جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


10 سورة يونس - 1 - 10

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الر تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الحَْكِيمِ (1) أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلى رَجُلٍ مِّنهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاس وَ بَشرِ الّذِينَ ءَامَنُوا أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبهِمْ قَالَ الْكفِرُونَ إِنّ هَذَا لَسحِرٌ مّبِينٌ (2) إِنّ رَبّكمُ اللّهُ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض فى سِتّةِ أَيّامٍ ثمّ استَوَى عَلى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكمُ اللّهُ رَبّكمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقاّ إِنّهُ يَبْدَؤُا الخَْلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ بِالْقِسطِ وَ الّذِينَ كفَرُوا لَهُمْ شرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الّذِى جَعَلَ الشمْس ضِيَاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السنِينَ وَ الْحِساب مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِك إِلا بِالْحَقِّ يُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنّ فى اخْتِلَفِ الّيْلِ وَ النهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللّهُ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يَتّقُونَ (6) إِنّ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَ رَضوا بِالحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ اطمَأَنّوا بهَا وَ الّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَتِنَا غَفِلُونَ (7) أُولَئك مَأْوَاهُمُ النّارُ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ يهْدِيهِمْ رَبهُم بِإِيمَنهِمْ تَجْرِى مِن تحْتهِمُ الأَنْهَرُ فى جَنّتِ النّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سبْحَنَك اللّهُمّ وَ تحِيّتهُمْ فِيهَا سلَمٌ وَ ءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَْمْدُ للّهِ رَب الْعَلَمِينَ (10)

انتهى.


السورة - كما يلوح من آياتها - مكية من السور النازلة في أوائل البعثة و قد نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، و قد استثنى بعضهم قوله تعالى: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك" إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، و بعضهم قوله تعالى: "و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين" فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، و لا دليل من جهة اللفظ على شيء من القولين.

و غرض السورة و هو الذي أنزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الإنذار و التبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، و أن الذي يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته تعالى و علمه و قدرته و انتهاء الخلقة إليه و عجائب سننه في خلقه و رجوعهم جميعا إليه بأعمالهم التي سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء و الأرض و يهتدي إليه العقل السليم فهي معان حقة و لا يدل على مثلها إلا كلام حكيم لا سحر مزوق باطل.

و الدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: "أ كان للناس عجبا أن أوحينا - إلى قوله - قال الكافرون إن هذا لساحر مبين" و اختتامها بمثل قوله: "و اتبع ما يوحى إليك و اصبر" الآية ثم عوده تعالى إلى مسألة الإيحاء بالقرآن و تكذيبهم له في تضاعيف الآيات مرة بعد مرة كقوله: "و إذا تتلى عليهم آياتنا الآية و قوله: "و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" الآية، و قوله: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة" الآية، و قوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك" الآية.

فتكرر هذه الآيات و الافتتاح و الاختتام بها يدل على أن الكلام مبني على تعقيب إنكارهم لكلام الله و تكذيبهم الوحي و لذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذبي آيات الله من هذه الأمة بعذاب يقضي بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم و أن ذلك من سنة الله في خلقه، و على تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحري أن تعرف السورة بأنها سورة الإنذار بالقضاء العدل بين النبي و بين أمته و قد اختتمت بقوله: "و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين".

قوله تعالى: "الر تلك آيات الكتاب الحكيم" الإشارة باللفظ الدال على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن و علو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات ذو العرش.



و الآية - و معناها العلامة - و إن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل المعاني أو الأعيان الخارجية كما في قوله: "أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل:" الشعراء - 197 و في قوله: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين": الأنبياء - 91 و كذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: "و إذا بدلنا آية مكان آية": النحل: - 101 و نحو ذلك لكن المراد بالآيات هاهنا هي أجزاء الكلام الإلهي قطعا فإن الكلام في الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو كلام متلو مقرو بأي معنى من المعاني صورنا نزول الوحي.

فالمراد بالآيات أجزاء الكتاب الإلهي و تتعين في الجملة من جهة المقاطع التي تفصل الآيات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم و لذلك ربما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الإحصاء كالكوفيين و البصريين و غيرهم.

و المراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة، و ربما قيل: إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول و المراد به المحكم غير القابل للانثلام و الفساد، و الكتاب الذي هذا شأنه - و قد وصفه تعالى في الآية التالية بأنه من الوحي - هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و ربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، و كون الآيات آياته هو أنها نزلت منه و هي محفوظة فيه، و هو و إن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ:" البروج: - 22 و قوله: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون:" الواقعة - 78 لكن الأظهر من الآية التي نحن فيها و سائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف "الر" و سائر الآيات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن أن المراد بالكتاب و بآياته هو هذا القرآن المتلو المقرو و آياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير و البطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى: "تلك آيات الكتاب و قرآن مبين:" الحجر - 1، و قوله: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير:" هود: - 1، و غير ذلك.

قوله تعالى: "أ كان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم" إلى آخر الآية الاستفهام للإنكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنية.

و قوله: "أن أنذر الناس" إلخ تفسير لما أوحاه إليه، و يتبين به أن الذي ألقاه إليه من الوحي هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار و بالنسبة إلى الذين آمنوا منهم خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير و هو تقدير الكفر و العصيان و ينفعهم على تقدير الإيمان و الطاعة.

و قد فسر البشرى الذي أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: "إن لهم قدم صدق عند ربهم" و المراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: "في مقعد صدق عند مليك مقتدر: القمر - 55 فإن الإيمان لما استتبع الزلفى و المنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق.

فإطلاق القدم على المنزلة و المكانة من الكناية و لما كان إشغال المكان عادة إنما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، و في المكانة و المنزلة إن كان في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، و هو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه.

و هناك معنى آخر و هو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما و للكذب قدما و قدم الصدق هي التي تثبت و لا تزول.



و قوله: "قال الكافرون إن هذا لساحر مبين" أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قرىء: "إن هذا لسحر مبين" أي القرآن و مآل القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر من جهة القرآن الكريم.

و الجملة كالتعليل لقوله: "كان للناس عجبا" يمثل به معنى تعجبهم و هو أنهم لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب و تتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر مبين، و إن الجائي به لساحر مبين.

قوله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام" لما ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحي و هو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعني من جهة أن ما كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه و من جهة أن القرآن الذي رموه بالسحر كتاب إلهي حق و ليس من السحر الباطل في شيء.

فقوله: "إن ربكم الله" إلخ، شروع في بيان الجهة الأولى و هي أن ما يدعوكم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يعلمكم القرآن حق لا ريب فيه و يجب عليكم أن تتبعوه.

و المعنى: أن ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته و أرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته و قام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير و إدارة فشرع يدبر أمر العالم، و إذا انتهى.  إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور - و هو الشفاعة - إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه، و من دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه و شفعاء من بعد إذنه.

و إذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموها أربابا من دون الله و شفعاء عنده و هو المراد بقوله: "ذلكم الله ربكم فاعبدوه أ فلا تذكرون" أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب غيره بالتأمل في معنى الألوهية و الخلقة و التدبير.

و قد تقدم الكلام في معنى العرش و الشفاعة و الإذن و غير ذلك في ذيل قوله: "إن ربكم الله:" الأعراف: - 54 في الجزء الثامن من الكتاب.

قوله تعالى: "إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا" تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدإ، و قوله: "وعد الله حقا" من قيام المفعول المطلق مقام فعله و المعنى: وعده الله وعدا حقا.

و الحق هو الخبر الذي له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقا معناه كون الخلقة الإلهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الأشياء - و من جملتها الإنسان - إليه تعالى و ذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على الأرض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الأرض و السقوط و الاستقرار عليها، و الأشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه:" الانشقاق: - 6 فافهم ذلك.

قوله تعالى: "إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط" إلخ تأكيد لقوله: "إليه مرجعكم جميعا" و تفصيل لإجمال ما يتضمنه من معنى الرجوع و المعاد.



و يمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: "إليه مرجعكم إلخ أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد: أما قوله: "إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده" فلأن الجاري من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شيء و يمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد و يعيش و يتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهي إلى أجل معدود.

و ليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه و بطلانا للرحمة الإلهية التي كان بها وجوده و بقاؤه و سائر ما يلحق بذلك من حياة و قدرة و علم و نحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى و لن يهلك وجهه.

فنفاد وجود الأشياء و انتهائها إلى أجلها ليس فناء منها و بطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا و عودا منها إلى عنده و قد كانت نزلت من عنده، و ما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدأ الأشياء ببسط الرحمة و يعيدها إليه بقبضها و هو المعاد الموعود.

و أما قوله: "ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط" إلخ فإن الحجة فيه أن العدل و القسط الإلهي - و هو من صفات فعله - يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به و عمل صالحا و من استكبر عليه و كفر به و بآياته، و الطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع و تضر بإذن الله.

فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزي المؤمنين المحسنين جزاء حسنا و الكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون.

فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالإيمان و العمل الصالح و بالكفر و على قوله: "بالقسط هذا، و قوله: "ليجزي" متعلق بقوله: "إليه مرجعكم جميعا" على ظاهر التقرير.

و يمكن أن يكون قوله: "ليجزي" إلخ متعلقا بقوله: "ثم يعيده" و يكون الكلام مسوقا للتعليل و إشارة إلى حجة واحدة و هي الحجة الثانية المذكورة، و الأقرب من جهة اللفظ هو الأخير.

قوله تعالى: "هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا" إلى آخر الآية، الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوء و ضياء كعاذ يعوذ عوذا و عواذا، و ربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، و اللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف و الأصل جعل الشمس ذات ضياء و القمر ذا نور.

و كذلك قوله: "و قدره منازل" أي و قدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتى يوافيها من الجانب الآخر، و ذلك في شهر قمري كامل فترتسم بذلك الشهور و ترتسم بالشهور السنون، و لذلك قال: "لتعلموا عدد السنين و الحساب".

و الآية تنبىء عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس و تنزهه عن الشركاء، و المعنى أنه هو الذي جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شئون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الأرضي من موجود مخلوق، و كذا جعل القمر نورا يستفاد منه، و قدره ذا منازل يؤدي اختلاف منازله إلى تكون الشهور و السنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين و الحساب و لم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد إلا بالحق فإنها غايات حقيقية منتظمة تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل و لا صدفة اتفاقية.



فهو تعالى إنما خلق ذلك و رتبه على هذا الترتيب لتدبير شئون حياتكم و إصلاح أمور معاشكم و معادكم فهو ربكم الذي يملك أمركم و يدبر شأنكم لا رب سواه.

و قوله: "يفصل الآيات لقوم يعلمون" من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظي، و لعل الأول أقرب إلى سياق الآية.

قوله تعالى: "إن في اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض لآيات لقوم يتقون" قال في المجمع، الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في جهة غير جهة الآخر فاختلاف الليل و النهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء و الآخر في جهة الظلام، انتهى. 

و الظاهر أنه مأخوذ من الخلف، و الأصل في معناه أخذ أحد الشيئين الآخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين.

يقال اختلفه أي جعله خلفه، و اختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، و اختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه و الخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه.

و المراد باختلاف الليل و النهار إما ورود كل منهما على الأرض خلف الآخر و هو توالي الليل و النهار الراسم للأسابيع و الشهور و السنين، و إما اختلاف كل من الليل و النهار في أغلب بقاع الأرض المسكونة فالليل و النهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتى يبلغ أول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفي و هو أول الخريف فيتساويان.

ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى أول الشتاء و هو منتهى طول الليالي ثم يعود راجعا إلى التساوي حتى ينتهي إلى الاعتدال الربيعي و هو أول الربيع هذا في المناطق الشمالية و الأمر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في أحد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الآخر بنفس النسبة.

و الاختلاف الأول بالليل و النهار هو الذي يدبر أمر أهل الأرض بتسليط حرارة الأشعة ثم بسط برد الظلمة و نشر الرياح و بعث الناس للحركة المعاشية ثم جمعهم للسكن و الراحة، قال تعالى: "و جعلنا نومكم سباتا و جعلنا الليل لباسا و جعلنا النهار معاشا:" النبأ: - 11.

و الاختلاف الثاني هو الذي يرسم الفصول الأربعة السنوية التي يدبر بها أمر الأقوات و الأرزاق كما قال تعالى: "و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين": حم السجدة: - 10.

و النهار و اليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء و لعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فإنه يستعمل فيما لا عناية فيه بذلك كما في مورد الإحصاء يقال: عشرة أيام و عشرين يوما و هكذا، و لا يقال: عشرة نهارات و عشرين نهارا و هكذا.

و الآية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فإن اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به أمر الموجودات الأرضية و السماوية و خاصة العالم الإنساني تدبيرا واحدا يتصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور.

و هو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شيء و منه الإنسان فلا رب إلا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيته.



و من المحتمل أن يكون قوله: "إن في اختلاف الليل و النهار" إلخ، في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: "يفصل الآيات لقوم يعلمون" لمكان إن، و الأنسب على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل و النهار تواليهما على الأرض دون الاختلاف بالمعنى الآخر فإن هذا المعنى من الاختلاف هو الذي يسبق إلى الذهن من قوله في الآية السابقة: "جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل" و هو ظاهر.

قوله تعالى: "إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها" إلى آخر الآيتين.

شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله: "ذلكم الله ربكم فاعبدوه" من حيث عاقبة الأمر في استجابته و رده و طاعته و معصيته.

فبدأ سبحانه بالكافرين بهذا الأمر فقال: "إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون" فوصفهم أولا بعدم رجائهم لقاءه و هو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة و قد تقدم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب و منها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء و بإنكاره يسقط الحساب و الجزاء فالوعد و الوعيد و الأمر و النهي، و بسقوطها يبطل الوحي و النبوة و ما يتفرع عليه من الدين السماوي.

و بإنكار البعث و المعاد ينعطف هم الإنسان على الحياة الدنيا فإن الإنسان و كذا كل موجود ذي حياة له هم فطري ضروري في بقائه و طلب لسعادة تلك الحياة فإن كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية و الأخروية معا فهو، و إن لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، و رضي بها و سكن بسببها عن طلب الآخرة، و هو المراد بقوله: "و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها".

و من هنا يظهر أن الوصف الثاني أعني قوله: "و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها" من لوازم الوصف الأول أعني قوله: "لا يرجون لقاءنا" و هو بمنزلة المفسر بالنسبة إليه، و أن الباء في قوله: "اطمأنوا بها" للسببية أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء و هو الآخرة.

و قوله: "و الذين هم عن آياتنا غافلون" في محل التفسير لما تقدمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فإن نسيان الآخرة و ذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن آيات الله.

و الآية قريبة المضمون من قوله تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله الآية: النجم - 30 حيث دل على أن الإعراض عن ذكر الله و هو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الإنسان في الحياة الدنيا و شئونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا و هو الضلال عن سبيل الله، و قد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب:" ص - 26.

فقد تبين أن إنكار اللقاء و نسيان يوم الحساب يوجب رضى الإنسان بالحياة الدنيا و الاطمئنان إليها من الآخرة و قصر العلم عليه و انحصار الطلب فيه، و إذ كان المدار على حقيقة الذكر و الطلب لم يكن فرق بين إنكاره و الرضى بالحياة الدنيا قولا و فعلا أو فعلا مع القول الخالي به.

و تبين أيضا أن الاعتقاد بالمعاد أحد الأصول التي يتقوم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و النبوة و الوحي و هو بطلان الدين الإلهي من رأس.

و قوله: "أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون" بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التي كسبوها.



قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم" إلى آخر الآية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين و ما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته و طاعتهم لأمره.

ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، و إنما يهديهم إلى ربهم لأن الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، و قد قال تعالى: "و يهدي إليه من أناب:" الرعد: - 27.

فإنما يهدي الإيمان بإذن الله إلى الله سبحانه و كلما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل و مدارج تنتهي بالآخرة إليه تعالى قال تعالى: "و إن إلى ربك المنتهى:" النجم: - 42.

و قد وصف المؤمنين بالإيمان و الأعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى الإيمان وحده فإن الإيمان هو الذي يصعد بالعبد إلى مقام القرب، و ليس للعمل الصالح إلا إعانة الإيمان و إسعاده في عمله كما قال تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات:" المجادلة: - 11 حيث ذكر للرفع الإيمان و العلم و سكت عن العمل الصالح، و أوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه:" فاطر: - 10.

هذا في الهداية التي هي شأن الإيمان، و أما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب و قد ذكر تعالى في المؤمنين قوله: "تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم" كما ذكر في الكافرين قوله: "أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون".

و ليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنات النعيم، و من نعيمها الأنهار التي تجري من تحتهم فيها، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "صراط الذين أنعمت عليهم:" الحمد: - 7 و قوله: "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية: النساء: - 69 أن النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم هو الولاية الإلهية، و قد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به في حقهم كما قال: "إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا:" الإنسان - 6، و قال أيضا "إن الأبرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون:" المطففين: - 28، و عليك بالتدبر في الآيات و تطبيق بعضها على بعض حتى ينجلي لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الأسرار اللطيفة.

قوله تعالى: "دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و ءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - و هم الذين ليس في قلوبهم إلا الله و لا مدبر لأمرهم غيره - أنه يطهر قلوبهم عن محبة غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشيء إلا الله و في الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه و عن أي شاغل يشغلهم عن ربهم.

و هذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، و تسبيح منهم له لا في القول و اللفظ فقط بل قولا و فعلا و لسانا و جنانا، و ما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، و قد قال تعالى: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:" يوسف - 106.



و هؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره و ملأها بحبه فلا يريدون إلا إياه و هو سبحانه الخير الذي لا شر معه قال: "و الله خير:" طه: - 73.

فلا يواجهون بقلوبهم التي هي ملأى بالخير و السلام أحدا إلا بخير و سلام اللهم إلا أن يكون الذي واجهوه بقلوبهم هو الذي يبدل الخير و السلام شرا و ضرا كما أن القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا.

ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الأشياء إلا و هي تجده و تشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله و معاني كماله واصفة لعظمته و جلاله فكلما وصفوا شيئا من الأشياء و هم يرونه نعمة من نعم الله و يشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه و صفاته و لا يغفلون و لا يسهون عن ربهم في شيء كان وصفهم لذلك الشيء وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله و صفاته فيكون ثناء منهم عليه و حمدا منهم له فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري.

فهذا شأن أوليائه تعالى و هم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربهم فوفى لهم بوعده و أدخلهم في رحمته و أسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم الذي كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: "نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا:" التحريم - 8.

فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلي و خفي، و غشيهم بنور العلم و اليقين، و أجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله و سبحوه أولا و سلموا على رفقائهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ثم حمدوا الله سبحانه و أثنوا عليه بأبلغ الحمد و أحسن الثناء.

و هذا هو الذي يقبل الانطباق عليه - و الله أعلم - قوله في الآيتين: "تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم" و فيه ذكر جنة الولاية و تطهير قلوبهم: "دعواهم فيها سبحانك اللهم" و فيه تنزيهه تعالى و تسبيحه عن كل نقص و حاجة و شريك تنزيها على وجه الحضور لأنهم غير محجوبين عن ربهم "و تحيتهم فيها سلام" و هو توسيم اللقاء بالأمن المطلق، و لا يوجد في غيرها من الأمن إلا اليسير النسبي "و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" و فيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له و تنزيههم، و هذا آخر ما ينتهي إليه أهل الجنة في كمال العلم.

و قد قدمنا في تفسير قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين:" الحمد: - 2 أن الحمد توصيف، و لا يسع وصفه تعالى لأحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه و خصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم و بينه قال تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:" الصافات: - 160.

و لذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح و إبراهيم و محمد و داود و سليمان (عليهما السلام) كقوله فيما أمر به نوحا: "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين:" المؤمنون: - 28، و قوله حكاية عن إبراهيم: "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق:" إبراهيم - 39، و قوله فيما أمر به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدة مواضع: "قل الحمد لله:" النمل - 93، و قوله حكاية عن داود و سليمان: "و قالا الحمد لله:" النمل: - 15.



و قد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله: "و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا:" الأعراف - 43، و قوله أيضا: "و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن:" فاطر: - 34، و قوله أيضا: "و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده:" الزمر: - 74، و قوله في هذه الآية: "و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين".

و الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق أهل الجنة من المؤمنين بالآخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل و بشارة عظيمة للمؤمنين.

انتهى.

في تفسير العياشي، عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و بشر الذين آمنوا - أن لهم قدم صدق عند ربهم" الآية قال الولاية و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "و بشر الذين آمنوا - أن لهم قدم صدق عند ربهم" قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و رواه القمي في تفسيره، مسندا و العياشي، في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمن ذكره عنه (عليه السلام).

و الظاهر أن المراد به شفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم).

و يدل على ذلك ما رواه الطبرسي في المجمع، حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و ما رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: "قدم صدق عند ربهم" قال: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شفيع لهم يوم القيامة.

و في تفسير العياشي، عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله و دعوى أهل الجنة.

أقول: و مراده بالتسبيح قولنا سبحان الله و معنى اسميته دلالته على تنزيهه تعالى.

و في الإختصاص، بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث طويل مع يهودي و قد سأله عن مسائل: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شيء معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، و إذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الآخرة، و هي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله، و ذلك قوله تحيتهم يوم يلقونه سلام.

أقول: و قوله: "و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله" أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الإنسانية و الكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب و نحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، و لا يبقى بعدئذ إلا الحمد لله و الثناء عليه بالجميل و هو كلام أهل الجنة فيها.

و قوله: و ذلك قوله: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" معناه أن كون التحية يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شيء و ملائمته لما يريده الإنسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك.

10 سورة يونس - 11 - 14

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشرّ استِعْجَالَهُم بِالْخَيرِ لَقُضىَ إِلَيهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فى طغْيَنهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَ إِذَا مَس الانسنَ الضرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائماً فَلَمّا كَشفْنَا عَنْهُ ضرّهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَا إِلى ضرٍّ مّسهُ كَذَلِك زُيِّنَ لِلْمُسرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمّا ظلَمُوا وَ جَاءَتهُمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ وَ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِك نجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثمّ جَعَلْنَكُمْ خَلَئف فى الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظرَ كَيْف تَعْمَلُونَ (14)

انتهى.


لما ذكر سبحانه الأصلين من أصول الدعوة الحقة و هما التوحيد و المعاد و احتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الإيمان و الكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس و عدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم و ضلالتهم و عمههم في طغيانهم و ما هو السبب الذي يوجب لهم ذلك فبين أن الأمر بين لا ستر عليه، و قد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا و نسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم و يمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء و امتحان.

قوله تعالى: "و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير" إلخ، تعجيل الشيء الإتيان به بسرعة و عجلة و الاستعجال بالشيء طلب حصوله بسرعة و عجلة، و العمه شدة الحيرة.

و معنى الآية: و لو يعجل الله للناس الشر و هو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.

و توضيحه أن الإنسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره و نفعه أي أنه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه و يريده فهو في الحقيقة يطلب الإسراع المذكور من الله سبحانه لأنه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الإنسان و هي مبنية على الأهواء النفسانية فإن الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الإنسان بل العالم الإنساني هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطرارا أحب ذلك أو كرهه.

و لو أن السنة الإلهية في خلق الأشياء و الإتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنة الإنسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات و الآثار عقيب أسبابها لأسرع الشر و هو الهلاك بالعذاب إلى الإنسان فإن سببه قائم معه، و هو الكفر بعدم رجاء لقاء الله و الطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لأن سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون.

و قد بان بذلك أولا: أن في قوله "لقضي إليهم أجلهم" نوعا من التضمين فقد ضمن فيه "قضي" معنى مثل الإنزال أو الإبلاغ و لذا عدي بإلى.

و المعنى قضي منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا و هو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة.

و ثانيا: أن في قوله: "فنذر الذين" التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و لعل النكتة فيه الإشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الآية و ما بعدها كتركهم في عمههم و كشف الضر و التزيين و الإهلاك أمور يتوسل إليها بتوسيط الأسباب، و العظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم و خدمهم في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير.

قوله تعالى: "و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما" إلى آخر الآية.

الضر بالضم ما يمس الإنسان من الضرر في نفسه، و قوله: "دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما" أي دعانا منبطحا لجنبه إلخ، و الظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا ينسانا في حال و يمكن أن يكون "لجنبه" إلخ، أحوالا ثلاثة من الإنسان لا من فاعل دعانا و العامل فيه "مس" و المعنى إذا مس الإنسان الضر و هو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال و هذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: "دعانا لجنبه" العليل الذي لا يقدر أن يجلس "أو قاعدا" الذي لا يقدر أن يقوم "أو قائما" الصحيح.

و قوله: "مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه" كناية عن النسيان و الغفلة عما كان لا يكاد ينساه.

و المعنى: و إذا مس الإنسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره و أصر على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذي مسه نسينا و ترك ذكرنا و انجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية و الإعراض عن ذكر الله تعالى.

و في الآية بيان السبب في تمادي منكري المعاد في غيهم و ضلالتهم و خصوصية سببه و هو أن هؤلاء مثلهم كمثل الإنسان يمسه الضر فيذكر ربه و يلح عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - و لذلك كان يدعوه - مر لوجهه متوغلا في شهواته و قد نسي ما كان يدعوه و يذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.

فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، و قد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات و ما كانوا ليؤمنوا و إهلاك القرون من قبلهم بظلمهم و هذه هي السنة الإلهية يجزي القوم المجرمين.

و من هنا يظهر أن الآية التالية: "و لقد أهلكنا القرون من قبلكم" إلخ، متمم للبيان في هذه الآية: "و إذا مس الإنسان الضر دعانا إلى آخر الآية.

قوله تعالى: "و لقد أهلكنا القرون من قبلكم" إلى آخر الآية، قد ظهر معناه مما تقدم، و في الآية التفات في قوله: "من قبلكم" من الغيبة إلى الخطاب، و كان النكتة فيه التشديد في الإنذار لأن الإنذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا و أبلغ من غيره.

ثم في قوله: "كذلك نجزي القوم المجرمين التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و النكتة فيه أنه إخبار عن السنة الإلهية في أخذ المجرمين، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأهل لفهمه و الإذعان بصدقه دونهم و لو أذعنوا بصدقة لآمنوا به و لم يكفروا، و هذا بخلاف قوله: "و لقد أهلكنا القرون من قبلكم... و جاءتهم رسلهم" فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به.

قوله تعالى: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" معناه ظاهر، و فيه بيان أن سنة الامتحان و الابتلاء عامة جارية.

10 سورة يونس - 15 - 25

وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَتٍ قَالَ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاى نَفْسى إِنْ أَتّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلىّ إِنى أَخَاف إِنْ عَصيْت رَبى عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لّوْ شاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكمْ وَ لا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْت فِيكمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كذِباً أَوْ كَذّب بِئَايَتِهِ إِنّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضرّهُمْ وَ لا يَنفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شفَعَؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فى السمَوَتِ وَ لا فى الأَرْضِ سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمّا يُشرِكُونَ (18) وَ مَا كانَ النّاس إِلا أُمّةً وَحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كلِمَةٌ سبَقَت مِن رّبِّك لَقُضىَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يخْتَلِفُونَ (19) وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رّبِّهِ فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْب للّهِ فَانتَظِرُوا إِنى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20) وَ إِذَا أَذَقْنَا النّاس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضرّاءَ مَستهُمْ إِذَا لَهُم مّكْرٌ فى ءَايَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسرَعُ مَكْراً إِنّ رُسلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الّذِى يُسيرُكمْ فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ حَتى إِذَا كُنتُمْ فى الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بهِمْ بِرِيحٍ طيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بهَا جَاءَتهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَ جَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كلِّ مَكانٍ وَ ظنّوا أَنهُمْ أُحِيط بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشكِرِينَ (22) فَلَمّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فى الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ يَأَيهَا النّاس إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلى أَنفُسِكُم مّتَعَ الْحَيَوةِ الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَهُ مِنَ السمَاءِ فَاخْتَلَط بِهِ نَبَات الأَرْضِ مِمّا يَأْكلُ النّاس وَ الأَنْعَمُ حَتى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْض زُخْرُفَهَا وَ ازّيّنَت وَ ظنّ أَهْلُهَا أَنهُمْ قَدِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نهَاراً فَجَعَلْنَهَا حَصِيداً كَأَن لّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ (24) وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلى دَارِ السلَمِ وَ يهْدِى مَن يَشاءُ إِلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (25)

انتهى.


احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الآية.

قوله تعالى: "و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله" هؤلاء المذكورون في الآية كانوا قوما وثنيين يقدسون الأصنام و يعبدونها، و من سننهم التوغل في المظالم و الآثام و اقتراف المعاصي، و القرآن ينهى عن ذلك كله، و يدعو إلى توحيد الله تعالى و رفض الشركاء، و عبادة الله مع التنزه عن الظلم و الفسق و اتباع الشهوات.

و من المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن غير هذا دل على أنهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من الدعوة إلى رفض الشركاء و اتقاء الفحشاء و المنكر، و إن قالوا: بدل القرآن كان مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول، و ذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين فيقولون: ائت بغيره أو بدله، و في ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام و هو لهو الحديث الذي إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه و تنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله.

فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: "ائت بقرآن غير هذا" يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا و يؤتى بذاك، و قولهم: "أو بدله" أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لأهوائهم إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الإتيان بغيره و بين تبديله.

فما قيل: إن الفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يكون معه و تبديله لا يكون إلا برفعه، غير سديد فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القرآن و غيره معا قطعا.

و كذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: "ائت بقرآن غير هذا أو بدله" إنما أرادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى نفسه أنه كلام الله، و ذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آيات القرآن و تلاه عليهم و تحداهم بالإتيان بمثله و عجزوا عن الإتيان بمثله، و كانوا في ريب من كونه كلام الله، و في ريب من كونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه و لم يكن يفوقهم في الفصاحة و البلاغة و العلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم و مصاقع خطبائهم أرادوا أن يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لأصل دعواه أنه كلام الله.

و كان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية عليهم كأسباب السحر لا بوحي.

هذا.



و فيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة فإن السؤال الذي لم يصدر إلا بداعي الامتحان و الاختبار من غير داع جدي لا معنى للجواب عنه بالإثبات الجدي بحجة جدية و هو ظاهر.

و في قوله: "و إذا تتلى عليهم آياتنا" التفات من الخطاب إلى الغيبة، و الظاهر أن النكتة فيه أن يكون توطئة إلى إلقاء الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "قل ما يكون لي أن أبدله" إلخ، فإن ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم و توجيهه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي" إلى آخر الآية التلقاء بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان و البيان و يستعمل ظرفا.

و الله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: "ائت بقرآن غير هذا أو بدله" في أثناء كلامه بقوله "بينات" فإن الآيات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الأصنام و الاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تفصيل دينه رد سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة في ذلك بقوله: "قل ما يكون لي" إلى آخر الآيات الثلاث.

فقوله: "قل ما يكون لي أن أبدله" إلخ، جواب عن قولهم: "أو بدله" و معناه: قل لا أملك - و ليس لي بحق - أن أبدله من عند نفسي لأنه ليس بكلامي و إنما هو وحي إلهي أمرني ربي أن أتبعه و لا أتبع غيره، و إنما لا أخالف أمر ربي لأني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و هو يوم لقائه.

فقوله: "ما يكون لي أن أبدله" نفي الحق و سلب الخيرة، و قوله: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: "ما يكون لي" و قوله: "إني أخاف إن عصيت ربي" إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: "إن أتبع" إلخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الأمر الإلهي.

و في قوله: "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" نوع محاذاة لما في صدر الكلام من قوله: "قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن" إلخ فإن الإتيان بالوصف للإشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد و عدم رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه بقوله: "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" فيئول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لأنكم لا ترجون لقاء الله لكنني لا أشك فيه فلا يمكنني إجابتكم إليه لأني أخاف عذاب يوم اللقاء، و هو يوم عظيم.

و في تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الإنذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب اللقاء تلك المناسبة.

قوله تعالى: "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أ فلا تعقلون" أدراكم به أي أعلمكم الله به، و العمر بضمتين أو بالفتح فالسكون هو البقاء، و إذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري و لعمرك تعين الفتح.



و هذه الآية تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم و هو قولهم: "ائت بقرآن غير هذا" و معناها على ما يساعد عليه السياق: أن الأمر فيه إلى مشية الله لا إلى مشيتي فإنما أنا رسول و لو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا و لم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فإني مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن و عشت بينكم و عاشرتكم و عاشرتموني و خالطتكم و خالطتموني فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن، و لو كان ذلك إلي و بيدي لبادرت إليه قبل ذلك، و بدت من ذلك آثار و لاحت لوائحه، فليس إلي من الأمر شيء، و إنما الأمر في ذلك إلى مشية الله و قد تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أ فلا تعقلون؟.

قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون" استفهام إنكاري أي لا أحد أظلم و أشد إجراما من هذين الفريقين: المفتري على الله كذبا، و المكذب بآياته فإن الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به و إذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم.

و ظاهر سياق الاحتجاج في الآيتين أن هذه الآية من تمامها و المعنى: لا أجيبكم إلى ما اقترحتم علي من الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلي و لا لي حق فيه، و لو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس و أشدهم إجراما و لا يفلح المجرمون فإني لو بدلت القرآن و غيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله كذبا و لا أظلم منه، و لو تركت هذا القرآن و جئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت مكذبا لآيات الله، و لا أظلم منه.

و ربما احتمل كون الاستفهام الإنكاري بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء و هو افتراء الكذب على الله و بتكذيبكم بنبوتي و الآيات النازلة علي و هو تكذيب بآيات الله و لا يفلح المجرمون.

و ذكر بعضهم أن الأول من شقي الترديد للنبي على تقدير إجابتهم و الثاني للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله و المكذبين بآياته، و أنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالأول و هو شر منه؟ و أي فائدة لي من هذا الإجرام العظيم و أنا أريد الإصلاح؟.

و الذي ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الآية و دلالة لفظها عليه، و كذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق.

قوله تعالى: "و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" إلى آخر الآية الكلام: موجه نحو عبدة الأصنام من المشركين و إن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، و ذلك لمكان "ما" و كون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن.

و قد كانت عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها و بأربابها إلى رب الأرباب و هو الله سبحانه، و يقولون: "إننا على ما بنا من ألواث البشرية المادية و قذارات الذنوب و الآثام لا سبيل لنا إلى رب الأرباب لطهارة ساحته و قدسها و لا نسبة بيننا و بينه.

فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه و هم أرباب الأصنام الذين فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، و نتقرب إليهم بأصنامهم و تماثيلهم و إنما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب إلينا الخير و تدفع عنا الشر فتقع العبادة للأصنام حقيقة، و الشفاعة لأربابها و ربما نسبت إليها.

و قد وضع في الكلام قوله: "ما لا يضرهم و لا ينفعهم" موضع الأصنام للتلويح إلى موضع خطئهم في مزعمتهم، و هو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو كانت هذه الأصنام ضارة نافعة في الأمور و كانت ذوات شعور بالعبادة و التقرب حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع أربابها لهم عند الله إن كان الله يرتضي شفاعتهم و هؤلاء أجسام ميتة لا تشعر بشيء و لا تضر و لا تنفع شيئا.



و قد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة - مضافا إلى ما يلوح إليه قوله: "لا يضرهم و لا ينفعهم" - بقوله: "قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السموات و لا في الأرض" و محصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شيء من السماوات و الأرض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، و هو من أقبح الافتراء و أشنع المكابرة، و كيف يكون في الوجود شيء لا يعلم به الله و هو يعلم ما في السماوات و الأرض؟.

فالاستفهام إنكاري، و نفي العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفي وجودها، و لعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع و شفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء فكيف تتحقق الشفاعة عنده و هو لا يعلم.

و قوله: "سبحانه و تعالى عما يشركون" كلمة تنزيه، و هي من كلام الله و ليست مقولة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون الغيبة فلو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقيل: عما تشركون بالخطاب.

قوله تعالى: "و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم:" البقرة: - 213 أن الآية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين الناس.

أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش و هو الذي يرجع إلى الدعاوي و ينقسم به الناس إلى مدع و مدعى عليه و ظالم و مظلوم و متعد و متعدى عليه و آخذ بحقه و ضائع حقه، و هذا هو الذي رفعه الله سبحانه بوضع الدين و بعث النبيين و إنزال الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يعلمهم معارف الدين و يواجههم بالإنذار و التبشير.

و ثانيهما: الاختلاف في نفس الدين و ما تضمنه الكتاب الإلهي من المعارف الحقة من الأصول و الفروع، و قد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من الاختلاف ينتهي إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، و ليس مما يقتضيه طباع الإنسان كالقسم الأول، و بذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية و الضلال فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، و قد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف أنه لو لا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه و لكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: "و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:" الشورى: - 14 إلى غير ذلك من الآيات.

و سياق الآية السابقة أعني قوله تعالى: "و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم" إلخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني و هو الاختلاف في نفس الدين لأنها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا يضرهم و لا ينفعهم و اتخاذهم شفعاء عند الله و مقتضى ذلك أن يكون المراد من كون الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد و هو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا فريقين موحد و مشرك.

فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضي أن يحكم الله بينهم بإظهار الحق على الباطل و فيه هلاك المبطلين و إنجاء المحقين لكن السابق من الكلمة الإلهية منعت من القضاء بينهم، و الكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الإنسان إلى الدنيا: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:" البقرة: - 36.



و للمفسرين في الآية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على دين واحد حق و هو دين إبراهيم (عليه السلام) إلى زمن عمرو بن لحي الذي زوج بينهم الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، و عبدة أصنام مشركين و أنت خبير أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة.

و منها: أن المراد بالناس جميعهم، و المراد من كونهم أمة واحدة كونهم على فطرة الإسلام و إن كانوا مختلفين دائما، فلفظة "كان" منسلخ الزمان، و الآية تحكي عما عليه الناس بحسب الطبع و هو التوحيد، و ما هم عليه بحسب الفعلية و هو الاختلاف فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم اختلفوا على خلاف فطرتهم.

و فيه أنه خلاف ظاهر الآية و الآية التي في سورة البقرة، و كذا ظاهر سائر الآيات كقوله: "و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:" الشورى: - 14 و قوله: "و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:" آل عمران: - 19.

على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة مما لا يجتمعان.

و منها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر و الشرك ثم اختلفوا فكان مسلم و كافر.

و هذا أسخف الأقوال في الآية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الآيات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغي الناس من بعد ما جاءهم العلم أي ظهور الكفر و الشرك عن بغي كان هو المقتضي للحكم بينهم و القضاء عليهم بنزول العذاب و الهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر و الشرك من غير سابقة هدى و إيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغي عن علم؟ و ما معنى خلق الجميع و وجود المقتضي لإهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الإلهي؟.

و هذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية إن الله خلق الإنسان ليطعمه فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه و نقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله بتفدية المسيح.

و منها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك" إلخ قوله تعالى فهذه السورة: "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون:" الآية - 93.

و فيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالآية متأخرة عن هذه الآية لوقوعها في أواخر السورة، و الآيات متصلة جارية.

على أن الآية في بني إسرائيل خاصة و الضمير في قوله: "بينهم" راجع إليهم و هي قوله: "و لقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون:" يونس - 93.

على أن قوله في بعض الآيات: "و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:" الشورى: - 14 لا يلائم هذا المعنى من السبق.

و إن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك أول كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس و شركهم و معصيتهم، و ليست إلا ما قاله عند أول ما أسكن الإنسان الأرض و هو ما قدمناه من الآية.



قوله تعالى: "و يقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين" الآية كقوله قبلها: "و يعبدون من دون الله" و قوله قبله: "و إذا تتلى عليهم آياتنا" تعد أمورا من مظالم المشركين في أقوالهم و أعمالهم ثم ترد عليها بحجج تلقنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقيمها عليهم كما مر في أول الآيات فقوله: "و يقولون لو لا أنزل" إلخ، عطف على قوله في أول الآيات: "و إذا تتلى عليهم آياتنا".

و فيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم: "لو لا أنزل عليه آية من ربه" و إن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه إزراء و تحقيرا لأمر القرآن و استخفافا به لعدم عده آية إلهية و الدليل عليه قوله تعالى: "فقل إنما الغيب لله" و لم يقل: "قل" كما قال في سائر الآيات كأنه يقول: و يطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن و لا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية فقل: إنما الآيات من الغيب المختص بالله و ليست بيدي فانتظروا إني معكم من المنتظرين.

فهذا هو المستفاد من الآية و فيها دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر آية فاصلة بين الحق و الباطل غير القرآن قاضية بينه و بين أمته، و سيجيء الوعد الصريح منه بهذه الآية - التي يأمر بانتظارها هاهنا - في قوله: "و إما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم:" يونس: - 46 إلى تمام عدة آيات.

قوله تعالى: "و إذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا" إلى آخر الآية مضمون الآية و إن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في أكثر الأوقات فإن الفرد من الإنسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الآية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين و مكرهم في آيات الله، و الدليل عليه قوله: "قل الله أسرع مكرا" فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة و هم المخاطبون بهذه الآيات حيث كانوا يمكرون بآيات السراء و الضراء بعد ظهورها، و من مكرهم مكرهم في القرآن الذي هو آية إلهية و رحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم و شمول ضنك العيش و الذلة و التفرقة و تباعد القلوب و بغضائها لهم و هم يمكرون به فتارة يقولون "ائت بقرآن غير هذا أو بدله" و تارة يقولون: "لو لا أنزل عليه آية من ربه".

فالآية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، و تبين لهم أن المكر بآيات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بآيات الله عين مكر الله بهم.

فمعنى الآية: "و إذا أذقنا الناس" عبر عن الإصابة بالإذاقة للإيماء إلى التذاذهم بالرحمة و عناية بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذي "رحمة من بعد ضراء مستهم" و التعبير بالرحمة في موضع السراء للإشارة إلى أنها من الرحمة الإلهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، و يخضعوا لما تدعو إليه الآية و هو توحيد ربهم و شكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك "إذا لهم مكر في آياتنا" كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الآيات كقولهم قد مس آباءنا السراء و الضراء، و الاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: "لو لا أنزل عليه آية" و قولهم: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا".



فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بقوله: "قل الله أسرع مكرا" ثم علله بقوله: "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون" فلنا عليكم شهداء رقباء أرسلناهم إليكم يكتبون أعمالكم و يحفظونها و بمجرد، ما عملتم عملا حفظ عليكم و تعين جزاؤه لكم قبل أن يؤثر مكركم أثره أو لا يؤثر كما فسروه.

و هنا شيء و هو أن الظاهر من قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون:" الجاثية: - 29 على ما سيجيء من البيان في تفسير الآية إن شاء الله تعالى أن معنى كتابة الملائكة أعمال العباد هو إخراجهم الأعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعلية الخارجية و رسم نفس الأعمال في صحيفة الكون و بذلك تنجلي علية كتابة الرسل لأعمالهم لكونه تعالى أسرع مكرا تمام الانجلاء فإن حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج أعمالكم التي تمكرون بها من داخل ذواتكم و نضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك؟ و هل المكر إلا صرف الغير عما يقصده بحيلة و ستر عليه بل ذاك الذي تزعمونه مكرا بنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا و تقدمون على المكر بنا، و هذه المزعمة و الإقدام ضلال منكم و إضلال منا لكم جزاء بما كسبته أيديكم، و سيأتي نظير هذا المعنى في قوله: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم": الآية - 23 من السورة.

و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون" على قراءة تمكرون بتاء الخطاب و هي القراءة المشهورة و هو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن و لعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: "قل الله أسرع مكرا" في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "قل الله أسرع مكرا" أراد أن يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم و أوضح لهم السبب في كونه أسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم و عاد الكلام إلى حاله، و خوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقية الخطاب: "هو الذي يسيركم" إلخ، و هذا من لطيف الالتفات.

قوله تعالى: "هو الذي يسيركم في البر و البحر حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم" إلى آخر الآية، الفلك السفينة و تستعمل مفردا و جمعا، و المراد بها هاهنا الجمع بدليل قوله: "و جرين بهم" و الريح العاصف: الشديدة الهبوب، و قوله: "أحيط بهم" كناية عن الإشراف على الهلاك و تقديره أحاط بهم البلاء أو الأمواج، و الإشارة بقوله: "من هذه" إلى الشدة.

و معنى الآية ظاهر.

و فيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: "و جرين بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق" و لعل النكتة فيه إرجاعهم إلى الغيبة و توجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وصف أعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه و يتعجب منه، و يكون فيه مع ذلك إعراض عن الأمر بمخاطبتهم لأنهم لا يفقهون القول.

قوله تعالى: "فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق" أصل البغي هو الطلب و يكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه و يقيد حينئذ بغير الحق، و لو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا.



و الجملة من تتمة الآية السابقة، و المجموع أعني قوله: "هو الذي يسيركم في البر و البحر - إلى قوله - بغير الحق" بمنزلة الشاهد و المثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: "و إذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم" إلى آخر الآية، أو لخصوص قوله: "قل الله أسرع مكرا" و على أي حال فقوله: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" إلخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الآية السابقة و إن لم يكن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فافهم ذلك.

قوله تعالى: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيوة الدنيا ثم إلينا مرجعكم" إلى آخر الآية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: "يا أيها الناس" إلخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، و ليس من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أمره الله سبحانه أن يخاطب به الناس.

و الدليل على ذلك قوله تعالى "ثم إلينا مرجعكم" إلى آخر الآية، فإنه لا يصلح أن يكون من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و النكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التي قدمنا ذكرها في قوله تعالى في أول الكلام: "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون" فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم أثناء ما يخاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم يحسبون أن ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم و مقاصدهم في أعمالهم فيشرف عليهم و يمثل بذلك كونه معهم في جميع أحوالهم و إحاطته بهم و يقول لهم: أنا أقرب إليكم و إلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به أن تبتغوا علينا و تمكروا بنا إنما توجد بتقديرنا و تجري بأيدينا فكيف يمكنكم أن تبغوا بها علينا؟ بل هي بغي منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا و تكتب آثامها في صحائف أعمالكم فبغيكم على أنفسكم و هو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما قلائل ثم إلينا مرجعكم فنخبركم و نوضح لكم هناك حقائق أعمالكم.

و قوله: "متاع الحيوة الدنيا" بالنصب في قراءة حفص عن عاصم و التقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، و بالرفع في قراءة غيره و هو خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو أي بغيكم و عملكم متاع الحياة الدنيا.

و على كلتا القراءتين فقوله: "متاع الحيوة الدنيا" إلى آخر الآية، تفصيل لإجمال قوله: "إنما بغيكم على أنفسكم" فقوله "متاع" إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على أنفسهم من قبيل تعليل الإجمال بالتفصيل و بيانه به.

قوله تعالى: "إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض" إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه في الآية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له بهذا المثل يصف فيه من حقيقة أمره ما يعتبر به المعتبرون، و هو من الاستعارة التمثيلية و ليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شيء و إن أوهم ذلك قوله: "كماء أنزلناه" ابتداء، و نظائره شائعة في أمثال القرآن، و الزخرف الزينة و البهجة، و قوله: "لم تغن" من غني في المكان إذا أقام فيه فأطال المقام، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و الله يدعوا إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" الدعاء و الدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه و جلب توجهه و هو أعم من النداء فإن النداء يختص بباب اللفظ و الصوت، و الدعاء يكون باللفظ و الإشارة و غيرهما، و النداء إنما يكون بالجهر و لا يقيد به الدعاء.



و الدعاء في الله سبحانه تكويني و هو إيجاد ما يريده لشيء كأنه يدعوه إلى ما يريده، قال تعالى: "يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده": إسراء: - 52 أي يدعوكم إلى الحياة الأخروية فتستجيبون إلى قبولها، و تشريعي و هو تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته، و الدعاء من العبد لربه عطف رحمته و عنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية و المملوكية، و لذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لأن العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية و الاتصال بمولاه بالتبعية و الذلة ليعطفه بمولويته و ربوبيته إلى نفسه و هو الدعاء.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: "و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين: "المؤمن - 60 حيث عبر أولا بالدعاء ثم بدله ثانيا العبادة.

و قد التبس الأمر على صاحب المنار فقال في تفسيره: إن قول بعض المفسرين و غيرهم: إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة و لا شرعا و إنما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية و أعظم أركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعي عبادة و ما كل عبادة شرعية دعاء.

انتهى.  و منشأ خطئه زعمه أن معنى الدعاء هو النداء للطلب و غفلته عما تقدم من تحليل معناه.

و الأصل في معنى السلام على ما ذكره الراغب في المفردات، هو التعري عن الآفات الظاهرة و الباطنة، و إليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، و السلام و السلامة واحد كالرضاع و الرضاعة، و الظاهر أن السلام و الأمن متقاربان معنى، و إنما الفارق أن السلام هو الأمن مأخوذا في نفسه، و الأمن هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه يقال: هو في سلام، و هو في أمن من كذا و كذا.

و السلام من أسمائه تعالى لأن ذاته المتعالية نفس الخير الذي لا شر فيه، و تسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها و لا ضر على ساكنها، و قيل: إنما سميت دار السلام لأنها دار الله الذي هو السلام، و المال واحد في الحقيقة لأنه تعالى إنما سمي سلاما لبراءته من كل شر و سوء، و في سياق الآية ما يشعر بكون معنى السلام الوصفي مقصودا في الكلام.

و قد أطلق سبحانه السلام و لم يقيده بشيء و لا ورد في كلامه ما يقيده ببعض الحيثيات فهو دار السلام على الإطلاق و ليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا من السلام إنما هو الإضافي دون المطلق فما من شيء إلا و هو مزاحم ممنوع من بعض ما يحبه و يهواه، و ما من حال إلا و فيه مقارنات من الأضداد و الأنداد.

فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من الوصف، و انكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: "لهم ما يشاءون فيها:" ق - 35، فإن سلامة الإنسان من كل ما يكرهه و لا يحبه تلازم سلطانه على كل ما يشاؤه و يحبه.

و في تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور و عدم غفلتهم عنه سبحانه هناك أصلا، و قد تقدم الكلام في معنى الهداية و معنى الصراط المستقيم في مواضع من الأبحاث السابقة كتفسير سورة الحمد و غيره.

انتهى.

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "قال الذين لا يرجون لقاءنا - ائت بقرآن غير هذا الآية، قال فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا شيء تعلمته من اليهود و النصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم أربعين سنة قبل أن يوحى إلي، و لم أتكلم بشيء منه حتى أوحي إلي.

أقول: و في انطباق مضمونه على الآية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة.



و في تفسير العياشي، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: و الرواية لا تخلو عن شيء.

و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال: فر عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات و العزى، فقال أصحاب السفينة: لا يجوز هاهنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: و الله لئن كان في البحر وحده إنه لفي البر وحده، فأسلم.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة.

و في تفسير العياشي، عن منصور بن يونس عن أبي عبد الله (عليه السلام): ثلاث يرجعن على صاحبهن: النكث و البغي و المكر، قال الله: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.

أقول: و هو مروي عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ثلاث هن رواجع على أهلها: النكث و المكر و البغي. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" "و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله" "و من نكث فإنما ينكث على نفسه": أورده في الدر المنثور،. و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ما من عبادة أفضل من أن تسأل، و ما يدفع القضاء إلا الدعاء، و إن أسرع الخير ثوابا البر، و أسرع الشر عقوبة البغي و كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، و أن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، و أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما. و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله عز و جل: "و الله يدعوا إلى دار السلام" فقال إن السلام هو الله عز و جل و داره التي خلقها لأوليائه الجنة. و فيه، عن ابن شهرآشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه و زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: "و الله يدعوا إلى دار السلام" يعني به الجنة "و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" يعني ولاية علي بن أبي طالب.

أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، و في معناها روايات أخر.

10 سورة يونس - 26 - 30

لِّلّذِينَ أَحْسنُوا الْحُسنى وَ زِيَادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَترٌ وَ لا ذِلّةٌ أُولَئك أَصحَب الجَْنّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (26) وَ الّذِينَ كَسبُوا السيِّئَاتِ جَزَاءُ سيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ مّا لهَُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنّمَا أُغْشِيَت وُجُوهُهُمْ قِطعاً مِّنَ الّيْلِ مُظلِماً أُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (27) وَ يَوْمَ نحْشرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشرَكُوا مَكانَكُمْ أَنتُمْ وَ شرَكاؤُكمْ فَزَيّلْنَا بَيْنهُمْ وَ قَالَ شرَكاؤُهُم مّا كُنتُمْ إِيّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شهِيدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ (29) هُنَالِك تَبْلُوا كلّ نَفْسٍ مّا أَسلَفَت وَ رُدّوا إِلى اللّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَ ضلّ عَنهُم مّا كانُوا يَفْترُونَ (30)

انتهى.


استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الأعمال و عود الجميع إلى الله الحق، و قد تقدم إيماء إلى ذلك، و فيه إثبات توحيد الربوبية.

قوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة" إلخ، الحسنى مؤنث أحسن و المراد المثوبة الحسنى، و المراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء و الثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: "لهم أجرهم عند ربهم: آل عمران - 199 ثم ضاعفه و جعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها": الأنعام - 160 و عند ذلك كان مفاد قوله: "للذين أحسنوا الحسنى" استحقاقهم للجزاء و المثوبة الحسنى، و تكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله: "فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله": النساء: - 173.

و لو كان المراد بالحسنى في قوله: "للذين أحسنوا الحسنى" العاقبة الحسنى، و ليس فيما يعقل فوق الحسنى شيء كان معنى قوله: "و زيادة" الزيادة على ما يعقله الإنسان من الفضل الإلهي كما يشير إليه قوله: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين": الم السجدة - 17 و ما في قوله: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق - 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الإنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك.

و الرهق بفتحتين اللحوق و الغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به و غشيه، و القتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، و في توصيفهم بقوله: "و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة" محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر و هو سواد صوري و الذلة و هي سواد معنوي.

و المعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى و زيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى و زيادة لا تخطر ببالهم - و لا يغشى وجوههم سواد من قتر و لا ذلة، و أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

قوله تعالى: "و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها و ترهقهم ذلة" إلى آخر الآية، جملة "جزاء سيئة بمثلها" مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، و الجملة خبر للمبتدإ الذي هو قوله: "الذين كسبوا السيئات" و المراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة.

و قوله: "ما لهم من الله من عاصم" أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه و فيه نفي لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفي كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.

و قوله: "كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما" القطع جمع قطعة و مظلما حال من الليل، و المراد كان الليل المظلم قسم إلى قطع فأغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، و المتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.

فليس في الكلام ما يدل على ذلك.

و قوله: "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" يدل على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة و الخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره.

قوله تعالى: "و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم" إلى آخر الآية.

المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين و المشركين و شركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين و شركاءهم في هذه الآية و ما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الآية التالية: "هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت".

و قوله: "ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم" أي الزموا مكانكم أنتم و ليلزم شركاؤكم مكانهم و تفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، و قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم و هي رابطة الوهم و الحسبان التي يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم و انقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم و لم تتعلق بهم لأنهم إنما عبدوا الشركاء و هم ليسوا بشركاء.

و الدليل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: "و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون" فالكلام على ظاهره من النفي الجدي الصادق لعبادتهم إياهم، و ليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، و لا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، و لا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم و شياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، و كذا لا يلائمه قوله بعده: "هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت" إلخ، على ما سيجيء من معناه بل مرادهم نفي العبادة حقيقة بنفي حقيقة الشركة، و الاستشهاد على ذلك بشهادة الله و علمه بغفلتهم عن عبادتهم.

و العبادة التي هي اتصال ما بالمملوكية و التذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت و ارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له - و لا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود و علم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، و إنما هي صورة عبادة.

فقد تبين أن المراد بقوله: "ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم" إظهاره و إبرازه تعالى يومئذ حقيقة الأمر الذي سترت عليه الأوهام و حجبته الأهواء في الدنيا و هو أن حقيقة المولوية و مالكية زمان التدبير لله سبحانه و ليس لغيره من المولوية و الربوبية شيء حتى يصح الالتجاء إليه و تصدق عبادته.

فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقة يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء و لا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، و إنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التي كان الوهم و الهوى يصور أنها عبادة و ليست بها.

و إليه يشير أيضا قوله تعالى: "و إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون:" النحل: - 86.

و قد تبين بذلك أيضا أن قوله: "و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون" قول من شركائهم لهم على الجد و الحقيقة، و يظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا و دعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.

فإن نفي أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق و إثبات العبادة و إن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الأمر على أن ما ذكره أن المراد نفي العبادة بأمرهم و دعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.



على أن الكذب إنما لا يقع في الآخرة إذا كان عملا و كسبا و إما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم": الأنعام: - 24 و غيره من الآيات.

و كذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، و إنما كنتم تعبدون أهواءكم و شهواتكم و شياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الأهواء و الشيطان على عملهم من جهة أنه اتباع للهوى و الشيطان لا ينفي عنه صدق كونه عبادة للأصنام كما أنه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا قال تعالى: "و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم:" يونس: - 18 و قال: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه": الجاثية: - 23، و قال: "إن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين:" يس: - 60.

و من المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفي كونهم معبودين لهم لا لإثبات كون الهوى و الشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، و يستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم: "إن كنا عن عبادتكم لغافلين" لأن الأهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الأصنام و هي أجسام ميتة كذلك.

و لعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: "ما كنتم إيانا تعبدون" بتقديم المفعول على فعله، و ظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفي المعبودية عن أنفسهم و إثباته لغيرهم، ليس نفيا لأصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: "عن عبادتكم" فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.

لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: "ما كنتم إيانا تعبدون" تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله: "ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك": النحل: - 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه و أثبتوها للشركاء و الشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفي عبادة المشركين عن أنفسهم، و أما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك و إنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، و قد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لأنفسهم، و لو كانوا شاعرين بعبادتهم و عبدوهم كان لزمهم أعني الشركاء دعوى الشركة.

قوله تعالى: "فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم" إلى آخر الآية، ظهر معناه بما مر من التقرير و الفاء في قوله: "فكفى بالله يفيد التعليل كقولنا: اعبد الله فهو ربك، و هو شائع في الكلام.

قوله تعالى: "هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت" إلى آخر الآية، البلاء الاختبار، و الإشارة بقوله: "هنالك" إلى الموقف الذي ذكره بقوله: "ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم".

فذلك الموقف موقف تختبر و تمتحن كل نفس ما أسلفت و قدمت من الأعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها و تشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان، و بمشاهدة الحق من كل شيء عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، و تسقط و تنهدم جميع الأوهام، و تضل جميع الدعاوي التي يفتريها الإنسان بأوهامه و أهوائه على الحق.

فهذه الافتراءات و الدعاوي جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التي نضعها في هذه الدنيا بين الأسباب و المسببات و الاستقلال و المولوية التي نعطيها الأسباب و لا إله إلا الله و لا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الأمر، و انكشف غيم الوهم و انهتك حجاب الدعاوي ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، و بطل جميع الآلهة التي إنما أثبتها الافتراء من الإنسان، و سقطت و حبطت جميع الأعمال إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق.

فالفقرات الثلاث من الآية أعني قوله: "تبلوا كل نفس" إلخ، و قوله: "ردوا إلى الله" إلخ، و قوله: "و ضل عنهم" إلخ، كل منها تعين الأخريين على إفادة حقيقة معناها، و محصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الإلهية يومئذ ظهور عيان و أن ليس لغيره تعالى إلا الفقر و المملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة و ينهدم بنيان الأوهام.

كما يشير إلى ذلك قوله: "هنالك الولاية لله الحق: الكهف: - 44، و قوله: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار: المؤمن: - 16: "و قوله و الأمر يومئذ لله: الانفطار: - 19، إلى غير ذلك.

انتهى.

في أمالي المفيد، بإسناده إلى أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتب إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر و أمره أن يقرأه على الناس، و فيما كتب: قال الله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى و زيادة" و الحسنى هي الجنة و الزيادة هي الدنيا. و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية: فأما الحسنى فهي الجنة، و أما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الآخرة، و يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة.

الحديث.

أقول: و الروايتان ناظرتان إلى المعنى الأول الذي قدمناه في البيان المتقدم و روى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).

و في تفسير البرهان، روي في نهج البيان عن علي بن إبراهيم قال: قال الزيادة هبة الله عز و جل. و في الدر المنثور، أخرج الدارقطني و ابن مردويه عن صهيب في الآية قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزيادة النظر إلى وجه الله: أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى. "رب أرني أنظر إليك": الأعراف: - 143 في الجزء الثامن من الكتاب.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما" قال: أ ما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و كأنه (عليه السلام) يريد تفسير القطع من الليل الواقعة في الآية.

و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن السدي: في قوله: "و ردوا إلى الله مولاهم الحق" قال: نسختها قوله: "مولى الذين آمنوا - و إن الكافرين لا مولى لهم".

أقول: و هو من أسخف القول بل الآيتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى و هما الظاهر و الباطن.

10 سورة يونس - 31 - 36

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمَاءِ وَ الأَرْضِ أَمّن يَمْلِك السمْعَ وَ الأَبْصرَ وَ مَن يخْرِجُ الْحَىّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ الْحَىِّ وَ مَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتّقُونَ (31) فَذَلِكمُ اللّهُ رَبّكمُ الحَْقّ فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضلَلُ فَأَنى تُصرَفُونَ (32) كَذَلِك حَقّت كلِمَت رَبِّك عَلى الّذِينَ فَسقُوا أَنهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شرَكائكم مّن يَبْدَؤُا الخَْلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الخَْلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ فَأَنى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شرَكائكم مّن يهْدِى إِلى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يهْدِى لِلْحَقِّ أَ فَمَن يهْدِى إِلى الْحَقِّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمّن لا يهِدِّى إِلا أَن يهْدَى فَمَا لَكمْ كَيْف تحْكُمُونَ (35) وَ مَا يَتّبِعُ أَكْثرُهُمْ إِلا ظناّ إِنّ الظنّ لا يُغْنى مِنَ الحَْقِّ شيْئاً إِنّ اللّهَ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)

انتهى.


حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامتها على المشركين، و هي ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة و المتانة فالحجة الأولى تسلك من الطريق الذي يعتبره الوثنيون و عبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لأجل ما يخص به من الشأن، و ما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه و عقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، و أهل الجبال و أهل البر و أهل العلوم و الصنائع و أهل الحروب و الغارات و غيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه.

و محصل الحجة أن تدبير العالم الإنساني و سائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحدوه بالربوبية و لا يعبدوا إلا إياه.

و الحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين و ذلك أنهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، و إنما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي تتعين سعادتها و شقاوتها بالجزاء الإلهي بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الإعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلا الله سبحانه، و لا يتخذ أرباب من دونه طمعا في ثوابه و خوفا من عقابه.

و الحجة الثالثة و هي التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين و هي أن المتبع عند العقل هو الحق، و لما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، و سيأتي في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.

و لو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى و الثالثة فيذكر بعدها.

قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السماء و الأرض أمن يملك السمع و الأبصار" إلى آخر الآية.

الرزق هو العطاء الجاري، و رزقه تعالى للعالم الإنساني من السماء هو نزول الأمطار و الثلوج و نحوه، و من الأرض هو بإنباتها نباتها و تربيتها الحيوان و منهما يرتزق الإنسان، و ببركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني و المراد بملك السمع و الأبصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها فإنما هو يشخص و يميز ما يريده مما لا يريده بإعمال السمع و البصر و اللمس و الذوق و الشم فيتحرك نحو ما يريده، و يتوقف أو يفر مما يكرهه بها.

فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي، و إنما خص السمع و البصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، و الله سبحانه هو الذي يملكهما و يتصرف فيهما بالإعطاء و المنع و الزيادة و النقيصة.

و قوله: "و من يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي" الحياة بحسب النظر البادىء في الإنسان هي المبدأ الذي يظهر به العلم و القدرة في الشيء فيصدر أعماله عن العلم و القدرة ما دامت الحياة، و إذا بطلت بطل الصدور كذلك.

ثم اكتشف من طريق النظر العلمي أن ذلك لا يختص بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فإن الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - و هو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة و سكونه من غير حركة - موجود في النبات.

و كذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطي ذلك فإن جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهي أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدي إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان و النبات.

ثم الحياة و هي تقابل الموت الذي هو بطلان مبدإ الأعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشيء بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرة و موتها خلافه، و حياة العمل كونه بحيث ينتهي إلى الغرض الذي أتي به لأجله و موته خلافه، و حياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع أثرا مطلوبا و موتها خلافه، و حياة الإنسان كونه جاريا على ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية ككونه ذا عقل سليم و نفس زاكية، و لذا عد القرآن الشريف الدين حياة للإنسان لأنه يرى أن الدين الحق و هو الإسلام هو الفطرة الإلهية.

إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحي من الميت و خروج الميت من الحي يختلف.

معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة و الموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان و النبات بالكينونة من غيرها كالمني و البيضة و البذر فإن الحي كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضا بحسب البدء في حياة غير متناهية و لا طريق إلى إثباته، و خروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان و النبات بالانفصال.

و على النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الأمور غير المفيدة في باب أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة و التولد كخلق الإنسان الحي و الحيوان الحي و النبات الحي من التراب الميت و بالعكس، و كخروج الإنسان العاقل الصالح من الإنسان الذي لا عقل له و لا صلاح و بالعكس، و خروج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

و ظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها و مقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، و ذلك أن الآية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الآلهة المختلفة و هو أن العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتتة علوية و سفلية و السفلية من إنسان و حيوان و نبات و بحر و بر و أمور وراء ذلك كثيرة، و كل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى و بالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة.

و الآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى و أن ذلك يدل على أن الله سبحانه رب كل شيء وحده، فهي تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم و ما يعمكم و غيركم منه ينتهي إلى الله سبحانه فهو المدبر لأمركم و أمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.



و قد بدأت في التعداد بما يخص الإنسان أعني قوله: "قل من يرزقكم من السماء و الأرض" و ختمت بما يعمه و غيره أعني قوله: "و من يدبر الأمر" و ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: "أمن يملك السمع و الأبصار و من يخرج الحي من الميت" هو التدبير الخاص بالإنسان فيكون المراد ملك السمع و الأبصار التي لأفراد الإنسان، و كذا إخراج الحي من الإنسان من ميتة و بالعكس، و قد تبين أن الحياة المخصوصة بالإنسان هو كونه ذا نعمة العقل و الدين.

فالمراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس - و الله أعلم - إخراج الإنسان الحي بالسعادة الإنسانية من الإنسان الميت الذي لا سعادة له و بالعكس.

فالله سبحانه يلقن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: "قل" إن يقول لهم في سياق الاستفهام "من يرزقكم من السماء و الأرض" بالأمطار و الإنبات و التكوين "أمن يملك السمع و الأبصار" منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، و لولاهما لم توفقوا لذلك و فنيتم عن آخركم "و من يخرج الحي من الميت" أي كل أمر مفيد في بابه من غيره "و يخرج الميت من الحي" فيتولد الإنسان السعيد من الشقي و الشقي من السعيد "و من يدبر الأمر" في جميع الخليقة.

"فسيقولون الله" اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان و غيره لأن الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: "فقل أ فلا تتقون" ثم قال: "فذلكم الله ربكم".

قوله تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون" الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، و قد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، و توطئة و تمهيدا لقوله بعده: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال".

و قوله: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال" أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فإن الهدى في اتباعه و عبادته فإن الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال.

فتقدير الكلام: فما ذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شيء و أقيم الباقي مقامه إيجازا، و قيل: فما ذا بعد الحق إلا الضلال، و لذا قال بعضهم: إن في الآية احتباكا - و هو من المحسنات البديعية - و هو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شيء يدل عليه الآخر فإن تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل؟ و ما ذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الأول و الهدى من الثاني و بقي قوله: فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الوجه هو الذي قدمناه.

ثم تمم الآية بقوله: "فأنى تصرفون" أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.

قوله تعالى: "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون" ظاهر السياق أن الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما و هو أن الفاسقين و هم على فسقهم - لا يؤمنون و لا تنالهم الهداية الإلهية إلى الإيمان، و قد قال تعالى: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين:" المائدة: - 108.

و على هذا فالإشارة بقوله: "كذلك" إلى ما تحصل من الآية السابقة: أن المشركين صرفوا عن الحق و فسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.

فمعنى قوله: "كذلك حقت كلمة ربك" إلخ، أن الكلمة الإلهية و القضاء الحتمي الذي قضي به في الفاسقين - و هو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت و ثبتت في الخارج و أخذت مصداقها و هو أنهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي أنا لم نقض عدم هدى الفاسقين و عدم إيمانهم ظلما و لا جزافا و إنما قضينا ذلك لأنهم صرفوا عن الحق و فسقوا فوقعوا في الضلال و لا واسطة بينهما فافهم ذلك.

و في الآية دلالة على أن الأمور الضرورية و الأحكام و القوانين البينة التي تجري في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق و الباطل و لا بين الهدى و الضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإلهي، و ليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.

و ربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب و قوله: "أنهم لا يؤمنون" في موضع التعليل بتقدير لامه، و التقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا و هي وعيدهم بالعذاب و إنما حقت عليهم العذاب لأنهم لا يؤمنون.

و لا يخلو عن سقم فإن وجه الشبه غير ظاهر و لا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها و أما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر و هو أنهم لا يؤمنون.

و الحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، و قد صرفوها عن وجهها و أقاموا على ما يدعونها من ربوبية أربابهم و استحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إن تدبير كل شأن من شئون العالم العامة إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، و إنما نعبد أصنامها و تماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.

فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - و كيف لا تكون له و هو خالق الكل و مبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية و هو المستحق للعبادة لا غيره.

قوله تعالى: "قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده" إلى آخر الآية.

تلقين للاحتجاج من جهة المبدإ و المعاد فإن الذي يبدأ كل شيء ثم يعيده يستحق أن يعبده الإنسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه و ينال عظيم ثوابه يوم المعاد.

و لما كان المشركون - و هم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى جواب سؤاله بنفسه و قال: "قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون" و إلى متى تصرفون عن الحق.

و ليس اعتماد الآية على مسألة الإبداء و الإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة و لا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، و من طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل و غير ذلك و قد نفى سبحانه الريب عن البعث و القيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.

و الحجة - كما تقدم الإيماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة.

قوله تعالى: "قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق" إلى آخر الآية، يهدي للحق و إلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، و قد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: "أ و لم يهد لهم:" الم السجدة: - 26، و قوله: "يهدي للتي هي أقوم:" إسراء: - 9 إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: "يهدي للحق للتعليل ليس بشيء.



لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحجة و هي ثالثة الحجج، و هي حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، و توضيحها أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية و به يحكم عقله أن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق حتى إنه إن انحرف في شيء من أعماله عن الحق و اتبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فإنما اتبعه لحسبانه إياه حقا و التباس الأمر عليه، و لذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع على الإطلاق و من غير قيد أو شرط.

و الهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، و من الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه أو يهدي إلى غيره لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري.

و قد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ و من البين أن لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أ كانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان و الأصنام أم كانوا من الإحياء كالملائكة و أرباب الأنواع و الجن و الطواغيت من فرعون و نمرود و غيرهما لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا.

و إذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنهم لا يجيبون، و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - أعني الهداية إلى الحق - بإثباتها لله سبحانه فقيل: "قل الله يهدي للحق" فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شيء إلى مقاصده التكوينية و الأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: طه - 50 و قوله الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:" الأعلى: - 3 و هو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة و يدعوه إلى الجنة و المغفرة بإذنه بإرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع، و أمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.

و قد مر في تفسير قوله تعالى: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين:" آل عمران: - 60 إن الحق من الاعتقاد و القول و الفعل إنما يكون حقا بمطابقة السنة الجارية في الكون للذي هو فعله فالحق بالحقيقة إنما يكون حقا بمشيته و إرادته.

و إذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق، و أن الله سبحانه يهدي إلى الحق سألهم بقوله: "أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى"؟ أن يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى و اتباع شركائهم و هو تعالى يهدي إلى الحق و هم لا يهدون و لا يهتدون إلا بغيرهم، و من المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدي أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، و المشركون يحكمون بالعكس، و لذلك لامهم و وبخهم بقوله: "فما لكم كيف تحكمون"؟.

و التعبير في الترجيح في قوله: "أحق أن يتبع بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعين و الانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير و اتباعهم لا نصيب له من الحق إنما هو بالنظر إلى مقام الترجيح و ليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم و تهييج لجهالتهم.

و قد أبدع تعالى في قوله "أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى" و القراءة الدائرة: "لا يهدي" بكسر الهاء و تشديد الدال و أصله يهتدي، و ظاهر قوله: "لا يهدي إلا أن يهدى" و قد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدي بغيره لا بنفسه.

و الكلام قد قوبل فيه قوله: "يهدي إلى الحق" بقوله: "من لا يهدي" مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، و عدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير و عدم الهداية إلى الحق، و كذا الملازمة بين الهداية إلى الحق و الاهتداء بالذات فالذي يهدي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره و الذي يهتدي بغيره ليس يهدي إلى الحق أبدا.

هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه و هو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها و نداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق و دعا إليها و إن لم يعتقد بها أو اعتقد و لم يعمل بها أو عمل و لم يتحقق بمعناها، و سواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.

بل الهداية إلى الحق أعني الإيصال إلى صريح الحق و متن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه و بينه فاهتدى بالله و هدى غيره بأمر الله سبحانه، و قد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: "و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن:" الآية البقرة: - 124.

و قد تبين بما قدمناه في معنى الآية أمور: أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهي إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.

و ثانيها: أن المراد بقوله: "من لا يهدي إلا أن يهدى" من لا يهتدي بنفسه، و هذا أعم من أن يكون ممن يهتدي بغيره أو يكون ممن لا يهتدي أصلا، لا بنفسه و لا بغيره كالأوثان و الأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، و ذلك أن قوله: "إلا أن يهدى" استثناء من قوله: "من لا يهدي" الأعم من أن لا يهتدي أصلا أو يهتدي بغيره و المأخوذ في قوله: "أن يهدى" فعل دخلت عليه أن المصدرية المأولة إلى المصدر، و الجملة الفعلية المأولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: "أن تصوموا خير لكم:" البقرة: - 184 فلا يدل على الوقوع و بين نحو قوله: "إن كنا عن عبادتكم لغافلين:" يونس: - 29 فيدل على الوقوع، و يقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، و أن تضرب زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه.

فقوله: "من لا يهدي إلا أن يهدى" معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، و من المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، و أما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدي فافهم ذلك.

و للمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة: منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم و عزيرا و الملائكة (عليهم السلام)، و هؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله و وحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:" الأنبياء: - 73.

و فيه: أن محصله أن المعنى لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى فيهدي غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، و قد اختل عليه معنى الآية من أصله فإن من لا يهتدي إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدي إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟.

على أن ما ذكره لا ينطبق على الأصنام التي هي مورد الاحتجاج في الآية فإنها لا تقبل الهداية من أصلها، و قد ذكر المسيح و عزيرا و هما ممن قدسته النصارى و اليهود و ليس وجه الكلام في الآية إليهم و إن شملتهما و غيرهما الآية بحسب عموم الملاك.

و منها: أن الاستثناء منقطع و المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية أصلا فحسب، و المعنى: أم من لا يهتدي أصلا كالأصنام إلا أن يهديه الله فيهتدي حينئذ.



و فيه: أنه لا يفي بتوجيه المقابلة التي بين قوله: "من يهدي إلى الحق" و قوله: "من لا يهدي" فإن الهداية إلى الحق و الاهتداء إليه لا يتقابلان إلا أن يئول المعنى إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا إلا أن يهديه الله فيهتدي فيهدي غيره، و يرد عليه أنه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الأصنام ممن لا يهتدي أصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدي أصلا لا بنفسه و لا بغيره، و من لا يهتدي بنفسه و يهتدي بغيره كالملائكة مثلا، و يرد عليه ما ورد على الوجه السابق.

و منها: أن المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية و "إلا" بمعنى حتى و المعنى لا يهتدي و لا يقبل الهداية حتى يهدى.

و فيه: أن الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا حتى يهدى إلى الحق، و يعود الاستثناء مستدركا لا يتعلق به غرض في الكلام.

مضافا إلى أن مجيء إلا بمعنى حتى غير ثابت و على تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام.

و منها: أن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن ممن يعبدون من دون الله و هم يقبلون الهداية من الله و إن لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فإنهم و إن لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية و لو هدوا إلى الحق لهدوا إليه.

و فيه: أن الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، و القول بأن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد.

و ثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الإيصال إليه إنما هي شأن من يهتدي بنفسه أي لا واسطة بينه و بين الله سبحانه في أمر الهداية إما من بادىء أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالأنبياء و الأوصياء من الأئمة، و أما الهداية بمعنى إراءة الطريق و وصف السبيل فلا يختص به تعالى و لا بالأئمة من الأنبياء و الأوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: "و قال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد:" المؤمن: - 38 و قال: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا:" الإنسان: - 3.

و أما قوله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو إمام: "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء:" القصص: - 56 و غيره من الآيات فهي مسوقة لبيان الإصالة و التبع كما في آيات التوفي و علم الغيب و نحو ذلك مما سيقت لبيان أن الله سبحانه هو المالك لها بالذات و الحقيقة، و غيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو عرضيا، و يكون سببا لها بإذن الله، قال تعالى: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:" الأنبياء: - 73 و في الأحاديث إشارة إلى ذلك و أن الهداية إلى الحق شأن النبي و أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم.

و قوله في ذيل الآية: "فما لكم كيف تحكمون" استفهام للتعجيب استغرابا لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدي و لا يهدي إلى الحق.

قوله تعالى: "و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا" أغنى يغني يتعدى بمن و عن كلتيهما و قد جاء في الكلام الإلهي بكل من الوجهين فعدي بمن كما في الآية، و بعن كما في قوله: "ما أغنى عني ماليه:" الحاقة: - 29.

و إنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لأن الأقل منهم و هم أئمة الضلالة على يقين من الحق، و لم يؤثروا عليه الباطل و يدعوا إليه إلا بغيا كما قال تعالى: "و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم:" البقرة: - 213.

و أما الأكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم.

و قوله: "إن الله عليم بما يفعلون" تعليل لقوله: "و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا" و المعنى أن الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنها اتباع للظن.

10 سورة يونس - 37 - 45

وَ مَا كانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْترَى مِن دُونِ اللّهِ وَ لَكِن تَصدِيقَ الّذِى بَينَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتَبِ لا رَيْب فِيهِ مِن رّب الْعَلَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْترَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسورَةٍ مِّثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ استَطعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (38) بَلْ كَذّبُوا بِمَا لَمْ يحِيطوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِك كَذّب الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظرْ كَيْف كانَ عَقِبَةُ الظلِمِينَ (39) وَ مِنهُم مّن يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنهُم مّن لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبّك أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِن كَذّبُوك فَقُل لى عَمَلى وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِىءٌ مِّمّا تَعْمَلُونَ (41) وَ مِنهُم مّن يَستَمِعُونَ إِلَيْك أَ فَأَنت تُسمِعُ الصمّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنهُم مّن يَنظرُ إِلَيْك أَ فَأَنت تهْدِى الْعُمْىَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنّ اللّهَ لا يَظلِمُ النّاس شيْئاً وَ لَكِنّ النّاس أَنفُسهُمْ يَظلِمُونَ (44) وَ يَوْمَ يحْشرُهُمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُوا إِلا ساعَةً مِّنَ النهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقَاءِ اللّهِ وَ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ (45)

انتهى.


رجوع إلى أمر القرآن و أنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه و تلقين الحجة في ذلك، و للآيات اتصال بما تقدمها من قوله: "قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق" الآية، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته الناس إلى دينه الذي يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه و الكتب التي أنزلها إليهم ككتب نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذه الآيات تذكرها و تقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، و لذلك أشير إليها معه حيث قيل: "و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين".

و في آخر الآيات الرجوع إلى ذكر الحشر و هو من مقاصد السورة كما تقدم.

قوله تعالى: "و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" إلى آخر الآية، قد تقدمت الإشارة إلى أن نفي صفة أو معنى بنفي الكون يفيد نفي الشأن و الاستعداد، و هو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا ما كان زيد ليقوم، و قولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد و لا استعد له استعدادا، و الثاني ينفي القيام عنه فحسب، و في القرآن منه شيء كثير كقوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل:" يونس: - 74 و قوله: "ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان:" الشورى: - 53: "و قوله و ما كان الله ليظلمهم:" العنكبوت: - 40.

فقوله: "و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" نفي لشأنية الافتراء عن القرآن كما قيل و هو أبلغ من نفي فعليته، و المعنى ليس من شأن هذا القرآن و لا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه.

و قوله: "و لكن تصديق الذي بين يديه" أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب و هو التوراة و الإنجيل كما حكى عن المسيح قوله: "يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة:" الصف: - 6، و إنما وصفهما بما بين يديه مع تقدمهما لأن هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الأقرب منها زمانا إليه و هو التوراة و الإنجيل موصوفا بأنه بين يديه.

و ربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الأمور كالبعث و النشور و الحساب و الجزاء، و ليس بشيء.

و قوله: "و تفصيل الكتاب" عطف على "تصديق" و المراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه و التفصيل إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالإيضاح و الشرح.

و فيه دلالة على أن الدين الإلهي المنزل على أنبيائه (عليهم السلام) واحد لا اختلاف فيه إلا بالإجمال و التفصيل، و القرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام:" آل عمران: - 19.



و إن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا كما قال تعالى: "و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه:" المائدة: - 48 و قوله: "لا ريب فيه من رب العالمين" أي لا ريب فيه هو من رب العالمين، و الجملة الثانية كالتعليل للأولى.

قوله تعالى: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله" إلى آخر الآية، أم منقطعة و المعنى بل يقولون افتراه، و الضمير للقرآن، و اتصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه و القليل.

و المعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى و ادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فإنه لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا و جاز أن يؤتى بمثله و في ذلك تحد ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة.

و من هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء بعض القرآن دون بعض بل جميعه، و هو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون أنه افتراه، و إنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه.

و لا يصغي إلى قول من يقول: إن التنكير في "سورة" للتعظيم أو للتنويع و المراد سورة من السور يذكر فيها قصص الأنبياء و أخبار وعيد الدنيا و الآخرة لأن الافتراء إنما يتهم به الإخبار دون الإنشاء.

أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على أصول الدين و الوعد و الوعيد.

و ذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، و لا يختلف في ذلك ما يتضمن الإخبار و ما يتضمن الإنشاء، و ما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى الآية الواحدة، و الرمي بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لأنه تكذيب للنسبة المتعلقة بالجميع.

و ثانيا: أن الآية لا تتحدى ببلاغة القرآن و فصاحته فحسب بل السياق في هذه الآية و في سائر الآيات التي وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال و نعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الإلهية، و جوامع الشرائع من الأحكام العبادية و القوانين المدنية السياسية و الاقتصادية و القضائية، و الأخلاق الكريمة و الآداب الحسنة، و قصص الأنبياء و الأمم الماضية، و الملاحم و الأخبار الغيبية، و وصف الملائكة و الجن و السماء و الأرض و الحكمة و الموعظة و الوعد و الوعيد، و أخبار البدء و العود، و قوة الحجة و جذالة البيان و النور و الهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته و فصاحته موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدي البشر.

و لقد قصر الباحثون من علماء الصدر الأول و من يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته و فصاحته و كتبوا في ذلك كتبا و ألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر في حقائقه و التعمق في معارفه و أنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق يستوي فيه البدوي و الحضري و العامي و الخاصي و الجاهل و العالم، و أن الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى و لا قيمة لما وراء ذلك.

و قد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور و رحمة و هدى و حكمة و موعظة و برهان و تبيان لكل شيء و تفصيل الكتاب و شفاء للمؤمنين و قول فصل و ما هو بالهزل، و أنه مواقع للنجوم، و أنه لا اختلاف فيه و لم يصرح ببلاغته بعينها.



و أطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله و لو دعوا من استطاعوا من دون الله، و لو اجتمع على ذلك الجن و الإنس و كان بعضهم لبعض ظهيرا و لم يقيد الكلام بالبلاغة و الفصاحة.

و قد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: "و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:" البقرة: - 23 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله" إلى آخر الآية.

الآية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به و قولهم إنه افتراء و هو أنهم كذبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، و لم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذي كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه.

هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: "و لما يأتهم تأويله" يشير إلى يوم القيامة كما يؤيده قوله تعالى: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل:" الأعراف - 53.

و هذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: "ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله:" آل عمران - 7 في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، و أن لجميع القرآن و ما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.

و يؤيد ذلك أيضا قوله بعد: "كذلك كذب الذين من قبلهم" فإن التشبيه يعطي أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدعوة الدينية من معارف و أحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن و أحكامه تأويلا من غير أن يكون من قبيل المفاهيم و معاني الألفاظ كما توهموه.

فمحصل المعنى أن هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين و الكفار من الأمم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها و أحكامها أمور لم يحيطوا بها علما حتى يوقنوا بها و يصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها و لما يأتهم اليوم الذي يظهر لهم فيه تأويلها و حقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الإيقان و التصديق بها و هو يوم القيامة الذي يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء كذبوا و ظلموا كما كذب الذين من قبلهم و ظلموا فانظر كيف كان عاقبة أولئك الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء.

هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الآية، و للمفسرين فيها أقوال شتى مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها و قد استقصينا أقوالهم سابقا.

قوله تعالى: "و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين" قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن و من لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم مفسدون فتحصل من ذلك أن الذين يكذبون بما في القرآن إنما كذبوا به لأنهم مفسدون.

فالآية لبيان حالهم الذي هم عليه من إيمان البعض و كفر البعض و أن الكفر ناش من رذيلة الإفساد.



و أما ما ذكره بعضهم في تفسير الآية: أن المراد أن قومك لن يكونوا كأولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن و قسم لا يؤمن به أبدا فهو معنى خارج عن مدلول الآية البتة.

قوله تعالى: "و إن كذبوك فقل لي عملي و لكم عملكم" إلى آخر الآية، تلقين للتبري على تقدير تكذيبهم له، و هو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لإحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا و إلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم.

و قوله: "أنتم بريئون مما أعمل و أنا بريء مما تعملون" تفسير لقوله: "لي عملي و لكم عملكم".

قوله تعالى: "و منهم من يستمعون إليك أ فأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون" الاستفهام للإنكار، و قوله: "و لو كانوا لا يعقلون" قرينة على أن المراد بنفي السمع نفي ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع و هو المسمى بسمع القلب.

و المعنى: و منهم الذين يستمعون إليك و هم صم لا سمع لقلوبهم، و لست أنت قادرا على إسماعهم و لا سمع لهم.

قوله تعالى: "و منهم من ينظر إليك" إلى آخر الآية.

الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها.

قوله تعالى: "إن الله لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون" مسوق للإشارة إلى أن ما ابتلي به هؤلاء المحرومون من السمع و البصر من جهة الصمم و العمى من آثار ظلمهم أنفسهم من غير أن يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع و البصر عنهم فإنهم إنما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم.

قوله تعالى: "و يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم" "إلخ" ظاهر الآية أن يكون "يوم" ظرفا متعلقا بقوله: "قد خسر" إلخ، و قوله: "كأن لم يلبثوا إلا ساعة" إلخ، حالا من ضمير الجمع في "يحشرهم" و قوله: "يتعارفون بينهم" حالا ثانيا مبينا للحال الأول.

و المعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حال كونهم يستقلون هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار و هم يتعارفون بينهم من غير أن ينكر بعضهم بعضا أو ينساه.

و قد ذكر بعضهم أن قوله: "كأن لم يلبثوا" صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله: "يحشرهم"، و ذكر بعض آخر أن قوله: "يتعارفون بينهم" صفة لساعة، و هما من الاحتمالات البعيدة التي لا يساعد عليها اللفظ.

و كيف كان ففي الآية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة و انعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين.

فكأنها تقول: إنهم و إن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغي لهم أن يغتروا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا و يستكثروا الأمد و يستبطئوا الأجل فإنهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، و لا اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.

فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذيبهم بلقاء الله ظهور عيان و ذلك بإتيان تأويل الدين و انكشاف حقيقة الأمر و ظهور نور التوحيد على ما كان، و وضوح أن الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه.

10 سورة يونس - 46 - 56

وَ إِمّا نُرِيَنّك بَعْض الّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّك فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثمّ اللّهُ شهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَ لِكلِّ أُمّةٍ رّسولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسولُهُمْ قُضىَ بَيْنَهُم بِالْقِسطِ وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (48) قُل لا أَمْلِك لِنَفْسى ضرّا وَ لا نَفْعاً إِلا مَا شاءَ اللّهُ لِكلِّ أُمّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَستَئْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَستَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَتاً أَوْ نهَاراً مّا ذَا يَستَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِ ءَالْئََنَ وَ قَدْ كُنتُم بِهِ تَستَعْجِلُونَ (51) ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظلَمُوا ذُوقُوا عَذَاب الخُْلْدِ هَلْ تجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَ يَستَنبِئُونَك أَ حَقّ هُوَ قُلْ إِى وَ رَبى إِنّهُ لَحَقّ وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (53) وَ لَوْ أَنّ لِكلِّ نَفْسٍ ظلَمَت مَا فى الأَرْضِ لافْتَدَت بِهِ وَ أَسرّوا النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذَاب وَ قُضىَ بَيْنَهُم بِالْقِسطِ وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (54) أَلا إِنّ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ أَلا إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَ لَكِنّ أَكْثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْىِ وَ يُمِيت وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

انتهى.


الآيات تنبىء عن سنة إلهية جارية، و هي أن الله سبحانه قضى قضاء حق لا يرد و لا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه و بينهم حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم و إنجاء المؤمنين و إهلاك المكذبين.

ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أن هذه الأمة يجري فيهم ما جرى في الأمم الماضية من السنة الإلهية من غير أن يستثنوا من كليتها غير أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم و للأمة عمرا و أجلا كالفرد ينتهي إليه أمد حياتها، و أما وقت النزول فقد أبهم إبهاما.

و قد قدمنا في قوله تعالى: "و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون:" الأنفال: - 33 أن الآية لا تخلو عن إشعار بأن الأمة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فينزل عليهم العذاب، و قد تقدم أن الشواهد قائمة على كون الآية مدنية فهي بعد هذه الآيات المكية من قبيل الإيضاح في الجملة بعد الإبهام و من ملاحم القرآن.

و قد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الآيات على عذاب الآخرة، و سياق الآيات يأبى ذلك.

قوله تعالى: "و إما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون" إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما و النون الثقيلة للتأكيد، و الترديد بين الإرادة و التوفي للتسوية و استيعاب التقادير، و المعنى إلينا مرجعهم على أي تقدير، و لفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان و الآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الذي ستفصله الآيات التالية لهذه الآية.

و المعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم إلينا و نحن شاهدون لأفعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنا و لا ننساها.

و الالتفات من قوله: "نرينك إلى قوله: "ثم الله شهيد" للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته.

قوله تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون" قضاء إلهي منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الأمم رسولا يحمل رسالة الله إليهم و يبلغها إياهم، و ثانيهما: أنه إذا جاءهم و بلغهم رسالته فاختلفوا من مصدق له و مكذب فإن الله يقضي و يحكم بينهم بالقسط و العدل من غير أن يظلمهم.

هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى.

و منه يظهر أن قوله: "فإذا جاء رسولهم" فيه إيجاز بالحذف و الإضمار و التقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم و بلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب و التصديق، و يدل على ذلك قوله: "قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون" فإن القضاء إنما يكون فيما اختلف فيه، و لذا كان السؤال عن القسط و عدم الظلم في القضاء في مورد العذاب و الضرار أسبق إلى الذهن.



و قد تقدم الفرق بين الرسول و النبي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب، و هذا القضاء المذكور في الآية من خواص الرسالة دون النبوة.

قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، و هو القضاء بينهم في الدنيا، و السائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: "قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل" إلخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه.

قوله تعالى: "قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل" إلى آخر الآية، لما كان قولهم: "متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضي بيننا و بينك فيهلكنا و ينجيك و المؤمنين بك فيصفو لكم الجو و يكون لكم الأرض و تخلصون من شرنا؟ فهلا عجل لكم ذلك و ذلك - أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا و استهزاء كما تدل على استعجالهم الآيات التالية و هذا نظير قولهم: "لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين:" الحجر: - 7.

لقن سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها و لا نفعا حتى يجلبه إليها و يستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن يملكه من ضر و نفع فالأمر إلى الله سبحانه جميعا، و اقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء و العذاب من الجهل.

ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا بالإعراض عن تعيين الوقت و الإقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الأول فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، و أمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو، و قد تقدم قوله في آيات السورة: "و يقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين:" الآية - 20 من السورة.

و أما الثاني أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة و تندفع بها الشبهة، و هي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم و لا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، و إذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه و لا ساعة، و هو قوله تعالى: "لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون" أي و أنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة و لا تستقدمون.

فإذا فقهوا هذا الكلام و تدبروه بأن لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها و لحياتها من البقاء و العمر ما قضى به الله سبحانه لها و لها، من السعادة و الشقاوة و التكليف و الرشد و الغي و الثواب و العقاب نصيبها، و هي مما اعتنى بها التدبير الإلهي نظير الفرد من الإنسان حذو النعل بالنعل.

و يدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ و يفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة و مساكنهم الخالية، و قد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، و عاد قوم هود، و ثمود قوم صالح، و كلدة قوم إبراهيم و أهل سدوم و سائر المؤتفكات قوم لوط و القبط قوم فرعون و غيرهم.



فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم و خمدت أنفاسهم و لم ينقرضوا إلا بعذاب و هلاك، و لم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات و لم يأت قوما منهم رسوله إلا و اختلفوا في الحق الذي جاءهم فمنهم من آمن به و منهم من كذب به و هم الأكثرون.

فهذا يدلهم على أن هذه الأمة - و قد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضي الله بين رسوله و بينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم و إن الله لبالمرصاد.

و على الباحث المتدبر أن يتنبه لأن الله سبحانه و إن بدأ في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، و من أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم و بين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة فهم في أمن من عذاب الله و إن انهمكوا في كل إثم و خطيئة و هتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى و قد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به:" النساء: - 123.

و ربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الأمة مغفور لهم محسنهم و مسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن و لا في الآخرة إلا المغفرة و الجنة.

و لا يبقى على هذا للملة و الشريعة إلا أنها تكاليف و أحكام جزافية لعب بها رب العالمين و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

فهذا كله من الإعراض عن ذكر الله و هجر كتابه، و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون" إلى آخر الآيتين، البيات و التبييت الإتيان ليلا و يغلب في الشر كقصد العدو عدوه ليلا.

و لما كان قولهم: "متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" في معنى استعجال آية العذاب التي يلجئهم إلى الإيمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم و ذمهم من الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، و هو عذاب فجائي من الحزم أن يكون الإنسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "قل أ رأيتم" و أخبروني "إن أتاكم عذابه بياتا" ليلا "أو نهارا" فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله "ما ذا يستعجل منه" من العذاب "المجرمون" أي ما ذا تستعجلون منه و أنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم.

ففي قوله: "ما ذا يستعجل منه المجرمون" التفات من الخطاب إلى الغيبة و كان النكتة فيه رعاية حالهم أن لا يشافهوا بصريح الشر و ليكون تعرضا لملاك نزول العذاب عليهم و هو إجرامهم.

و وبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه و هو حين نزول العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الإيمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الإنسان عند إشراف الهلكة، و من جهة أخرى الإيمان توبة و التوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب و الإشراف على الموت.



فقال تعالى: "أ ثم إذا ما وقع" العذاب "آمنتم به" أي بالقرآن أو بالدين أو بالله "الآن" أي أ تؤمنون به في هذا الآن و الوقت "و قد كنتم به تستعجلون" و كان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب و تحقيره بالاستهزاء به.

قوله تعالى: "ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون" الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: "لكل أمة أجل" إلخ، فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم و إهلاكه إياهم، و الآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع و الهلاك: ذوقوا عذاب الخلد و هو عذاب الآخرة و لا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها و ذنوبكم التي تحملونها و الخطاب تكويني كني به عن شمول العذاب لهم و نيله إياهم، و على هذا المعنى فالآيتان: "قل أ رأيتم - إلى قوله - تستعجلون" واردتان مورد الاعتراض.

قوله تعالى: "و يستنبؤنك أ حق هو قل إي و ربي إنه لحق و ما أنتم بمعجزين" إلى آخر الآية - يستنبؤنك - أي يستخبرونك و قوله: "أ حق هو" بيان له، و الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، و المآل واحد، و قد أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، و بعبارة أخرى أن يجيبهم بوجود المقتضي و عدم المانع.

فقوله: "قل إي و ربي إنه لحق" إثبات لتحققه و قد أكد الكلام بالقسم و الجملة الاسمية و إن و اللام، و قوله: "و ما أنتم بمعجزين" بيان أنه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم.

قوله تعالى: "و لو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به" إلى آخر الآية، إشارة إلى شدة العذاب و أهمية التخلص منه عندهم، و إسرار الندامة إخفاؤها و كتمانها خشية الشماتة و نحوها، و الظاهر أن المراد بالقضاء و العذاب في الآية هو القضاء و العذاب الدنيويان لا غير.

قوله تعالى: "ألا إن لله ما في السموات و الأرض ألا إن وعد الله حق و لكن أكثرهم لا يعلمون" الآية و ما بعدها بيان برهاني على حقية ما ذكره من كونه حقا واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شيء مما في السماوات و الأرض إذا كان مملوكا لله وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، و لم يكن لغيره شيء من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شيء كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، و إذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له من غير أن يتغير عن وعده بصارف.

فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدي إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه باطل و لكن أكثرهم و هم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الإمعان في هذه الأبحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم و انسلاكهم في سلك العامة.



فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الإنسان فإنهم يجدون الواحد من عظمائهم و قد أوتي ملكا و سلطانا و من كل ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم و يسعى و لا يقع ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى أمره، و وعده إلى وعده.

على أن الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج و أن لا ينطبق.

مع أن حقيقة معنى ملكه و سلطانه و سعة قدرته و نفوذ إرادته أن الناس يعتقدون له ذلك و يتصورونه عظيما فيهم و لو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الأسباب سلبته ما عنده من ملك و قدرة، و معنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الأسباب الكونية ساعدته على ذلك و وافقته على ما أحبه، و لو لم تساعده و لم توافقه كلية الأسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت و الحياة و الشباب و الشيب و الصحة و المرض و أمور أخرى كثيرة فليس له من الأمر شيء.

لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شيء قائم به متكون متحول بأمره منوط بإذنه، و ما تصرف فيه من شيء فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شيء إلا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته شيء فيرجع إلى غيره و لا غير هناك يرجع نحوه و ينتسب إليه؟.

و قوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب و هو متن الخارج، و العين الخارجي لا كذب فيه؟ و إنما الكذب و الخطأ شأن المفاهيم الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، و كيف يكون وعده باطلا و وعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، و قد وجه كلية الأسباب إليه و لا مرد له؟.

فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في السماوات و الأرض، و أن لازم ذلك أن وعد الله حق، و أن الارتياب فيه إنما هو من الجهل بمقامه تعالى.

و لذلك قال تعالى أولا: "ألا إن لله ما في السماوات و الأرض" ثم عقبه بقوله كالاستنتاج منه: "ألا إن وعد الله حق" ثم استدرك فقال: "و لكن أكثرهم لا يعلمون" ثم بين ملكه بقوله: "هو يحيي و يميت" إلخ في الآية التالية.

قوله تعالى: "هو يحيي و يميت و إليه ترجعون" احتجاج على ما تقدم في الآية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الإنسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا من حياة و موت و رجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.

انتهى.

في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "قل أ رأيتم إن أتاكم عذابه بياتا" يعني ليلا" أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون" فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة و هم يجحدون نزول العذاب عليهم.

أقول: و الرواية تتأيد بالآيات و تؤيد ما أسلفناه من البيان.

و فيه، بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل، عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله تبارك و تعالى: "و أسروا الندامة - لما رأوا العذاب" قال: قيل له ما ينفعهم أسرار الندامة و هم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء.

<<        الفهرس        >>