جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج9 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


9 سورة التوبة - 81 - 96

فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَف رَسولِ اللّهِ وَ كَرِهُوا أَن يجَهِدُوا بِأَمْوَلهِِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فى سبِيلِ اللّهِ وَ قَالُوا لا تَنفِرُوا فى الحَْرِّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشدّ حَرّا لّوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءَ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رّجَعَك اللّهُ إِلى طائفَةٍ مِّنهُمْ فَاستَئْذَنُوك لِلْخُرُوج فَقُل لّن تخْرُجُوا مَعِىَ أَبَداً وَ لَن تُقَتِلُوا مَعِىَ عَدُواّ إِنّكمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَْلِفِينَ (83) وَ لا تُصلِّ عَلى أَحَدٍ مِّنهُم مّات أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبرِهِ إِنهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ مَاتُوا وَ هُمْ فَسِقُونَ (84) وَ لا تُعْجِبْك أَمْوَلهُُمْ وَ أَوْلَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبهُم بهَا فى الدّنْيَا وَ تَزْهَقَ أَنفُسهُمْ وَ هُمْ كفِرُونَ (85) وَ إِذَا أُنزِلَت سورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللّهِ وَ جَهِدُوا مَعَ رَسولِهِ استَئْذَنَك أُولُوا الطوْلِ مِنْهُمْ وَ قَالُوا ذَرْنَا نَكُن مّعَ الْقَعِدِينَ (86) رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَ طبِعَ عَلى قُلُوبهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرّسولُ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَهَدُوا بِأَمْوَلهِِمْ وَ أَنفُسِهِمْ وَ أُولَئك لهَُمُ الْخَيرَت وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدّ اللّهُ لهَُمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَ جَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لهَُمْ وَ قَعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَ رَسولَهُ سيُصِيب الّذِينَ كفَرُوا مِنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لّيْس عَلى الضعَفَاءِ وَ لا عَلى الْمَرْضى وَ لا عَلى الّذِينَ لا يجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصحُوا للّهِ وَ رَسولِهِ مَا عَلى الْمُحْسِنِينَ مِن سبِيلٍ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (91) وَ لا عَلى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكمْ عَلَيْهِ تَوَلّوا وّ أَعْيُنُهُمْ تَفِيض مِنَ الدّمْع حَزَناً أَلا يجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنّمَا السبِيلُ عَلى الّذِينَ يَستَئْذِنُونَك وَ هُمْ أَغْنِيَاءُ رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَ طبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيهِمْ قُل لا تَعْتَذِرُوا لَن نّؤْمِنَ لَكمْ قَدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكمْ وَ سيرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسولُهُ ثمّ تُرَدّونَ إِلى عَلِمِ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيهِمْ لِتُعْرِضوا عَنهُمْ فَأَعْرِضوا عَنهُمْ إِنهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءَ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يحْلِفُونَ لَكمْ لِترْضوْا عَنهُمْ فَإِن تَرْضوْا عَنهُمْ فَإِنّ اللّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ (96)

بيان

الآيات تقبل الاتصال بالآيات التي قبلها و هي تعقب غرضا يعقبه ما تقدمها.

قوله تعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" الآية الفرح و السرور خلاف الغم و هما حالتان نفسيتان وجدانيتان ملذة و مؤلمة، و المخلفون اسم مفعول من قولهم خلفه إذا تركه بعده و المقعد كالقعود مصدر قعد يقعد و هو كناية عن عدم الخروج إلى الجهاد.

و الخلاف كالمخالفة مصدر خالف يخالف، و ربما جاء بمعنى بعد كما قيل و لعل منه قوله: "و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا" و كان قياس الكلام أن يقال: "خلافك" لأن الخطاب فيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما قيل: "خلاف رسول الله" للدلالة على أنهم إنما يفرحون على مخالفة الله العظيم فما على الرسول إلا البلاغ.

و المعنى فرح المنافقون الذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافا لك - أو بعدك - و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله.

و قوله تعالى: "و قالوا لا تنفروا في الحر" خاطبوا بذلك غيرهم ليخذلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يبطلوا مسعاه في تنفير الناس إلى الغزوة، و لذلك أمره الله تعالى أن يجيب عن قولهم ذلك بقوله: "قل نار جهنم أشد حرا" أي إن الفرار عن الحر بالقعود إن أنجاكم منه لم ينجكم مما هو أشد منه و هو نار جهنم التي هي أشد حرا فإن الفرار عن هذا الهين يوقعكم في ذاك الشديد.

ثم أفاد بقوله: "لو كانوا يفقهون" المصدر بلو التمني اليأس من فقههم و فهمهم.

قوله تعالى: "فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون" تفريع على تخلفهم عن الجهاد بالأموال و الأنفس و فرحهم بالقعود عن هذه الفريضة الإلهية الفطرية التي لا سعادة للإنسان في حياته دونها.

و قوله: "جزاء بما كانوا يكسبون" و الباء للمقابلة أو السببية دليل على أن المراد بالضحك القليل هو الذي في الدنيا فرحا بالتخلف و القعود و نحو ذلك، و بالبكاء الكثير ما كان في الآخرة في نار جهنم التي هي أشد حرا فإن الذي فرع عليه الضحك و البكاء هو ما في الآية السابقة، و هو فرحهم بالتخلف و خروجهم من حر الهواء إلى حر نار جهنم.

فالمعنى: فمن الواجب بالنظر إلى ما عملوه و اكتسبوه أن يضحكوا و يفرحوا قليلا في الدنيا و أن يبكوا و يحزنوا كثيرا في الآخرة فالأمر بالضحك و البكاء للدلالة على إيجاب السبب و هو ما كسبوه من الأعمال لذلك.

و أما حمل الأمر في قوله: "فليضحكوا" و قوله: "و ليبكوا" على الأمر المولوي لينتج تكليفا من التكاليف الشرعية فلا يناسبه قوله: "جزاء بما كانوا يكسبون".

و يمكن أن يكون المراد الأمر بالضحك القليل و البكاء الكثير معا ما هو في الدنيا جزاء لسابق أعمالهم فإنها هدتهم إلى راحة وهمية في أيام قلائل و هي أيام قعودهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم إلى هوان و ذلة عند الله و رسوله و المؤمنين ما داموا أحياء في الدنيا ثم إلى شديد حر النار في الآخرة بعد موتهم.



قوله تعالى: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج" إلى آخر الآية المراد بالقعود أول مرة التخلف عن الخروج في أول مرة كان عليهم أن يخرجوا فيها فلم يخرجوا، و لعلها غزوة تبوك كما يهدي إليه السياق.

و المراد بالخالفين المتخلفون بحسب الطبع كالنساء و الصبيان و المرضى و الزمنى و قيل: المتخلفون من غير عذر، و قيل: الخالفون هم أهل الفساد، و الباقي واضح.

و في قوله: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم" الآية دلالة على أن هذه الآية و ما في سياقها المتصل من الآيات السابقة و اللاحقة نزلت و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره و لما يرجع إلى المدينة، و هو سفره إلى تبوك.

قوله تعالى: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره إنهم كفروا بالله و رسوله و ماتوا و هم فاسقون" نهي عن الصلاة لمن مات من المنافقين و القيام على قبره و قد علل النهي بأنهم كفروا و فسقوا و ماتوا على فسقهم، و قد علل لغوية الاستغفار لهم في قوله تعالى: السابق: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم:" آية - 80 من السورة، و كذا في قوله "سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين:" المنافقون: - 6 بالكفر و الفسق أيضا.

و يتحصل من الجميع أن من فقد الإيمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه و إحاطته به فلا سبيل له إلى النجاة يهتدي به، و أن الآيات الثلاث جميعا تكشف عن لغوية الاستغفار للمنافقين و الصلاة على موتاهم و القيام على قبورهم للدعاء لهم.

و في الآية إشارة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على موتى المسلمين و يقوم على قبورهم للدعاء.

قوله تعالى: "و لا تعجبك أموالهم و أولادهم" الآية تقدم بعض ما يتعلق بالآية من الكلام في الآية 55 من السورة.

قوله تعالى: "و إذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله و جاهدوا مع رسوله" إلى آخر الآيتين.

الطول القدرة و النعمة، و الخوالف هم الخالفون و الكلام فيه كالكلام فيه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم" لما ذم المنافقين في الآيتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف و الطبع على قلوبهم استدرك بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الذين آمنوا معه - و المراد بهم المؤمنون حقا الذين خلصت قلوبهم من رين النفاق بدليل المقابلة مع المنافقين - ليمدحهم بالجهاد بأموالهم و أنفسهم أي إنهم لم يرضوا بالقعود و لم يطبع على قلوبهم بل نالوا سعادة الحياة و النور الإلهي الذي يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس:" الأنعام: - 122.

و لذلك عقب الكلام بقوله: "و أولئك لهم الخيرات و أولئك هم المفلحون" فلهم جميع الخيرات - على ما يقتضيه الجمع المحلى باللام - من الحياة الطيبة و نور الهدى و الشهادة و سائر ما يتقرب به إلى الله سبحانه، و هم المفلحون الفائزون بالسعادة.

قوله تعالى: "أعد الله لهم جنات تجري" الآية الإعداد هو التهيئة و قد عبر بالإعداد دون الوعد لأن الأمور بخواتيمها و عواقبها فلو كان وعدا و هو وعد لجميع من آمن معه لكان قضاء حتميا واجب الوفاء سواء بقي الموعودون على صفاء إيمانهم و صلاح أعمالهم أو غيروا و الله لا يخلف الميعاد.



و الأصول القرآنية لا تساعد على ذلك، و لا الفطرة السليمة ترضى أن ينسب إلى الله سبحانه أن يطبع بطابع المغفرة و الجنة الحتمية على أحد لعمل عمله من الصالحات ثم يخلي بينه و بين ما شاء و أراد.

و لذلك نجده سبحانه إذا وعد وعدا علقه على عنوان من العناوين العامة كالإيمان و العمل الصالح يدور معه الوعد الجميل من غير أن يخص به أشخاصا بأعيانهم فيفيد التناقض بالجمع بين التكليف و التأمين كما قال تعالى: "وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات:" الآية - 72 من السورة، و قال تعالى: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما:" الفتح: - 29.

قوله تعالى: "و جاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم" الآية.

الظاهر أن المراد بالمعذرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة و لا سلاحا بدليل قوله: "و قعد الذين كذبوا" الآية، و السياق يدل على أن في الكلام قياسا لإحدى الطائفتين إلى الأخرى ليظهر به لؤم المنافقين و خستهم و فساد قلوبهم و شقاء نفوسهم، حيث إن فريضة الجهاد الدينية و النصرة لله و رسوله هيج لذلك المعذرين من الأعراب و جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذنونه، و لم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا.

قوله تعالى: "ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج" المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الذين لا قوة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمنى كما أن المرضى لا قوة لهم عليه بحسب عارض مزاجي، و الذين لا يجدون ما ينفقون لا قوة لهم عليه من جهة فقد المال و نحوه.

فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج و المشقة أي الحكم بالوجوب الذي لو وضع كان حكما حرجيا، و كذا ما يستتبعه الحكم من الذم و العقاب على تقرير المخالفة.

و قد قيد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله: "إذا نصحوا لله و رسوله" و هو ناظر إلى الذم و العقاب على المخالفة و القعود فإنما يرفع الذم و العقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله و رسوله، و أخلصوا من الغش و الخيانة و لم يجروا في قعودهم على ما يجري عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأمور و إفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، و إلا فيجري عليهم ما يجري على المنافقين من الذم و العقاب.

و قوله: "ما على المحسنين من سبيل" في مقام التعليل لنفي الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط أن ينصحوا لله و رسوله أي لأنهم يكونون حينئذ محسنين و ما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.

ففي السبيل كناية عن كونهم في مأمن مما يصيبهم من مكروه كأنهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشر إليهم فيصيبهم، و الجملة عامة بحسب المعنى و إن كان مورد التطبيق خاصا.

قوله تعالى: "و لا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت" الآية قال في المجمع،: الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه قال: أ لا فتى عنده خفان يحملني.

عليهما إنني شيخ على سفر.

قال: و الفيض الجري عن امتلاء من قولهم: فاض الإناء بما فيه، و الحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض و هي الأرض الغليظة المسلك.

انتهى.

و قوله: "و لا على الذين" الآية.



موصول صلته قوله: "تولوا" الآية، و قوله: "إذا ما أتوك لتحملهم" كالشرك و الجزاء و المجموع ظرف لقوله: تولوا" و حزنا مفعول له، و "ألا يجدوا" منصوب بنزع الخافض.

و المعنى: و لا حرج على الفقراء الذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوبا يركبونه و تصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح و غيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا و الحال أن أعينهم تمتلىء و تسكب دموعا للحزن من أن لا يجدوا - أو لأن لا يجدوا - ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.

و عطف هذا الصنف على ما تقدمه من عطف الخاص على العام عناية بهم لأنهم في أعلى درجة من النصح و إحسانهم ظاهر.

قوله تعالى: "إنما السبيل على الذين يستأذنوك و هم أغنياء" الآية، القصر للإفراد و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم" إلى آخر الآية.

خطاب الجمع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين جميعا، و قوله: "لن نؤمن لكم" أي لن نصدقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الإيمان باللام كالباء - أو لن نصدق تصديقا ينفعكم - بناء على كون اللام للنفع - و الجملة تعليل لقوله: "لا تعتذروا" كما أن قوله: "قد نبأنا الله من أخباركم" تعليل لهذه الجملة.

و المعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنا لن نصدقكم فيما تعتذرون به لأن الله قد أخبرنا ببعض أخباركم مما يظهر به نفاقكم و كذبكم فيما تعتذرون به، و سيظهر عملكم ظهور شهود لله و رسوله ثم تردون إلى الله الذي يعلم الغيب و الشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.

و في قوله: "و سيرى الله عملكم و رسوله" إلخ في إيضاحه كلام سيمر بك عن قريب.

قوله تعالى: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم" الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرضوا لهم بالعتاب و التقريع و ما يتعقب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الأعذار بل لأنهم رجس ينبغي أن لا يقترب منهم و مأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: "يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا الذم و التقريع كذلك هو للتوسل إلى رضاكم عنهم أما الإعراض فافعلوه لأنهم رجس لا ينبغي لنزاهة الإيمان و طهارته أن تتعرض لرجس النفاق و الكذب و قذارة الكفر و الفسق، و أما الرضى فاعلموا أنكم إن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لفسقهم و الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

فالمراد أنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، و لا ينبغي لمؤمن أن يرضى عما يسخط ربه فهو أبلغ كناية عن النهي عن الرضا عن المنافقين.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "فرح المخلفون" الآية: أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي غزوة الحر "قالوا لا تنفروا في الحر" و هي غزوة العسرة. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس أن ينبعثوا معه و ذلك في الصيف فقال رجال. يا رسول الله إن الحر شديد و لا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله "قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون" فأمره بالخروج.

أقول: ظاهر الآية أنهم إنما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، و ظاهر الحديث أنهم إنما قالوه إشارة فلا يتطابقان.

و فيه، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي و غيره قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حر شديد إلى تبوك فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر فأنزل الله: "قل نار جهنم أشد حرا" الآية.

أقول: تقدمت أخبار في قوله تعالى: "و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني" الآية أن القائل لقوله: "لا تنفروا في الحر" هو جد بن قيس.

و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: "و لا تصل على أحد منهم" الآية: أخرج البخاري و مسلم و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أ تصلي عليه و قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: إن ربي خيرني و قال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، و سأزيد على السبعين فقال: إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله تعالى: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره" فترك الصلاة عليهم.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى رواها أصحاب الجوامع و رواة الحديث عن عمر بن الخطاب و جابر و قتادة، و في بعضها أنه كفنه في قميصه و نفث في جلده و نزل في قبره.



و فيه، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و النحاس و ابن حبان و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أ تصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا و كذا و القائل كذا و كذا أعدد أيامه و رسول الله يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت قد قيل لي. استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة، فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه. فعجبت لي و لجرأتي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الله و رسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره" فما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منافق بعده حتى قبضه الله عز و جل. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: و الله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم "فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد خيرني ربي فقال "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم". فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحباب اسم شيطان أنت عبد الله. و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن ابن عبد الله بن أبي قال له أبوه، اطلب لي ثوبا من ثياب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكفني فيه و مره أن يصلي علي قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبد الله و هو يطلب إليك ثوبا من ثيابك نكفنه فيه و تصلي عليه. فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبد الله و نفاقه أ تصلي عليه و قد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال: و أين؟ فقال: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" قال: فإني سأزيد على سبعين فأنزل الله: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره" الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك و أنزل الله سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم".

أقول: و قد ورد استغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله بن أبي و صلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أيضا أوردها العياشي و القمي في تفسيريهما، و قد تقدم خبر القمي.

و هذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض و التدافع و اشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعا بينا لا مرية فيه: أما أولا فلظهور قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ظهورا بينا في أن المراد بالآية بيان لغوية الاستغفار للمنافقين دون التخيير، و أن العدد جيء به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثم يقول سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الآية فيصر على جهله حتى ينهاه الله عن الصلاة و غيرها بآية أخرى ينزلها عليه.

على أن جميع هذه الآيات المتعرضة للاستغفار للمنافقين و الصلاة عليهم كقوله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" و قوله: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم" و قوله: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا" تعلل النهي و اللغوية بكفرهم و فسقهم، حتى قوله تعالى في النهي عن الاستغفار للمشركين: "ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم:" آية: - 113 من السورة ينهى عن الاستغفار معللا ذلك بالكفر و خلود النار، و كيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم و الصلاة عليهم؟.

و ثانيا: أن سياق الآيات التي منها قوله: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا" الآية صريح في أن هذه الآية إنما نزلت و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره إلى تبوك و لما يرجع إلى المدينة، و ذاك في سنة ثمان، و قد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل.

فما معنى قوله في هذه الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على عبد الله و قام على قبره ثم أنزل الله عليه: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا" الآية؟.

و أعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أن عمر قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تصلي عليه و قد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: إن ربي خيرني ثم أنزل الله: "و لا تصل على أحد منهم" الآية.

و أعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم" الآية، و الآية من سورة المنافقون و قد نزلت بعد غزاة بني المصطلق و كانت في سنة خمس و عبد الله بن أبي حي عندئذ و قد حكي في السورة قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.



و قد اشتمل بعض هذه الروايات و تعلق به بعض من انتصر لها على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما استغفر و صلى على عبد الله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام، و كيف يستقيم ذلك؟ و كيف يصح أن يخالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النص الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين و مداهنة معهم؟ و قد هدده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله: "إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف المماة" الآية: إسراء: - 75.

فالوجه أن هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.

و في الدر المنثور،: في قوله: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" الآية: أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص: أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى جاء ثنية الوداع يريد تبوك، و علي يبكي و يقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة من طرق الفريقين.

و في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" قال: مع النساء. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير و لا أنفقتم من نفقة و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله و كيف يكونون معنا و هم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر. و في المجمع،: في قوله تعالى: "ليس على الضعفاء و لا على المرضى" الآيتين قيل: إن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن زائدة و هو ابن أم مكتوم و كان ضرير البصر جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم و ليس لي قائد فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله الآية. عن الضحاك، و قيل: نزلت في عائذ بن عمرو و أصحابه. عن قتادة. و الآية الثانية نزلت في البكاءين و هم سبعة نفر: منهم عبد الرحمن بن كعب و علبة بن زيد و عمرو بن ثعلبة بن غنمة و هؤلاء من بني النجار، و سالم بن عمير و هرمي بن عبد الله و عبد الله بن عمرو بن عوف +" أو "+ و عبد الله بن مغفل من مزينة جاءوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه فقال. لا أجد ما أحملكم عليه عن أبي حمزة الثمالي. و قيل: نزلت في سبعة من قبائل شتى أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: احملنا على الخفاف و النعال. عن محمد بن كعب و ابن إسحاق. و قيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، و قيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، و العباس بن عبد المطلب رجلين، و يامين بن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال: و كان الناس بتبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين ألفا منهم عشرة آلاف فارس.

أقول: و الروايات في أسماء البكاءين مختلفة اختلافا شديدا.

و في تفسير القمي، قال: قال: و إنما سأل هؤلاء البكاءون نعلا يلبسونها. و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "عالم الغيب و الشهادة" فقال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان. أقول: و هو من باب إراءة بعض المصاديق و اللفظ أعم.

و في تفسير القمي، قال: و لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرضون المنافقين و يؤذونهم فأنزل الله: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم" إلى آخر الآيتين. و في المجمع،: قيل: نزلت الآيات في جد بن قيس و متعب بن قشير و أصحابهما من المنافقين و كانوا ثمانين رجلا، و لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة راجعا عن تبوك قال: لا تجالسوهم و لا تكلموهم: عن ابن عباس.

9 سورة التوبة - 97 - 106

الأَعْرَاب أَشدّ كفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلى رَسولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَ يَترَبّص بِكمُ الدّوَائرَ عَلَيْهِمْ دَائرَةُ السوْءِ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَ مِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللّهِ وَ صلَوَتِ الرّسولِ أَلا إِنهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فى رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (99) وَ السبِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَ الأَنصارِ وَ الّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسنٍ رّضىَ اللّهُ عَنهُمْ وَ رَضوا عَنْهُ وَ أَعَدّ لهَُمْ جَنّتٍ تَجْرِى تحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَ مِمّنْ حَوْلَكم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَفِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ سنُعَذِّبهُم مّرّتَينِ ثمّ يُرَدّونَ إِلى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَ ءَاخَرُونَ اعْترَفُوا بِذُنُوبهِمْ خَلَطوا عَمَلاً صلِحاً وَ ءَاخَرَ سيِّئاً عَسى اللّهُ أَن يَتُوب عَلَيهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَلهِِمْ صدَقَةً تُطهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِم بهَا وَ صلِّ عَلَيْهِمْ إِنّ صلَوتَك سكَنٌ لهُّمْ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَأْخُذُ الصدَقَتِ وَ أَنّ اللّهَ هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ (104) وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسيرَى اللّهُ عَمَلَكمْ وَ رَسولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سترَدّونَ إِلى عَلِمِ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ فَيُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَ ءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبهُمْ وَ إِمّا يَتُوب عَلَيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

بيان

الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الأعراب في كفرهم و نفاقهم و إيمانهم و في خلال الآيات آية الصدقة.

قوله تعالى: "الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله" الآية، قال الراغب في المفردات،: العرب ولد إسماعيل، و الأعراب جمعه في الأصل، و صار ذلك اسما لسكان البادية: "قالت الأعراب آمنا" و الأعراب أشد كفرا و نفاقا.

و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر"، و قيل في جمع الأعراب: أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذوو فخر بإفك.

و ألسنة لطاف في المقال.

و الأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، و العربي المفصح و الإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة.

يبين تعالى حال سكان البادية و أنهم أشد كفرا و نفاقا لأنهم لبعدهم عن المدنية و الحضارة، و حرمانهم من بركات الإنسانية من العلم و الأدب أقسى و أجفى، فهم أجدر و أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصلية و الأحكام الشرعية من فرائض و سنن و حلال و حرام.

قوله تعالى: "و من الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر" الآية، قال في المجمع:، المغرم الغرم و هو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، و أصله لزوم الأمر، و منه قوله: إن عذابها كان غراما، و حب غرام أي لازم و الغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر و غرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله، انتهى.

و الدائرة الحادثة و تغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلص من سلطتهم و الرجوع إلى رسوم الشرك و الضلال.

و قوله: "يتخذ ما ينفق مغرما" أي يفرض الإنفاق غرما أو المال الذي ينفقه مغرما - على أن يكون ما مصدرية أو موصولة - و المراد الإنفاق في الجهاد أو أي سبيل من سبل الخير على ما قيل، و يمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجيء بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، و يؤيده ما في الآية التالية من قوله: "و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول" فإنه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: "و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم".

فمعنى الآية: و من سكان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرما و خسارة و ينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - و الله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

قوله تعالى: "و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول" إلخ، الظاهر أن قوله: "صلوات الرسول" عطف على قوله: "ما ينفق" و أن الضمير في قوله: "إلا أنها قربة" عائد إلى ما ينفق و صلوات الرسول.



و معنى الآية: و من الأعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك و يؤمن باليوم الآخر فيصدق الحساب و الجزاء و يتخذ إنفاق المال لله و ما يتبعه من صلوات الرسول و دعواته بالخير و البركة، كل ذلك قربات عند الله و تقربات منه إليه إلا أن هذا الإنفاق و صلوات الرسول قربة لهم، و الله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به و المطيعين له.

قوله تعالى: "و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان" إلخ القراءة المشهورة "و الأنصار" بالكسر عطفا على "المهاجرين" و التقدير: السابقون الأولون من المهاجرين و السابقون الأولون من الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان و قرأ يعقوب: و الأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.

و قد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، و قيل: من بايع بيعة الرضوان و هي بيعة الحديبية، و قيل: هم أهل بدر خاصة، و قيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، و هذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ.

و الذي يمكن أن يؤيده لفظ الآية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون الأولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم و أشخاصهم يشعر بأن الهجرة و النصرة هما الجهتان اللتان روعي فيهما السبق و الأولية.

ثم الذي عطف عليهم من قوله: "و الذين اتبعوهم بإحسان" يذكر قوما ينعتهم بالاتباع و يقيده بأن يكون بإحسان و الذي يناسب وصف الاتباع أن يترتب عليه هو وصف السبق دون الأولية فلا يقال: أول و تابع و إنما يقال: سابق و تابع، و تصديق ذلك قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم" إلى أن قال: "و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم" إلى أن قال: "و الذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" الآيات: الحشر: - 10.

فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.

و لكون السبق و يقابله اللحوق و الاتباع من الأمور النسبية، و لازمه كون مسلمي كل عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمي ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيد "السابقون" بقوله: "الأولون" ليدل على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الأولى منهم.

و إذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: "و الذين اتبعوهم بإحسان" و لم يقيده بتابعي عصر دون عصر و لا وصفهم بتقدم و أولية و نحوهما و كان شاملا لجميع من يتبع السابقين الأولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، و السابقون الأولون من الأنصار، و الذين اتبعوهم بإحسان، و الصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية و إنما هما إمامان متبوعان لغيرهما و الصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس.

و هذا نعم الشاهد على أن المراد بالسابقين الأولين هم الذين أسسوا أساس الدين و رفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه و يهتز راياته صنف منهم بالإيمان و اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصبر على الفتنة و التعذيب، و الخروج من ديارهم و أموالهم بالهجرة إلى الحبشة و المدينة، و صنف بالإيمان و نصرة الرسول و إيوائه و إيواء من هاجر إليهم من المؤمنين و الدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.



و هذا ينطبق على من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة ثم هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر أو آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آواه و تهيأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.

ثم إن قوله: "و الذين اتبعوهم بإحسان" قيد فيه اتباعهم بإحسان و لم يرد الاتباع في الإحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثم يتبعهم التابعون في إحسانهم و يقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - و لم يرد الاتباع بواسطة الإحسان - على أن يكون الباء للسببية أو الآلية - بل جيء بالإحسان منكرا، و الأنسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتباع مقارنا لنوع ما من الإحسان مصاحبا له، و بعبارة أخرى يكون الإحسان وصفا للاتباع.

و إنا نجده تعالى في كتابه لا يذم من الاتباع إلا ما كان عن جهل و هوى كاتباع المشركين آباءهم، و اتباع أهل الكتاب أحبارهم و رهبانهم و أسلافهم عن هوى و اتباع الهوى و اتباع الشيطان فمن اتبع شيئا من هؤلاء فقد أساء في الاتباع و من اتبع الحق لا لهوى متعلق بالأشخاص و غيرهم فقد أحسن في الاتباع، قال تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله:" الزمر: - 18 و من الإحسان في الاتباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع و يقابله الإساءة فيه.

فالظاهر أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان أن يتبعوهم بنوع من الإحسان في الاتباع و هو أن يكون الاتباع بالحق - و هو اتباعهم لكون الحق معهم - و يرجع إلى اتباع الحق بالحقيقة بخلاف اتباعهم لهوى فيهم أو في اتباعهم، و كذا مراقبة التطابق.

هذا ما يظهر من معنى الاتباع بإحسان، و أما ما ذكروه من أن المراد كون الاتباع مقارنا لإحسان في المتبع عملا بأن يأتي بالأعمال الصالحة و الأفعال الحسنة فهو لا يلائم كل الملاءمة التنكير الدال على النوع في الإحسان، و على تقدير التسليم لا مفر فيه من التقييد بما ذكرنا فإن الاتباع للحق و في الحق يستلزم الإتيان بالأعمال الحسنة الصالحة دون العكس و هو ظاهر.

فقد تلخص أن الآية تقسم المؤمنين من الأمة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار، و الصنف الثالث هم الذين اتبعوهم بإحسان.

و ظهر مما تقدم أولا: أن الآية تمدح الصنفين الأولين، بالسبق إلى الإيمان و التقدم في إقامة صلب الدين و رفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.

و ثانيا: أن "من" في قوله: "من المهاجرين و الأنصار" تبعيضية لا بيانية لما تقدم من وجه فضلهم، و لما أن الآية تذكر أن الله رضي عنهم و رضوا عنه، و القرآن نفسه يذكر أن منهم من في قلبه مرض و منهم سماعون للمنافقين، و منهم من يسميه فاسقا، و منهم من تبرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عمله و لا معنى لرضى الله عنهم، و الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.



و ثالثا: أن الحكم بالفضل و رضى الله سبحانه في الآية مقيد بالإيمان و العمل الصالح على ما يعطيه السياق فإن الآية تمدح المؤمنين في سياق تذم فيه المنافقين بكفرهم و سيئات أعمالهم و يدل على ذلك سائر المواضع التي مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير و وعدهم وعدا جميلا فقد قيد جميع ذلك بالإيمان و العمل الصالح كقوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله" إلى آخر الآيات الثلاث: الحشر: - 8.

و قوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم: "و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم:" المؤمن: - 8.

و قوله: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما:" الفتح: - 29.

و قوله: "و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين:" الطور: - 21 انظر إلى موضع قوله: "بإيمان" و قوله: كل امرىء "إلخ".

و لو كان الحكم في الآية غير مقيد بقيد الإيمان و العمل الصالح و كانوا مرضيين عند الله مغفورا لهم أحسنوا أو أساءوا و اتقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيبا صريحا لقوله تعالى: "فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين:" التوبة: - 96، و قوله: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين:" التوبة: - 80، و قوله: "و الله لا يحب الظالمين:" آل عمران: - 57 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاما أن الله لا يرضى عن الظالم و الفاسق و كل من لا يطيعه في أمر أو نهي، و ليست الآيات مما يقبل التقييد أو النسخ و كذا أمثال قوله تعالى خطابا للمؤمنين: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به:" النساء: - 123.

على أن لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالة على الجزاء و المشتملة على الوعيد و التهديد، و هي آيات جمة في تقييدها اختلال نظام الوعد و الوعيد و إلغاء معظم الأحكام و الشرائع، و بطلان الحكمة، و لا فرق في ذلك بين أن نقول بكون "من" تبعيضية و الفضل لبعض المهاجرين و الأنصار أو بيانية و الفضل للجميع و الرضى الإلهي للكل، و هو ظاهر.

و قوله تعالى: "رضي الله عنهم و رضوا عنه" الرضى منا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضاد و تدافع يقال: رضي بكذا أي وافقه و لم يمتنع منه، و يتحقق بعدم كراهته إياه سواء أحبه أو لم يحبه و لم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله و لا يحب بعض ما يبغضه و لا يتحقق إلا إذا رضي بقضائه تعالى و ما يظهر من أفعاله التكوينية، و كذا بحكمه و ما أراده منه تشريعا، و بعبارة أخرى إذا سلم له في التكوين و التشريع و هو الإسلام و التسليم لله سبحانه.

و هذا بعينه شاهد آخر على ما تقدم أن الحكم في الآية مقيد بالإيمان و العمل الصالح بمعنى أن الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين و الأنصار و التابعين من آمن به و عمل صالحا، و يخبر عن رضاه عنه و إعداده له جنات تجري تحتها الأنهار.

و ليس مدلول الآية أن من صدق عليه أنه مهاجر أو أنصاري أو تابع فإن الله قد رضي عنه رضا لا سخط بعده أبدا و أوجب في حقه المغفرة و الجنة سواء أحسن بعد ذلك أو أساء، اتقى أو فسق.



و أما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير و التبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، و إنما يرضى و يسخط بمعنى أنه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة و إيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة و تسليط النقمة و العقوبة.

و لذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس غير أن الظاهر من سياق الآية أن المراد بالرضى هو الرضى الذي لا سخط بعده فإنه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم و تابعيهم في الإيمان و العمل الصالح، و هذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى و هو بخلاف قوله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" الآية: الفتح: - 18 فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط.

قوله تعالى: "و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة" الآية حول الشيء ما يجاوره من المكان من أطرافه و هو ظرف، و المرد العتو و الخروج عن الطاعة، و الممارسة و التمرين على الشر و هو المعنى المناسب لقوله في الآية: "مردوا على النفاق" أي مرنوا عليه و مارسوا حتى اعتادوه.

و معنى الآية: و ممن في حولكم أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادي منافقون مرنوا على النفاق و من أهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم أنت يا محمد نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم.

و قد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين ما هما المرتان؟ فقيل: يعني مرة في الدنيا بالسبي و القتل و نحوهما و مرة بعذاب القبر، و قيل: في الدنيا بأخذ الزكاة و في الآخرة بعذاب القبر، و قيل بالجوع مرتين و قيل مرة عند الاحتضار و مرة في القبر و قيل: بإقامة الحدود و عذاب القبر، و قيل: مرة بالفضيحة في الدنيا و مرة بالعذاب في القبر، و قيل غير ذلك، و لا دليل على شيء من هذه الأقوال، و إن كان و لا بد فأولها أولاها.

قوله تعالى: "و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا" الآية، أي و من الأعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح و عمل آخر سيىء خلطوا هذا بذلك من المرجو أن يتوب الله عليهم إن الله غفور رحيم.

و في قوله: "عسى الله أن يتوب عليهم" إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف و الرجاء من غير أن يحيط بها اليأس و القنوط، و في قوله: "إن الله غفور رحيم" ترجيح جانب الرجاء.

قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم و الله سميع عليم" التطهير إزالة الأوساخ و القذارات من الشيء ليصفى وجوده و يستعد للنشوء و النماء و ظهور آثاره و بركاته، و التزكية إنماؤه و إعطاء الرشد له بلحوق الخيرات و ظهور البركات كالشجر يقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها و جودة ثمرتها فالجمع بين التطهير و التزكية في الآية من لطيف التعبير.

فقوله: "خذ من أموالهم صدقة" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الصدقة من أموال الناس و لم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى أنها مأخوذة من أصناف المال، و هي النقدان: الذهب و الفضة، و الأنعام الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم، و الغلات الأربع: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب.



و قوله: "تطهرهم و تزكيهم بها" خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ليس وصفا لحال الصدقة، و الدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من أصناف أموالهم صدقة تطهرهم أنت و تزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها.

و قوله: "و صل عليهم" الصلاة عليهم هي الدعاء لهم و السياق يفيد أنه دعاء لهم و لأموالهم بالخير و البركة و هو المحفوظ من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يدعو لمعطي الزكاة و لماله بالخير و البركة.

و قوله: "إن صلاتك سكن لهم" السكن ما يسكن إليه الشيء و المراد به أن نفوسهم تسكن إلى دعائك و تثق به و هو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى في ذيل الآية: "و الله سميع عليم" سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الآية أو يتلوها.

و الآية تتضمن حكم الزكاة المالية التي هي من أركان الشريعة و الملة على ما هو ظاهر الآية في نفسها، و قد فسرتها بذلك أخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و غيرهم.

قوله تعالى: "أ لم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات و إن الله هو التواب الرحيم" استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة، و ذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله و إنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله و جابيه بما أنه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله، و أخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الأخذ لها بالحقيقة، و قد قال تعالى في أمثاله: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم:" الفتح: - 10 و قال: "و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى:" الأنفال: - 13 و قال قولا عاما: "من يطع الرسول فقد أطاع الله:" النساء: - 80.

فإذا ذكر الناس بمثل قوله: "أ لم يعلموا أن الله" الآية، انبعثت رغباتهم و اشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه و يمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الأجسام و تعالى عن ملابسة الحدثان.

و مقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر و إيتاء الصدقة تطهر فالتصدق بصدقة توبة مالية كما أن التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال و الحركات، و لذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلا: "و إن الله هو التواب الرحيم" فذكر عباده باسميه التواب و الرحيم، و جمع فيهما التوبة و التصدق.

و قد بان من الآية أن التصدق و إيتاء الزكاة نوع من التوبة.

قوله تعالى: "و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون" الآية، الآية على ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين و تسوقهم و تحرضهم إلى إيتاء الصدقات.

غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين و لا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذي عمل من الناس من الكفار و المنافقين و المؤمنين و لا أقل من شمولها للمنافقين و المؤمنين جميعا.



إلا أن نظير الآية الذي مر أعني قوله في سياق الكلام على المنافقين: "و سيرى الله عملكم و رسوله ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون:" التوبة: - 94 حيث ذكر الله و رسوله في رؤية عملهم و لم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن الخطاب في الآية التي نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الآيتين إلى الأخرى يخطر بالبال أن حقيقة أعمال المنافقين أعني مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على ملإ الناس فإنما يعلم بها الله و رسوله بوحي من الله تعالى، و أما المؤمنون فحقائق أعمالهم أعني مقاصدهم منها و آثارها و فوائدها التي تتفرع عليها و هي شيوع التقوى و إصلاح شئون المجتمع الإسلامي و إمداد الفقراء في معايشهم و زكاة الأموال و نماؤها يعلمها الله تعالى و رسوله و يشاهدها المؤمنون فيما بينهم.

لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها و عامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها و تبدلها بأمثالها و تصورها في أطوارها زمانا بعد زمان و عصرا بعد عصر مما لا يختص بعمل قوم دون عمل قوم، و لا مشاهدتها و التأثر بها بقوم دون قوم.

فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها و نتائجها و بعبارة أخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم و لا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون و لا يراها المنافقون و هم أهل مجتمع واحد؟ و ما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون و قد كونت في مجتمعهم و داخلت أعمالهم؟.

و هذا مع ما في الآية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنه قوله: "و ستردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" يدل أولا على أن قوله: "فسيرى الله عملكم" الآية ناظر إلى ما قبل البعث و هي الدنيا لمكان قوله: "و ستردون" فإنه يشير إلى يوم البعث و ما قبله هو الدنيا.

و ثانيا: أنهم إنما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث و أما قبل ذلك فإنما يرون ظاهرها، و قد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة، و إذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة و ذكر رؤية الله و رسوله و المؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا و قد ذكر الله مع رسوله و غيره و هو عالم بحقائقها و له أن يوحي إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه و رسوله و المؤمنون حقيقة أعمالهم، و كان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال قوله تعالى "و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا:" البقرة: - 143 و قد مر الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.

و على هذا فمعنى الآية: و قل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم و يشاهدها رسوله و المؤمنون - و هم شهداء الأعمال - ثم تردون إلى الله عالم الغيب و الشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.

و بعبارة أخرى: ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم الغيب و الشهادة ثم لرسوله و المؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.

فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، و إن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها و يرون حقائقها و هم رسول الله و شهداء الأعمال من المؤمنين و الله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها و هم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:" ق: - 22 ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، و بين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوة و هو يرى أنه كذلك.



هذا في الآية التي نحن فيها، و أما الآية السابقة: "يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم و سيرى الله عملكم و رسوله ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد إليهم اعتذارهم، و يذكر لهم أولا أن الله قد نبأهم أي النبي و الذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات التي تقص أخبار المنافقين و تكشف عن مساوي أعمالهم.

ثم يذكر لهم أن حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه و لا خفية عليه و كذلك رسوله وحده و لم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثم الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.

فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية التي نحن فيها: الله و رسوله و المؤمنون، و في الآية السابقة: الله و رسوله، و اقتصر على ذلك.

فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية و من لم يقنع بذلك و لم يرض دون أن يصور للآية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى "الله و رسوله" في خطاب المنافقين إنما هو لأجل أنهم إنما يريدون أن يكيدوا الله و رسوله و لا هم لهم في المؤمنون، و أما ذكره تعالى: "الله و رسوله و المؤمنين" في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح و لم يعبأ بحال غيرهم من الكفار و المنافقين.

فتدبر.

قوله تعالى: "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم" الإرجاء التأخير، و الآية معطوفة على قوله: "و آخرون اعترفوا بذنوبهم" و معنى إرجائهم إلى أمر الله أنهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يئول إلى أمر الله ما شاء و أراد فيهم فهو النافذ في حقهم.

و هذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين و المسيئين، و إن ورد في أسباب النزول أن الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء إن شاء الله تعالى.

و كيف كان فالآية تخفي ما يئول إليه عاقبة أمرهم و تبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين: العليم و الحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه و حكمته، و هذا بخلاف ما ذيل قوله: "و آخرون اعترفوا بذنوبهم" حيث قال: "عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم".

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: "و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر - و يتخذ ما ينفق قربات عند الله" أ يثيبهم عليه؟ قال: نعم. و فيه، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان. قلت: أخبرني عما ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال: قول الله تعالى: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم - و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض - أعدت للذين آمنوا بالله و رسله" و قال: "السابقون السابقون أولئك المقربون". و قال: "و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار - و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه" فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين و أمرهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم و منازلهم عنده. و في تفسير البرهان، عن مالك بن أنس عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "و السابقون الأولون" نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو أسبق الناس كلهم بالإيمان و صلى على القبلتين، و بايع البيعتين بيعة بدر و بيعة الرضوان، و هاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة و من الحبشة إلى المدينة.

أقول: و في معناها روايات أخر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن كثير و القاسم و مكحول و عبدة بن أبي لبابة و حسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: لما أنزلت هذه الآية: "و السابقون الأولون إلى قوله و رضوا عنه" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا لأمتي كلهم، و ليس بعد الرضا سخط.

أقول: معناه أن من رضي الله عنهم و رضوا عنه هم الذين جمعتهم الآية لا أن الآية تدل على رضاه تعالى عن الأمة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية، و كذا قوله: "و ليس بعد الرضا سخط"، مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط، و قد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة.

و فيه، أخرج أبو الشيخ و ابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما أريد الفتن: فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم و مسيئهم. قلت: و في أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: أ لا تقرأ: "و السابقون الأولون" الآية أوجب لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجنة و الرضوان، و شرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم. قلت: و ما أشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، و لا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، و ما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب.

أقول: هو - كما ترى - يسلم أن في أعمالهم حسنة و سيئة و طاعة و فسقا غير أن الله رضي عنهم في جميع ذلك و غفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة، و هو الذي ذكرنا في البيان المتقدم أن مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على أن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين و الظالمين و أنه لا يحبهم و لا يهديهم، و تقيد آيات أكثر من ذلك و هي أكثر الآيات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة و السيئة بالسيئة من غير مقيد و عليها تعتمد آيات الأمر و النهي و هي آيات الأحكام بجملتها.

و لو كان مدلول الآية هذا الذي ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة و اتصالهم بزمان النبوة و نزول الوحي أحق أن يفهموا من الآية ذلك، و لو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.

و كيف يمكن أن يتحقق كلهم بمضمون قوله: "رضي الله عنهم و رضوا عنه" و يفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض و قد رضي الله عنه، و الراضي عن الله راض عما رضي الله عنه، و لا يندفع هذا الإشكال بحديث اجتهادهم فإن ذلك لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا و هما الرضا عن الله و عدم الرضا عما رضي الله عنه و الكلام طويل.



و فيه، أخرج أبو عبيد و سنيد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ "و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوهم بإحسان" فرفع الأنصار و لم يلحق الواو في الذين فقال له زيد بن ثابت: و الذين فقال عمر: الذين فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبي: و الذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع أبيا.

أقول: و مقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله: "و السابقون الأولون" من المنقبة و منقبة أخرى و هي كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتي.

و فيه، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: مر عمر برجل يقرأ "و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار" فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: و سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم. قال: كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. فقال أبي: تصديق ذلك في أول سورة الجمعة: "و آخرين منهم لما يلحقوا بهم" و في سورة الحشر: "و الذين جاءوا من بعدهم - يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" و في الأنفال: "و الذين آمنوا من بعد و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم". و في الكافي، بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): "الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا" فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون و يكرهونها فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم.

أقول: و رواه العياشي عن زرارة عنه (عليه السلام) إلا أن فيه "مذنبون" "مكان مؤمنون".

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و آخرون اعترفوا بذنوبهم" الآية قال: أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر و ثعلبة بن وديعة و أوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيقنوا بالهلاك و أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و أنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أومر فيهم بأمر. فلما نزل: "عسى الله أن يتوب عليهم" عمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها و تصدق بها عنا. قال: ما أمرت فيها، فنزل: "خذ من أموالهم صدقة الآيات.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، و فيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، و يضعفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.



و فيه، و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): أنها نزلت في أبي لبابة و لم يذكر غيره معه و سبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح. و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها" و أنزلت في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: أن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عز و جل عليهم من الذهب و الفضة و فرض الصدقة من الإبل و البقر و الغنم، و من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، و عفا لهم عما سوى ذلك. قال: ثم لم يفرض لشيء من أموالهم حتى حال عليه الحول من قابل فصاموا و أفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثم وجه عمال الصدقة و عمال الطسوق. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتي بصدقة قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و يأخذ الصدقات" قال: يقبلها من أهلها و يثيب عليها. و في تفسير العياشي، عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ضمنت على ربي أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب، و هو قوله: "هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات".

أقول: و في معناه روايات أخرى مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

و في بصائر الدرجات، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: ما فيه شك. قال: أ رأيت قول الله "اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون" فقال: لله شهداء في خلقه.

أقول: و في معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و في أكثرها: أن "المؤمنون" في الآية هم الأئمة، و انطباقها على ما قدمناه من التفسير ظاهر.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله "و آخرون مرجون لأمر الله" قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة و جعفرا و أشباههما من المسلمين ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله و تركوا الشرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة، و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (عليه السلام) و في معناه روايات أخر.

و في تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفار فهم المرجون لأمر الله. و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة: في قوله: "و آخرون مرجون لأمر الله" قال: هم الثلاثة الذين خلفوا: أقول: و روي مثله عن مجاهد و قتادة و أن أسماءهم هلال بن أمية، و مرارة بن الربيع و كعب بن مالك من الأوس و الخزرج، و لا تنطبق قصتهم على هذه الآية و سيجيء إن شاء الله تعالى.

كلام في الزكاة و سائر الصدقة

الأبحاث الاجتماعية و الاقتصادية و سائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث إنه مجتمع إلى مال يختص به و يصرف لرفع حوائجه العامة في صف البديهيات التي لا يشك فيها شاك و لا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية و الاقتصادية - و منها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة مما يغفل عنها عامة الناس و لا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا و هي اليوم من الأبجديات التي يعرفها العامة و الخاصة.

غير أن الإسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع و هويته و شرع من الأحكام المالية الراجعة إليها، و الأنظمة و القوانين التي رتبها في أطرافها و متونها له اليد العليا في ذلك.

فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع، و له من الوجود و العمر و الحياة و الموت و الشعور و الإرادة و الضعف و القوة و التكليف و الإحسان و الإساءة و السعادة و الشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد و قد نزلت في بيان ذلك كله آيات كثيرة قرآنية كررنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.



و قد عزلت الشريعة الإسلامية سهما من منافع الأموال و فوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة و كالخمس من الغنيمة و نحوها و لم يأت في ذلك ببدع فإن القوانين و الشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي و قوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر، و بين أية طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه و رشده.

غير أن الشريعة الإسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن و الشرائع بأمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي و نظرها المصيب في تشريعها و هي: أولا: أنها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك و حدوثه موجودا و لم يتعد ذلك، و بعبارة أخرى إذا حدثت مالية في ظرف من الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهما منها ملكا للمجتمع و بقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا، و ليس عليه إلا أن يرد مال المجتمع و هو السهم إليه.

بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى: "خلق لكم ما في الأرض جميعا:" البقرة: - 29 و قوله: "و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما:" النساء: - 5 أن الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذي نسميه المالك أو العامل، و بقي سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فالمالك الفرد مالك في طول مالك و هو المجتمع، و قد تقدم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.

و بالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة و الخمس مثلا إنما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شيء من رءوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد أن يهلك الحرث و النسل، و المخمصة العامة التي لا تبقي و لا تذر.

و أما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع و العقار أو الأموال التجارية عند حصول شرائط أو في أحوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور و نحو ذلك فإن الإسلام لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب و ظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه.

ففي الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذي يتعلق بالغنيمة و الفائدة عند أول حدوثه و يشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الإسلامي مشروحا، و أما إذا انعقد الملك و استقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده و زوال حريته.

و ثانيا: أن الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد و باقي السهام للأفراد كالفقراء و المساكين و العاملين و المؤلفة قلوبهم و غيرهم، و في الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا سهم واحد و الباقي للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و ذلك أن الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع، و رفع اختلاف الطبقات الذي هو من أصول برنامج الإسلام، و إلقاء التعادل و التوازن بين قوى المجتمع المختلفة و تثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه و أجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد و تقريب أحوالهم بعضهم من بعض.



و أما قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامة و التزيينات المشتركة و رفع القصور المشيدة العالية و الأبنية الرفيعة الفاخرة و تخلية القوي و الضعيف أو الغني و الفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية أنه لا يدفع غائلا و لا يغني طائلا.

و ثالثا: أن للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحق المالي الواجب كالزكاة مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير و المسكين من دون أنه يؤديه إلى ولي الأمر أو عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه.

و هذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذي اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعه نظير إعطاء الذمة الذي لكل فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين و ليس للمسلمين و لا لولي أمرهم أن ينقض ذلك.

نعم لولي الأمر إذا رأى في مورد أن مصلحة الإسلام و المسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته.

9 سورة التوبة - 107 - 110

وَ الّذِينَ اتخَذُوا مَسجِداً ضِرَاراً وَ كفْراً وَ تَفْرِيقَا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِّمَنْ حَارَب اللّهَ وَ رَسولَهُ مِن قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسنى وَ اللّهُ يَشهَدُ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لّمَسجِدٌ أُسس عَلى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يحِبّونَ أَن يَتَطهّرُوا وَ اللّهُ يحِب الْمُطهِّرِينَ (108) أَ فَمَنْ أَسس بُنْيَنَهُ عَلى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَ رِضوَنٍ خَيرٌ أَم مّنْ أَسس بُنْيَنَهُ عَلى شفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانهَارَ بِهِ فى نَارِ جَهَنّمَ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَنُهُمُ الّذِى بَنَوْا رِيبَةً فى قُلُوبِهِمْ إِلا أَن تَقَطعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

بيان

تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار و تقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجدا لتقوى الله.

قوله تعالى: "و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا" إلى آخر الآية، الضرار و المضارة إيصال الضرر، و الإرصاد اتخاذ الرصد و الانتظار و الترقب.

و قوله: "و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا" إن كانت الآيات نازلة مع ما تقدمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله: و منهم، و منهم أي و منهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.

و إن كانت مستقلة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافية و قوله: "الذين اتخذوا" مبتدأ خبره قوله: "لا تقم فيه أبدا" و يمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضا، و قد ذكر المفسرون في إعراب الآية وجوها أخرى لا تخلو عن تكلف تركناها.

و قد بين الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد و هو الضرار بغيرهم و الكفر و التفريق بين المؤمنين و الإرصاد لمن حارب الله و رسوله، و الأغراض المذكورة خاصة ترتبط إلى قصة خاصة بعينها، و هي على ما اتفق عليه أهل النقل أن جماعة من بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا و سألوا النبي أن يصلي فيه فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف و هم منافقون فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به و يفرقوا المؤمنين منه و ينتظروا لأبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة، و أمرهم أن يستعدوا للقتال معهم.

و لما بنوا المسجد أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتجهز إلى تبوك و سألوه أن يأتيه و يصلي فيه و يدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك و الرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.

فكان مسجدهم لمضارة مسجد قبا، و للكفر بالله و رسوله، و لتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا، و لإرصاد أبي عامر الراهب المحارب لله و رسوله من قبل، و قد أخبر الله سبحانه عنهم إنهم ليحلفن إن أردنا من بناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى و هو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، و شهد تعالى بكذبهم بقوله: "و ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى و الله يشهد إنهم لكاذبون".

قوله تعالى: "لا تقم فيه أبدا" إلى آخر الآية، بدأ بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يقوم فيه ثم ذكر مسجد قبا و رجح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه" فمدحه بحسن نية مؤسسيه من أول يوم و بنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.

و الجملة و إن لم تفد تعين القيام في مسجد قبا حيث عبر بقوله: "أحق، غير أن سبق النهي عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، و قوله تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" تعليل للرجحان السابق، و قوله: "و الله يحب المطهرين" متمم للتعليل المذكور، و هذا هو الدليل على أن المراد بقوله: "لمسجد أسس" إلخ هو مسجد قبا لا مسجد النبي أو غيره.

و معنى الآية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار أبدا، أقسم، لمسجد قبا الذي هو مسجد أسس على تقوى الله من أول يوم أحق و أحرى أن تقوم فيه للصلاة و ذلك أن فيه رجالا يحبون التطهر من الذنوب أو من الأرجاس و الأحداث و الله يحب المطهرين و عليك أن تقوم فيهم.

و قد ظهر بذلك أن قوله: "لمسجد أسس" إلخ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد و قوله: "فيه رجال" إلخ، لإفادة رجحان أهله على أهله، و قوله الآتي: "أ فمن أسس بنيانه" إلخ، لبيان الرجحان الثاني.

قوله تعالى: "أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير" إلى آخر الآية شفا البئر طرفه، و جرف الوادي جانبه الذي انحفر بالماء أصله و هار الشيء يهار فهو هائر و ربما يقال: هار بالقلب و انهار ينهار انهيارا أي سقط عن لين فقوله: "على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم" استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها و قوامها فتساقطت بما بني عليه من البنيان و كان في أصله جهنم فوقع في ناره، و هذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله و رضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله و ابتغاء رضاه.

و ظاهر السياق أن قوله: "أ فمن أسس بنيانه على تقوى" إلخ، و قوله: "أم من أسس بنيانه على شفا جرف" إلخ، مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين و المنافقين و هو الدين و الطريق الذي يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله و ابتغاء رضوانه عن يقين به، و دين المنافق مبني على التزلزل و الشك.

و لذلك أعقبه الله تعالى و زاد في بيانه بقوله: "لا يزال بنيانهم" يعني المنافقين "الذي بنوا ريبة" و شكا "في قلوبهم" لا يتعدى إلى مرحلة اليقين "إلا أن تقطع قلوبهم" فتتلاشى الريبة بتلاشيها "و الله عليم حكيم" و لذلك يضع هؤلاء و يرفع أولئك.

بحث روائي

في المجمع، قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، و بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فأتاهم و صلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجدا فنصلي فيه و لا نحضر جماعة محمد، و كانوا اثني عشر رجلا، و قيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و نبتل بن الحارث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا. فلما بنوه أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة و الحاجة و الليلة الممطرة و الليلة الشاتية، و إنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إني على جناح سفر و لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد. قال: فوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه و حرقاه، و روي أنه بعث عمار بن ياسر و وحشيا فحرقاه، و أمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف. أقول: و في رواية القمي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعي و عامر بن عدي أخا بني عمرو بن عوف فجاء مالك و قال لعامر: انتظرني حتى أخرج نارا من منزلي، فدخل و جاء بنار و أشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، و قعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ثم أمر بهدم حائطه.

و القصة مروية بطرق كثيرة من طرق أهل السنة، و الروايات متقاربة إلا أن في أسامي من بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختلافا.



و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلا: خذام بن خالد بن عبيد بن زيد، و ثعلبة بن حاطب و هلال بن أمية، و معتب بن قشير، و أبو حبيبة بن الأزعر، و عباد بن حنيف، و جارية بن عامر و ابناه مجمع و زيد، و نبتل بن الحارث، و بخدج بن عثمان و وديعة بن ثابت. و في المجمع،: في قوله: "و إرصادا لمن حارب الله و رسوله" قال: هو أبو عامر الراهب، قال و كان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية و لبس المسوح فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة حسده، و حزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، و خرج إلى الروم و تنصر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد و كان جنبا فغسلته الملائكة. و سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا عامر الفاسق، و كان قد أرسل إلى المنافق أن استعدوا و ابنوا مسجدا فإني أذهب إلى قيصر و آتي من عنده بجنود، و أخرج محمدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

أقول: و في معناه عدة من الروايات.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجد قبا: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، و روي هذا المعنى أيضا في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عنه (عليه السلام).

و قد روي في الدر المنثور، بغير واحد من الطرق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: هو مسجدي هذا، و هو مخالف لظاهر الآية و خاصة قوله: "فيه رجال" إلخ، فإن الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا و مسجد الضرار و القياس بين أهليهما و لا غرض يتعلق بمسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير العياشي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" قال: الذين يحبون أن يتطهروا نظف الوضوء و هو الاستنجاء بالماء و قال: قال نزلت هذه في أهل قبا. و في المجمع،: في الآية قال: يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط و البول: و هو المروي عن السيدين: الباقر و الصادق (عليهما السلام)، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم: "و الله يحب المطهرين". و فيه،: في قراءة قوله: "إلا أن تقطع قلوبهم" و قرأ يعقوب و سهل: "إلى أن" على أنه حرف الجر، و هو قراءة الحسن و قتادة و الجحدري و جماعة: و رواه البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

9 سورة التوبة - 111 - 123

إِنّ اللّهَ اشترَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسهُمْ وَ أَمْوَلهَُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَتِلُونَ فى سبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّا فى التّوْرَاةِ وَ الانجِيلِ وَ الْقُرْءَانِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاستَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَ ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التّئبُونَ الْعَبِدُونَ الحَْمِدُونَ السئحُونَ الرّكعُونَ السجِدُونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنكرِ وَ الحَْفِظونَ لحُِدُودِ اللّهِ وَ بَشرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كانَ لِلنّبىِّ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَستَغْفِرُوا لِلْمُشرِكينَ وَ لَوْ كانُوا أُولى قُرْبى مِن بَعْدِ مَا تَبَينَ لهَُمْ أَنهُمْ أَصحَب الجَْحِيمِ (113) وَ مَا كانَ استِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَن مّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَينَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ لِّلّهِ تَبرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَهِيمَ لأَوّهٌ حَلِيمٌ (114) وَ مَا كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتى يُبَينَ لَهُم مّا يَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنّ اللّهَ لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يُحْىِ وَ يُمِيت وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116) لّقَد تّاب اللّهُ عَلى النّبىِّ وَ الْمُهَجِرِينَ وَ الأَنصارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فى ساعَةِ الْعُسرَةِ مِن بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوب فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمّ تَاب عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ (117) وَ عَلى الثّلَثَةِ الّذِينَ خُلِّفُوا حَتى إِذَا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرْض بِمَا رَحُبَت وَ ضاقَت عَلَيْهِمْ أَنفُسهُمْ وَ ظنّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمّ تَاب عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ (118) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصدِقِينَ (119) مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلهَُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُوا عَن رّسولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِك بِأَنّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظمَأٌ وَ لا نَصبٌ وَ لا مخْمَصةٌ فى سبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظ الْكفّارَ وَ لا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نّيْلاً إِلا كُتِب لَهُم بِهِ عَمَلٌ صلِحٌ إِنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صغِيرَةً وَ لا كبِيرَةً وَ لا يَقْطعُونَ وَادِياً إِلا كتِب لهَُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَ مَا كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كافّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَةٍ مِّنهُمْ طائفَةٌ لِّيَتَفَقّهُوا فى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِمْ لَعَلّهُمْ يحْذَرُونَ (122) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا قَتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً وَ اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ (123)

بيان

آيات في أغراض متفرقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنها تتكلم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين و يعدهم وعدا جميلا على جهادهم في سبيل الله و منها ما ينهى عن التودد إلى المشركين و الاستغفار لهم، و منها ما يدل على توبته تعالى للثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك، و منها ما يفرض على أهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يخرجوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد الخروج إلى قتال و لا يتخلفوا عنه، و منها ما يفرض على الناس أن يلازم بعضهم البيضة للتفقه في الدين ثم تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم و منها ما يقضي بقتال الكفار ممن يلي بلاد الإسلام.

قوله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة" إلى آخر الآية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.

و الله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم و أموالهم بالجنة، و يذكر أنه ذكر ذلك في التوراة و الإنجيل كما يذكره في القرآن.

و قد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا، و جعل نفسه مشتريا و المؤمنين بائعين، و أنفسهم و أموالهم سلعة و مبيعا، و الجنة ثمنا، و التوراة و الإنجيل و القرآن سندا للمبايعة، و هو من لطيف التمثيل ثم يبشر المؤمنين ببيعهم ذلك، و يهنئهم بالفوز العظيم.

قوله تعالى: "التائبون العابدون الحامدون السائحون" إلى آخر الآية، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، و الصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون إلخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له و يعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، و بأقدامهم فيسيحون و يجولون من معهد من المعاهد الدينية و مسجد من مساجد الله إلى غيره، و بأبدانهم فيركعون له و يسجدون له.

هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد و أما بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنة الدينية و ناهون عن المنكر فيها ثم هم حافظون لحدود الله لا يتعدونه في حالتي انفرادهم و اجتماعهم خلوتهم و جلوتهم، ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يبشرهم و قد بشرهم تعالى نفسه في الآية السابقة، و فيه من كمال التأكيد ما لا يقدر قدره.

و قد ظهر بما قررنا أولا: وجه الترتيب بين الأوصاف التي عدها لهم فقد بدأ بأوصافهم منفردين و هي التوبة و العبادة و السياحة و الركوع و السجود ثم ذكر ما لهم من الوصف الخاص بهم المنبعث عن إيمانهم مجتمعين و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ختم بما لهم من جميل الوصف في حالتي انفرادهم و اجتماعهم و هو حفظهم لحدود الله، و في التعبير بالحفظ مضافا إلى الدلالة على عدم التعدي دلالة على الرقوب و الاهتمام.



و ثانيا: أن المراد بالسياحة - و معناه السير في الأرض - على ما هو الأنسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله و عبادته كالمساجد، و أما القول بأن المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله و ما جرى على الأمم الماضية مما تحكيه ديارهم و آثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصة فهي وجوه غير سديدة.

أما الأول: فلا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و أما الوجوه الأخر فإنها و إن كانت ربما استفيد الندب من مثل قوله تعالى: "أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم:" المؤمن: - 82، و قوله: "فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين:" الآية - 122 من السورة إلا أن إرادتها من قوله: "السائحون" تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

و ثالثا: أن هذه الصفات الشريفة هي التي يتم بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعي بالجنة المستتبع للبشارة الإلهية و النبوية و هي الملازمة للقيام بحق الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحق على نفسه.

قوله تعالى: "ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى" إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنه تعالى لما ذكر في الآية الثانية التي تبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له أنه عدو لله، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله فإذا تبين للنبي و الذين آمنوا أن المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروري و هو عدم جواز الاستغفار لكونه لغوا لا يترتب عليه أثر و خضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

و ذلك أنه تارة يفرض الله تعالى عدوا للعبد مبغضا له لتقصير من ناحيته و سوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له و يسترحم إذا كان العبد متذللا غير مستكبر، و تارة يفرض العبد عدوا لله محاربا له مستكبرا مستعليا كأرباب الجحود و العناد من المشركين، و العقل الصريح حاكم بأنه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلا أن يتوب و يرجع إلى الله و ينسلخ عن الاستكبار و العناد و يتلبس بلباس الذلة و المسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة و المغفرة لمن يأبى عن القبول، و لا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ و التناول إلا الهزء بمقام الربوبية و اللعب بمقام العبودية و هو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

و في الآية نفي الجواز بنفي الحق بدليل قوله: "ما كان للنبي و الذين آمنوا" أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبين لهم كذا و كذا، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله:" الآية - 17 من السورة أن حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحق.

و المعنى أن النبي و الذين آمنوا بعد ما ظهر و تبين بتبيين الله لهم أن المشركين أعداء لله مخلدون في النار لم يكن لهم حق يملكون به أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى منهم، و أما استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنه ظن أنه ليس بعدو معاند لله و إن كان مشركا فاستعطفه بوعد وعدها إياه فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله معاند على شركه و ضلاله تبرأ منه.



و قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم" تعليل لوعد إبراهيم و استغفاره لأبيه بأنه تحمل جفوة أبيه و وعده وعدا حسنا لكونه حليما و استغفر له لكونه أواها، و الأواه هو الكثير التأوه خوفا من ربه و طمعا فيه.

قوله تعالى: "و ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إلى آخر الآيتين الآيتان متصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهي عن الاستغفار للمشركين.

أما الآية الأولى أعني قوله: "و ما كان الله ليضل" إلخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتقوا ما بين الله لهم أن يتقوه و يجتنبوا منه، و هو بحسب ما ينطبق على المورد أن المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم و التودد إليهم فعلى المؤمنين أن يتقوا ذلك و إلا فهو الضلال بعد الهدى، و عليك أن تذكر ما قدمناه في تفسير قوله تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون:" المائدة: - 3 في الجزء الخامس من الكتاب و في تفسير آيات ولاية المشركين و أهل الكتاب الواقعة في السور المتقدمة.

و الآية بوجه في معنى قوله تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:" الأنفال: - 53 و ما في معناه من الآيات، و هي جميعا تهتف بأن من السنة الإلهية أن تستمر على العبد نعمته و هدايته حتى يغير هو ما عنده بالكفران و التعدي فيسلب الله منه النعمة و الهداية.

و أما الآية الثانية أعني قوله: "إن الله له ملك السموات و الأرض يحيي و يميت و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير" فذيلها بيان لعلة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة و هو النهي عن تولي أعداء الله أو وجوب التبري منهم إذ لا ولي و لا نصير حقيقة إلا الله سبحانه و قد بينه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولي عليه تعالى أو من أذن في توليهم له من أوليائه و ليس لهم أن تعتدوا ذلك إلى تولي أعدائه كائنين من كانوا.

و صدر الآية بيان لسبب هذا السبب و هو أن الله سبحانه هو الذي يملك كل شيء و بيده الموت و الحياة فإليه تدبير كل أمر فهو الولي لا ولي غيره.

و قد ظهر من عموم البيان و العلة في الآيات الأربع أن الحكم عام و هو وجوب التبري أو حرمة التولي لأعداء الله سواء كان التولي بالاستغفار أو بغير ذلك و سواء كان العدو مشركا أو كافرا أو منافقا أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بآيات الله أو المصرين على بعض الكبائر كالمرابي المحارب لله و رسوله.

قوله تعالى: "لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين" إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الذي تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشق معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حر شديد أو غير ذلك، و الزيغ هو الخروج من الطريق و الميل عن الحق، و إضافة الزيغ إلى القلوب و ذكر ساعة العسرة و سائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أن المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرجا من العسرة و المشقة التي واجهتهم في مسيرهم.



و التخليف - على ما في المجمع، - تأخير الشيء عمن مضى فأما تأخير الشيء عنك في المكان فليس بتخليف، و هو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه يقال خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف.

انتهى و الرحب هو السعة التي تقابل الضيق، و بما رحبت أي برحبها فما مصدرية.

و الآيتان و إن كانت كل واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الأخرى فالأولى تبين التوبة على النبي و المهاجرين و الأنصار و الثانية تبين توبة الثلاثة المخلفين مضافا إلى أن نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الأولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم و أهل الآية الثانية تيب عليهم و هم عاصون مذنبون.

و بالجملة الآيتان مختلفتان غرضا و مدلولا غير أن السياق يدل على أنهما مسوقتان لغرض واحد و متصلتان كلاما واحدا تبين فيه توبته تعالى للنبي و المهاجرين و الأنصار و الثلاثة الذين خلفوا، و من الدليل عليه قوله: "لقد تاب الله على النبي إلى أن قال: "و على الثلاثة" إلخ فالآية الثانية غير مستقلة عن الأولى بحسب اللفظ و إن استقلت عنها في المعنى، و ذلك يستدعي نزولهما معا و تعلق غرض خاص بهذا الاتصال و الامتزاج.

و لعل الغرض الأصلي بيان توبة الله سبحانه لأولئك الثلاثة المخلفين و قد ضم إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين و الأنصار حتى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم و زوال تميزهم من سائر الناس و عفو أثر ذلك عنهم حتى يعود الجميع على نعت واحد و هو أن الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

و بهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإن الله سبحانه يبدأ بذكر توبته على النبي و المهاجرين و الأنصار ثم يقول: "ثم تاب عليهم" و على الثلاثة الذين خلفوا ثم يقول: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" فليس إلا أن الكلام مسوق على منهج الإجمال و التفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا ثم أشير إلى حال كل من الفريقين على حدته فذكرت عند ذلك توبته الخاصة به.

و لو كانت كل واحدة من الآيتين ذات غرض مستقل من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة.

على أن في الآية الأولى دلالة واضحة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن له في ذلك ذنب و لا زيغ و لا كاد أن يزيغ قلبه فإن في الكلام مدحا للمهاجرين و الأنصار باتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يزغ قلبه و لا كاد أن يزيغ حتى صار متبعا يقتدى به و لو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيئول معنى الآية إلى أن الله - أقسم لذلك - تاب و رجع برحمته رجوعا إلى النبي و المهاجرين و الأنصار و الثلاثة الذين خلفوا فأما توبته و رجوعه بالرحمة على المهاجرين و الأنصار فإنهم اتبعوا النبي في ساعة العسرة و زمانها و هو أيام مسيرهم إلى تبوك - اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم و يميل عن الحق بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم.



و أما الثلاثة الذين خلفوا فإنهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و وسعت - و كان ذلك بسبب أن الناس لم يعاشروهم و لا كلموهم حتى أهلهم فلم يجدوا أنيسا يأنسون به - و ضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغم عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه بالتوبة و الإنابة فلما كان ذلك كله تاب الله عليهم و انعطف و رجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم أنه هو التواب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية و التوفيق للتوبة إليه ثم بقبول تلك التوبة - و الرحيم بالمؤمنين.

و قد تبين بذلك كله أولا: أن المراد بالتوبة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محض الرجوع إليه بالرحمة، و من الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى أمته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الواسطة في نزول الخيرات و البركات إلى أمته.

و أيضا فإن من فضله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن: كلما ذكر أمته أو الذين معه بخير أفرده من بينهم و صدر الكلام بذكره تشريفا له كما في قوله: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون:" البقرة: - 285 و قوله: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:" التوبة "- 26، و قوله: "لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا:" التوبة - 88 إلى غير ذلك من الموارد.

و ثانيا: أن المراد بما ذكر ثانيا و ثالثا من التوبة بقوله: "ثم تاب عليهم" في الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالا بقوله: "لقد تاب الله".

و ثالثا: أن المراد بالتوبة في قوله: "ثم تاب عليهم" في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير و التوفيق فقد ذكرنا مرارا في الأبحاث السابقة أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من الرب تعالى، و أنه يرجع إليه بالتوفيق و إفاضة رحمة الهداية و هو التوبة الأولى منه فيهتدي العبد إلى الاستغفار و هو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته و غفران ذنوبه و هو التوبة الثانية منه تعالى.

و الدليل على أن المراد بها في الموضعين ذلك أما في الآية الأولى فلأنه لم يذكر منهم فيها ذنبا يستغفرون له حتى تكون توبته عليهم توبة قبول، و إنما ذكر أنه كان من المتوقع زيغ قلوب بعضهم و هو يناسب التوبة الأولى منه تعالى دون الثانية، و أما في الآية الثانية فلأنه ذكر بعدها قوله: "ليتوبوا" و هو الاستغفار، أخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلا التوبة الأولى منه.

و ربما أيد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم: "إنه بهم رءوف رحيم" حيث لم يذكر من أسمائه ما يدل بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

و رابعا: أن المراد بقوله في الآية الثانية: "ليتوبوا" توبة الثلاثة الذين خلفوا المترتب على توبته تعالى الأولى عليهم، فالمعنى ثم تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم و يغفر لهم إنه هو التواب الرحيم.

فإن قلت: فالآية لم تدل على قبول توبتهم و هذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أن الآية نزلت في توبتهم.



قلت: القصة ثابتة نقلا غير أنه لا توجد دلالة في لفظ الآية إلا أن الآية تدل بسياقها على ذلك فقد قال تعالى في مقام الإجمال: "لقد تاب الله" و هو أعم بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق و بمعنى القبول، و كذا قوله بعد: "إن الله هو التواب الرحيم" و خاصة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله: "و ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجأ من الله يأمنون فيه و قد هداهم الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردهم الله من بابه خائبين و هو التواب الرحيم، و كيف يستقيم ذلك؟ و هو القائل عز من قائل: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم:" النساء: - 17.

و ربما قيل: إن معنى "ثم تاب عليهم ليتوبوا" ثم سهل الله عليهم التوبة ليتوبوا.

و هو سخيف.

و أسخف منه قول من قال: إن المراد بالتوبة في "ليتوبوا" الرجوع إلى حالتهم الأولى قبل المعصية.

و أسخف منه قول آخرين: "إن الضمير في "ليتوبوا" راجع إلى المؤمنين و المعنى ثم تاب على الثلاثة و أنزل توبتهم على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله قابل التوب.

و خامسا: أن الظن يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظية بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين" الصدق بحسب الأصل مطابقة القول و الخبر للخارج، و يوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثم لما عد كل من الاعتقاد و العزم - الإرادة - قولا توسع في معنى الصدق فعد الإنسان صادقا إذا طابق خبره الخارج و صادقا إذا عمل بما اعتقده و صادقا إذا أتى بما يريده و يعزم عليه على الجد.

و ما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى و إطلاق الصادقين و إطلاق الأمر بالكون معهم - و المعية هي المصاحبة في العمل و هو الاتباع - يدل على أن المراد بالصدق هو معناه الوسيع العام دون الخاص.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى و اتباع الصادقين في أقوالهم و أفعالهم و هو غير الأمر بالاتصاف بصفتهم فإنه الكون منهم لا الكون معهم و هو ظاهر.

قوله تعالى: "ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب" إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاص نفساني و الرغبة في الشيء الميل إليه لطلب منفعة فيه، و الرغبة عن الشيء الميل عنه بتركه و الباء للسببية فقوله: "و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه" معناه و ليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازي و في تعب الأسفار و دعثائها و يقعدوا للتمتع من لذائذ الحياة، و الظمأ العطش، و النصب التعب و المخمصة المجاعة، و الغيظ أشد الغضب، و الموطأ الأرض التي توطأ بالأقدام.

و الآية تسلب حق التخلف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل المدينة و الأعراب الذين حولها ثم تذكر أن الله قابل هذا السلب منهم بأنه يكتب لهم في كل مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع و عطش و تعب و في كل أرض يطئونها فيغيطون به الكفار أو نيل نالوه منهم عملا صالحا فإنهم محسنون و الله لا يضيع أجر المحسنين، و هذا معنى قوله: "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ" إلخ.

ثم ذكر أن نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة و كذا كل واد قطعوه فإنه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

و قوله: "ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون" غاية متعلقه بقوله: "كتب لهم أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، و إنما خص جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأن رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأن الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأن المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقها و قيام الدعوة الدينية به.



و هاهنا معنى آخر و هو أن جزاء العمل في الحقيقة إنما هو نفس العمل عائدا إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء و معنى آخر و هو أن يغفر الله سبحانه سيئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة و يستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسنا ثم يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك و ربما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: "و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" السياق يدل على أن المراد بقوله: "لينفروا كافة" لينفروا و ليخرجوا إلى الجهاد جميعا، و قوله: "فرقة منهم" الضمير للمؤمنين الذين ليس لهم أن ينفروا كافة، و لازمه أن يكون النفر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم.

فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضضهم أن ينفر طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتفقه في الدين و ينفر إلى الجهاد غيرهم.

و الأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله "رجعوا" للطائفة المتفقهين، و في قوله: "إليهم" لقومهم و المراد إذا رجع هؤلاء المتفقهون إلى قومهم، و يمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقههم و رجوعهم إلى أوطانهم.

و معنى الآية لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعا فهلا نفر و خرج إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طائفة من كل فرقة من فرق المؤمنين ليتحققوا الفقه و الفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم و لينذروا بنشر معارف الدين و ذكر آثار المخالفة لأصوله و فروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلهم يحذرون و يتقون.

و من هنا يظهر أولا: أن المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من أصول و فروع لا خصوص الأحكام العملية و هو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، و الدليل عليه قوله: "لينذروا قومهم" فإن ذلك أمر إنما يتم بالتفقه في جميع الدين و هو ظاهر.

و ثانيا: أن النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الديني بدلالة من الآية.

و ثالثا: أن سائر المعاني المحتملة التي ذكروها في الآية بعيدة عن السياق كقول بعضهم: إن المراد بقوله: "لينفروا كافة" نفرهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتفقه، و قول بعضهم في "فلو لا نفر" أي إلى الجهاد، و المراد بقوله: "ليتفقهوا" أي الباقون المتخلفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى أولئك المتخلفين.

فهذه و نظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرض لها و الإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة و اعلموا أن الله مع المتقين" أمر بالجهاد العام الذي فيه توسع الإسلام حتى يشيع في الدنيا فإن قتال كل طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفار لا ينتهي إلا باتساع الإسلام اتساعا باستقرار سلطنته على الدنيا و إحاطته بالناس جميعا.

و المراد بقوله: "و ليجدوا فيكم غلظة" أي الشدة في ذات الله و ليس يعني بها الخشونة و الفظاظة و سوء الخلق و القساوة و الجفاء فجميع الأصول الدينية تذم ذلك و تستقبحه، و لحن آيات الجهاد ينهى عن كل تعد و اعتداء و جفاء كما مر في سورة البقرة.

و في قوله: "و اعلموا أن الله مع المتقين" وعد إلهي بالنصر بشرط التقوى، و يئول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائما مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربهم منهم، و هو أنه معهم و مولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتقون.


بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في المسجد: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" الآية فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أ نزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل و لا نستقيل. و في الكافي، بإسناده عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحج و لينته إن الله يقول: "إن الله اشترى" إلخ، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.

أقول: يريد (عليه السلام) ما في الآية الثانية: "التائبون العابدون" الآية من الأوصاف.

و عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سياحة أمتي في المساجد.

أقول: و روي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن السائحين هم الصائمون. و عن أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، و قد تقدم الكلام فيه.

و في المجمع،: "التائبين العابدين" إلى آخرها بالياء عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). و في الدر المنثور،: في قوله: "ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين": أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عنده أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أ ترغب عن ملة عبد المطلب؟ و جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرضها عليه و أبو جهل و عبد الله يعانوانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم هو: على ملة عبد المطلب، و أبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت: "ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية، و أنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء".

أقول: و في معناه روايات أخرى من طرق أهل السنة، و في بعضها أن المسلمين لما رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لعمه و هو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، و قد اتفقت الرواية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه كان مسلما غير متظاهر بإسلامه ليتمكن بذلك من حماية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فيما روي بالنقل الصحيح من أشعاره شيء كثير يدل على توحيده و تصديقه النبوة، و قد قدمنا نبذة منها.



و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر قال: الأواه الدعاء. و في المجمع،: في قوله تعالى: "و ما كان الله ليضل قوما" الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل: "و ما كان الله ليضل قوما" الآية: عن الحسن. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم و لكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون. قال: حتى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، و اتصال الآية بالآيتين قبلها و دخولها في سياقهما ظاهر، و قد تقدم توضيحه.

و في الكافي، بإسناده عن حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "و ما كان الله ليضل قوما - بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" قال: يعرفهم ما يرضيه و ما يسخطه. الحديث: أقول: و رواه أيضا عن عبد الأعلى عنه (عليه السلام)، و رواه البرقي أيضا في المحاسن. و في تفسير القمي،: "لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين و الأنصار - الذين اتبعوه في ساعة العسرة" قال الصادق (عليه السلام): هكذا نزلت و هم أبو ذر و أبو خيثمة و عمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: و قد استخرجناه من حديث طويل أورده القمي في تفسيره في قوله تعالى: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة:" الآية: - 46 من السورة، و روى قراءة "بالنبي" في المجمع، عنه و عن الرضا (عليه السلام).

و في المجمع،: في قوله: "و على الثلاثة الذين خلفوا" و قرأ علي بن الحسين زين العابدين و محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) و أبو عبد الرحمن السلمي. خالفوا. و فيه،: في قوله: "لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار" الآية نزلت في غزاة تبوك و ما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى هم قوم بالرجوع ثم تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، و كان زادهم الشعير المسوس و التمر المدود و الإهالة السنخة و كان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة. و فيه،: في قوله: "و على الثلاثة الذين خلفوا" الآية نزلت في شأن كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية، و ذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يخرجوا معه لا عن نفاق و لكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة جاءوا إليه و اعتذروا فلم يكلمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان، و جاءت نساؤهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: و لكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رءوس الجبال، و كان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام و لا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس و لا يكلمنا أحد منهم فهلا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرقوا و لم يجتمع منهم اثنان، و بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون إلى الله تعالى و يتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم و أنزل فيهم هذه الآية.

أقول: و قد تقدمت القصة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمي في الآية 46 من السورة، و رويت القصة بطرق كثيرة.



و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب من تفسير أبي يوسف بن يعقوب بن سفيان حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثم قال: "و كونوا مع الصادقين" يعني مع محمد و أهل بيته (عليهم السلام).

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد روي في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس، و أيضا عن ابن عساكر عن أبي جعفر: في قوله: "و كونوا مع الصادقين" قالا: مع علي بن أبي طالب. و في الكافي، بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز و جل: "فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين - و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، و هؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمة (عليهم السلام)، و هو مما يدل على أن المراد بالتفقه في الآية أعم من تعلم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

و اعلم أن هناك أقوالا أخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها و وهنها.

9 سورة التوبة - 124 - 129

وَ إِذَا مَا أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنْهُم مّن يَقُولُ أَيّكمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَناً فَأَمّا الّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتهُمْ إِيمَناً وَ هُمْ يَستَبْشِرُونَ (124) وَ أَمّا الّذِينَ فى قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَتهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَ هُمْ كفِرُونَ (125) أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فى كلِّ عَامٍ مّرّةً أَوْ مَرّتَينِ ثمّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذّكرُونَ (126) وَ إِذَا مَا أُنزِلَت سورَةٌ نّظرَ بَعْضهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَرَام مِّنْ أَحَدٍ ثُمّ انصرَفُوا صرَف اللّهُ قُلُوبهُم بِأَنهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ مِّنْ أَنفُسِكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسبىَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ هُوَ رَب الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

بيان

هي آيات تختتم بها آيات براءة و هي تذكر حال المؤمنين و المنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنية، يتحصل بذلك أيضا أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، و هو قولهم عند نزول القرآن: أيكم زادته هذه إيمانا؟ و نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟.

و فيها وصفه تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفا يحن به إليه قلوب المؤمنين، و أمره بالتوكل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: "و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا" إلى آخر الآيتين.

نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟! يدل على أن سائله لا يخلو من شيء في قلبه فإن هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثرا من نزول القرآن و كأنه يذعن أن قلوب غيره كقلبه فيما يتلقاه فيتفحص عمن أثر في قلبه نزول القرآن كأنه يرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي أن القرآن يصلح كل قلب سواء كان مستعدا مهيئا للصلاح أم لا و هو لا يذعن بذلك و كلما تليت عليه سورة جديدة و لم يجد في قلبه خشوعا لله و لا ميلا و حنانا إلى الحق زاد شكا فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتى يستقر في شكه و يزيد ثباتا في نفاقه.

و بالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

و قد فصل الله سبحانه أمر القلوب و فرق بين قلوب المؤمنين و الذين في قلوبهم مرض فقال: "فأما الذين آمنوا" و هم الذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض و هم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة "فزادتهم" السورة النازلة "إيمانا" فإنها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، و هذه زيادة في الكيف، و باشتمالها على معارف و حقائق جديدة من المعارف القرآنية و الحقائق الإلهية، و بسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان و هذه زيادة في الكمية و نسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة و كيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيمانا فتنشرح بذلك صدورهم و تتهلل وجوههم فرحا "و هم يستبشرون".

"و أما الذين في قلوبهم مرض" و هم أهل الشك و النفاق "فزادتهم رجسا إلى رجسهم" أي ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم و قد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: "و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون:" الأنعام: - 125 و المقابلة الواقعة بين "الذين آمنوا" و "الذين في قلوبهم مرض" يفيد أن هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح و إنما هو الشك أو الجحد و كيف كان فهو الكفر و لذلك قال "و ماتوا و هم كافرون".

و الآية تدل على أن السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلبا سليما زادته إيمانا و استبشارا و سرورا، و إن كان قلبا مريضا زادته رجسا و ضلالا نظير ما يفيده قوله: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:" إسراء: - 82.

قوله تعالى: "أ و لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين" الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكرون و لا يعتبرون و هم يرون أنهم يبتلون و يمتحنون كل عام مرة أو مرتين فيعصون الله و لا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية و هم لا يتوبون و لا يتذكرون و لو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم و أيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس و الهلاك الدائم و الخسران المؤبد.

قوله تعالى: "و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد" الآية و هذه خصيصة أخرى من خصائصهم و هي أنهم عند نزول سورة قرآنية - و لا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، و هذا قول من يسمع حديثا لا يطيقه و يضيق بذلك صدره فيتغير لونه و يظهر القلق و الاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه و يظهر السر الذي طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سره و أوقفه على باطن أمره كأنه يستفسره هل يطلع على ما بنا من القلق و الاضطراب أحد.

فقوله: "نظر بعضهم إلى بعض" أي بعض المنافقين، و هذا من الدليل على أن الضمير في قوله في الآية السابقة: "فمنهم من يقول" أيضا للمنافقين، و قوله: "نظر بعضهم إلى بعض" أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره و انهتاك ستره، و قوله: "هل يراكم من أحد" في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ و من للتأكيد و أحد فاعل يراكم.

و قوله: "ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" ظاهر السياق أن المعنى ثم انصرفوا من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال صرف الله قلوبهم عن وعي الآيات الإلهية و الإيمان بها بسبب أنهم قوم لا يفقهون الكلام الحق فالجملة حالية على ما يجوزه بعضهم.

و ربما احتمل كون قوله: "صرف الله قلوبهم" دعاء منه تعالى على المنافقين، و له نظائر في القرآن، و الدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشر.

قوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" العنت هو الضرر و الهلاك، و ما في قوله: "ما عنتم" مصدرية التأويل عنتكم، و المراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد وصفه بأنه من أنفسهم و الظاهر أن المراد به أنه بشر مثلكم و من نوعكم إذ لا دليل يدل على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصة، و خاصة بالنظر إلى وجود رجال من الروم و فارس و الحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

و المعنى لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنه يشق عليه ضركم أو هلاككم و أنه حريص عليكم جميعا من مؤمن أو غير مؤمن، و أنه رءوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصة فيحق عليكم أن تطيعوا أمره لأنه رسول لا يصدع إلا عن أمر الله، و طاعته طاعة الله، و أن تأنسوا به و تحنوا إليه لأنه من أنفسكم، و أن تجيبوا دعوته و تصغوا إليه كما ينصح لكم.

و من هنا يظهر أن القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله "رسول" و "من أنفسكم" و "عزيز عليه ما عنتم" إلخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته و قبول دعوته، و يدل عليه قوله في الآية التالية: "فإن تولوا فقل حسبي الله".

قوله تعالى: "فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم" أي و إن تولوا عنك و أعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبي الله لا إله إلا هو أي هو كافي لا إله إلا هو.

فقوله: "لا إله إلا هو" في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب و اعتصامه بربه فهو كاف لا كافي سواه لأنه الله لا إله غيره، و من المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيء بها للتعظيم نظير قوله: "و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه:" البقرة: - 116.



و قوله: "عليه توكلت" و فيه معنى الحصر تفسير يفسر به قوله: "حسبي الله" الدال على معنى التوكل بالالتزام، و قد تقدم في بعض الأبحاث السابقة أن معنى التوكل هو اتخاذ العبد ربه وكيلا يحل محل نفسه و يتولى تدبير أموره أي انصرافه عن التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، و لا محالة هو بعض الأسباب الذي هو علة ناقصة و الاعتصام بالسبب الحقيقي الذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

و من هنا يظهر وجه تذليل الكلام بقوله: "و هو رب العرش العظيم" أي الملك و السلطان الذي يحكم به على كل شيء و يدبر به كل أمر.

و إنما قال تعالى: "فقل حسبي الله" الآية و لم يقل: فتوكل على الله لإرشاده إلى أن يتوكل على ربه و هو ذاكر هذه الحقائق التي تنور حقيقة معنى التوكل، و أن النظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدركه من الأسباب الظاهرة التي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه و يثق بربه و يتوكل عليه في حصول بغيته و غرضه.

و في الآية من الدلالة على عجيب اهتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنه تعالى يأمره بالتوكل على ربه فيما يهتم به من الأمر و هو ما تبينه الآية السابقة من شدة رغبته و حرصه في اهتداء الناس و فوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان و نقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز و جل: "و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا - فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا و هم يستبشرون - و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم" و قال: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق - إنهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدى". و لو كان كله واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل، و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، و بالنقصان دخل المفرطون النار. و في تفسير العياشي، عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام): "و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم" يقول شكا إلى شكهم. و في الدر المنثور،: في قوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم": أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.

أقول: و قد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة و غيرهم كالعباس و أنس و أبي هريرة و ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و ابن عمر و ابن عباس و علي و محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن و ابن الأنباري في المصاحف و ابن مردويه عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهدا بالله و في لفظ بالسماء هاتان الآيتان: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" إلى آخر الآية: أقول: و الرواية مروية من طريق آخر عن أبي بن كعب و هي لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية و كذا مع ما تقدم من الروايات في قوله تعالى: "و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" الآية: البقرة: - 281 أنها آخر آية نزلت من القرآن.

على أن لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كحديث الدواة و القرطاس.

و فيه، أخرج ابن إسحاق و أحمد بن حنبل و ابن أبي داود عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى قوله "و هو رب العرش العظيم" إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدري و الله إلا أني أشهد لسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعيتها و حفظتها فقال عمر: و أنا أشهد لسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فألحقت في آخر براءة. أقول: و في رواية أخرى: أن عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بينة أبدا كذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في هذا المعنى أحاديث أخرى، و سنستوفي الكلام في تأليف القرآن و ما يتعلق به من الأبحاث في تفسير سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

و قد كنا نرجو أن نفرد كلاما في آخر براءة نبحث فيه عن شأن المنافقين في الإسلام و نستخرج ما يشرحه القرآن في أمرهم مع تحليل في تاريخهم و تبيين لما أودعوه من الفساد و البلوى بين المسلمين لكن طول الكلام في تفسير الآيات عاقنا عن ذلك فأخرناه إلى موضع آخر يناسبه و الله نسأل التوفيق فهو وليه.

تم و الحمد لله

<<        الفهرس        >>