جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج9 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


8 سورة الأنفال - 30 - 40

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك أَوْ يخْرِجُوك وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيرُ الْمَكرِينَ (30) وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا قَالُوا قَدْ سمِعْنَا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (31) وَ إِذْ قَالُوا اللّهُمّ إِن كانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَ مَا كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنت فِيهِمْ وَ مَا كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَستَغْفِرُونَ (33) وَ مَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبهُمُ اللّهُ وَ هُمْ يَصدّونَ عَنِ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ مَا كانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتّقُونَ وَ لَكِنّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَ مَا كانَ صلاتهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلا مُكاءً وَ تَصدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصدّوا عَن سبِيلِ اللّهِ فَسيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنّمَ يحْشرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيث مِنَ الطيِّبِ وَ يجْعَلَ الْخَبِيث بَعْضهُ عَلى بَعْضٍ فَيرْكمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فى جَهَنّمَ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (37) قُل لِّلّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مّا قَدْ سلَف وَ إِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضت سنّت الأَوّلِينَ (38) وَ قَتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكونَ الدِّينُ كلّهُ للّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النّصِيرُ (40)

بيان

الآيات في سياق الآيات السابقة و هي متصلة بها و منعطفة على آيات أول السورة إلا قوله: "و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق" الآية و الآية التي تليها، فإن ظهور اتصالها دون بقية الآيات، و سيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك" إلى آخر الآية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: ضرب محمود و ذلك أن يتحرى به فعل جميل و على ذلك قال: و الله خير الماكرين، و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال: و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله.

و إذ يمكر بك الذين كفروا.

فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، و قال في الأمرين: و مكروا مكرا و مكرنا مكرا، و قال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد و تمكينه من أعراض الدنيا، و لذلك قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه و لم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى.

و في المجمع،: الإثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، و أثبت الحرب أي جرحه جراحة مثقلة.

انتهى.

و مقتضى سياق الآيات إن يكن قوله: "و إذ يمكر بك الذين كفروا" الآية معطوفة على قوله سابقا: "و إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم" فالآية مسوقة لبيان ما أسبغ الله عليهم من نعمته، و أيدهم به من أياديه التي لم يكن لهم فيها صنع.

و معنى الآية: و اذكر أو و ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك و إما أن يقتلوك و إما أن يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين.

و الترديد في الآية بين الحبس و القتل و الإخراج بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما كان يهمهم و يهتمون به من إطفاء نور دعوته، و بذلك يتأيد ما ورد من أسباب النزول أن الآية تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و إذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا" إلى آخر الآية الأساطير الأحاديث جمع أسطورة و يغلب في الأخبار الخرافية، و قوله حكاية عنهم: "قد سمعنا" و قوله: "لو نشاء لقلنا" و قوله: "مثل هذا" و لم يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على إهانتهم بآيات الله و إزرائهم بمقام الرسالة، و نظيرها قولهم: "إن هذا إلا أساطير الأولين".

و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا التي لا ريب في دلالتها على أنها من عندنا و هي تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا و اعتدوا بها و هونوا أمرها و أزروا برسالتنا و قالوا قد سمعنا و عقلنا هذا الذي تلي علينا لا حقيقة له إلا أنه من أساطير الأولين، و لو نشاء لقلنا مثله غير أنا لا نعتني به و لا نهتم بأمثال هذه الأحاديث الخرافية.

قوله تعالى: "و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" إلى آخر الآيتين.



الإمطار هو إنزال الشيء من فوق، و غلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة إمطار المطر لغيره كالحجارة و كيف كان فقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الآية السماوية و الإهلاك الإلهي محضا.

فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا أحد أقسام العذاب و يبقى الباقي تحت قولهم: "أو ائتنا بعذاب أليم" و لذلك نكر العذاب و أبهم وصفه ليدل على باقي أقسام العذاب، و يفيد مجموع الكلام: أن أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما، و إنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن و عذاب الروح بما فيه من الذلة و الإهانة.

ثم قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" يدل بلفظه على أن الذي سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: "هذا هو الحق من عند الله" و فيه شيء من معنى الحصر، و هذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله فإن القول الثاني يواجه به الذي لا يرى دينا سماويا و نبوة إلهية كما كان يقوله المشركون و هم الوثنية: ما أنزل الله على بشر من شيء، و أما القول الأول فإنما يواجه به من يرى أن هناك دينا حقا من عند الله و رسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو الحق من عند الله لا غيره ثم، يرد بالاشتراط في مثل قوله.

اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فالأشبه أن لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم في الرأي أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض أهل الردة ممن أسلم ثم ارتد أو عن بعض أهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك.

و يؤيد هذا الآية التالية لهذه الآية: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" أما قوله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" فإن كان المراد به نفي تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة و النبي فيهم كان مدلوله أن المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم، و المراد بالعذاب غير العذاب الذي جرى عليهم بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القتل و الأسر كما سماه الله في الآيات السابقة عذابا و قال في مثلها: "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا:" التوبة: - 52، بل عذاب الاستئصال بآية سماوية كما جرى في أمم الأنبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود:" حم السجدة: - 13، و كيف يلائم أمثال هذه التهديدات قوله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش و مشركو العرب ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة.



و لو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الأمة، و المراد بقوله: "و أنت فيهم" حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المعنى: و لا يعذب الله هذه الأمة و أنت فيهم حيا كما ربما يؤيده قوله بعده: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع الأمة و لم يناف نزوله على بعضهم كما سمي وقوع القتل بهم عذابا كما في الآيات السابقة، و كما ورد أن الله تعالى عذب جمعا منهم كأبي لهب و المستهزءين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و على هذا لا تشمل الآية القائلين: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" إلى آخر الآية و خاصة باعتبار ما روي أن القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر و قد حقت عليهما كلمة العذاب و قتلا يوم بدر فلا ترتبط الآية: "و ما كان الله ليعذبهم" الآية، بهؤلاء القائلين: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية مع أنها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.

و يشتد الإشكال بناء على ما وقع في بعض أسباب النزول أنهم قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع" و سيجيء الكلام فيه و في غيره من أسباب النزول المروية في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و الذي تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الآية بناء على حملها على ما مر من المعنى أن الله سبحانه أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين و نعمة لهذه الأمة لا نقمة و عذابا.

فيه أنه ليس مقتضى الرحمة للعالمين أن يهمل مصلحة الدين، و يسكت عن مظالم الظالمين و إن بلغ ما بلغ و أدي إلى شقاء الصالحين و اختلال نظام الدنيا و الدين، و قد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: "و رحمتي وسعت كل شيء "و لم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حل به من الأمم الماضية و القرون الخالية كما ذكره في كلامه.

على أنه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل و الهلاك في بدر و غيره عذابا و لم يناف ذلك قوله: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين:" الأنبياء: - 107، و هدد هذه الأمة بعذاب واقع قطعي في سور يونس و الإسراء و الأنبياء و القصص و الروم و المعارج و غيرها و لم يناف ذلك كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: "اللهم إن كان هذا هو الحق" إلخ، ينافي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة مع أن من مقتضى الرحمة أن يوفى لكل ذي حق حقه، و أن يقتص للمظلوم من الظالم و أن يؤخذ كل طاغية بطغيانه.

و أما قوله تعالى: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" فظاهره النفي الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: "معذبهم" و كون قوله: "يستغفرون" مسوقا لإفادة الاستمرار و الجملة حالية، و المعنى: و لا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.

و الآية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة و هم مشركون معاندون لا يخضعون لحق و لا يستغفرون عن مظلمة و لا جريمة، و لا يصلح الأمر بما ورد في بعض الآثار أنهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: "غفرانك اللهم".

و ذلك - مضافا إلى عدم ثبوته - أنه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين و لا سيما أئمة الكفر منهم، و اللاغي من الاستغفار لا أثر له، و لو لم يكن استغفارهم لاغيا و ارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية لم يكن وجه لذمهم و تأنيبهم بقوله تعالى: "و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق" في سياق هذه الآيات المسوقة لذمهم و لومهم و عد جرائمهم و مظالمهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين.



على أن قوله تعالى بعد الآيتين: "و ما لهم ألا يعذبهم الله و هم يصدون عن المسجد الحرام" الآية لا يلائم نفي العذاب في هاتين الآيتين فإن ظاهر الآية أن العذاب المهدد به هو عذاب القتل بأيدي المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" و حينئذ فلو كان القائلون: "اللهم إن كان هذا هو الحق" الآية مشركي قريش أو بعضهم و كان المراد من العذاب المنفي العذاب السماوي لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل و نحوه فإن الكلام حينئذ يئول إلى معنى التشديد: و محصله: أنهم كانوا أحق بالعذاب و لهم جرم آخر وراء ما أجرموه و هو الصد عن المسجد الحرام، و هذا النوع من الترقي أنسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.

و إن كان المراد بالعذاب المنفي هو القتل و نحوه كان عدم الملاءمة بين قوله: "و ما لهم ألا يعذبهم الله" و قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" و بين قوله: "و ما كان الله ليعذبهم" إلخ، أوضح و أظهر.

و ربما وجه الآية بهذا المعنى بعضهم بأن المراد بقوله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" عذاب أهل مكة قبل الهجرة، و بقوله: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" عذاب الناس كافة بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و إيمان جمع و استغفارهم و لذا قيل: إن صدر الآية نزلت قبل الهجرة، و ذيلها بعد الهجرة!.

و هو ظاهر الفساد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع ممن يؤمن بالله و يستغفره، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الآية بقوله: "و أنت فيهم" و ذيلها بقوله: "و هم يستغفرون".

و لو فرض أن معنى الآية أن الله لا يعذب هذه الأمة ما دمت فيهم ببركة وجودك، و لا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله و المراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الآيتين التاليتين: "و ما لهم ألا يعذبهم الله" إلخ مع ما تقدم من الإشكال عليه.

فقد ظهر من جميع ما تقدم - على طوله - أن الآيتين أعني قوله: "و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة" إلى آخر الآيتين لا تشاركان الآيات السابقة و اللاحقة المسرودة في الكلام على كفار قريش في سياقها الواحد فهما لم تنزلا معها.

و الأقرب أن يكون ما حكي فيهما من قولهم و الجواب عنه بقوله: "و ما كان الله ليعذبهم" غير مرتبط بهم و إنما صدر هذا القول من بعض أهل الكتاب أو بعض من آمن ثم ارتد من الناس.

و يتأيد بذلك بعض ما ورد أن القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهري، و قد تقدم الحديث نقلا عن تفسيري الثعلبي و المجمع في ذيل قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية: المائدة: - 67 في الجزء السادس من الكتاب.

و على هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفي العذاب السماوي المستعقب للاستئصال الشامل للأمة على نهج عذاب سائر الأمم، و الله سبحانه ينفي فيها العذاب عن الأمة ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم حيا، و بعده ما داموا يستغفرون الله تعالى.

و يظهر من قوله تعالى: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" بضمه إلى الآيات التي توعد هذه الأمة بالعذاب الذي يقضي بين الرسول و بينهم كآيات سورة يونس: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون": يونس: - 47 إلى آخر الآيات أن في مستقبل أمر هذه الأمة يوما ينقطع عنهم الاستغفار و يرتفع من بينهم المؤمن الإلهي فيعذبون عند ذاك.



قوله تعالى: "و ما لهم ألا يعذبهم الله و هم يصدون عن المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه" إلى آخر الآية استفهام في معنى الإنكار أو التعجب، و قوله: "و ما لهم" بتقدير فعل يتعلق به الظرف و يكون قوله: "ألا يعذبهم" مفعوله أو هو من التضمين نظير ما قيل في قوله: "هل لك إلى أن تزكى:" النازعات: - 18.

و التقدير على أي حال نحو من قولنا: "و ما الذي يثبت و يحق لهم عدم تعذيب الله إياهم و الحال أنهم يصدون عن المسجد الحرام و يمنعون المؤمنين من دخوله و ما كانوا أولياءه".

فقوله: "و هم يصدون" إلخ حال عن ضمير "يعذبهم" و قوله: "و ما كانوا أولياءه" حال عن ضمير "يصدون".

و قوله: "إن أولياؤه إلا المتقون" تعليل لقوله: "و ما كانوا أولياءه" أي ليس لهم أن يلوا أمر البيت فيجيزوا و يمنعوا من شاءوا لأن هذا المسجد مبني على تقوى الله فلا يلي أمره إلا المتقون و ليسوا بهم.

فقوله: "إن أولياؤه إلا المتقون" جملة خبرية تعلل القول بأمر بين يدركه كل ذي لب، و ليست الجملة إنشائية مشتملة على جعل الولاية للمتقين، و يشهد لما ذكرناه قوله بعد: "و لكن أكثرهم لا يعلمون" كما لا يخفى.

و المراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الأعم منه على ما يفيده السياق باتصال الآية بالآية التالية، و قد تقدم أن الآية غير متصلة ظاهرا بما تقدمها أي أن الآيتين: "و إذ قالوا اللهم" إلخ "و ما كان الله ليعذبهم" إلخ خارجتان عن سياق الآيات، و لازم ذلك ما ذكرناه.

قال في المجمع،: و يسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين و في الأولى نفي تعذيبهم، و في الثانية إثبات ذلك؟ و جوابه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بالأول عذاب الاصطلام و الاستئصال كما فعل بالأمم الماضية، و بالثاني عذاب القتل بالسيف و الأسر و غير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.

و الآخر: أنه أراد: و ما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة، و يريد بالأول عذاب الدنيا.

عن الجبائي.

و الثالث: أن الأول استدعاء للاستغفار.

يريد أنه لا يعذبهم بعذاب دنيا و لا آخرة إذا استغفروا و تابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين أن استحقاقهم العذاب بصدهم عن المسجد الحرام.

انتهى.

و فيه: أن مبنى الإشكال على اتصال الآية بما قبلها و قد تقدم أنها غير متصلة.

هذا إجمالا.

و أما تفصيلا فيرد على الوجه الأول: أن سياق الآية و هو كما تقدم سياق التشدد و الترقي، و لا يلائم ذلك نفي العذاب في الأولى مع إثباته في الثانية و إن كان العذاب غير العذاب.

و على الثاني أن سياق الآية ينافي كون المراد بالعذاب فيها عذاب الآخرة، و خاصة بالنظر إلى قوله في الآية الثالثة - و هي في سياق الآية الأولى - "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون".

و على الثالث: أن ذلك خلاف ظاهر الآية بلا شك حيث إن ظاهرها إثبات الاستغفار لهم حالا مستمرا لاستدعائه و هو ظاهر.

قوله تعالى: "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" المكاء بضم الميم الصفير، و المكاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، و منه المثل السائر: بنيك حمري و مكئكيني.

و التصدية التصفيق بضرب اليد على اليد.

و قوله: "و ما كان صلاتهم" الضمير لهؤلاء الصادين المذكورين في الآية السابقة و هم المشركون من قريش، و قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء.



و من هنا يتأيد أن الآيتين متصلتان كلاما واحدا و قوله: "و ما كان" إلخ جملة حالية و المعنى: و ما لهم أن لا يعذبهم الله و الحال أنهم يصدون العباد من المؤمنين عن المسجد الحرام و ما كان صلاتهم عند البيت إلا ملعبة من المكاء و التصدية فإذا كان كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، و الالتفات في قوله: "فذوقوا العذاب" عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد.

و يستفاد من الآيتين أن الكعبة المشرفة لو تركت بالصد استعقب ذلك المؤاخذة الإلهية بالعذاب قال علي (عليه السلام) في بعض وصاياه: "الله الله في بيت ربكم فإنه إن ترك لم تنظروا".

قوله تعالى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" إلى آخر الآية يبين حال الكفار في ضلال سعيهم الذي يسعونه لإبطال دعوة الله و المنع عن سلوك السالكين لسبيل الله، و يشرح ذلك قوله: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون" إلخ.

و بهذا السياق يظهر أن قوله: "و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون" بمنزلة التعليل، و محصل المعنى أن الكفر سيبعثهم - بحسب سنة الله في الأسباب - إلى أن يسعوا في إبطال الدعوة و الصد عن سبيل الحق غير أن الظلم و الفسق و كل فساد لا يهدي إلى الفلاح و النجاح فسينفقون أموالهم في سبيل هذه الأغراض الفاسدة فتضيع الأموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسرهم، ثم يغلبون فلا ينتفعون بها، و ذلك أن الكفار يحشرون إلى جهنم و يكون ما يأتون به في الدنيا من التجمع على الشر و الخروج إلى محاربة الله و رسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم القيامة.

و قوله: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون" إلى آخر الآية من ملاحم القرآن و الآية من سورة الأنفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنها تشير إلى ما سيقع من غزوة أحد أو هي و غيرها، و على هذا فقوله: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة" إشارة إلى غزوة أحد أو هي و غيرها، و قوله: "ثم يغلبون" إلى فتح مكة، و قوله: "و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون" إلى حال من لا يوفق للإسلام منهم.

قوله تعالى: "ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون" الخباثة و الطيب معنيان متقابلان و قد مر شرحهما و التمييز إخراج الشيء عما يخالفه و إلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل عما يخالفه، و الركم جمع الشيء فوق الشيء و منه سحاب مركوم أي مجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض و مجموعها و تراكم الأشياء تراكب بعضها بعضا.

و الآية في موضع التعليل لما أخبر به في الآية السابقة من حال الكفار بحسب السنة الكونية، و هو أنهم يسعون بتمام وجدهم و مقدرتهم إلى أن يطفئوا نور الله و يصدوا عن سبيل الله فينفقون في ذلك الأموال و يبذلون في طريقه المساعي غير أنهم لا يهتدون إلى مقاصدهم و لا يبلغون آمالهم بل تضيع أموالهم و تحبط أعمالهم و تضل مساعيهم، و يرثون بذلك الحسرة و الهزيمة.

و ذلك أن هذه الأعمال و التقلبات تسير على سنة إلهية و تتوجه إلى غاية تكوينية ربانية، و هي أن الله سبحانه يميز في هذا النظام الجاري الشر من الخير و الخبيث من الطيب و يركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، و يجعل ما اجتمع منه و تراكم في جهنم و هي الغاية التي تسير إليها قافلة الشر و الخبيث يحلها الجميع و هي دار البوار كما أن الخير و الطيب إلى الجنة، و الأولون هم الخاسرون كما أن الآخرين هم الرابحون المفلحون.



و من هنا يظهر أن قوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" إلخ قريب المضمون من قوله تعالى في مثل ضربه للحق و الباطل: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض: الرعد: - 17 و الآية تشير إلى قانون كلي إلهي و هو إلحاق فرع كل شيء بأصله.

قوله تعالى: "قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" إلى آخر الآية الانتهاء الإقلاع عن الشيء لأجل النهي، و السلوف التقدم، و السنة هي الطريقة و السيرة.

أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم ذلك و في معناه تطميع و تخويف و حقيقته دعوة إلى ترك القتال و الفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم و إيذائهم للمؤمنين فإن لم ينتهوا عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الأولين منهم بالإهلاك و الإبادة و خسران السعي.

قوله تعالى: "و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" الآية و ما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما كلف به الكفار في الآية السابقة، و المعنى: قل لهم أن ينتهوا عن المحادة لله و رسوله يغفر لهم ما قد سلف و إن يعودوا إلى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم قل لهم كذا و أما أنت و المؤمنون فلا تهنوا فيما يهمكم من إقامة الدين و تصفية جو صالح للمؤمنين، و قاتلوهم حتى تنتهي هذه الفتن التي تفاجئكم كل يوم، و لا تكون فتنة بعد فإن انتهوا فإن الله يجازيهم بما يرى من أعمالهم، و إن تولوا عن الانتهاء فأديموا القتال و الله مولاكم فاعلموا ذلك و لا تهنوا و لا تخافوا.

و الفتنة ما يمتحن به النفوس و تكون لا محالة مما يشق عليها، و غلب استعمالها في المقاتل و ارتفاع الأمن و انتقاض الصلح، و كان كفار قريش يقبضون على المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة و بعدها إلى مدة في مكة و يعذبونهم و يجبرونهم على ترك الإسلام و الرجوع إلى الكفر، و كانت تسمى فتنة.

و قد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق أن قوله: "و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة" كناية عن تضعيفهم بالقتال حتى لا يغتروا بكفرهم و لا يلقوا فتنة يفتتن بها المؤمنون و يكون الدين كله لله لا يدعو إلى خلافه أحد، و أن قوله: "فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" المراد به الانتهاء عن القتال و لذلك أردفه بمثل قوله: "فإن الله بما يعملون بصير" أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب أعمالهم و هو بصير بها، و أن قوله: "و إن تولوا" إلخ أي إن تولوا عن الانتهاء، و لم يكفوا عن القتال و لم يتركوا الفتنة فاعلموا أن الله مولاكم و ناصركم و قاتلوهم مطمئنين بنصر الله نعم المولى و نعم النصير.

و قد ظهر أن قوله: "و يكون الدين كله لله" لا ينافي إقرار أهل الكتاب على دينهم إن دخلوا في الذمة و أعطوا الجزية فلا نسبة للآية مع قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:" التوبة: - 29.

بالناسخية و المنسوخية.

و لبعض المفسرين وجوه في معنى الانتهاء و المغفرة و غيرهما من مفردات الآيات الثلاث لا كثير جدوى في التعرض لها تركناها.



و قد ورد في بعض الأخبار كون "نعم المولى و نعم النصير" من أسماء الله الحسنى و المراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كل ما يخص بلفظه شيئا من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى: "لا تأخذه سنة و لا نوم" و قد مر استيفاء الكلام في الأسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى: "و لله الأسماء الحسنى:" الأعراف - 180 في الجزء الثامن من الكتاب.

انتهى.

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و إذ يمكر بك الذين كفروا" الآية أنها نزلت بمكة قبل الهجرة. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن ابن جريح رض: "و إذ يمكر بك الذين كفروا" قال: هي مكية.

أقول: و هو ظاهر ما رواه أيضا عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرة، لكن عرفت أن سياق الآيات لا يساعد عليه.

و فيه، أخرج عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل و الخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله: "و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك" قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق يريدون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال بعضهم: بل اقتلوه، و قال بعضهم بل أخرجوه فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحق بالغار، و بات المشركون يحرسون عليا رضي الله عنه يحسبونه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوه عليا رضي الله عنه رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال.



و في تفسير القمي،: كان سبب نزولها أنه لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس و الخزرج فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تمنعوني و تكونون لي جارا حتى أتلو كتاب الله عليكم و ثوابكم على الله الجنة؟ فقالوا: نعم خذ لربك و لنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فحجوا و رجعوا إلى منى و كان فيهم ممن قد حج بشر كثير. فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، و لا تنبهوا نائما، و لينسل واحد فواحد فجاء سبعون رجلا من الأوس و الخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تمنعوني و تجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربي و ثوابكم على الله الجنة. فقال أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد الله بن حرام نعم يا رسول الله اشترط لربك و نفسك ما شئت. فقال: أما ما أشترط لربي فأن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و ما أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم و تمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم و أولادكم. فقالوا فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنة في الآخرة، و تملكون العرب، و يدين لكم العجم في الدنيا، و تكونون ملوكا في الجنة فقالوا: قد رضينا. فقال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا فأشار إليهم جبرائيل فقال: هذا نقيب و هذا نقيب تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله و رافع بن مالك و سعد بن عبادة و المنذر بن عمر و عبد الله بن رواحة و سعد بن ربيع و عبادة بن صامت و من الأوس أبو الهيثم بن التيهان و هو من اليمن و أسيد بن حصين و سعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا و بايعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صاح إبليس: يا معشر قريش و العرب هذا محمد و الصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، و هاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، و سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النداء فقال للأنصار: تفرقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم أومر بذلك و لم يأذن الله لي في محاربتهم. قالوا: فتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله. فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح و خرج حمزة و أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسلاح و معهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا و ما هاهنا أحد و الله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي. فرجعوا إلى مكة و قالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا و يدخل واحد من مشائخ قريش في دين محمد فاجتمعوا في دار الندوة، و كان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى عليه أربعون سنة فدخلوا أربعين رجلا من مشائخ قريش، و جاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب، من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم مني رأي صائب إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لأشير عليكم فقال: ادخل فدخل إبليس. فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين و يكرموننا، و نحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادعى أنه رسول الله و أن أخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، و سب آلهتنا، و أفسد شباننا، و فرق جماعتنا، و زعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، و لم يرد علينا شيء أعظم من هذا، و قد رأيت فيه رأيا. قالوا: و ما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا رأي خبيث قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمدا تعصبت بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم و تتفانون. فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر. قال: و ما هو؟ قال: نثبته في بيت و نلقي عليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير و النابغة و إمرؤ القيس. فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر. قالوا: و كيف ذاك؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه. قال آخر منهم: لا و لكنا نخرجه من بلادنا و نتفرغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس: هذا أخبث من ذينك الرأيين المتقدمين، قالوا: و كيف؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، و أتقن الناس لسانا و أفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه فلا يفجئوكم إلا و قد ملأها خيلا و رجلا. فبقوا حائرين. ثم قالوا لإبليس: فما الرأي يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد. قالوا: و ما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش فيكون معهم من بني هاشم رجل فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه فإن سألوكم أن تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات. قالوا: نعم و عشر ديات. قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي فاجتمعوا فيه، و دخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره أن قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك: "و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك - أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين". و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، و خرجوا إلى المسجد يصفرون و يصفقون و يطوفون بالبيت فأنزل الله: "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فالمكاء التصفير و التصدية صفق اليدين و هذه الآية معطوفة على قوله: "و إذ يمكر بك الذين كفروا قد كتبت بعد آيات كثيرة. فلما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا و نساء و لا نأمن أن يقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفرش له فرش فقال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): أفدني بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي و التحف ببردتي فنام علي (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و التحف ببردته. و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخرجه على قريش و هم نيام و هو يقرأ عليهم: "و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا - فأغشيناهم فهم لا يبصرون" و قال له جبرئيل: خذ على طريق ثور و هو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار و كان من أمره ما كان. فلما أصبحت قريش و أتوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش فوثب علي (عليه السلام) في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: أين محمد؟ قال: أ جعلتموني عليه رقيبا؟ أ لستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على أبي لهب يضربونه و يقولون: أنت تخدعنا منذ الليل. فتفرقوا في الجبال، و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفو الآثار فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال لهم: هذه قدم محمد و الله إنها لأخت القدم التي في المقام، و كان أبو بكر بن أبي قحافة استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرده معه فقال أبو كرز: و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه ثم قال: و هاهنا غير ابن أبي قحافة، و لا يزال يقف بهم حتى أوقفهم على باب الغار. ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان إما أن يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت الأرض، و بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، و جاء فارس من الملائكة ثم قال: ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب، و صرفهم الله عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أذن لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهجرة.

أقول: و روي ما يقرب من هذا المعنى ملخصا في الدر المنثور عن ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي نعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس لكن نسب فيه إلى أبي جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجدي ثم ذكر أن الشيخ النجدي صدق أبا جهل في رأيه و اجتمع القوم على قوله.

و قد روي دخول إبليس عليهم في دار الندوة في زي شيخ نجدي في عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة.

و أما ما في الرواية من قول أبي كرز لما اقتفى أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "هذه قدم محمد، و هذه قدم ابن أبي قحافة، و هاهنا غير ابن أبي قحافة" فقد ورد في الروايات أن ثالثهما هند بن أبي هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.



و قد روى الشيخ في أماليه، بإسناده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه و عبد الله بن أبي رافع جميعا عن عمار بن ياسر و أبي رافع و عن سنان بن أبي سنان عن ابن هند بن أبي هالة، و قد دخل حديث عمار و أبي رافع و هند بعضه في بعض، و هو حديث طويل في هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيه: و استتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر بن أبي قحافة و هند بن أبي هالة فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى الغار، و ثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكانه مع علي يأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فحمة العشاء و الرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون أن ينتصف الليل و تنام الأعين. فخرج و هو يقرأ هذه الآية "و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا - فأغشيناهم فهم لا يبصرون" و كان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رءوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم و مضى حتى أتى إلى هند و أبي بكر فنهضا معه حتى وصلوا إلى الغار. ثم رجع هند إلى مكة بما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و دخل رسول الله و أبو بكر الغار. قال بعد سوق القصة الليلة: حتى إذا اعتم من الليلة القابلة انطلق هو يعني عليا (عليه السلام) و هند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هندا أن يبتاع له و لصاحبه بعيرين فقال أبو بكر قد كنت أعددت لي و لك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: إني لا آخذهما و لا أحدهما إلا بالثمن قال: فهي لك بذلك فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن ثم وصاه بحفظ ذمته و أداء أمانته. و كانت قريش قد سموا محمدا في الجاهلية: الأمين، و كانت تودعه و تستحفظه أموالها و أمتعتها، و كذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، و جاءت النبوة و الرسالة و الأمر كذلك فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا بالأبطح غدوة و عشيا: من كان له قبل محمد أمانة أو دين فليأت فلنؤد إليه أمانته. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي و مستخلف ربي عليكما و مستحفظه فيكما فأمر أن يبتاع رواحل له و للفواطم و من أزمع الهجرة معه من بني هشام. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع: أ و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني و كان يحدث لي هذا الحديث. فقال: و أين يذهب بك عن مال خديجة (عليها السلام). قال عبيد الله بن أبي رافع: و قد قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) يذكر مبيته على الفراش و مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثا نظما: وقيت بنفسي خير من وطىء الحصى. و من طاف بالبيت العتيق و بالحجر. محمد لما خاف أن يمكروا به. فوقاه ربي ذو الجلال من المكر. و بت أراعيهم متى ينشرونني. و قد وطنت نفسي على القتل و الأسر. و بات رسول الله في الغار آمنا. هناك و في حفظ الإله و في ستر. أقام ثلاثا ثم زمت قلائص. قلائص يفرين الحصى أينما تفري و قد روي الأبيات عنه (عليه السلام) بتفاوت يسير في الدر المنثور عن الحاكم عن علي بن الحسين (عليهما السلام).

و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): قوله: "خير الماكرين" قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كان لقي من قومه بلاء شديدا حتى أتوه ذات يوم و هو ساجد حتى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته و هو ساجد لم يرفع رأسه فرفعته عنه و مسحته ثم أراه الله بعد ذلك الذي يحب. أنه كان ببدر و ليس معه غير فارس واحد ثم كان معه يوم الفتح اثنا عشر ألفا حتى جعل أبو سفيان و المشركون يستغيثون الحديث.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها و كلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.

أقول: و هناك بعض روايات أخر في أن القائل بهذا القول كان هو النضر بن الحارث و قد قتل يوم بدر صبرا.

و فيه، أخرج البخاري و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رض قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فنزلت: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم - و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون".

أقول: و روى القمي هذا المعنى في تفسيره، و روى السيوطي أيضا في الدر المنثور، عن ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير و عن ابن جرير عن عطاء: أن القائل: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية النضر بن الحارث و قد تقدم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الآية.



و فيه، أخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان و محمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا؟ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك - فأمطر علينا حجارة من السماء الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم فأنزل الله: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون إلى قوله لا يعلمون. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن أبزى رض قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فأنزل الله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فأنزل الله: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" فلما خرجوا أنزل الله: "و ما لهم ألا يعذبهم الله" الآية فأذن في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن عطية رض: في قوله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" يعني المشركين حتى يخرجك منهم "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" قال: يعني المؤمنين. ثم أعاد المشركين فقال: "و ما لهم ألا يعذبهم الله - و هم يصدون عن المسجد الحرام". و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رض: في قوله: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" يقول: لو استغفروا و أقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، و في قوله: "و ما لهم ألا يعذبهم الله - و هم يصدون عن المسجد الحرام" يقول: و كيف لا أعذبهم و هم لا يستغفرون. و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن مجاهد رض: في قوله: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" قال: بين أظهرهم "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" قال: يسلمون. و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن أبي مالك رض: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم" يعني أهل مكة "و ما كان الله معذبهم" و فيهم المؤمنون يستغفرون. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عكرمة و الحسن رضي عنهما: في قوله: "و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" قالا: نسختها الآية التي تليها: "و ما لهم ألا يعذبهم الله" فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع و الحصر.

أقول: عدم انطباقها على الآية بظاهرها المؤيد بسياقها ظاهر، و إنما دعاهم إلى هذه التكلفات الاحتفاظ باتصال الآية في التأليف بما قبلها و ما قبلها من الآيات المتعرضة لحال مشركي أهل مكة، و من عجيب ما فيها تفسير العذاب في الآية بفتح مكة، و لم يكن إلا رحمة للمشركين و المؤمنين جميعا.

و فيه، أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري رض قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل الله علي أمانين لأمتي "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم - و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون" فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.

أقول: مضمون الرواية مستفاد من الآية، و قد روي ما في معناها عن أبي هريرة و ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواها في نهج البلاغة عن علي (عليه السلام).

و في ذيل هذه الرواية شيء و هو أنه لا يلائم ما مر في البيان المتقدم من إيعاد القرآن هذه الأمة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، و لازمه أن يرتفع الاستغفار من بينهم قبل يوم القيامة.

و فيه، أخرج أحمد عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله. و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول. و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم، و مفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس و اثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، و ما كان من سيئة أستغفر الله لكم.

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره و الشيخ في أماليه، عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام)، و في روايتهما أن السائل هو جابر بن عبد الله الأنصاري ع، و رواه أيضا في الكافي، بإسناده عن محمد بن أبي حمزة و غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام).



و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن سعيد بن جبير رض قال: كانت قريش تعارض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الطواف يستهزءون و يصفرون و يصفقون فنزلت: "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية". و فيه، أخرج أبو الشيخ عن نبيط و كان من الصحابة رض: في قوله: "و ما كان صلاتهم عند البيت" الآية قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام و هم يصفرون. و فيه، أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز و جل: "إلا مكاء و تصدية" قال: المكاء صوت القنبرة و التصدية صوت العصافير و هو التصفيق، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام إلى الصلاة و هو بمكة كان يصلي قائما بين الحجر و الركن اليماني فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله، و يصيح أحدهما كما يصيح المكاء، و الآخر يصفق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته. و في تفسير العياشي، عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "و هم يصدون عن المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه" يعني أولياء البيت يعني المشركين "إن أولياؤه إلا المتقون" حيث ما كانوا هم أولى به من المشركين "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية" قال: التصفير و التصفيق. و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل كلهم من طريقه قال: حدثني الزهري و محمد بن يحيى بن حيان و عاصم بن عمر بن قتادة و الحصين بن عبد الرحمن بن عمر قال: لما أصيبت قريش يوم بدر و رجع فلهم إلى مكة و رجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثارا ففعلوا ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله إلى قوله و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم - ليصدوا عن سبيل الله" قال نزلت في أبي سفيان بن حرب. و فيه، أخرج ابن سعد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن عساكر عن سعيد بن جبير: في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم - ليصدوا عن سبيل الله" الآية قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى من استجاش من العرب فأنزل الله فيه هذه الآية. و هم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضي الله عنه: و جئنا إلى موج من البحر وسطه. أحابيش منهم حاسر و مقنع. ثلاثة آلاف و نحن نصية. ثلاث مئين إن كثرن فأربع أقول: و رواه ملخصا عن ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة - و يكون الدين كله لله" الآية،: قال: روى زرارة و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لم يجيء تأويل هذه الآية و لو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية و ليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (عليه السلام)، و في معناه ما في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا العياشي عن عبد الأعلى الحلبي عن أبي جعفر (عليه السلام) في رواية طويلة.

و قد تقدم حديث إبراهيم الليثي في تفسير قوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" الآية مع بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: "كما بدأكم تعودون:" الأعراف: - 29 في الجزء الثامن من الكتاب.

8 سورة الأنفال - 41 - 54

وَ اعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِّن شىْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسهُ وَ لِلرّسولِ وَ لِذِى الْقُرْبى وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينِ وَ ابْنِ السبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللّهِ وَ مَا أَنزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَ هُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصوَى وَ الرّكب أَسفَلَ مِنكمْ وَ لَوْ تَوَاعَدتّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فى الْمِيعَدِ وَ لَكِن لِّيَقْضىَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِك مَنْ هَلَك عَن بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَىّ عَن بَيِّنَةٍ وَ إِنّ اللّهَ لَسمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فى مَنَامِك قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَ لَتَنَزَعْتُمْ فى الأَمْرِ وَ لَكنّ اللّهَ سلّمَ إِنّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (43) وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكمْ فى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضىَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (44) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكرُوا اللّهَ كثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ لا تَنَزَعُوا فَتَفْشلُوا وَ تَذْهَب رِيحُكمْ وَ اصبرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصبرِينَ (46) وَ لا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَرِهِم بَطراً وَ رِئَاءَ النّاسِ وَ يَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ وَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ محِيطٌ (47) وَ إِذْ زَيّنَ لَهُمُ الشيْطنُ أَعْمَلَهُمْ وَ قَالَ لا غَالِب لَكمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَ إِنى جَارٌ لّكمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَص عَلى عَقِبَيْهِ وَ قَالَ إِنى بَرِىءٌ مِّنكمْ إِنى أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنى أَخَاف اللّهَ وَ اللّهُ شدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَفِقُونَ وَ الّذِينَ فى قُلُوبِهِم مّرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَن يَتَوَكلْ عَلى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ (49) وَ لَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفى الّذِينَ كفَرُوا الْمَلَئكَةُ يَضرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَرَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيقِ (50) ذَلِك بِمَا قَدّمَت أَيْدِيكمْ وَ أَنّ اللّهَ لَيْس بِظلّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِئَايَتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنّ اللّهَ قَوِىّ شدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِك بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَك مُغَيراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ أَنّ اللّهَ سمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِئَايَتِ رَبهِمْ فَأَهْلَكْنَهُم بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَ كلّ كانُوا ظلِمِينَ (54)

بيان

تشتمل الآيات على الأمر بتخميس الغنائم و بالثبات عند اللقاء و تذكرهم، و تقص عليهم بعض ما نكب الله به أعداء الدين و أخزاهم بالمكر الإلهي، و أجرى فيهم سنة آل فرعون و من قبلهم من المكذبين لآيات الله الصادين عن سبيله.

قوله تعالى: "و اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول" إلى آخر الآية.

الغنم و الغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب و ينطبق بحسب مورد نزول الآية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: و من البقر و الغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، و الغنم - بالضم فالسكون - إصابته و الظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى و غيرهم قال: و اعلموا أنما غنمتم من شيء، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا.

و المغنم ما يغنم و جمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى.

و ذو القربى القريب و المراد به قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خصوص أشخاص منهم على ما يفسره الآثار القطعية، و اليتيم هو الإنسان الذي مات أبوه و هو صغير، قالوا: كل حيوان يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه من قبل أبيه.

و قوله: "فأن لله خمسه" إلخ قرىء بفتح أن، و يمكن أن يكون بتقدير حرف الجر و التقدير: و اعلموا أن ما غنمتم من شيء فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا الأساس محكوم به، و يمكن أن يكون بالعطف على أن الأولى، و حذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، و التقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شيء يجب قسمته فاعلموا أن خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فإن مآل المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئا فخمسه لله إلخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، و كرر أن للتأكيد، و الأصل: اعلموا أن ما غنمتم من شيء أن خمسه لله إلخ، و الأصل الذي تعلق به العلم هو: ما غنمتم من شيء خمسه لله و للرسول إلخ، و قد قدم لفظ الجلالة للتعظيم.

و قوله: "إن كنتم آمنتم بالله" إلخ قيد للأمر الذي يدل عليه صدر الآية أي أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا، و ربما قيل: إنه متصل بقوله تعالى في الآية السابقة: "فاعلموا أن الله مولاكم" هذا و السياق الذي يتم بحيلولة قوله: "و اعلموا أنما غنمتم من شيء" إلخ لا يلائم ذلك.

و قوله تعالى: "و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان" الظاهر أن المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإنزال، و لو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الأنسب أولا: أن يقال: و من أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدي هذا المعنى و ثانيا: أن يقال: عليكم لا على عبدنا فإن الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: "فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين:" الأنفال: - 9.

و قوله بعد ذلك: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" إلخ: الأنفال: - 12.



و نظيرهما قوله: "إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكين منزلين بلى أن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين:" آل عمران: - 125.

و في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: "إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا" من بسط اللطف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و اصطفائه بالقرب ما لا يخفى.

و يظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في أول السورة: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول" الآية أن المراد بقوله: "و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان" هو قوله تبارك و تعالى: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" بما يحتف به من الآيات.

و المراد بقوله: "يوم الفرقان" يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: "يوم التقى الجمعان" فإن يوم بدر هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق و الباطل فأحق الحق بنصرته، و أبطل الباطل بخذلانه.

و قوله تعالى: "و الله على كل شيء قدير" بمنزلة التعليل لقوله: "يوم الفرقان" بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق و الباطل كأنه قيل: و الله على كل شيء قدير فهو قادر أن يفرق بين الحق و الباطل بما فرق.

فمعنى الآية - و الله أعلم - و اعلموا أن خمس ما غنمتم أي شيء كان هو لله و لرسوله و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل فردوه إلى أهله إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزله على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر، و هو أن الأنفال و غنائم الحرب لله و لرسوله لا يشارك الله و رسوله فيها أحد، و قد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها و أباح لكم التصرف فيها فالذي أباح لكم التصرف فيها يأمركم أن تئودوا خمسها إلى أهله.

و ظاهر الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، و أن الحكم متعلق بما يسمى غنما و غنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب و الغوص و الملاحة و المستخرج من الكنوز و المعادن، و إن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.

و كذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: "لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل" انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، و أن لكل منهم سهما بمعنى استقلاله في أخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غير أن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل.

فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، و عليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد اختلفت كلمات المفسرين من أهل السنة في تفسير الآية و سنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا و هم بالعدوة القصوى و الركب أسفل منكم و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا" العدوة بالضم و قد يكسر شفير الوادي، و الدنيا مؤنث أدنى كما أن القصوى و قد يقال: القصيا مؤنث أقصى و الركب كما قيل هو العير الذي كان عليه أبو سفيان بن حرب.



و الظرف في قوله: "إذ أنتم بالعدوة" بيان ثان لقوله في الآية السابقة: "يوم الفرقان كما أن قوله: "يوم التقى الجمعان" بيان أول له متعلق بقوله: "أنزلنا على عبدنا" و أما ما يظهر من بعضهم أنه بيان لقوله: "و الله على كل شيء قدير" بما يفيده بحسب المورد، و المعنى: و الله قدير على نصركم و أنتم أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب، فلا يخفى بعده و وجه التكلف فيه.

و قوله تعالى: "و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" سياق ما تقدمه من الجمل الكاشفة عن تلاقي الجيشين، و كون الركب أسفل منهم، و أن الله بقدرته التي قهرت كل شيء فرق بين الحق و الباطل، و أيد الحق على الباطل، و كذا قوله بعد: "و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا" كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: "و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" بيان أن التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله سبحانه حيث نزل المشركون و هم ذوو عدة و شدة بالعدوة القصوى و فيها الماء و الأرض الصلبة، و المؤمنون على قلة عددهم و هوان أمرهم بالعدوة الدنيا و لا ماء فيها و الأرض رملية لا تثبت تحت أقدامهم، و تخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل أسفل، و تلاقى الفريقان لا حاجز بينهما و لا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقي و المواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن أسباب عادية بل لمشية خاصة إلهية ظهرت بها قدرته و بانت بها عنايته الخاصة و نصره و تأييده للمؤمنين.

فقوله: "و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" بيان أن هذا التلاقي لم يكن عن سابق قصد و عزيمة، و لا روية أو مشورة، و لهذا المعنى عقبه بقوله: "و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا" بما فيه من الاستدراك.

و قوله "ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة" لتعليل ما قضي به من الأمر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذي جرى بينكم من التلاقي و المواجهة ثم تأييد المؤمنين و خذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق و بطلان الباطل فيهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة.

و بذلك يظهر أن المراد بالهلاكة و الحياة هو الهدى و الضلال لأن ذلك هو الذي يرتبط به وجود الآية البينة ظاهرا.

و كذا قوله: "و إن الله لسميع عليم" عطف على قوله: "ليهلك من هلك عن بينة" إلخ، أي و إن الله إنما قضى ما قضى و فعل ما فعل لأنه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، و فيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الآيات: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم" إلى آخر الآيات.

و على هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الأمر في هذه الواقعة هو القضاء الخاص الإلهي دون الأسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا" إلخ، و قوله: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم" إلخ، و قوله: "إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم" إلخ.

و معنى الآية يوم الفرقان هو الوقت الذي أنتم نزول بالعدوة الدنيا و هم نزول بالعدوة القصوى، و قد توافق نزولكم بها و نزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم أن تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه و لم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم و لا منهم و لكن ذلك كان أمرا مفعولا و الله قاضيه و حاكمه، و إنما قضى ما قضى ليظهر آية بينة فتتم بذلك الحجة، و لأنه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم و علم به من حاجة قلوبكم.



قوله تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا" إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، و التنازع هو الاختلاف و هو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين ينزع كل منهما الآخر عما هو فيه، و التسليم هو النتيجة.

و الكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، و إنما أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم و تطمئن نفوسكم و لو أراكهم كثيرا ثم ذكرتها للمؤمنين أفزعكم الضعف و اختلفتم في أمر الخروج إليهم و لكنه تعالى نجاكم بإراءتهم قليلا عن الفشل و التنازع إنه عليم بذات الصدور و هي القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها و ارتباطها و قوتها.

و الآية تدل على أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا مبشرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين أنها لهم و قد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر ما رآه للمؤمنين و وعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم.

و الدليل على ذلك قوله: "و لو أراكهم كثيرا لفشلتم" إلخ و هو ظاهر.

قوله تعالى: "و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم إلى آخر" الآية.

معنى الآية ظاهر، و لا تنافي بين هذه الآية و قوله تعالى: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين و الله يؤيد بنصره من يشاء:" آل عمران: - 13 بناء على أن الآية تشير إلى وقعة بدر.

و ذلك أن التقليل الذي يشير إليه في الآية المبحوث عنها مقيد بقوله: "إذ التقيتم" و بذلك يرتفع التنافي كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في أعين المشركين في بادىء الالتقاء ليستحقروا جمعهم و يشجعهم ذلك على القتال و النزال حتى إذا زحفوا و اختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأي العين فأوهن بذلك عزمهم و أطار قلوبهم فكانت الهزيمة فآية الأنفال تشير إلى أول الوقعة، و آية آل عمران إلى ما بعد الزحف و الاختلاط و قوله: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا" متعلق بقوله: "يريكموهم" و تعليل لمضمونه.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" إلى آخر الآيات الثلاث.

قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح الثاء - ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، و هو بحسب ما له من المعنى أعم من الصبر الذي يأمر به في قوله: "و اصبروا إن الله مع الصابرين" فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف و لا يفزع و لا يجزع، و بالبدن بأن لا يتكاسل و لا يتساهل و لا يزول عن مكانه و لا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص.

و الريح على ما قيل، العز و الدولة، و قد ذكر الراغب أن الريح في الآية بمعنى الغلبة استعارة كأن من شأن الريح أن تحرك ما هبت عليه و تقلعه و تذهب به، و الغلبة على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشيء كالتراب فاستعيرت لها.

و قال الراغب: البطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة و قلة القيام بحقها و صرفها إلى غير وجهها قال عز و جل: "بطرا و رئاء الناس" و قال: "بطرت معيشتها" و أصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل و نصب، و يقارب البطر الطرب، و هو خفة أكثر ما يعتري من الفرح و قد يقال ذلك في الترح، و البيطرة معالجة الدابة.

انتهى.

و الرئاء المراءاة.



و قوله: "فاثبتوا" أمر بمطلق الثبوت أمام العدو، و عدم الفرار منه فلا يتكرر بالأمر ثانيا بالصبر كما تقدمت الإشارة إليه.

و قوله: "و اذكروا الله كثيرا" أي في جنانكم و لسانكم فكل ذلك ذكر، و من المعلوم أن الأحوال القلبية الباطنة من الإنسان هي التي تميز مقاصده و تشخصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره و هو يقول: يا غني و المريض المستغيث به من مرضه و هو يقول: يا شافي و لو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غني و يا شافي لأنهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة و الدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر.

و الذي يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه و استعد الظرف للقتال، و ليس فيه إلا زهاق النفوس، و سفك الدماء و نقص الأطراف و كل ما يهدد الإنسان بالفناء في ما يحبه فإن حاله يحول فكرته و يصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، و الغلبة على العدو الذي يهدده بالفناء، و الذي حاله هذا الحال و تفكيره هذا التفكير إنما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله و تنصرف إليه فكرته.

و هذا أقوى قرينة على أن المراد بذكر الله كثيرا أن يذكر المؤمن ما علمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن و هو أنه تعالى إلهه و ربه الذي بيده الموت و الحياة و هو على نصره لقدير، و أنه هو مولاه نعم المولى و نعم النصير، و قد وعده النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم، و إن الله لا يضيع أجر المحسنين و إن مآل أمره في قتاله إلى إحدى الحسنيين إما الظفر على عدوه و رفع راية الإسلام و إخلاص الجو لسعادته الدينية، و إما القتل في سبيل الله و الانتقال بالشهادة إلى رحمته، و الدخول في حظيرة كرامته، و مجاورة المقربين من أوليائه، و ما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية و الكرامة السرمدية.

و قد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للإنسان ما يصرف نفسه إلى حب الحياة الفانية و التمتع بزخارف الدنيا الغارة و الخطورات النفسانية التي يلقيها الشيطان بتسويله.

و قوله: "و أطيعوا الله و رسوله" ظاهر السياق أن المراد بها إطاعة ما صدر من ناحيته تعالى و ناحية رسوله من التكاليف و الدساتير المتعلقة بالجهاد و الدفاع عن حومة الدين و بيضة الإسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد و السنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة و عدم التعرض للنساء و الذراري و الكف عن تبييت العدو و غير ذلك من أحكام الجهاد.

و قوله: "و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم" أي و لا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتى يورث ذلكم ضعف إرادتكم و ذهاب عزتكم و دولتكم أو غلبتكم فإن اختلاف الآراء يخل بالوحدة و يوهن القوة.

و قوله: "و اصبروا إن الله مع الصابرين" أي الزموا الصبر على ما يصيبكم من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، و على الإكثار من ذكر الله، و على طاعة الله و رسوله من غير أن يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية أو يضلكم عجب النفس و خيلاؤها.



و قد أكد الأمر بالصبر بقوله: "إن الله مع الصابرين" لأن الصبر أقوى عون على الشدائد و أشد ركن تجاه التلون في العزم و سرعة التحول في الإرادة، و هو الذي يخلي بين الإنسان و بين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة و الأفكار الموهنة لإرادته عند الأهوال و المصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين.

و قوله: "و لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس" الآية نهي عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، و هم على ما يفيده سياق الكلام في الآيات، كفار قريش، و ما ذكره من أوصافهم أعني البطر و رئاء الناس و الصد عن سبيل الله هو الذي أوجب النهي عن التشبه بهم و اتخاذ طريقتهم بدلالة السياق، و قوله: "و الله بما يعملون محيط" ينبىء عن إحاطته تعالى بأعمالهم و سلطنته عليها و ملكه لها، و من المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه و مشيته و ما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد عدة آيات بقوله: "و لا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون:" الأنفال: - 59.

و ظاهر أن أخذ هذه القيود أعني قوله: "بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله" يوجب تعلق النهي بها و التقدير: و لا تخرجوا من دياركم إلى قتل أعداء الدين بطرين و مرائين بالتجملات الدنيوية، و صد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم و أفعالكم إلى ترك تقوى الله و التوغل في معاصيه و الانخلاع عن طاعة أوامره و دساتيره فإن ذلك يحبط أعمالكم و يطفىء نور الإيمان و يبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي و الفوز بالمقاصد الهامة إلا سوي الصراط الذي يمهده الدين القويم و تسهله الملة الفطرية و الله لا يهدي القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.

و قد اشتملت الآيات الثلاث على أمور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الإسلامية عند اللقاء و هي الثبات، و ذكر الله كثيرا، و طاعة الله و رسوله، و عدم التنازع، و أن لا يخرجوا بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله.

و مجموع الأمور الستة دستور حربي جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية شيئا، و التأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلامية الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبدر و أحد و الخندق و حنين و غير ذلك يوضح أن الأمر في الغلبة و الهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي و عدم رعايتها، و المراقبة لها و المساهلة فيها.

قوله تعالى: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم" إلى آخر الآية، تزيين الشيطان للإنسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به و ذلك بتهييج قواه الباطنة و عواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، و لا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الأثر و شؤم العاقبة.



و ليس من البعيد أن يكون قوله: "و قال لا غالب لكم اليوم" الآية مفسرا أو بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على أن يكون المراد بالأعمال نتائجها و هي ما هيئوه من قوة و سلاح و عدة و ما أخرجوه من القيان و المعازف و الخمور، و ما تظاهروا به من نظام الجيش و الجنائب تساق بين أيديهم، و يمكن أن يكون المراد بها نفس الأعمال و هي أنواع تماديهم في الغي و الضلال و إصرارهم في محادة الله و رسوله، و استرسالهم في الظلم و الفسق فيكون قوله المحكي: "لا غالب لكم اليوم من الناس" مما يتم به تزيين الشيطان، و تطيب به نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، و قد أكمل ذلك بقوله: "و إني جار لكم".

و الجوار من سنن العرب في الجاهلية التي كانت تعيش عيشة القبائل، و من حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، و له آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية.

و قوله: "فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه" النكوص الإحجام عن الشيء و "على عقبيه" حال و العقب مؤخر القدم أي أحجم و قد رجع القهقرى منهزما وراءه.

و قوله: "إني أرى ما لا ترون" الآية تعليل لقوله: "إني بريء منكم" و لعله إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، و كذا قوله: "إني أخاف الله و الله شديد العقاب" تعليل لقوله: "إني بريء منكم" و مفسر للتعليل السابق.

و المعنى و يوم الفرقان هو الوقت الذي زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله و رسوله و قتال المؤمنين، و يتلبسون به للتهيؤ على إطفاء نور الله، فزين ذلك في أنظارهم، و طيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، و إني مجير لكم أذب عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين و المؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزما وراءه و قال للمشركين إني بريء منكم إني أرى ما لا ترونه من نزول ملائكة النصر للمؤمنين و ما عندهم من العذاب الذي يهددكم إني أخاف عذاب الله و الله شديد العقاب.

و هذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم و تهييجهم على المؤمنين و تشجيعهم على قتالهم و تطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا تراءت الفئتان و نزل النصر و استولى الرعب على قلوبهم انتكست أوهامهم و تبدلت أفكارهم و عادت مزعمة الغلبة و أمنية الفتح و الظفر مخافة مستولية على نفوسهم و خيبة و يأسا شاملة لقلوبهم.

و يقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون قد تصور لهم في صورة إنسان و يقول لهم ما حكاه الله من قوله: "لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم" فيغويهم و يسيرهم و يقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان و تراءتا فلما تراءت الفئتان و رأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله و يطمع فيه نكص على عقبيه و قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون من نزول النصر و الملائكة إني أخاف الله و الله شديد العقاب، و قد ورد في روايات القصة من طرق الشيعة و أهل السنة ما يؤيد هذا الوجه.

و هو أن الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي و كان من أشراف كنانة و قال لهم ما قال و حمل رايتهم حتى إذا تلاقى الفريقان فر منهزما و هو يقول: "إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون" إلى آخر ما حكاه الله تعالى، و ستجيء الرواية في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.



و قد أصر بعض المفسرين على الوجه الأول، و رد الثاني بتزييف الآثار المروية و تضعيف أسناد الأخبار، و هي و إن لم تكن متواترة و لا محفوفة ببعض القرائن القطعية الموجبة للوثوق التام لكن أصل المعنى ليس من المستحيل الذي يدفعه العقل السليم، و لا من القصص التي تدفعها آثار صحيحة، و لا مانع من أن يتمثل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال و الغي حتى إذا تم له ما أراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا.

على أن سياق الآية الكريمة أقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الأول، و خاصة بالنظر إلى قوله: "و إني جار لكم" و قوله: "فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه" و قوله: "إني أرى ما لا ترون" الآية فإن إرجاع معنى قوله: "إني أرى" إلخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا.

قوله تعالى: "إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم "إلى آخر الآية، أي يقول المنافقون و هم الذين أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر، و الذين في قلوبهم مرض و هم الضعفاء في الإيمان ممن لا يخلو نفسه من الشك و الارتياب.

يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير و استذلال -: غر هؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، و هم شرذمة أذلاء لا عدة لهم و لا عدة، و قريش على ما بهم من العدة و القوة و الشوكة.

قوله تعالى: "و من يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" في مقام الجواب عن قولهم و إبانة غرورهم أنفسهم و قوله:: "فإن الله عزيز حكيم" من وضع السبب موضع المسبب، و المعنى: و قد أخطأ هؤلاء المنافقون و الذين في قلوبهم مرض في قولهم فإن المؤمنين توكلوا على الله و نسبوا حقيقة التأثير إليه و ضموا أنفسهم إلى قوته و حوله، و من يتوكل أمره على الله فإن الله يكفيه لأنه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطىء في وضع كل أمر موضعه الذي يليق به.

و في الآية دليل على حضور جمع من المنافقين و ضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقي الفئتين.

أما المنافقون و هم الذين كانوا يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذي أوجب منهم الثبات و اليوم يوم شديد.

و أما الضعفاء الإيمان أو الشاكون في حقيقة الإسلام فمن الممكن أن يكونوا بين المؤمنين أو في فئة المشركين و قد قيل إنهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم و اضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها و شاهدوا ما عليه المسلمون من القلة و الذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و على أي حال ينبغي إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الآية من حضور جمع من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، و استخراج حقيقة السبب الذي أوجب لهؤلاء المنافقين و الضعفاء حضور هذه الغزوة، و الوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الذي لا يساعد عليه الأسباب العادية و لا يقف فيه إلا رجال الحقيقة الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان.

و أنهم لما ذا حضروها؟ و كيف و لما ذا صبروا مع الصابرين من فئة الإسلام؟ و لعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافي من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة" إلى تمام الآيتين.



التوفي أخذ الحق بتمامه، و يستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، و نسبة قبض أرواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الآيات من نسبته إلى ملك الموت، و في بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:" الم السجدة: - 11، و قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها:" الزمر: - 42 دليل على أن لملك الموت أعوانا يتولون قبض الأرواح هم بمنزلة الأيدي العمالة له يصدرون عن إذنه و يعملون عن أمره، كما أنه يصدر عن إذن من الله و يعمل عن أمر منه، و بذلك يصح نسبة التوفي إلى الملائكة الأعوان، و إلى ملك الموت، و إلى الله سبحانه.

و قوله: "يضربون وجوههم و أدبارهم" ظاهره أنهم يضربون مقاديم أبدانهم و خلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم و استيعاب جهاتهم بالضرب، و قيل: إن الأدبار كناية عن الأستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رءوسهم، و ضرب الوجوه و الأدبار بهذا المعنى يراد به الإزراء و الإذلال.

و قوله: "و ذوقوا عذاب الحريق" أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق و هو النار.

و قوله: "ذلك بما قدمت أيديكم" تتمة لقولهم المحكي أو إشارة إلى مجموع ما يفعل بهم و ما يقول لهم الملائكة، و المعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم أو: نضرب وجوهكم و أدباركم و نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم.

و قوله: "و أن الله ليس بظلام للعبيد" معطوف على موضع قوله "ما قدمت" أي و ذلك بأن الله ليس بظلام للعبيد أي لا يظلم أحدا من عبيده فإنه تعالى على صراط مستقيم لا تخلف و لا اختلاف في فعله فلو ظلم أحدا لظلم كل أحد، و لو كان ظالما لكان ظلاما للعبيد فافهم ذلك.

و سياق الآيات يشهد على أن المراد بهؤلاء الذين يصفهم الله سبحانه بأن الملائكة يتوفاهم و يعذبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش.

قوله تعالى: "كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله" إلى آخر الآية.

الدأب و الديدن: العادة و هي العمل الذي يدوم و يجري عليه الإنسان، و الطريقة التي يسلكها، و المعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون و الذين من قبلهم من الأمم الخالية الكافرة كفروا بآيات الله و أذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي لا يضعف عن أخذهم شديد العقاب إذا أخذ.

قوله تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إلخ أي إن العقاب الذي يعاقب به الله سبحانه إنما يعقب نعمة إلهية سابقة بسلبها و استخلافها، و لا تزول نعمة من النعم الإلهية و لا تتبدل نقمة و عقابا إلا مع تبدل محله و هو النفوس الإنسانية، فالنعمة التي أنعم بها على قوم إنما أفيضت عليهم لما استعدوا لها في أنفسهم، و لا يسلبونها و لا تتبدل بهم نقمة و عقابا إلا لتغييرهم ما بأنفسهم من الاستعداد و ملاك الإفاضة و تلبسهم باستعداد العقاب.

و هذا ضابط كلي في تبدل النعمة إلى النقمة و العقاب، و أجمع منه قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:" الرعد: - 11 و إن كان ظاهره أظهر انطباقا على تبدل النعمة إلى النقمة.

و كيف كان فقوله: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا" إلخ من قبيل التعليل بأمر عام و تطبيقه على مورده الخاص أي أخذ مشركي قريش بذنوبهم، و عقابهم بهذا العقاب الشديد، و تبديل نعمة الله عليهم عقابا شديدا إنما هو فرع من فروع سنة جارية إلهية هي أن الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.



و قوله: "و أن الله سميع عليم" تعليل آخر بعد التعليل بقوله: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا" إلخ و ظاهره - بمقتضى إشعار السياق - أن المراد به: و ذلك بأن الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم و علم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذب أعداءكم الكافرين بآيات الله، و يحتمل أن يكون المراد: ذلك بأن الله سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم فعذبهم على ذلك، و يمكن الجمع بين المحتملين.

قوله تعالى: "كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم" إلخ كرر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدم فقوله: "كدأب آل فرعون" إلخ السابق تنظير لقوله: "ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد" كما أن قوله: "كدأب آل فرعون - إلى قوله - و كل كانوا ظالمين" ثانيا تنظير لقوله: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة" إلخ.

غير أن التنظير الثاني يشتمل على نوع من الالتفات في قوله: "فأهلكناهم بذنوبهم" و قد وقع بحذائه في التنظير الأول: "فأخذهم الله بذنوبهم" من غير التفات و لعل الوجه فيه أن التنظير الثاني لما كان مسبوقا بإفادة أن الله هو المفيض بالنعم على عباده و لا يغيرها إلا عن تغييرهم ما بأنفسهم، و هذا شأن الرب بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك أن يعد هؤلاء عبيدا غير جارين على صراط عبودية ربهم و لذلك غير بعض سياق التنظير فقال في الثاني: "كذبوا بآيات ربهم" و قد كان بحذائه في الأول قوله: "كفروا بآيات الله" و لذلك التفت هاهنا من الغيبة إلى التكلم مع الغير فقال: "فأهلكناهم بذنوبهم" للدلالة على أنه سبحانه هو ربهم و هو مهلكهم، و قد أخذ المتكلم مع الغير للدلالة على عظمة الشأن و جلالة المقام، و أن له وسائط يعملون بأمره و يجرون بمشيته.

و قوله: "و أغرقنا آل فرعون" أظهر المفعول و لم يقل: و أغرقناهم ليؤمن الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون و الذين من قبلهم جميعا.

و قوله تعالى: "و كل كانوا ظالمين" أي جميع هؤلاء الذين أخذهم العذاب الإلهي من كفار قريش و آل فرعون و الذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله.

و فيه بيان أن الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد أحدا، و لا يبدل نعمته على أحد نقمة إلا إذا كان ظالما ظلما يبدل نعمة الله كفرا بآياته فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه.

بحث روائي

في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعة قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير. و فيه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، و يقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و يقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، و سهم لرسوله، و سهم لذي القربى و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لأبناء السبيل فسهم الله و سهم رسوله لأولي الأمر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، و سهم مقسوم له من الله فله نصف الخمس كلا، و نصف الخمس الثاني بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم، و سهم لمساكينهم، و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم فإن فضل منهم شيء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده ما يستغنون به، و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم، و إنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس و أبناء سبيلهم عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كرامة من الله لهم من أوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده و ما يغنيهم به، أن يصيرهم في موضع الذل و المسكنة، و لا بأس بصدقة بعضهم على بعض. و هؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين ذكرهم الله فقال: "و أنذر عشيرتك الأقربين" و هم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم و الأنثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش و لا من العرب أحد، و لا فيهم و لا منهم في هذا الخمس من مواليهم، و قد تحل صدقات الناس لمواليهم، و هم و الناس سواء. و من كانت أمه من بني هاشم و أبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له، و ليس له من الخمس شيء لأن الله يقول، "ادعوهم لآبائهم".

و في التهذيب، بإسناده عن علي بن مهزيار قال: قال لي علي بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: و أي شيء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم و ضياعهم قلت: و التاجر عليه و الصانع بيده؟ فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مئونتهم.

و فيه، بإسناده عن زكريا بن مالك الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله: "و اعلموا أنما غنمتم من شيء - فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى - و اليتامى و المساكين و ابن السبيل" فقال: خمس الله عز و جل للإمام، و خمس الرسول للإمام، و خمس ذي القربى لقرابة الرسول للإمام، و اليتامى يتامى آل الرسول، و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم.

و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له إبراهيم بن أبي البلاد: وجب عليك زكاة؟ قال: لا و لكن يفضل و نعطي هكذا، و سئل عن قول الله عز و جل: "و اعلموا أنما غنمتم من شيء - فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى" فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ قال: للرسول، و ما كان للرسول فهو للإمام. قيل: أ فرأيت إن كان صنف أكثر من صنف، و صنف أقل من صنف؟ فقال: ذلك للإمام. قيل أ فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يصنع؟ قال: إنما كان يعطي على ما يرى هو، و كذلك الإمام.

أقول: و الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متواترة في اختصاص الخمس بالله و رسوله و الإمام من أهل بيته و يتامى قرابته و مساكينهم و أبناء سبيلهم لا يتعداهم إلى غيرهم، و أنه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، و أنه لا يختص بغنائم الحرب بل يعم كل ما كان يسمى غنيمة لغة من أرباح المكاسب و الكنوز و الغوص و المعادن و الملاحة، و في رواياتهم - كما تقدم - أن ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرم عليهم الزكوات و الصدقات.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نجدة الحروري أرسل يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله فكتب إليه: أنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، و قالوا: و يقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو لقربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمه لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و قد كان عمر رض عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه و أبينا أن نقبله. و كان عرض عليهم أن يعين ناكحهم، و أن يقضي عن غارمهم، و أن يعطي فقيرهم، و أبى أن يزيدهم على ذلك.

أقول: و قوله في الرواية: "قالوا لمن تراه" معناه: قال الذين أرسلهم نجدة الحروري لابن عباس: و يقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن يصرف إليه الخمس.



و قوله: هو لقربى رسول الله قسمها لهم "إلخ" ظاهره أنه فسر ذي القربى بأقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ظاهر الروايات السابقة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم فسروا ذي القربى بالإمام من أهل البيت، و ظاهر الآية يؤيد ذلك حيث عبر بلفظ المفرد!.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سألت عليا رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما في الخمس نصيبكم؟ فقال: أما أبو بكر رض فلم يكن في ولايته أخماس، و أما عمر رض فلم يزل يدفعه إلي في كل خمس حتى كان خمس السوس و جنديسابور فقال و أنا عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس و قد أحل ببعض المسلمين و اشتدت حاجتهم. فقلت، نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال، لا تعرض في الذي لنا. فقلت أ لسنا من أرفق المسلمين، و شفع أمير المؤمنين، فقبضه فوالله ما قبضناه و لا قدرت عليه في ولاية عثمان رضي الله عنه. ثم أنشأ علي رضي الله عنه يحدث فقال: إن الله حرم الصدقة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعوضه سهما من الخمس عوضا مما حرم عليه، و حرمها على أهل بيته خاصة دون أمته فضرب لهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهما عوضا مما حرم عليهم.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رغبت لكم عن غسالة الأيدي لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم.

أقول: و هو مبني على كون سهم أهل البيت هو ما لذي القربى فحسب.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم ذي القربى على بني هاشم و بني المطلب. قال: فمشيت أنا و عثمان بن عفان حتى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم. أ رأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا، و إنما نحن و هم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية و الإسلام.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.

أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من طرق أهل السنة و قد اختلفت الروايات الحاكية لعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرقهم بين ما مضمونه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم الخمس على أربعة أسهم و بين ما مضمونه التقسيم على خمسة أسهم.

غير أنه يقرب من المسلم فيها أن من سهام الخمس ما يختص بقرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم المعنيون بذي القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و مما يقرب من المسلم فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسمه بين المطلبيين ما دام حيا، و أنه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثم جرى على ذلك الأمر بعدهم.

و من المسلم فيها أيضا أن الخمس يختص بغنائم الحرب - على خلاف ما عليه الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و لا يتعداها إلى كل ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة.

و ما يتعلق بالآية من محصل البحث التفسيري هو الذي قدمناه و هناك أبحاث أخر كلامية أو فقهية خارجة عن غرضنا.



و هناك بحث حقوقي اجتماعي في ما يؤثره الخمس من الأثر في المجتمع الإسلامي سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة.

بقي الكلام فيما تتضمنه الروايات أن الله سبحانه أراد بتشريع الخمس إكرام أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أسرته و ترفيعهم من أن يأخذوا أوساخ الناس في أموالهم، و الظاهر أن ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم:" التوبة: - 103 فإن التطهير و التزكية إنما يتعلق بما لا يخلو من دنس و وسخ و نحوهما و لم يقع في آية الخمس ما يشعر بذلك.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن عروة بن الزبير رض قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتل في آي من القرآن فكان أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا، و كان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، و أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، و المشركون بين الألف و التسعمائة، و كان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الحق و الباطل فكان أول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من الأنصار، و هزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلا، و أسر منهم مثل ذلك. و فيه، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان. أقول: و روي مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن علي و عن ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه، و أيضا عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن هشام و عنه عن عامر بن ربيعة البدري: مثله لكن فيه، كان يوم بدر يوم الإثنين لسبع عشرة من رمضان.



و ربما أطلق في بعض أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على التسعة عشر من رمضان يوم يلتقي الجمعان لما عد ليلته في أخبارهم من ليلة القدر، و هذا معنى آخر غير ما أريد في الآية من "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" ففي تفسير العياشي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان. قلت: ما معنى قوله: يلتقي الجمعان؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه و تأخيره و إرادته و قضائه. و في تفسير العياشي، عن محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "و الركب أسفل منكم" قال: أبو سفيان و أصحابه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ليهلك من هلك عن بينة - و يحيى من حي عن بينة" الآية قال: قال: يعلم من بقي أن الله نصره. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و إذ يريكموهم إذ التقيتم" الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل مائة. و فيه،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم" إلخ: أخرج الحاكم و صححه عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكره الصوت عند القتال. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان عند القتال لم يقاتل أول النهار، و أخره إلى أن تزول الشمس و تهب الرياح و تنزل النصر. و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم" الآية: بإسناده عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدثنا أبو المقدم ثعلبة بن زيد الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رحمه الله يقول: تمثل إبليس في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال لقريش: لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم. و تصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: أن محمدا و الصباة معه عند العقبة فأدركوهم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار: لا تخافوا فإن صوته لن يعدوه. و تصور في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد و أشار عليهم في أمرهم فأنزل الله تعالى: "و إذ يمكر بك الذين كفروا - ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك - و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين. و تصور في يوم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوا كسروانية و لا قيصرانية و سعوها تتسع فلا تردوا إلى بني هاشم فينظر بها الحبالى. و في المجمع، قيل: إنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين أخذ بيده الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين؟ أ تخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، فقال: و الله ما نرى إلا جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث و انطلق و انهزم الناس. و فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: و الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أقول: و روى مثله ابن شهرآشوب عنهما (عليهما السلام)، و في معنى هاتين الروايتين روايات كثيرة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره.

و قد مر في البيان المتقدم استبعاد بعض المفسرين ذلك و تضعيفه ما ورد فيه من الروايات، و هي إنما تثبت أمرا ممكنا غير مستحيل، و الاستبعاد الخالي لا يبني عليه في الأبحاث العلمية، و التمثلات البرزخية ليست بشاذة نادرة فلا موجب للإصرار على النفي كما أن الإثبات كذلك غير أن ظاهر الآية أوفق للإثبات.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و إذ زين لهم الشيطان" الآيتين أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق في قوله: "إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض" قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا و هم على الارتياب فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم و كثرة عدوهم. و هم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، و الحارث بن زمعة، و علي بن أمية بن خلف، و العاصي بن منبه.

أقول: و هذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى: "و الذين في قلوبهم مرض" فحسب، و في بعض التفاسير أن القائل: "غر هؤلاء دينهم" هم المنافقون و الذين في قلوبهم مرض من أهل المدينة، و لم يخرجوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و سياق الآية الظاهر في حضورهم و قولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.

و في رواية أبي هريرة على ما رواه في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط عنه ما لفظه: و قال عتبة بن ربيعة و ناس معه من المشركين يوم بدر، "غر هؤلاء دينهم" فأنزل الله، "إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض - غر هؤلاء دينهم". و الذي ذكره لا ينطبق على الآية البتة فالقرآن الكريم لا يسمي المشركين منافقين و لا الذين في قلوبهم مرض.

و في تفسير العياشي، عن أبي علي المحمودي عن أبيه رفعه: في قول الله، يضربون وجوههم و أدبارهم قال، إنما أراد أستاههم. إن الله كريم يكني. و في تفسير الصافي، عن الكافي عن الصادق (عليه السلام): أن الله بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه، و أوحى إليه أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية و لا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، و إنه ليس من أهل قرية و لا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون. و فيه، أيضا عنه (عليه السلام) أنه قال، كان أبي يقول،: إن الله عز و جل قضى قضاء حتما، لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.

8 سورة الأنفال - 55 - 66
إِنّ شرّ الدّوَاب عِندَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الّذِينَ عَهَدت مِنهُمْ ثمّ يَنقُضونَ عَهْدَهُمْ فى كلِّ مَرّةٍ وَ هُمْ لا يَتّقُونَ (56) فَإِمّا تَثْقَفَنهُمْ فى الْحَرْبِ فَشرِّدْ بِهِم مّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكرُونَ (57) وَ إِمّا تخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سوَاءٍ إِنّ اللّهَ لا يحِب الخَْائنِينَ (58) وَ لا يحْسبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سبَقُوا إِنهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَ أَعِدّوا لَهُم مّا استَطعْتُم مِّن قُوّةٍ وَ مِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَ عَدُوّكمْ وَ ءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مَا تُنفِقُوا مِن شىْءٍ فى سبِيلِ اللّهِ يُوَف إِلَيْكُمْ وَ أَنتُمْ لا تُظلَمُونَ (60) وَ إِن جَنَحُوا لِلسلْمِ فَاجْنَحْ لهََا وَ تَوَكلْ عَلى اللّهِ إِنّهُ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَ إِن يُرِيدُوا أَن يخْدَعُوك فَإِنّ حَسبَك اللّهُ هُوَ الّذِى أَيّدَك بِنَصرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلّف بَينَ قُلُوبهِمْ لَوْ أَنفَقْت مَا فى الأَرْضِ جَمِيعاً مّا أَلّفْت بَينَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكنّ اللّهَ أَلّف بَيْنهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَأَيهَا النّبىّ حَسبُك اللّهُ وَ مَنِ اتّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَأَيهَا النّبىّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشرُونَ صبرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَ إِن يَكُن مِّنكم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الّذِينَ كَفَرُوا بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْئََنَ خَفّف اللّهُ عَنكُمْ وَ عَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكم مِّائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَ إِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصبرِينَ (66)

بيان

أحكام و دستورات في الحرب و السلم و المعاهدات و نقضها و غير ذلك، و صدر الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التي كانت في المدينة و حولها و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة أن لا يضروه و لا يغدروا به و لا يعينوا عليه عدوا و يقروا على دينهم و يأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، و سيجيء بعض أخبارهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و على هذا فالآيات الأربع الأول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات و لا متصلة بها كما يعطيه سياقها و أما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الآيات الأربع و لا بما قبل ما قبلها.

قوله تعالى: "إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون" الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لما في تقييد الحكم بقوله: "عند الله" من الدلالة عليه فإن معناه الحكم و ما يحكم و يقضي به الله سبحانه لا يتطرق إليه خطأ و قد قال تعالى: "لا يضل ربي و لا ينسى:" طه: - 52.

و قد افتتح هذه القطعة من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لأن مغزى الكلام التحرز منهم و دفعهم، و من المغروز في الطباع أن الشر الذي لا يرجى معه خير يجب دفعه بأي وسيلة صحت و أمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله: "فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم" إلخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب.

و عقب قوله: "الذين كفروا" بقوله: "فهم لا يؤمنون" مبتدأ بفاء التفريع أي إن من وصفهم الذي يتفرع على كفرهم أنهم لا يؤمنون، و لا يتفرع عدم الإيمان على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الإيمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التي بين الكفر و الإيمان.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: "الذين كفروا" الذين ثبتوا على الكفر، و عند هذا يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون:" الأنفال: - 23.

على أن الآيتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب كانت الآية الأولى مع دلالتها على كون أهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على أن المراد بقوله في الآية الثانية: "الذين كفروا فهم لا يؤمنون" كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البتة.

قوله تعالى: "الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون" بيان للذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، و يتفرع عليه أن "من" في قوله "منهم" تبعيضية و المعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا، و أما احتمال أن يكون من زائدة و المعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع و المعنى: الذين عاهدت معهم فليس: بشيء.



و المراد بكل مرة مرات المعاهدة أن ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم و هم لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم و لا يخافون نقض عهدكم، و فيه دلالة على تكرر النقض منهم.

قوله تعالى: "فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون" قال في المجمع، الثقف الظفر و الإدراك بسرعة، و التشريد التفريق على اضطراب.

انتهى، و قوله: "فإما تثقفنهم" أصله إن تثقفهم دخل "ما" التأكيد على إن الشرطية ليصحح دخول نون التأكيد على الشرط و الكلام مسوق للتأكيد في ضمن الشرط.

و المراد بتشريد من خلفهم بهم أن يفعل بهم من التنكيل و التشديد ما يعتبر به من خلفهم، و يستولي الرعب و الخوف على قلوبهم فيتفرقوا و ينحل عقد عزيمتهم و اتحاد إرادتهم على قتال المؤمنين و إبطال كلمة الحق.

و على هذا فالمراد بقوله: "لعلهم يذكرون" رجاء أن يتذكروا ما لنقض العهد و الإفساد في الأرض و المحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة و العاقبة المشئومة فإن الله لا يهدي القوم الفاسقين و إن الله لا يهدي كيد الخائنين.

ففي الآية إيماء إلى الأمر بقتالهم ثم التشديد عليهم و التنكيل بهم عند الظفر بهم و ثقفهم، و إيماء إلى أن وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد و تربص الدوائر على الحق و أهله.

قوله تعالى: "و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين" الخيانة - على ما في المجمع، - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، و هذا معنى الخيانة في العهود و المواثيق، و أما الخيانة بمعناها العام فهي نقض ما أبرم من الحق في عهد أو أمانة، و النبذ هو الإلقاء و منه قوله: "فنبذوه وراء ظهورهم:" آل عمران: - 187 و السواء بمعنى الاستواء و العدل.

و قوله: "و إما تخافن" كقوله في الآية السابقة: "فإما تثقفنهم" و معنى الخوف ظهور أمارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه و الحذر عنه و قوله: "إن الله لا يحب الخائنين" تعليل لقوله: "فانبذ إليهم على سواء".

و معنى الآية: و إن خفت من قوم بينك و بينهم عهد أن يخونوك و ينقضوا عهدهم و لاحت آثار دالة على ذلك فانبذ و ألق إليهم عهدهم و أعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم و هم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل و السواء لأنك إن قاتلتهم قبل إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة و الله لا يحب الخائنين و ملخص الآيتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فإن كان أهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولي الأمر أن يقاتلهم و يشدد عليهم، و إن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم و لا وثوق بعهدهم فيعلمون إلغاء عهدهم ثم يقاتلون و لا يبدأ بقتالهم قبل الإعلام فإنما ذلك خيانة، و أما إن كانوا عاهدوا و لم ينقضوا و لم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم و احترام عقدهم و قد قال تعالى: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم:" التوبة: - 4.

و قال: "أوفوا بالعقود:" المائدة: - 1.



قوله تعالى: "و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون" القراءة المشهورة "تحسبن" بتاء الخطاب، و هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطييبا لنفسه و تقوية لقلبه كالخطاب الآتي بعد عدة آيات: "يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين" و كالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال".

و السبق تقدم الشيء على طالب اللحوق به، و الإعجاز إيجاد العجز، و قوله: "إنهم لا يعجزون" تعليل لقوله: "و لا تحسبن" إلخ، و المعنى: يا أيها النبي لا تحسبن أن الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لأنهم لا يعجزون الله و له القدرة على كل شيء.

قوله تعالى: "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل".

إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشيء للظفر بشيء آخر و إيجاد ما يحتاج إليه الشيء المطلوب في تحققه كإعداد الحطب و الوقود للإيقاد و إعداد الإيقاد للطبخ، و القوة كل ما يمكن معه عمل من الأعمال، و هي في الحرب كل ما يتمشى به الحرب و الدفاع من أنواع الأسلحة، و الرجال المدربين و المعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، و الرباط مبالغة في الربط و هو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا و رابطه يرابطه مرابطة و رباطا فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، و الخيل هو الفرس، و الإرهاب قريب المعنى من التخويف.

و قوله: "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل" أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض و الاعتبار فإن المجتمع الإنساني لا يخلو من التآلف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع و متضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا و هناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، و يخالفه في سنته، و لا يعيشان معا برهة من الدهر إلا و ينشب بينهما الخلاف و يؤدي ذلك إلى التغلب و القهر.

فالحروب المبيدة و الاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية و المجتمعات هي هذه المجتمعات، و يدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الإنسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب و الشدة في الأبدان، و الفكر العامل في القهر و الغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة و من رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.

و الذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، و يراعى فيها مصلحة الضعيف و القوي و الغني و الفقير و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الفرد و الجماعة و البعض و الكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس و أعراضهم و أموالهم بما شاء و أراد، و لا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس و تبطل منافع آخرين و ترضي الأكثرين النصف واحد و تضطهد و تسخط الأقلين النصف - واحد.



و لعل هذا هو السر في قوله تعالى: "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة" حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: "فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم" و قوله: "فانبذ إليهم على سواء" و قوله: "و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا" و كذا في الآيات التالية كقوله: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها" إلى غير ذلك.

و ذلك أن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد و تعظيم إرادة البعض و احترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.

فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها، و يعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، و الإعداد و إن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية و الإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية و التدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.

و قوله تعالى: "ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" في مقام التعليل لقوله: "و أعدوا لهم" أي و أعدوا لهم ذلك لترهبوا و تخوفوا به عدو الله و عدوكم، و في عدهم عدوا لله و لهم جميعا بيان للواقع و تأكيد في التحريض.

و في قوله: "و آخرين من دونهم لا تعلمونهم" دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله و لهم، و المراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين و صورتهم يصلون و يصومون و يحجون و يجاهدون ظاهرا، و من غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.

و الإرهاب بإعداد القوة، و إن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، و لذلك أردفه بقوله: "و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون" ليدل على جماع الغرض.

و ذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، و حفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه و أعراضه و أمواله، و باللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق و يهدم بنيان دين الفطرة الذي به يعبد الله في أرضه و يقوم ملاك العدل في عباده.



و هذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، و هو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه و إن كان في صورة أخرى فإن أنفق في سبيله مالا أو جاها أو أي نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريات الذي لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه و ما استعقبه من نماء في الدنيا و الآخرة، و إن أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم و خلود الذكر و تمام الفخر فهؤلاء و إن تنبهوا اليوم لهذا التعليم الإسلامي، و أن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع و ضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم و اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنساني الذي لأجله تندبه الفطرة و تدعوه إلى الاجتماع، و هو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.

و بالجملة فإعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي و منافعه الحيوية، و التظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، و هو أيضا من شعب الدفع و نوع معه، فقوله تعالى: "ترهبون به عدو الله" إلخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى أفراد المجتمع، و قوله: "و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون" يذكر أن ما أنفقوه في سبيله لا يبطل و لا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.

و هذا أعني قوله: "و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله" إلخ أعم فائدة من مثل قوله: "و ما تنفقوا من خير يوف إليكم:" البقرة: - 272 فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله هاهنا: "و ما تنفقوا من شيء".

قوله تعالى: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم" في المجمع،: الجنوح الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه، و لا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.

انتهى، و السلم بفتح السين و كسرها الصلح.

و قوله: "و توكل على الله" من تتمة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، و المعنى: و إن مالوا إلى الصلح و المسالمة فمل إليها و توكل في ذلك على الله و لا تخف من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك و عدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب و لا يعجزه مكر بل ينصرك و يكفيك و هذا هو الذي يثبته قوله في الآية التالية "و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله".

و قد تقدم فيما أسلفناه من معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، و السبب التام الذي لا يتخلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه.

فالتوكل هو توجيه الثقة و الاعتماد إلى الله سبحانه الذي بمشيته يدور رحى الأسباب عامة، و لا ينافيه أن يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل.

قوله تعالى: "و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين" الآية متصلة بما قبلها و هي بمنزلة دفع الدخل، و ذلك أن الله سبحانه لما أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنوح للسلم إن جنحوا له و لم يرض بالخديعة لأنها من الخيانة في حقوق المعاشرة و المواصلة للعامة و الله لا يحب الخائنين كان أمره بالجنوح المذكور مظنة سؤال و هو أن من الجائز أن يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا عليهم في شرائط و أحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا أمرناك بالتوكل فإن أرادوا بذلك أن يخدعوك فإن حسبك الله و قد قال تعالى: "و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره.

و هذا مما يدل على أن هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الأسباب الطبيعية العادية تجري على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الأسباب الطبيعية العادية و لم تساعده على مطلوبه الحق.



و قوله: "هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين" بمنزلة الاحتجاج على قوله: "فإن حسبك الله" بذكر شواهد تدل على كفايته تعالى و هي أنه أيده بنصره و أيده بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم و هي شيء متباغضة.

قوله تعالى: "و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم" إلخ، قال الراغب: الإلف اجتماع مع التيام يقال: ألفت بينهم، و منه الألفة، و يقال: للمألوف إلف و آلف قال تعالى: "إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم" انتهى.

أورد سبحانه في جملة ما استشهد على كفايته لمن توكل عليه أنه كفى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتأليف قلوب المؤمنين بعد ذكر تأييده بهم، و الكلام مطلق و الملاك المذكور فيه عام يشمل جميع المؤمنين و إن كانت الآية أظهر انطباقا على الأنصار حيث أيد الله بهم نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فآووه و نصروه و ألف الله سبحانه بدينه بينهم أنفسهم و قد نشبت فيهم الحروب المبيدة و كانت قائمة على ساقها دهرا طويلا و هي حرب "بغاث" بين الأوس و الخزرج حتى اصطلحوا بنزول الإسلام في دارهم و أصبحوا بنعمته إخوانا.

و قد امتن الله بتأليفه بين قلوب المسلمين في مواضع من كلامه و بين أهمية موقعه بمثل قوله: "لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف. بينهم إنه عزيز حكيم".

و ذلك أن الإنسان مفطور على حب النعم الحيوية التي تتم بها حياته لا بغية له دونها و لا يريد في الحقيقة شيئا و لا يقصده إلا لينتفع به في نفسه و ما ربما يلوح أنه يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه، و إذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان.

و بهذين الوصفين الغريزيين أعني الحب و البغض يتم له أمر الحياة و لو أنه أحب كل شيء و منها الأضداد و المتناقضات لبطلت الحياة و لو أنه أبغض كل شيء حتى المتنافيات لبطلت الحياة، و قد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية لقصور ما عنده من القوى و الأدوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته و من الضروري أن الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الإنساني أو يتعلق به الهوى النفساني على اختلاف فيه بالزيادة و النقيصة.

و هذا أول ما يودع أنواع العداوة و البغضاء في القلوب و الشح في النفوس ثم ما ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم و العدوان و بغي البعض على البعض في دم أو عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به و يتنافسون فيه و يعلمون لأجله، تثير في داخل نفوسهم كل بغضاء و شنآن.

و هذا كله أوصاف و غرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون أن تظهر في أعمالهم و تتلاقى في أفعالهم و يماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم و فيه البلوى التي تتعقب الفتن و المصائب الاجتماعية التي تبيد النفوس و تهلك الحرث و النسل، و قد شهدت بذلك الحوادث الجارية على توالي القرون و الأجيال.



و مهما ظنت الأمم المجتمعة أن بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من أصلها و قطع منابته فإن الدار دار التزاحم، و المجتمع قائم على قاعدة الاختصاص، و النفوس مختلفة في الاستعداد، و الحوادث الواقعة و العوامل المؤثرة و الأحوال الخارجة دخيلة في معايشهم و حياتهم.

قال تعالى: "إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا:" المعارج: - 21، و قال: "إن النفس لأمارة بالسوء:" يوسف: - 53، و قال: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم:" هود: - 119، إلى غير ذلك من الآيات.

و غاية ما يمكن الإنسان في بسط الألفة و إرضاء القلوب المشحونة بالعداوة و البغضاء أن يقنعهم أو يسكتهم ببذل ما يحبون من مال أو جاه أو سائر النعم الدنيوية المحبوبة عندهم غير أنه إنما ينفع في موارد جزئية خاصة، و أما العداوة و البغضاء العامتان فلا سبيل إلى إزالتهما عن القلوب ببذل النعمة فإنه لا يبطل غريزة الاستزادة و الشح الملتهب في كل نفس بما يشاهد من المزايا الحيوية عند غيره.

على أن من النعم ما لا يقبل إلا الاختصاص و الانفراد كالملك و الرئاسة العالية و أمور أخرى تجري مجراهما حتى أن الأمم الراقية ذوي المدنية و الحضارة لم يتمكنوا من معالجة هذا الداء إلا بما يزول به بعض شدته، و يستريح جثمان المجتمع من بعض عذابه، و أما البغضاءات المتعلقة بالأمور التي تختص به بعض مجتمعهم كالرئاسة و الملك فهي على حالها تتقد بشررها القلوب و لا يزال يأكل بعضها بعضا.

على أن ذلك ينحصر فيما بينهم و أما المجتمعات الخارجة من مجتمعهم فلا يعبأ بحالهم و لا يعتنى من منافعهم الحيوية إلا بما يوافق منافع أولئك و إن أعيتهم طوارق البلاء و عفاهم الدهر بالعناء.

و قد من الله على الأمة الإسلامية إذ أزال الشح عن نفوسهم و ألف بين قلوبهم بمعرفة إلهية علمه إياهم و بثه فيما بينهم ببيان أن الحياة الإنسانية حياة خالدة غير محصورة في هذه الأيام القلائل التي ستفنى و يبقى الإنسان و لا خبر عنها، و إن سعادة هذه الحياة الدائمة غير التمتع بلذائذ المادة و الرعي في كلإ الخسة بل هي حياة واقعية و عيشة حقيقية يحيى و يعيش بها الإنسان في كرامة عبودية الله سبحانه، و يتنعم بنعم القرب و الزلفى ثم يتمتع بما تيسر له من متاع الحياة الدنيا مما ساقه إليه الحظ أو الاكتساب عارفا بحقوق النعمة ثم ينتقل إلى جوار الله و يدخل دار رضوانه و يخالط هناك الصالحين من عباده، و يحيى حق الحياة قال تعالى: "و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:" الرعد: - 26، و قال تعالى: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:" العنكبوت: - 64 و قال: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدى:" النجم: - 30.



فعلى المسلم أن يؤمن بربه و يتربى بتربيته، و يعزم عزمه و يجمع بغيته على ما عند ربه فإنما هو عبد مدبر لا يملك ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و من كان هذا وصفه لم يكن له شغل إلا بربه الذي بيده الخير و الشر و النفع و الضر و الغنى و الفقر و الموت و الحياة، و كان عليه أن يسير مسير الحياة بالعلم النافع و العمل الصالح فما سعد به من مزايا الحياة الدنيا فموهبة من عند ربه و ما حرم منه احتسب عند ربه أجره، و ما عند الله خير و أبقى.

و ليس هذا من إلغاء الأسباب في شيء و لا إبطالا للفطرة الإنسانية الداعية إلى العمل و الاكتساب، النادبة إلى التوسل بالفكر و الإرادة، المحرضة إلى الاجتهاد في تنظيم العوامل و العلل، الموصلة إلى المقاصد الإنسانية و الأغراض الصحيحة الحيوية فقد فصلنا القول في توضيح ذلك في موارد متفرقة من هذا الكتاب.

و إذا تسنن المسلمون بهذه السنة الإلهية، و حولوا هوى قلوبهم عن ذلك التمتع المادي الذي ليس إلا بغية حيوانية و غرضا ماديا إلى هذا التمتع المعنوي الذي لا تزاحم فيه و لا حرمان عنده، ارتفعت عن قلوبهم العداوة و البغضاء، و خلصت نفوسهم من الشح و الرين، و أصبحوا بنعمة الله إخوانا، و أفلحوا حق الفلاح قال: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا:" آل عمران: - 103 و قال: "و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون:" الحشر: - 9.

قوله تعالى: "يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين" تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد قال تعالى قبله: "فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين" فالمراد - و الله أعلم - يكفيك الله بنصره و بمن اتبعك من المؤمنين، و ليس المراد أن هناك سببين كافيين أو سببا كافيا ذا جزئين يتألف منهما سبب واحد كاف فالتوحيد القرآني يأبى ذلك.

و ربما قيل: إن المعنى حسبك الله و حسب من اتبعك من المؤمنين بعطف قوله: "من اتبعك" على موضع الكاف من "حسبك".

و الكلام على أي حال مسوق للتحريض على القتال على ما يفيده السياق و القرائن الخارجة فإن تأثير المؤمنين في كفايتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو في القتال على ما يسبق إلى الذهن.

و ذكر بعضهم: أن الآية نزلت بالبيداء قبل غزوة بدر، و على هذا لا اتصال لها بما بعدها، و أما اتصالها بما قبلها فغير مقطوع به.

قوله تعالى: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال" إلى آخر الآية.

التحريض و التحضيض و الترغيب و الحض و الحث بمعنى و الفقه أبلغ و أغزر من الفهم، و قوله: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" أي من الذين كفروا كما قيد به الألف بعدا، و كذلك قوله: "و إن يكن منكم مائة" أي مائة صابرة كما قيد بها "عشرون" قبلا.

و قوله: "بأنهم قوم لا يفقهون" الباء للسببية أو الإله و الجملة تعليلية متعلقة بقوله: "يغلبوا" أي عشرون صابرون منكم يغلبون مائتين من الذين كفروا، و مائة صابرة منكم يغلبون ألفا من الذين كفروا كل ذلك بسبب أن الكفار قوم لا يفقهون.



و فقدان الفقه في الكفار و بالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذي أوجب أن يعدل الواحد من العشرين من المؤمنين أكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك على ما بني عليه الحكم في الآية فإن المؤمنين إنما يقدمون فيما يقدمون عن إيمان بالله و هو القوة التي لا يعادله و لا يقاومه أي قوة أخرى لابتنائه على الفقه الصحيح الذي يوصفهم بكل سجية نفسانية فاضلة كالشجاعة و الشهامة و الجرأة و الاستقامة و الوقار و الطمأنينة و الثقة بالله و اليقين بأنه على إحدى الحسنيين إن قتل ففي الجنة و إن قتل ففي الجنة و إن الموت بالمعنى الذي يراه الكفار و هو الفناء لا مصداق له.

و أما الكفار فإنما اتكاؤهم على هوى النفس، و اعتمادهم على ظاهر ما يسوله لهم الشيطان، و النفوس المعتمدة على أهوائها لا تتفق للغاية و إن اتفقت أحيانا فإنما تدوم عليه ما لم يلح لائح الموت الذي تراه فناء، و ما أندر ما تثبت النفس على هواها حتى حال ما تهدد بالموت و هي على استقامة من الفكر بل تميل بأدنى ريح مخالف، و خاصة في المخاوف العامة و المهاول الشاملة كما أثبته التاريخ من انهزام المشركين يوم بدر و هم ألف بقتل سبعين منهم، و نسبة السبعين إلى الألف قريبة من نسبة الواحد إلى أربعة عشر فكان انهزامهم في معنى انهزام الأربعة عشر مقاتلا من مقاتل واحد، و ليس ذلك إلا لفقه المؤمنين الذي يستصحب العلم و الإيمان، و جهل الكفار الذي يلازمه الكفر و الهوى.

قوله تعالى: "الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن" إلخ أي إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا و إن يكن منكم ألف صابر يغلبوا ألفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الآية السابقة.

و قوله: "و علم أن فيكم ضعفا" المراد به الضعف في الصفات الروحية و لا محالة ينتهي إلى الإيمان فإن الإيقان بالحق هو الذي ينبعث عنه جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح و الظفر كالشجاعة و الصبر و الرأي المصيب و أما الضعف من حيث العدة و القوة فمن الضروري أن المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة و قوة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قوله: "بإذن الله" تقييد لقوله: "يغلبوا" أي إن الله لا يشاء خلافه و الحال أنكم مؤمنون صابرون، و بذلك يظهر أن قوله: "و الله مع الصابرين" يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الإذن.

و قوله تعالى في الآية السابقة تعليلا للحكم: "بأنهم قوم لا يفقهون" و كذا في هذه الآية: "و علم أن فيكم ضعفا" "و الله مع الصابرين" و عدم الفقه و الضعف الروحي و الصبر من العلل و الأسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة و الظفر و الفوز بلا شك يدل على أن الحكم في الآيتين مبني على ما اعتبر من الأوصاف الروحية في الفئتين: المؤمنين و الكفار، و إن القوى الداخلة الروحية التي اعتبرت في الآية الأولى ما في المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد زمان يسير يشير إليه بقوله: "الآن خفف الله عنكم" لا يربو ما في المؤمن الواحد منها - من متوسطي المؤمنين - إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها بنسبة الثمانين في المائة، و تبدلت العشرون و المائتان في الآية الأولى إلى المائة و المائتين في الآية الثانية، و المائة و الألف في الأولى إلى الألف و الألفين في الثانية.



و البحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك فإن المجتمعات المنزلية و الأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيوية أو دينية في أول تكونها و نشأتها تحس بالموانع المضادة و المحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، و يستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره و التفدية في طريق مطلوبها بالمال و النفس.

و لا تزال تجاهد و تفدي ليلها و نهارها، و تتقوى و تتقدم حتى تمهد لنفسها حياة فيها بعض الاستقلال، و يصفو لها الجو بعض الصفاء و يكثر جمعها و يضرب بجرانها الأرض أخذت بالاستفادة من فوائد جهدها و التنعم بنعمة الراحة، و التوسع في متسع الأمن، و شرعت القوى الروحية الباسطة الباعثة للعمل في الخمود.

على أن المجتمع و إن قلت أفراده لا يخلو من اختلاف في الإيمان، و السجايا الروحية الجميلة من قوي فيها و ضعيف، و كلما كثرت الأفراد ازداد ضعفاء الإيمان و الذين في قلوبهم مرض و المنافقون فتنزلت القوى الروحية في الفرد المتوسط و ارتفعت كفة الميزان عما كانت عليه من الثقل.

و الجماعات الدينية و الأحزاب الدنيوية في ذلك على السواء و السنة الطبيعية الجارية في النظام الإنساني تجري على الجميع على نسق واحد، و قد أثبتت التجربة القطعية أن المجتمعات المؤتلفة لغرض هام كلما قلت أفرادها و قويت رقباؤها و مزاحموها، و أحاطت بها المحن و الفتن كانت أكثر نشاطا للعمل و أحد في الأثر و كلما كثرت أفرادها و قلت مزاحماتها و الموانع الحائلة بينها و بين مقاصدها و مطالبها كانت أكثر خمودا و أقل تيقظا و أسفه حلما.

و التدبر الكافي في مغازي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينور ذلك فهذه غزوة بدر غلب فيها المسلمون و هم ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا على ما بهم من رثاثة الحال و قلة العدة و فقد السلاح و القوة كفار قريش و هم يعدلون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون على ما لهم من العزة و الشوكة و القوة ثم ما جرى على المسلمين في غزوة أحد ثم في غزوة الخندق ثم في غزوة خيبر ثم في غزوة حنين و هي أعجبها و قد ذكرها الله سبحانه بما لا يبقى لباحث ريبا في ذلك إذ قال: "و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" إلى آخر الآيات.

فالآية تدل أولا على أن الإسلام كان كلما زاد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عزة و شوكة ظاهرا زادت نقصا و خمودا في قوى المسلمين الروحية العامة و درجة إيمانهم و سجاياهم الجميلة النفسانية المعنوية باطنا حتى استقرت بعد غزوة بدر - بقليل أو كثير - على خمس ما كانت عليه قبلها كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى في الآيات التالية: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز حكيم لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" الآيات.

و ثانيا: أن الظاهر أن الآيتين نزلتا دفعة واحدة فإنهما و إن كانتا تخبران عن حال المؤمنين في زمانين مختلفين كما يشير إليه قوله في الآية الثانية: "الآن خفف الله عنكم" لكن الآيتين تقيسان كما مر طبع قوى المؤمنين الروحية في زمانين مختلفين، و سياق الثانية بالنظر إلى هذا القياس بحيث لا يستقل عن الأولى، و وجود حكمين مختلفين في زمانين لا يوجب أن ينزل الآية المتضمنة لأحدهما في زمان غير زمان نزول الأخرى المتضمنة للآخر.



نعم لو كانت الآيتان مقصورتين في بيان الحكم التكليفي فحسب كان الظاهر نزول الثانية بعد زمان نزلت فيه الأولى.

و ثالثا: أن ظاهر قوله تعالى: "الآن خفف الله عنكم" كما قيل كون الآيتين مسوقتين لبيان الحكم التكليفي لأن التخفيف لا يكون إلا بعد التكليف فاللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و محصل المراد في الآية الأولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفار و في الآية الثانية: الآن خفف الله في أمره فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفار.

و اختصاص التخفيف بباب التكاليف - كما قيل - و إن أمكنت المناقشة فيه لكن ظهور الآيتين في وجود حكمين مختلفين مترتبين بحسب الزمان أحدهما أخف من الآخر لا ينبغي الارتياب فيه.

و رابعا: أن ظاهر التعليل في الآية الأولى بالفقه، و في الآية الثانية بالصبر مع تقييد المقاتل من المؤمنين في الآيتين جميعا بالصبر يدل على أن الصبر يرجح الواحد في قوة الروح على مثليه، و الفقه يرجحه فيها على خمسة أمثاله فإذا اجتمعا في واحد يرجح على عشرة أمثال نفسه، و الصبر لا يفارق الفقه و إن جاز العكس.

و خامسا: أن الصبر واجب في القتال على أي حال.

بحث روائي

في تفسير البيضاوي، ": في قوله تعالى الذين عاهدت منهم - ثم ينقضون عهدهم في كل مرة" هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح و قالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا و مالئوهم عليه يوم الخندق، و ركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.

أقول: و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد، و روي عن سعيد بن جبير أن الآية نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت.

و إيضاح ما تشير إليه الآية من نقض اليهود ميثاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بعد مرة و ما قاساه من المحن من ناحيتهم يحتاج إلى سير إجمالي فيما جرى بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم من الأمر بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة إلى سبع سنين من الهجرة.

و قد كانت طوائف من اليهود هاجرت من بلادها إلى الحجاز و توطنوا بها و بنوا فيها الحصون و القلاع، و زادت نفوسهم و كثرت أموالهم و عظم أمرهم و قد مرت في ذيل قوله تعالى: "و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين:" البقرة: - 89 في الجزء الأول من الكتاب روايات في بدء مهاجرتهم إلى الحجاز و كيفية نزولهم حول المدينة و بشارتهم الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و لما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و دعاهم إلى الإسلام استنكفوا عن الإيمان به فصالح يهود المدينة و عاهدهم بكتاب كتب بينه و بينهم و هم ثلاثة رهط حول المدينة: بنو قينقاع، و بنو النضير، و بنو قريظة أما بنو قينقاع فنكثوا العهد في غزوة بدر فسار إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة بعد بضعة و عشرين يوما من وقعة بدر فتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، و بقوا على ذلك خمسة عشر يوما.



ثم نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفوسهم و أموالهم و نسائهم و ذراريهم فأمر بهم فكتفوا، و كلم عبد الله بن أبي بن سلول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم و ألح عليه و كانوا حلفاءه فوهبهم له، و أمرهم أن يخرجوا من المدينة و لا يجاوروه بها فخرجوا إلى أذرعات الشام و معهم نساؤهم و ذراريهم، و قبض منهم أموالهم غنيمة الحرب، و كانوا ستمائة مقاتل من أشجع اليهود.

و أما بنو النضير فإنهم كادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد أشهر من غزوة بدر، و كلمهم أن يعينوه في دية نفر أو رجلين من الكلابيين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضي حاجتك، و خلا بعضهم ببعض فتأمروا بقتله و اختاروا من بينهم عمرو بن جحاش أن يأخذ حجر رحى فيصعد فيلقه على رأسه و يشدخه به و حذرهم سلام بن مشكم و قال لهم: لا تفعلوا ذلك فوالله ليخبرن بما هممتم به، و إنه لنقض العهد الذي بيننا و بينه.

فجاءه الوحي و أخبره ربه بما هموا به فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) من مجلسه مسرعا و توجه إلى المدينة، و لحقه أصحابه و استفسروه عن قيامه و توجهه فأخبرهم بما همت به بنو النضير، و بعث إليهم من المدينة أن اخرجوا من المدينة و لا تساكنوني بها، و قد أجلتكم فمن وجدته بعد ذلك بها، منكم ضربت عنقه فأقاموا أياما يتجهزون للخروج.

و أرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم و يموتون دونكم، و ينصركم بنو قريظة و حلفاؤكم من غطفان، و أرضاهم بذلك.

فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كبر أصحابه، و أمر عليا (عليه السلام) بحمل الراية و السير إليهم فساروا و أحاطوا بديارهم، و غدر بهم عبد الله بن أبي، و لم ينصرهم بنو قريظة و لا حلفاؤهم من غطفان.

و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقطع نخيلهم و إحراقها فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمد لا تقطع فإن كان لك فخذه، و إن كان لنا فاتركه لنا.

ثم قالوا له بعد أيام: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا قال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل فلم يقبلوا ذلك و بقوا أياما على ذلك ثم رضوا و سألوه ذلك قال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئا، و من وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه فخرجوا فوقع قوم منهم إلى فدك و وادي القرى، و قوم إلى أرض الشام، و كان مالهم فيئا لله و رسوله من غير أن ينال شيئا من ذلك جيش الإسلام، و قصتهم مذكورة في سورة الحشر، و من كيد بني النضير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تخريب الأحزاب من قريش و غطفان و غيرهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و أما بنو قريظة فقد كانوا على الصلح و السلم حتى وقعت غزوة الخندق و قد كان حيي بن أخطب رئيس بني النضير ركب إلى مكة و حث قريشا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حزب الأحزاب، و في ذلك ركب إلى بني قريظة و جاءهم في ديارهم فلم يزل يوسوس إليهم و يعزهم و يلح عليهم و يكلم رئيسهم كعب بن أسد في ذلك و نقض العهد و مناجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أرضاهم بذلك و اشترطوا عليه أن يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل و دخل.

فنقضوا العهد و مالوا إلى الأحزاب الذين حاصروا المدينة و أظهروا سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحدثوا ثلمة أخرى.



فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمر الأحزاب أتاه جبرئيل بوحي من الله يأمره بالمسير إليهم فسار إليهم و يحمل رايته علي (عليه السلام) و نازل حصون بني قريظة، و حصرهم خمسة و عشرين يوما.

فلما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يختاروا أحد ثلاث خصال: إما أن يسلموا و يدخلوا في دين محمد، و إما أن يقتلوا ذراريهم و يخرجوا إليه بسيوفهم مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، و إما أن يهجموا عليه و يكسبوه يوم السبت لأنهم - يعني المسلمين - قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه!.

فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره في الأمر و كان أبو لبابة مناصحا لهم لأن عياله و ذريته و ماله كانت عندهم.

فأرسله إليهم فلما رأوه قاموا إليه يبكون، و قالوا: له كيف ترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، و أشار بيده إلى حلقه: أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زلت قدماي حتى علمت أني خنت الله و رسوله، و أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر أبي لبابة.

فندم أبو لبابة و مضى على وجهه حتى أتى المسجد و ربط نفسه على سارية من سواري المسجد تائبا لله، و حلف ألا يحله إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يموت، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: دعوه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تاب عليه و أنزل توبته و حله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كانوا موالي أوس فكلمته أوس في أمرهم مستشفعين و آل الأمر إلى تحكيم سعد بن معاذ الأوسي في أمرهم و رضوا و رضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحضر سعد و كان جريحا.

و لما كلم سعد رحمه الله في أمرهم قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في الله لومة لائم ثم حكم فيهم بقتل الرجال و سبي النساء و الذراري و أخذ الأموال فأجري عليهم ما حكم به سعد فضربت أعناقهم عن آخرهم، و كانوا ستمائة مقاتل أو سبعمائة، و قيل أكثر، و لم ينج منهم إلا نفر يسير آمنوا قبل تقتيلهم، و هرب عمرو بن سعدى منهم و لم يكن داخلا معهم في نقض العهد، و سبيت النساء إلا امرأة واحدة ضربت عنقها و هي التي طرحت على رأس خلاد بن السويد بن الصامت رحى فقتلته.

ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان بالمدينة من اليهود ثم سار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يهود خيبر لما كان من كيدهم و سعيهم في حث الأحزاب عليه و تأليفهم من جميع القبائل العربية لحربه فنازل حصونهم و حصرهم أياما، و أرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قتالهم أبا بكر في جمع يوما فانهزم، ثم عمر بن الخطاب في جمع يوما فانهزم.

و عند ذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" و لما كان من غد أعطى الراية عليا (عليه السلام) و أرسله إلى قتال القوم فتقدم إليهم و قتل مرحبا الفارس المعروف منهم، و هزمهم و قلع بيده باب حصنهم و فتح الله على يده الحصن، و كان ذلك بعد صلح الحديبية في المحرم سنة سبع من الهجرة.



ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بقي من اليهود و قد نصح لهم قبل ذلك أن يبيعوا أموالهم و يأخذوا أثمانها.

انتهى ما أردنا تلخيصه من قصة اليهود مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن جابر: في قوله تعالى: "إن شر الدواب عند الله" الآية نزلت في بني أمية هم شر خلق الله هم "الذين كفروا" في باطن القرآن، و هم "الذين لا يؤمنون": أقول: و روى مثله القمي عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و هو من باطن القرآن كما صرح به في الرواية ليس بالظاهر.

و في الكافي، بإسناده عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث من كن فيه كان منافقا و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم: من إذا اؤتمن خان، و إن حدث كذب، و إذا وعد أخلف إن الله عز و جل قال في كتابه: "إن الله لا يحب الخائنين" و قال: "إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" و في قوله عز و جل: "و اذكر في الكتاب إسماعيل - إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا" و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة" الآية قال: قال: السلاح. و في التفسير العياشي، عن محمد بن عيسى عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: سيف و ترس. و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) مرسلا: في الآية قال: منه الخضاب بالسواد.

و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): دخل قوم على الحسين بن علي (عليهما السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين. و في تفسير العياشي، عن جابر الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة" قال: الرمي: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن المغيرة رفعه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عقبة بن عامر عنه، و السيوطي في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و أبي داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير و الذي يجهز به في سبيل الله، و الذي يرمي به في سبيل الله. و قال: ارموا و اركبوا، و أن ترموا خير من أن تركبوا، و قال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، و تأديبه فرسه، و ملاعبته أهله فإنهن من الحق، و من علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها.

أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و خاصة في الخيل و الرمي و الروايات على أي حال من باب عد المصاديق.



و في الدر المنثور، أخرج سعد و الحارث بن أبي أسامة و أبو يعلى و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن قانع في معجمه و الطبراني و أبو الشيخ و ابن منده و الروياني في مسنده و ابن مردويه و ابن عساكر عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في قوله: "و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" قال: هم الجن، و لا تخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق.

أقول: و في معناها روايات أخر، و محصل الروايات ربط قوله: "و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" بقوله: "و من رباط الخيل" و هي من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء، و المراد من الآية بظاهرها العدو من الإنسان كالكفار و المنافقين.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ: و إن جنحوا للسلم. و فيه، أخرج أبو عبيد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها" قال: نسختها هذه الآية: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر - إلى قوله - صاغرون".

أقول: و روي نسخها بآية البراءة: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" و الآية لا تخلو عن إيماء إلى كون الحكم مؤجلا حيث قال: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم".

و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها" قلت: ما السلم؟ قال: الدخول في أمرنا، و في رواية أخرى: الدخول في أمرك.

أقول: و هو من الجري.

و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي محمد عبدي و رسولي أيدته بعلي و ذلك قوله: "هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين:" أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي هريرة، و أبو نعيم في حلية الأولياء، بإسناده عنه، و كذا ابن شهرآشوب مسندا عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي قال: تأويله ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء بطريقه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، و هو المعني بقوله: المؤمنين.

أقول: و لفظ الآية لا يساعد على ذلك اللهم إلا أن يكون المراد بالاتباع تمام الاتباع الذي لا يشذ عنه شأن من الشئون، و من للتبعيض دون البيان إن ساعد عليه السياق.

و في الدر المنثور، أخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، و أنزل الله: "يا أيها النبي حسبك الله - و من اتبعك من المؤمنين".

أقول: و روي هذا المعنى في روايات أخر، و الاعتبار لا يساعد عليه فإن الزمان الذي أسلم فيه لم يكن على نعت يصحح الخطاب بمثل قوله: "يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين" و اليوم يوم الفتنة و العسرة، و قد دام الحال على ذلك بعدة سنين متمادية، و ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ يحتاج إلى شيء يعينه العدة، و في هذه الروايات أنه كان تمام الأربعين أو رابع أربعين.

على أن الظاهر أن الآية مدنية من جملة آيات سورة الأنفال.

و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن الزهري: في قوله: "يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين" قال: نزلت في الأنصار.



أقول: و سياق الآية في عدم المساعدة عليه كالروايتين السابقتين اللهم إلا أن يكون المراد نزولها يوم آمن به الأنصار أو يوم تابعوه، و الظاهر أن الآية نزلت في تطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع من كان معه من المؤمنين: مهاجريهم و أنصارهم، و هي توطئة و تمهيد لما في الآية التالية من الأمر بتحريض المؤمنين على القتال.

و في تفسير القمي، قال: قال:، كان الحكم في أول النبوة في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرجل الواحد وجب عليه أن يقاتل عشرة من الكفار فإن هرب منهم فهو الفار من الزحف، و المائة يقاتلون ألفا. ثم علم الله أن فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: "الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا - فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين" ففرض عليهم أن يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار فإن فر منهما فهو الفار من الزحف فإن كانوا ثلاثة من الكفار و واحدا من المسلمين ففر المسلم منهم فليس هو الفار من الزحف.

أقول: و في تفسير العياشي، عن الحسين بن صالح عن الصادق عن علي (عليه السلام) ما يقرب منه، و روي ما في معناها في الدر المنثور، بطرق عديدة عن ابن عباس و غيره.

و في الدر المنثور، أخرج الشيرازي في الألقاب و ابن عدي و الحاكم و صححه عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ: "الآن خفف الله عنكم - و علم أن فيكم ضعفا رفع.

<<        الفهرس        >>