادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنما أو أحدا من آبائكم و كبرائكم بالتقليد لهم و هذا هو القسط في العبادة.

فقوله: "و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد" معطوف ظاهرا على مقول القول لأن معنى أمر ربي بالقسط: أقسطوا، فيكون التقدير: أقسطوا و أقيموا إلخ، و الوجه هو ما يتوجه به إلى الشيء، و هو في حال تمام النفس الإنسانية، و إقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه و الإتيان به كما ينبغي تاما غير ناقص فيئول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة و الانقطاع عن غيرها فيفيد قوله: "و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد" إذا انضم إليه قوله: "و ادعوه مخلصين له الدين" وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها و لله سبحانه عن غيره كما عرفت و من الغير الذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، و إنما العبادة توجه لا متوجه إليها، و التوجه إليها يبطل معنى كونها عبادة و توجها إلى الله فيجب أن لا يذكر الناسك في نسكه إلا ربه و ينسى غيره.



و للمفسرين في معنى قوله: "و أقيموا وجوهكم" إلخ، أقوال أخر منها: أن المعنى: توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة.

و منها: أن المعنى توجهوا في أوقات السجود و هي أوقات الصلاة إلى الجهة التي أمركم الله بها و هي الكعبة.

و منها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا و لا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي.

و منها: أن المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر فيها بالجماعة.

و منها: أن المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثنا و لا غيره.

و الوجوه المذكورة على علاتها و إباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الأول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة و هي مكية و لم تكن الكعبة قبلة يومئذ، و لا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعددة، و آخر الوجوه و إن كان قريبا مما قدمناه إلا أنه ناقص في بيان الإخلاص المستفاد من الآية، و ما تضمنه إنما هي معنى قوله تعالى: "و ادعوه مخلصين له الدين" لا قوله: "و أقيموا" إلخ، كما تقدم.

قوله تعالى: "كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة" إلى آخر الآية.

ظاهر السياق أن يكون قوله "فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة" حالا من فاعل "تعودون" و يكون هو الوجه المشترك الذي شبه فيه العود بالبدء، و المعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة": الأنعام: 94، و المعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فرادى.

فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، و أما كون "فريقا هدى" إلخ، حالا لا يعدو عامله، و وجه الشبه بين البدء و العود أمرا آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدءا و عودا أو كون الخلق الأول و الثاني جميعا من تراب أو كون البعث مثل الإنشاء في قدرة الله إلى غير ذلك مما احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، و أي فائدة في حذف وجه الشبه من الذكر و ذكر ما لا حاجة إليه مع وقوع اللبس، و سيجيء إن شاء الله توضيح ذلك.

و ظاهر البدء في قوله: "بدأكم" أول خلقة الإنسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الأخروية فيكون البدء هو الحياة الدنيا و العود هو الحياة الأخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقا منكم و حقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يئول إليه قول من قال: "إن معنى الآية: تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره".

و ذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شيء ذي امتداد و استمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع، و الخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الإنساني و بدء ظهوره.



على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإنسان بمثل قوله: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" إلخ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه، و قد كان من القصة أن الله قال لإبليس لما رجمه: "اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" و فيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقا مهتدين على الصراط المستقيم، و فريقا ضالين حقا فهذا هو الذي بدأهم به و كذلك يعودون.

و قد بين ذلك في مواضع أخر من كلامه أوضح من ذلك و أصرح كقوله: "قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42، و هذا قضاء حتم و صراط مستقيم إن الناس طائفتان طائفة ليس لإبليس عليهم سلطان و هم الذين هداهم الله، و طائفة متبعون لإبليس غاوون و هم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان و توليهم إياه قال: "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله": الحج: 4، و إنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم و توليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.

و نظيره في ذلك قوله تعالى: "قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين": ص: 85، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين، و هذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال: "قال اهبطا منها... فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى" إلخ:، طه: 124 و هو عمى الضلال.

و بعد ذلك كله فمن الممكن أن يكون قوله: "كما بدأكم تعودون" إلخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق و المعنى: أقسطوا في أعمالكم و أخلصوا لله سبحانه فإن الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أن تتفرقوا فريقين فريقا يهديهم و فريقا يضلون عن الطريق و ستعودون إليه كما بدأكم فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة بتولي الشياطين فأقسطوا و أخلصوا حتى تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالين بولاية الشياطين.

فيكون الكلام جاريا مجرى قوله تعالى: "و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا": البقرة: 148 فإنه في عين أنه بين أولا أن لكل وجهة خاصة محتومة هو موليها لا يتخلف عنه إن سعادة فسعادة و إن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانيا أن استبقوا الخيرات، و لا يستقيم الأمر مع تحتم إحدى المنزلتين: السعادة و الشقاوة لكن الكلام في معنى قولنا: إن كلا منكم لا محيص له عن وجهة متعينة في حقه لازمة له إما الجنة و إما النار فاستبقوا الخيرات حتى تكونوا من أهل وجهة السعادة دون غيرها.

و كذلك الأمر فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنكم ستعودون فريقين كما بدأكم فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم و أخلصوا لله سبحانه حتى تكونوا من الفريق الذي هدى دون الفريق الذي حق عليهم الضلالة.

و من الممكن أن يكون قوله: "كما بدأكم" إلخ، كلاما مستأنفا و هو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الأقساط و الإخلاص على ما يتبادر من السياق.

و أما قوله: "إنهم اتخذوا الشياطين أولياء" فهو تعليل لثبوت الضلالة و لزومها لهم في قوله: "حق عليهم الضلالة" كان كلمة الضلال و الخسران صدرت من مصدر القضاء في حقهم مشروطا بولاية الشيطان كما يذكره في قوله: "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله": الحج: 4.



فلما تولوا الشياطين في الدنيا حقت عليهم الضلالة و لزمتهم لزوما لا انفكاك بعده أبدا و هذا نظير ما يستفاد من قوله: "و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم و حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين": حم السجدة: 25.

و أما قوله: "و يحسبون أنهم مهتدون" فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسر به معنى تحقق الضلالة و لزومها فإن الإنسان مهما ركب غير طريق الحق و اعتنق الباطل و هو يعترف بأنه من الباطل و لما ينس الحق أوشك أن يعود إلى الحق الذي فارقه و كان مرجوا أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أما إذا اعتقد حقية الباطل الذي هو عليه، و حسب أنه على الهدى و هو في ضلال فقد استقر فيه شيمة الغي و حقت عليه الضلالة و لا يرجى معه فلاح أبدا.

فقوله: "و يحسبون أنهم مهتدون" كالتفسير لتحقق الضلالة لكونه من لوازمه، و قد قال تعالى في موضع آخر: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا": الكهف: 104، و قال تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة": البقرة: 7.

و إنه الإنسان يسير على الفطرة و يعيش على الخلقة لا ينقاد إلا للحق و لا يخضع إلا للصدق و لا يريد إلا ما فيه خيره و سعادته غير أنه إذا شمله التوفيق و كان على الهدى طبق ما يطلبه و يقصده على حقيقة مصداقه و لم يعبد إلا الله و هو الحق الذي يطلبه و لم يرد إلا الحياة الدائمة الخالدة و هي السعادة التي يقصدها، و إذا ضل عن الصراط انتكس وجهه من الحق إلى الباطل و من الخير إلى الشر و من السعادة إلى الشقاء فيتخذ إلهه هواه، و يعبد الشيطان، و يخضع للأوثان، و أخلد إلى الأرض، و تعلق بالزخارف المادية الدنيوية و تبصر إليها لكنه إنما يعمل ما يعمل بإذعان أنه هكذا ينبغي أن يعمل و حسبان أنه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنه حق، و يركن إلى الشر أو الشقاء بعنوان أنه خير و سعادة فالإدراك الفطري محفوظ له غير أنه يطبقه في مقام العمل على غير مصداقه.

قال تعالى: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها": النساء: 47، و أما إنسان يتبع الباطل بما هو باطل، و يقصد الشقاء و الخسران بما هو شقاء و خسران فمن المحال ذلك.

قال تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله": الروم: 30 و شيء من العلل و الأسباب و منها الإنسان لا يريد غاية و لا يفعل فعلا إلا إذا كان ملائما لنفسه حاملا لما فيه نفعه و سعادته، و ما ربما يتراءى من خلاف فإنما هو في بادىء النظر لا بحسب الحقيقة و في نفس الأمر.

هذا كله ما يقتضيه التدبر و إيفاء النظر من معنى قوله "كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة" إلخ، و هو يدور مدار كون "فريقا هدى" إلخ، حالا مبينا لوجه الشبه و المعنى المشترك بين البدء و العود سواء أخذنا الكلام مستأنفا أو واقعا موقع التعليل متصلا بما قبله.



و أما جمهور المفسرين فكأنهم متسالمون على أن قوله: "فريقا هدى" حال مبين لكيفية العود فحسب دون العود و البدء جميعا، و أن المعنى المشترك الذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلا من فسر البدء بالحياة الدنيا و الخلق الأول كما تقدم و سيجيء، و كان ذلك فرارا منهم عن لزوم الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالأوامر و النواهي، و قد عرفت أن ذلك غير لازم.

و بالجملة فقد اختلفوا في وجه اتصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل: أنه إنذار بالبعث تأكيدا للأحكام المذكورة سابقا، و احتجاج عليه بالبدء فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون مجازون، و إن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء و اعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون في الخلق الثاني.

و فيه أنه مبني على أن تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله، و أن النكتة في التعرض لذلك هو الإنذار بالمجازاة، و السياق المناسب لهذا الغرض أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس و التصريح بالمجازاة التي هي العمدة في الغرض المسوق لأجله الكلام كما صنع ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، و الآية خالية من ذلك.

و من قائل: أنه احتجاج على منكري البعث، و اتصاله بقوله تعالى قبل عدة آيات: "فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون".

فقوله: "كما بدأكم تعودون" معناه فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.

و فيه: ما في الوجه السابق على أنه تحكم من غير دليل.

و من قائل: أنه كلام مستأنف.

و قد تقدم ذكره.

و من قائل: أنه متصل بما سبقه، و المعنى: أخلصوا لله في حياتكم فإنكم تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره.

و فيه: أنه مبني على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة ثم تشبيه بالعود و هو الحياة الآخرة بآخر الحياة الأولى المسماة بعثا، و الآية - كما تقدم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى.

قوله تعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" إلى آخر الآية.

قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، انتهى.

أخذ الزينة عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد، و هو إنما يكون بالطبع للصلاة و الطواف و سائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزين الجميل للصلاة و نحوها، و يشمل بإطلاقه صلوات الأعياد و الجماعات اليومية و سائر وجوه العبادة و الذكر.

و قوله: "و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا" إلخ، أمران إباحيان و نهي تحريمي معلل بقوله: "إنه لا يحب المسرفين" و الجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الإشارة إليه، و هي كما تقدم خطابات عامة لا تختص بشرع دون شرع و لا بصنف من أصناف الناس دون صنف.

و من هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" إلخ يدل على بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جميع البشر، و أن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة انتهى.

نعم تدل الآية على أن هناك أحكاما عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، و أما شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب و القرينة العقلية قائمة.



قوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق" هذا من استخراج حكم خاص - بهذه الأمة - من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله: "ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون" و قوله و إذا فعلوا فاحشة" الآية.

و الاستفهام إنكاري، و الزين يقابل الشين و هو ما يعاب به الإنسان فالزينة ما يرتفع به العيب و يذهب بنفرة النفوس، و الإخراج كناية عن الإظهار و استعارة تخييلية كأن الله سبحانه بإلهامه و هدايته الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعة و يستدعي انجذاب نفوسهم إليه و ارتفاع نفرتهم و اشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة و قد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم.

و لو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزين بها قط و لا تنبه للزوم إيجادها لأن ملاك التنبه هو الحاجة.

لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد و هم يعيشون بالإرادة و الكراهة و الحب و البغض و الرضى و السخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه و ما يستقبحونه من الهيئات و الأزياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم و يزين ما يشين منهم و هو الزينة بأقسامها، و لعل هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله: "لعباده".

و هذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني، و هي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات و تترقى و تتنزل على حسب تقدم المدنية و الحضارة و لو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع و تلاشت أجزاؤه من حينه لأن معنى بطلانها ارتفاع الحسن و القبح و الحب و البغض و الإرادة و الكراهة و أمثالها من بينهم، و لا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ فافهم ذلك.

ثم الطيبات من الرزق - و الطيب هو الملائم للطبع - هي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه، أو مطلق ما يستمد به في حياته و بقائه كأنواع المطعم و المشرب و المنكح و المسكن و نحوها، و قد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق و يستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته و هذا هو الطيب و الملاءمة الطبيعية.

و ابتناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه و أدواته التي جهز بها و يساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به، و ما جهز بشيء و لا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شيء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شيء من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم.

فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم و المشهية للمعدة و لا يزال يستعمل و يفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، و أهمها الفكر السالم الحر و على هذا القياس.



و التعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شيء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم و لا هذا العالم مخلوق له و أي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون، و يسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة، و ينال غاية غير غايته و هو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة و الشره، و يصوره له الخيال بآخر ما يقدر و أقصى ما يمكن.

و الله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده و أظهرها و بينها لهم من طريق الإلهام الفطري، و لا تلهم الفطرة إلا بشيء قامت حاجة الإنسان إليه بحسبها.

و لا دليل على إباحة عمل من الأعمال و سلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود و الطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان المحتاج و بين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى و الأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة و التكوين.

ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الإنكاري أن هناك أقساما من الرزق طيبة ملائمة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، و لا يشعر بها و لا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها و إلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه، و لا دليل على إباحة شيء من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية و الفقر التكويني إليه كما سمعت.

ثم يذكر بالاستفهام الإنكاري أن إباحة زينة الله و الطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل و القضاء الفطري.

و إباحة الزينة و طيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها و الوسط العدل بين الإفراط و التفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، و قد قال الله سبحانه في الآية السابقة: "و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" و قال فيما قبل ذلك: "قل أمر ربي بالقسط".

ففي التعدي إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط من تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط، و فساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر و البحر و تنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس و إسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، و هو الإنسان إذا جاوز حد الاعتدال، و تعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد و لا يلوي على شيء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية و يذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، و من هذا القليل الأمر الإلهي بضروريات الحياة كالأكل و الشرب و اللبس و السكنى و أخذ الزينة.

قال صاحب المنار، في بعض كلامه - و ما أجود ما قال: - و إنما يعرفها - يعني قيمة الأمر بأخذ الزينة مع بساطته و وضوحه - من قراء تواريخ الأمم و الملل، و علم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات و الغابات أفرادا و جماعات يأوون إلى الكهوف و المغارات، و القبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار و جبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء و رجالا، و أن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا و علمهم لبس الثياب بإيجابه للستر و الزينة إيجابا شرعيا.

و لما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه و تحويلهم إلى ملتهم و لتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الإسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى و إيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الأوروبية فيهم.



بل أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة و العلوم و الفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون و يتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب و قلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد.

هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما و حديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم و رجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم و صناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين - و يسمونهما "سبيلين" و هي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الأسفل فقط و امرأة مكشوفة البطن و الفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، و قد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، و الأكل في الأواني و لا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر و يأكلون منه، و لكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا و زينة لأن المسلمين كانوا حكامهم، و قد كانوا و لا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما و عملا و تأثيرا في وثني بلادهم.

و أما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس و كثير من الأعمال الدينية، و منهم نساء مسلمي "سيام" اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الإسلام يكون الستر و الزينة اللائقة بكرامة البشر و رقيهم.

فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام و لو لا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما و شعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، و إنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ و إن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ و هو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي و لا شرع ديني، و قد يقول مثل هذا في قوله تعالى: "كلوا و اشربوا" انتهى.

و مما يناسب المقام ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، و العلم علمان: علم الأديان و علم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية و هو قوله: "كلوا و اشربوا و لا تسرفوا" و جمع نبينا الطب في قوله: "المعدة بيت الداء، و الحمية رأس كل دواء، و أعط كل بدن ما عودته" فقال الطبيب: ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا.

قوله تعالى: "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم و المؤمنين جميعا كما يعمهم جميعا ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا" و لازمه أن تكون الزينة و طيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعا، مؤمنهم و كافرهم.



فقوله: "قل هي للذين آمنوا" إلخ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة و المزية، و إذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، و لازم ذلك أن يكون قوله: "في الحياة الدنيا" متعلقا بقوله: "آمنوا" و قوله: "يوم القيامة" متعلقا بما تعلق به قوله: "للذين آمنوا" و هو قولنا كائنة أو ما يقرب منه، "و خالصة" حال عن الضمير المؤنث و قدمت على قوله: "يوم القيامة" لتكون فاصلة بين قوليه: "في الحياة الدنيا" و "يوم القيامة" و المعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيامة و هي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة.

و بهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم و المنغصات و المعنى: هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة، و هي خالصة يوم القيامة من ذلك.

و ذلك أنه ليس في سياق الآية و لا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها و يكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص.

و كذا ما في قول بعض آخر: إن قوله: "في الحياة الدنيا" متعلق بما تعلق به قوله "للذين آمنوا" و المعنى: هي ثابتة للذين آمنوا بالأصالة و الاستحقاق في الحياة الدنيا، و لكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم و إن لم يستحقها مثلهم، و هي خالصة لهم يوم القيامة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع "خالصة" بالرفع على أنها خبر و الباقون بالنصب على الحالية - و ذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة، و الأوامر المحرضة لإصلاح الحياة بأخذ الزينة و الارتزاق بالطيبات و القيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق و الأنفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات و الفنون المستخدمة في الرقي في المدنية و الحضارة، و معرفة قدرها و الشكر عليها.

كل ذلك من طريق الوحي و النبوة.

وجه فساده: أنه إن أراد أن ما ذكره من الأصالة و التبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية أجنبية عن الدلالة على ذلك، و إن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها و أن ذلك بالأصالة و التبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على اشتراك الطائفتين معا في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة و التبعية.

بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله: "و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون - إلى أن قال - و إن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين": الزخرف: 35، خلاف ذلك و أن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به.

و قد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال: "كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون".

قوله تعالى: "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن" إلى آخر الآية، قد تقدم البحث المستوفى عن مفردات الآية فيما مر، و إن الفواحش هي المعاصي البالغة قبحا و شناعة كالزنا و اللواط و نحوهما، و الإثم هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الإنسان في حياته و ذلة و هوانا و سقوطا كشرب الخمر الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه و ماله و عرضه و نفسه و نحو ذلك، و البغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم و التعدي على الناس و الاستيلاء غير المشروع عليهم، و وصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله: "ما لم ينزل به سلطانا".



و كان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة و طيبات الرزق داعيا لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، و لا يشذ عما ذكره شيء من المحرمات الدينية، و هي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال و هي الثلاثة الأول، و ما يرجع إلى الأقوال و الاعتقادات و هو الأخيران، و القسم الأول منه ما يرجع إلى الناس و هو البغي بغير الحق، و منه غيره و هو إما ذو قبح و شناعة فالفاحشة، و إما غيره فالإثم، و القسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه.

قوله تعالى: "و لكل أمة أجل" إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون" نظير الأحكام الآخر المستخرجة منها المذكورة سابقا، و مفاده أن الأمم و المجتمعات لها أعمار و آجال نظير ما للأفراد من الأعمار و الآجال.

و ربما استفيد من هذا التفريع و الاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقا: "قال فيها تحيون" إلخ، راجع إلى حياة كل فرد فرد و كل أمة أمة، و هي بعض عمر الإنسانية العامة، و إن قوله قبله: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين" راجع إلى حياة النوع إلى حين و هو حين الانقراض أو البعث، و هذا هو عمر الإنسانية العامة في الدنيا.

قوله تعالى: "يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي" إلى آخر الآيتين.

"إما" أصله إن الشرطية دخلت على ما، و في شرطها النون الثقيلة، و كأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة، و المراد بقص الآيات بيانها و تفصيلها لما فيه من معنى القطع و الإبانة عن مكمن الخفاء.

و الآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا و هي رابعها و آخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة و طريق الوحي، و الأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه: "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى" إلخ، فبين أن إتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: "قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم" قال: نزلت في الخمس من قريش و من كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الأنصار الأوس و الخزرج و خزاعة و ثقيف و بني عامر بن صعصعة و بطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، و لا يأتون البيوت إلا من أدبارها، و لا يضطربون وبرا و لا شعرا إنما يضطربون الأدم، و يلبسون صبيانهم الرهاط، و كانوا يطوفون عراة إلا قريشا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها، و قالوا: هذه ثيابنا التي تطهرنا إلى ربنا فيها من الذنوب و الخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا؟ فإن لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم التي كانوا وضعوا.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها و طافت و وضعت يدها على قبلها و قالت: اليوم يبدو بعضه أو كله. فما بدا منه فلا أحله. فنزلت هذه الآية: خذوا زينتكم عند كل مسجد إلى قوله و الطيبات من الرزق.

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و مجاهد و عطاء لكنك قد عرفت أن الآيات المصدرة بقوله "يا بني آدم" أحكام و شرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختص بأمة دون أمة فهذه الآحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها، و أعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان.



في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة و الزينة اللباس و هو ما يواري السوآت و ما سوى ذلك من جيد البز و المتاع.

و فيه،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب و غيرها و هو قول الله: "قل أ رأيتم ما أنزل الله لكم من رزق - فجعلت منه حراما و حلالا" و هو هذا فأنزل الله: "قل من حرم زينة الله - التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق - قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا" يعني: شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامها و لبسوا من جياد ثيابها، و نكحوا من صالح نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شيء.

أقول: و الروايتان - كما ترى - ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، و المعول على ذلك.

و فيه،: أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد عمل خيرا أو شرا إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه، و تصديق ذلك في كتاب الله: "و لباس التقوى ذلك خير" الآية.

و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "يا بني آدم قد أنزلنا" الآية. لباس التقوى ثياب بيض.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عثمان: قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ: "و رياشا" و لم يقل: و ريشا.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم - لباسا يواري سوءاتكم و ريشا و لباس التقوى" قال: فأما اللباس فاللباس التي تلبسون، و أما الرياش فالمتاع و المال، و أما لباس التقوى فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة و إن كان عاريا من اللباس، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا من اللباس.

أقول: و ما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الأخذ ببعض المصاديق و قد تكرر نظير ذلك في الروايات.

و في تفسير القمي، أيضا في قوله تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا" الآية قال: قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم فقال: "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء" إلى آخر الآية.

و في البصائر، عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن منصور قال: سألته عن قول الله تبارك و تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا - و الله أمرنا بها" إلى آخر الآية فقال: أ رأيت أحدا يزعم أن الله أمرنا بالزنا و شرب الخمور و شيء من المحارم؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرنا بها؟ فقلت: الله أعلم و رسوله، فقال: فإن هذه في أئمة الجور ادعوا أن الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فرد الله عليهم و أخبرنا أنهم قالوا عليه الكذب فسمى الله ذلك منهم فاحشة:. أقول: و رواه في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمد بن منصور قال: سألته و ساق الحديث، و روي ما في معناه في تفسير العياشي، عن محمد بن منصور عن عبد صالح فعلم أن في السند أبا وهب و عنه يروي الحسين بن سعيد و أن الحديث مروي عن موسى بن جعفر (عليه السلام).



و كيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية و لا ما ذكر فيه من الحجة ينطبق على موردها فإن أهل الجاهلية كانت عندهم أحكام كثيرة متعلقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونه إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عاريا.

لكن الحجة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول أقرب انطباقا على أئمة الجور و الحكام الظلمة فإن المسلمين مرت بهم أعصار يتولى فيها أمورهم أمثال الدعي زياد بن أبيه و ابنه عبيد الله و الحجاج بن يوسف و عتاة آخرون، و حول عروشهم و كراسيهم عدة من العلماء يفتون بنفوذ أحكامهم و وجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم".

فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر إليه فقد كذب على الله.

و فيه،: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): من زعم أن الله أمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه فقد أخرج الله من سلطانه، و من زعم أن المعاصي عملت بغير قوة الله فقد كذب على الله، و من كذب على الله أدخله الله النار.

أقول: و قوله (عليه السلام): و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه إلخ، ناظر إلى قول المفوضة باستقلال العبد في أفعال الخير و الشر كما أن قوله في الرواية السابقة: و من زعم أن الخير و الشر إليه إلخ، "ناظر إلى قول المجبرة: أن الخير و الشر و الطاعة و المعصية إنما تستند إلى إرادة الله من غير أن يكون لإرادة العبد و مشيته دخل في صدور الفعل و إن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوضة.

و في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد" قال: هذه القبلة.

أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق كما تبين من البيان السابق، و روى مثله العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام).

و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: "و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد" قال: مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.

أقول: الظاهر أن مراده (عليه السلام) أن معنى إقامة الوجوه في الآية التوجه إلى الله باستقبال القبلة عند كل مسجد يصلى فيه ثم القبلة تعينت بمثل قوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره": البقرة: 144، و هي الكعبة إذ قد تقدم في الكلام على آيات القبلة أن الكعبة إنما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، و الآية التي نحن فيها و هي من سورة الأعراف مكية و لعل أصل الجعل في هذه السورة ثم تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنية إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أن الأحكام الآخر المفصلة من الواجبات و الحرمات تشتمل السور المكية على إجمالها و تشرع تفاصيلها أو تفسر و تبين في السور المدنية.



فقوله (عليه السلام): مساجد محدثة إلخ، معناه أن المراد بكل مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الأرض، و المراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه التي في آية الكعبة و هي استقبال الشطر من المسجد الحرام.

و في تفسير العياشي، عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: "و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد" يعني الأئمة.

أقول: الظاهر أن المراد به أئمة الجماعات، و سيجيء له معنى آخر.

و فيه،: عن الحسين بن مهران عنه (عليه السلام) في قول الله: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال: يعني الأئمة.

أقول: و هو كالحديث السابق فإن تقديم الإمام زينة الصلاة و من المستحب شرعا تقديم خيار القوم و وجوههم للإمامة و يمكن أن يكون المراد بالأئمة أئمة الدين على ما سيجيء من رواية العلاء بن سيابة في آخر البحث.

و في الدر المنثور، أخرج العقيلي و أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال: صلوا في نعالكم.

أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق أخرى عن علي و أبي هريرة و ابن مسعود و شداد بن الأوس و غيرهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه،: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء و أصحابه و علي قميص رقيق و حلة فقالوا لي: أنت ابن عباس و تلبس مثل هذه الثياب؟ فقلت: أول ما أخاصمكم به قال الله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و خذوا زينتكم عند كل مسجد، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلبس في العيدين بردي حبرة.

و في الكافي، بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله بن عباس إلى ابن الكواء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلة فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا و أنت تلبس هذا اللباس؟ فقال: و هذا أول ما أخاصمكم فيه قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده - و الطيبات من الرزق و قال الله عز و جل: خذوا زينتكم عند كل مسجد.

و في الكافي، بإسناده عن فضالة بن أيوب في قول الله عز و جل: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال: في العيد و الجمعة:. أقول: و رواه في التهذيب، عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عنه، و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في الفقيه، سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال من ذلك التمشط عند كل صلاة.

أقول: و في معناها غيرها من الروايات.

و في تفسير العياشي، عن خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علي (عليهما السلام) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي و هو يقول: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" فأحب أن ألبس أجود ثيابي: أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا.



و في الكافي، بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال: دخلت يوما على أبي عبد الله (عليه السلام) و علي جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت: جعلت فداك علي جبة خز و طيلسان خز هذا ما تقول فيه؟ فقال: لا بأس بالخز قلت: و سداه إبريسم فقال: و ما بأس يا إبراهيم فقد أصيب الحسين (عليه السلام) و عليه جبة خز ثم ذكر (عليه السلام) قصة عبد الله بن عباس مع الخوارج و احتجاجه عليهم بالآيتين.

و فيه،: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال: مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله (عليه السلام) و عليه أثواب كثيرة قيمة حسان فقال: و الله لآتينه و لأوبخنه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله و الله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس و لا علي و لا أحد من آبائك! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمان قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره، و إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها و أحق أهلها بها أبرارها ثم تلا: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده - و الطيبات من الرزق" فنحن أحق من أخذ ما أعطاه الله. يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الأعلى و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، ثم قال: هذا لبسته لنفسي و ما رأيته للناس ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظا خشنا و داخل ذلك الثوب لين فقال: لبست هذا الأعلى للناس، و لبست هذا لنفسك تسترها.

و فيه، بإسناده عن ابن القداح قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) متكئا علي فلقيه عباد بن كثير و عليه ثياب مروية حسان فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة و كان أبوك فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق؟ إن الله عز و جل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه، و ليس به بأس.

و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

و في قرب الإسناد، للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: قال (عليه السلام) لي: ما تقول في اللباس الخشن؟ فقلت: بلغني أن الحسن كان يلبس، و أن جعفر بن محمد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمس في الماء فقال لي البس و جمل فإن علي بن الحسين كان يلبس الجبة الخز بخمس مائة درهم، و المطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه و تصدق بثمنه، و تلا هذه الآية: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده - و الطيبات من الرزق".



أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة جدا، و من أجمعها معنى الرواية الآتية في تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أ ترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه؟ لا و لكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، و جوز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا قصدا، و يلبسوا قصدا، و ينكحوا قصدا، و يركبوا قصدا، و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و يشرب حلالا و يركب حلالا، و ينكح حلالا، و من عدا ذلك كان عليه حراما، ثم قال: و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين أ ترى الله ائتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم و يجزيه فرسا بعشرين درهما، و يشتري جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا و قال: و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نكون بطريق مكة و نريد الإحرام فنطلي و لا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق و قد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟ فقال: مخافة الإسراف؟ قلت: نعم، فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به، إنما الإسراف فيما أفسد المال و أضر بالبدن، قلت: و ما الإقتار؟ قال: أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره. قلت: فما القصد؟ قال: الخبز و اللحم و اللبن و الخل و السمن مرة هذا و مرة هذا.

و في الكافي، بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: قول الله عز و جل: "قل إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق" فأما قوله: ما ظهر منها يعني الزنا المعلن و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية للفواحش، و أما قوله عز و جل: و ما بطن يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان للرجل زوجة و مات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عز و جل ذلك، و أما الإثم فإنها الخمر بعينها.

أقول: و الرواية ملخصة من كلامه (عليه السلام) مع المهدي و قد رواها في صورة المحاجة في الكافي، مسندة و في تفسير العياشي، مرسلة و أوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا (عليه السلام) عن قول الله: "إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن" قال: إن للقرآن ظهرا و بطنا فأما ما حرم به في الكتاب هو في الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الحق.

أقول: و رواه في الكافي، عن محمد بن منصور مسندا، و فيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الحق.

أقول: انطباق المعاصي و المحرمات على أولئك و المحللات على هؤلاء لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما يناسبه من الأعمال.

و من هذا الباب ما في التهذيب، بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال: الغسل عند لقاء كل إمام، و كذا ما تقدم من روايتي الحسين بن مهران.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و ابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ تعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد و الله أغير مني، و من أجله حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا شخص أغير من الله.

و في تفسير العياشي، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من أحد أغير من الله تبارك و تعالى، و من أغير ممن حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن؟.

و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون" قال: هو الذي يسمى لملك الموت.

أقول: و قد تقدمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: "هو الذي قضى أجلا و أجل مسمى عنده": الأنعام: 2.

بحث روائي مختلط بغيره



في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: "كما بدأكم تعودون - فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة" قال: خلقهم حين خلقهم مؤمنا و كافرا و شقيا و سعيدا، و كذلك يعودون يوم القيامة مهتد و ضال.

قال علي بن إبراهيم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه.

أقول: الرواية و إن كانت عن أبي الجارود و هو مطعون غير أن القوم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حال استقامته قبل انحرافه عنه، على أن الآية قد فسرت بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم الليثي عن أبي جعفر (عليه السلام) و غيره، و قد وقع هذا المعنى في روايات أخرى واردة في تفسير آيات القدر، و هي روايات جمة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أن آخر الخلقة يشاكل أولها، و عود الإنسان يناظر بدأه، و أن المهتدي في آخر أمره مهتد من أول، و أن الضال كذلك ضال من أول و الشقي شقي في بدء خلقته و السعيد سعيد فيه، و الروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة و الشقاوة الذاتيتين بمعنى ما يقتضيه ذات الإنسان و يلزم ماهيته كالزوجية للأربعة فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه إذ لو رجع إلى مجرد التصوير العقلي من غير مطابقة للواقع الخارجي لم يستلزم أثرا حقيقيا لتأخر الوجود عن ماهيات الأشياء و عروضه لها في الذهن و الخارج على خلافه، و لو رجع إلى اقتضاء ذاتي حقيقي تملك به الماهية الإنسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلا أن يظهر منها ما كان دفينا في ذاته كامنا في باطنها كان في ذلك إبطال لإطلاق ملك الله سبحانه و تحديد لسلطانه، و الكتاب و السنة و العقل متعاضدة على نفيه.

على أن ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في أمورهم و اتفاقهم على توقع التأثير في باب التعليم و التربية، و تسالمهم على وجود ما يستتبع المدح و الذم أو يتصف بالحسن و القبح يدفعه.

و كذا يوجب لغوية تشريع الشرائع و إنزال الكتب و إرسال الرسل، و لا معنى لإتمام الحجة في الذاتيات بأي معنى صورناها بعد ما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات.

و الكتاب الكريم يسلم نظام العقل و يصدق بناء الإنسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، و يبين فما يبين أن الله سبحانه خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم أنبته نباتا حسنا حتى أنعم عليه بالبلوغ و العقل، يفعل باختياره و يميز بين الحسن و القبيح، و الخير و الشر، و النفع و الضرر و الطاعة و المعصية، و الثواب و العقاب بعقله، ثم أنعم عليه بتكاليف دينية فإن اتبع عقله و أطاع ربه فيما يأمره و ينهاه كان سعيدا و جوزي أحسن الجزاء، و إن خالف عقله و اتبع هواه و عصى ربه كان شقيا و ذاق وبال أمره، و الدار دار امتحان و ابتلاء، و العمل اليوم و الجزاء غدا.

و أساس هذا البيان كما ترى - على قضيتين اثنتين: إحداهما: أن بين الفعل الاختياري و غيره فرقا، و هي قضية عقلية ضرورية، و الثانية: أن الأفعال الاختيارية تتصف بحسن و قبح و تستتبع مدحا و ذما و ثوابا و عقابا، و هي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها و هو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته.



و بالجملة لا مجال للقول بالسعادة و الشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبدا فما ورد من الآيات و الروايات التي تعطف آخر الأمر على أوله إنما تسند الأمر إلى الخلق و الإيجاد دون ذات الإنسان بما أنه إنسان، و قد عرفت أن ارتباط السعادة و الشقاء بأفعال الإنسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك و لا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات و الروايات.

و الروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها و أنحاء بيانها طبقا للآيات: فمنها ما دل على ذلك إجمالا، و أن الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقي و سعيد، و كافر و مؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة، و ما مر في ذيل قوله تعالى: "هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء": آل عمران: 6، من رواية الكافي، في خلقة الجنين.

و هذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن": التغابن: 2، و قوله: "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض و إذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى": النجم: 32، و قوله تعالى: "كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة" الآية.

و لا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها و يدل عليه ذيل الأخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الإنساني مشتملا على فريقين، و إنما يفصل الإجمال، و يتعين كل من الطائفتين، و تتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة، و تستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين، و بعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الإطلاق بالأعمال الاختيارية بعد ذلك.

و منها: ما يدل تفصيلا أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة و إليه مرجعه، و منهم من خلقه من طينة النار و إليها مآله ففي البصائر، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال: أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولايتنا لا يزيدون و لا ينقصون إن الله خلقنا من طينة عليين و خلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك، و خلق عدونا من طينة سجين و خلق أولياءهم من طينة أسفل من ذلك.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة جدا.

و في المحاسن، عن عبد الله بن كيسان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أما النسب فأعرفه، و أما أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل و نشأت بأرض فارس، و أنا أخالط الناس في التجارات و غير ذلك فأرى الرجل حسن السمت و حسن الخلق و الأمانة ثم أفتشه فأفتشه عن عداوتكم، و أخالط الرجل و أرى فيه سوء الخلق و قلة أمانة و زعارة ثم أفتشه فأفتشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك. فقال: أ ما علمت يا ابن كيسان إن الله تبارك و تعالى أخذ طينة من الجنة و طينة من النار فخلطهما جميعا ثم نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة و حسن السمت و حسن الخلق فمما مستهم من طينة الجنة، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه، و ما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة و سوء الخلق و الزعارة، فمما مستهم من طينة النار، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه.

أقول: و الروايات في هذا المعنى أيضا كثيرة جدا.

و في العلل، عن حبة العرني عن علي (عليه السلام) قال: إن الله خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ، و منه الملح، و منه الطيب فكذلك في ذريته الصالح و الطالح.



أقول: و حديث الخلق من طينة عليين و سجين إشارة إلى قوله تعالى: "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين و ما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون": المطففين: 21، أما الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلها، و أما الروايات فالرواية الأخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدم عليها.

و ذلك أنها تدل على أن المادة الأرضية على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الإنسان و أوصافه من حيث الصلاح و الطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أن اختلاف المواد لها تأثير ما قطعي في اختلاف الصور الطارئة عليها و الآثار البارزة منها و إن كان ذلك على الاقتضاء دون العلية التامة.

فقوله (عليه السلام): إن الإنسان مخلوق من الطين ثم قوله: إن أصله من الجنة أو من النار يفيد أن من الأرض ما هو من الجنة و منها ما هي من النار و إليهما يئول فإنها تصير إنسانا ثم يسلك إلى الجنة أو إلى النار، و إنما يسلك إلى كل منهما ما يناسبها في مادة الخلقة فهذا الموجود المادي الأرضي هو الذي يصفو فيدخل الجنة و يكون طينه طين الجنة، أو يزيد في التكدر و الانحطاط فيدخل النار فيكون وقودا لها.

و يشعر به بعض الإشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: "الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء" الآية: الزمر: 74، فإن ظاهر الآية أن المراد من الأرض هو هذه الأرض يسكنها الإنسان و يموت فيها و يبعث منها، و هي المرادة من الجنة، و إليه يشير أيضا قوله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات": إبراهيم: 48.

فكأن المراد بطينة الجنة و النار في الروايات الطينة التي ستكون من أجزاء الجنة أو النار، و خاصة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقوله (عليه السلام): من طينة عليين و من طينة سجين و من طينة الجنة و من طينة النار.

و على هذا فالمراد الإنسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضية إما مادة طيبة أو مادة خبيثة، و هي بحسب وصفها البارز فيها مؤثرة في الإنسان في إدراكاته و عواطفه الباطنية و قواه ثم إذا شرعت قواه و عواطفه المناسبة لمادته في العمل تأيدت أعمال المادة بأعمال العواطف و القوى و بالعكس و لم يزل على ذلك يشتد أمره حتى يتم إنسانا سعيدا أو شقيا على حسب ما نظمه الله من عمل الأسباب و أراده و لله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الأسباب الموجودة الفعالة يبدل مجرى سير الإنسان و يمنع من تأثير الأسباب المخالفة له.

ترى الإنسان المتكون من نطفة صالحة غير مئوفة مرباة في رحم سالمة و ممدة بأغذية صالحة في هواء سالم و محيط سالم أشد استعدادا للسلوك في المسلك الإنساني، و أوقد ذهنا و ألطف إدراكا، و أقوى للعمل فالأمزجة السالمة بالوراثة ثم بإمداد النطفة بأسبابها و شرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الإنسانية، و المناطق الرديئة ماء و هواء و الصعبة الخشنة في أسبابها الحيوية كالمناطق الإستوائية و القطبية أقرب إلى الخشونة و القسوة و البلادة من غيرها.



ثم الأمزجة السالمة من موانع لطف الإدراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيدة و عواطف رقيقة تميل بالإنسان إلى ما فيه صلاح إنسانيته من العقائد و الإرادات و الأعمال، و تقربه من المواد الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله و لا يزال يتعاكس التأثير حتى يتم الأثر، و نظير الكلام جار في جانب الشقاء قال تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين": العنكبوت: 69، و قال "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون": الروم: 10 و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و مع ما نعلم من تأثير المواد الأرضية في نحو حياة الإنسان السعيدة و الشقية لسنا نحصي من الأسباب الدخيلة في هذا الباب إلا بعض الأسباب العامة البينة التي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الأبوين و الغذاء الممد للبقاء و المنطقة من الأرض التي يعيش فيها الإنسان و غيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثرة خفية عنا، و من شواهد ذلك نوادر الأفراد الذين ينشئون في غير ما نحسبه منشأ لهم و الله يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي.

و بالجملة سعادة الإنسان في حياته أعني سعادته في علمه و عمله لها ارتباط تام بطيب مواده الأصلية فهي التي تقبل ما يناسبها من الروح، و هي التي تهتدي إلى الجنة، و كذلك شقاء الإنسان في علمه بترك العقل و العكوف على الأوهام و الخرافات التي تزينها له عواطف الشهوة و الغضب، و في عمله بالتمتع من لذائذ المادة، و الاكتناه و الاسترسال في الشهوات الحيوانية و الاستكبار عن كل حق لا يوافق هواه.

فهذان القبيلان من الأسباب المادية يسوقان الإنسان إلى الحق و الباطل و السعادة و الشقاء و الجنة و النار غير أنهما مقتضيان من غير علية تامة، و لله سبحانه المشية فيهما و البداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب، و قد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران.

و في معناه أحاديث أخر تثبت لله المشية و جواز المحو و الإثبات في الأمور.

و يمكن أن توجه هذه الأخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن و قدم صدق في المعارف الحقيقية، و هو أن السعادة و الشقاوة في الإنسان إنما تتحققان بفعلية الإدراك و استقراره، و الإدراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها و لا محكومة بأحكامها و منها الزمان الذي هو مقدار حركتها، و نحن و إن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة و ذلك نظير ما ننسب أمورا حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيدا في زمان كذا، و أهلك قوم نوح، و نجى قوم يونس، و بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان و إنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة و كونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان و الحركة التي انتهت إلى وجودها و أما لو أخذت مع زمانها و سائر قيود ذاتها على ما عليه الأمر في نفسه فالفعل الإلهي غير متقيد بالزمان لأنه موجد مجموع الحادث و زمانه و سائر ما يتقيد به، و إن كنا - بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان - نقيد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أن كذا كذا، و رأيته الساعة فنقيد العلم باليوم و الساعة و ليس بمقيد بهما لمكان تجرده، و إنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له.



فالإنسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء - و إن كان مقارنا لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب و السنة - فما له من المال في نفسه لا زمان له و صح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، و أن يسمى بدءا كما يسمى عودا فافهم ذلك.

و منها: ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات و الملح الأجاج كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق ماء عذبا فخلق منه أهل طاعته، و جعل ماء مرا فخلق منه أهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد المؤمن إلا مؤمنا و لا الكافر إلا كافرا.

و فيه، عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن أول ما خلق الله فقال: إن أول ما خلق الله عز و جل ما خلق منه كل شيء. قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الماء. قال: إن الله تبارك و تعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، و الآخر ملح، فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال: يا بحر فقال: لبيك و سعديك. قال: فيك بركتي و رحمتي و منك أخلق أهل طاعتي و جنتي، ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي و منك أخلق أهل معصيتي و من أسكنته ناري ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا. قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

و في تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام) قال: إن الله قال لماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال لماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين، الحديث و هو طويل.

أقول: و في معنى كل من هذه الأحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة أخرى مروية عن علي و الباقر و الصادق و غيرهم (عليهم السلام)، و إنما أوردنا ما أوردناه بعنوان الأنموذج.

و هذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى: "و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا و ما تحمل من أنثى و لا تضع إلا بعلمه و ما يعمر من معمر و لا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير، و ما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج و من كل تأكلون لحما طريا و تستخرجون حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون": الفاطر 12، و أنت ترى موقع الآية الثانية من الأولى، و أنها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية و شرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتحادهم في الإنسانية و اشتراكهم في بعض المنافع و الآثار.

و قد قال تعالى: "و جعلنا من الماء كل شيء حي": الأنبياء: 30.

و قوله تعالى: "و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا": الفرقان: 54، و سيجيء بيان الآيات في محلها.

و أما الروايات فإنها - كما ترى - في معناها تعود قسمين: أحدهما: ما يذكر أن الماءين العذب الفرات و الملح الأجاج أجريا على الطين الذي خلق منه الإنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، و هذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدم من الأخبار الدالة على أن اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة و قد قدمناه.



و ثانيهما: ما دل على أن الخلقة أعم من خلقة الإنسان و غيره، حتى الجنة و النار تنتهي إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة و الشقاوة أما اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة و الملوحة فيعود أيضا إلى القسم الأول و يجري فيه الكلام السابق فإن القسم الأول من هذه الأخبار يعود كالمفسر لهذا القسم الثاني ثم هما معا كالمفسر لأخبار الطينة السابقة.

و أما انتهاء الخلقة إلى أصل أولي هو الماء فسيجيء البحث فيه فيما يناسبه من المحل إن شاء الله العزيز.

و منها: ما دل على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور و الظلمة كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، و خلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا، و خلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم قرأ "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين - و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون". و إن الله تبارك و تعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين، و خلق أبدانهم من دون ذلك، و خلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثم قرأ: "إن كتاب الفجار لفي سجين و ما أدراك ما سجين - كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين". أقول: و في معناه روايات أخر، و هو في الحقيقة راجع إلى ما تقدم من الروايات الدالة على انتهاء الخلقة إلى طينة عليين و طينة سجين، و إنما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نورا و ظلمة، و لعل ذلك لكون طينة السعادة مما يظهر به الحق و تنجلي به المعرفة بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الذي هو ظلمة و عمى فطينة السعادة نور، و كثيرا ما يسمي القرآن العلم و الهدى نورا كما يسمي الإيمان حياة قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122.

و قال: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات": البقرة: 257، و في كون النور أصلا لخلقة طائفة من الموجودات كالأنبياء و الملائكة و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و الجنة أخبار كثيرة أخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله.



و منها: ما دل على لحوق حسنات الأشقياء بالسعداء يوم القيامة و بالعكس كما في العلل، بإسناده عن إبراهيم الليثي عن الباقر (عليه السلام) في حديث طويل: ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت و بدا شعاعها في البلدان أ هو بائن من القرص؟ قلت: في حال طلوعه بائن. قال أ ليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه؟ قلت: نعم. قال: كذلك يعود كل شيء إلى سنخه و جوهره و أصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عز و جل سنخ الناصب و طينته مع أثقاله و أوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، و ينزع سنخ المؤمن و طينته مع حسناته و أبواب بره و اجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن. أ فترى هاهنا ظلما و عدوانا؟ قلت: لا يا ابن رسول الله. قال: هذا و الله القضاء الفاصل و الحكم القاطع، و العدل البين، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت. قلت: يا ابن رسول الله و ما حكم الملكوت؟ قال: حكم الله و حكم أنبيائه و قصة الخضر و موسى حين استصحبه فقال: إنك لن تستطيع معي صبرا - و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا افهم يا إبراهيم و اعقل، أنكر موسى على الخضر و استفظع أفعاله حتى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، و إنما فعلته عن أمر الله عز و جل الحديث.

أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى: "ليميز الله الخبيث من الطيب، و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم": الأنفال: 37، و آيات أخر ذكرها (عليه السلام) في متن الرواية، و الآية - كما ترى - تذكر أن الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيب من الخبيث و يميز بينها تمييزا تاما لا يبقى في قسم الطيب من خلط الخباثة شيء، و لا في سنخ الخبيث من خلط الطيب شيء ثم يجمع كل خبيث برد بعضه إلى بعض و إلحاق بعضه ببعض، و يرجع الآثار و الأعمال حينئذ إلى موضوعاتها، و ترد الفروع إلى أصولها لا محالة، و لازم ذلك اجتماع الحسنات جميعا في جانب و رجوعها إلى سعادة الذات الذي لا تمازجه شقاوة أصلا، و اجتماع السيئات جميعا في جانب و رجوعها إلى منشئها الخالص في منشئيته، و هو الذي تبينه الرواية.

قوله (عليه السلام): أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إلخ تمثيل بظاهر الحس على كون الأثر مظهرا لمؤثره مسانخا له قائما به ملازما لوجوده، و قوله (عليه السلام): هذا و الله القضاء الفاصل إلخ، هذا مع كونه بحسب بادىء النظر خلاف العدل مبني على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة و السنخية بين الفاعل و فعله و المؤثر و أثره، و لازمه الحكم بأن كل فعل من الأفعال إنما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لا يناسبه، و إن كان قضاء النظر السطحي المعتمد على ظاهر الحس بخلافه.

فالفعل من حيث كونه حركات كذا و سكنات كذا فهو للموضوع الذي يتحرك و يسكن بها، و أما من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيئة و من آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنما هو لذات سعيدة أو شقية تناسبه في وصفه، و لو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثم وجد شيء من حكم كل في الآخر فإنما هو الامتزاج وقع بين الموضوعين و اختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الأصلي القائم بأمره و إن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء التي عاملها الأصلي نار أو شمس مثلا و إن كانت صفة بارزة في الماء ظاهرا فالحرارة للنار مثلا و إن ظهرت في الماء و هذا مما لا يرتاب فيه الخبير بالأبحاث الحقيقية.

و على هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتا و السعداء جوهرا و سنخا، و السيئات للمسيئين ذاتا و الأشقياء طينة و أصلا بحسب ظرف الحقيقة و وعاء الحق فهو الذي يقتضيه العدل الحقيقي.

و لا يناقضه أمثال قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره": الزلزال: 8، و قوله: "ألا تزر وازرة وزر أخرى": النجم: 38 و قوله: "لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت": البقرة: 286، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بأن تبعة كل فعل إنما هو لفاعله إن خيرا فخير و إن شرا فشر.



و ذلك أن الذي تحكم به الآيات في محله و لا يتخطاه لكن لما كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعي الدنيوي هو الذي تقوم به الحركة و السكون المسمى فعلا فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذم أو ثواب أو عقاب دنيويين و أما بحسب النظر الحقيقي ففاعل الفعل الأصل الذي يسانخه الفعل و يناسبه و هو غير من قامت به الحركات و السكنات المسماة فعلا، و رجوع هذا الفعل و ما له من الآثار الحسنة أو السيئة إلى هذا الأصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطني الذي يسميه (عليه السلام) حكما ملكوتيا في طول الحكم الظاهري الذي نألفه في حياتنا الاجتماعية.

و إذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر و تظهر فيه الحقائق و لا يحتجب الحق فيه بشيء كما مرت الإشارة إليه كرارا - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الذي يلحق كل حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كل شيء إلى أصله قال تعالى: "و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون": الزمر: 47، و قال: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22، و قال: "ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء": الطور: 21، و قال: "و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم": العنكبوت: 13.

و من هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتي بيوم القيامة مع أن البرزخ و هو ما بين الموت و البعث أيضا من ظروف المجازاة و من أيام الله، و ذلك لأن الظاهر من كلامه تعالى أن البرزخ من تتمة المكث الأرضي محسوب من الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا": المؤمنون: 114، و قوله: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث": الروم: 56.

فالحياة البرزخية كأنها من بقايا الحياة الدنيوية محكومة ببعض أحكامها، و الناس فيها بعد في طريق التصفية و التخلص إلى سعادتهم و شقاوتهم، و الحكم الفصل الذي يحتاج إلى السنخ الخالص و الذات الممحوضة بعد هذه الحياة.

و من هنا يظهر أيضا سر ما يظهر في القرآن و الحديث أن الله سبحانه يجازي الكفار جزاء حسناتهم التي أتوا بها في الدنيا.

و أما في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، و ليس لهم فيها إلا النار فافهم ذلك.

و قوله (عليه السلام): "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون" تعليل منه لما بينه من الحكم الملكوتي بالآية، و ذلك أن السؤال عن شيء سواء كان فعلا فعله فاعل أو قضى به قاض أو خبرا أخبر به مخبر إنما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أن يبين مطابقة ما أتى به الواقع و يطبقه على الحق فإن ما نأتي به من الأمر إنما هو محاذاة منا للواقع الحق و لا ينقطع السؤال إلا إذا بين لنا وجه الحق فيه و كونه مطابقا للواقع أما إذا كان الفعل الذي أتى به أو الحكم الذي حكم به أو الخبر الذي أخبر به مثلا نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتة.



فإذا سألك سائل مثلا: لم ضربت اليتيم؟ أو لم قضيت أن المال لزيد؟ أو من أين أخبرت أن زيدا قائم؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلا: ضربته للتأديب، و أن تقول إن زيدا ورثه عن أبيه مثلا و أن تريه زيدا و هو قائم مثلا، و هذا هو الحق الواقع المسئول عنه، و أما كون الأربعة زوجا، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة زيد لو جز رأسه من بدنه مثلا فهذه الأمور نفس الواقع الحق و لا معنى لأن يسأل عن الأربعة لم صارت زوجا؟ أو عن العشرة لم صارت أكبر من الخمسة؟ أو عن فعل من الأفعال أو أثر من الآثار و عنده فاعله و غايته لم كان كما كان؟ أو لم فعل سببه التام ما فعل؟ فإن ذلك هذر.

و الله سبحانه فعله نفس الواقع الحق، و قوله نفس العين الخارجية و لا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم و كيف.

و جميع القضايا الحقة التي نطبق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقة إنما هي مأخوذة من الخارج الذي هو فعله فلا تحكم في شيء من فعله، و إنما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع و المنتزع للمنتزع منه فافهم، و بتقرير آخر الفعل الإلهي إنما يظهر بالأسباب الكونية فهي بمنزلة الآلات و الأدوات لا يظهر له فعل إلا بتوسطها، و السائل إنما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالأسباب مثلا إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لم أهلك الله زيدا و لم يرحم شبابه و لا أبويه المسكينين؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنه لم هدم عليه الحائط؟ فإذا أجيب بأن السماء أمطرت فاسترخت أصله و مال به الثقل فسقط و كان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى أمطار السماء و هلم جرا، و لا يقع السؤال إلا على أثر مجهول العلة، و أما الأثر المعلوم العلة فلا يقع عنه سؤال و ليس إلا أن السائل بجهله يقدر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه التي فاجأته بسلسلتها فتوهم أن الله سبحانه فعل به ما فعل جزافا من غير سبب و لذلك بادر إلى السؤال و لو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: "لا يسأل عما يفعل" إلخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة.

و قوله (عليه السلام): حكم الله و حكم أنبيائه إلخ، أي قضاؤه تعالى و قضاء أنبيائه بإذنه فإنه تعالى إنما يقضي و يحكم الحكم الحق الذي بحسب حقيقة الأمر و باطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد و الأمارات.

فقد تبين معنى لحوق الحسنات و آثارها للذوات الطيبة و سنخ النور، و لحوق السيئات و آثارها للسنخ الظلمة و الفساد و الذوات الخبيثة، و يتبين بما تبين من معنى قوله "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون"، الجواب عن شيء آخر ربما يختلج بالبال في بادىء النظر و هو أنه لم اختصت الذوات الطيبة و سنخ النور بالحسنات و آثارها، و الذوات الخبيثة و سنخ الظلمة بخلافها؟ و لم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة و الجنة الخالدة و استعقبت السيئات النقمة و النار.

و الجواب: أنها آثار واقعية عن روابط خارجية كما تقدم بيانه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعية اعتبارية و إن بينت في لسان الشرع بنظائر ما تبين به تبعات أحكامنا الوضعية الاعتبارية الواقعة في ظرف الاجتماع الإنساني تتميما لنظام التشريع.

إذا عرفت ذلك علمت أن هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات الأشياء و آثارها الذاتية و لا سؤال في الذاتيات غير أنك ينبغي أن تتذكر ما تقدم أن لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم و الأثر، و استغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه و ضمه لنفسه فهذا مما يدفعه البيان الإلهي في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحق و لا سؤال عن ذلك كما اتضح معناه.

و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا": الأعراف: 58، فإنما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، و إنما قيده بقوله: "بإذن ربه" دفعا لتوهم اللزوم الذاتي بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، و في هذا المعنى ما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): جف القلم بالسعادة لمن آمن و اتقى.
<<        الفهرس        >>