جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


11 سورة هود - 17 - 24

أَ فَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِّن رّبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِّنْهُ وَ مِن قَبْلِهِ كِتَب مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً أُولَئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَك فى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنّهُ الحَْقّ مِن رّبِّك وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كذِباً أُولَئك يُعْرَضونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الأَشهَدُ هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلى الظلِمِينَ (18) الّذِينَ يَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ وَ يَبْغُونهَا عِوَجاً وَ هُم بِالاَخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ (19) أُولَئك لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فى الأَرْضِ وَ مَا كانَ لهَُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضعَف لهَُمُ الْعَذَاب مَا كانُوا يَستَطِيعُونَ السمْعَ وَ مَا كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئك الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ وَ ضلّ عَنهُم مّا كانُوا يَفْترُونَ (21) لا جَرَمَ أَنهُمْ فى الاَخِرَةِ هُمُ الأَخْسرُونَ (22) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبهِمْ أُولَئك أَصحَب الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَينِ كالأَعْمَى وَ الأَصمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السمِيع هَلْ يَستَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكّرُونَ (24)

بيان

ظاهر الآيات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقوية إيمانه بكتاب الله و تأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله سبحانه فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثم أمره أن يطيب نفسا و يثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق و ليس بمفتر فلا يستوحش من إعراض الأكثرين و لا يرتاب.

قوله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة" الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذي هو في محل الاحتجاج على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و "من" مبتدأ خبره محذوف و التقدير: كغيره، أو ما يؤدي معناه، و الدليل عليه قوله تلوا: "أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده".

و الاستفهام إنكاري و المعنى: ليس من كان كذا و كذا كغيره ممن ليس كذلك و أنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن.

و قوله: "على بينة من ربه" البينة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة غير أن الأمور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها و يتعلق بها كالنور الذي هو بين ظاهر و يظهر به غيره، و لذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة و الآية، و يقال للشاهد على دعوى المدعي بينة.

و قد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله: "ليهلك من هلك عن بينة:" الأنفال: - 42 و سمى آيته بينة كما في قوله: "قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية:" الأعراف: - 73 و سمى البصيرة الخاصة الإلهية التي أوتيها الأنبياء بينة كما في قوله حكاية عن نوح (عليه السلام): "يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده:" هود: - 28 أو مطلق البصيرة الإلهية كما هو ظاهر قوله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم:" سورة محمد: - 14 و قد قال تعالى في معناه: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:" الأنعام: - 122.

و الظاهر أن المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الأخير العام بقرينة قوله بعد: "أولئك يؤمنون به" و إن كان المراد به بحسب المورد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الكلام مسوق ليتفرع عليه قوله: "فلا تك في مرية منه".

فالمراد بها البصيرة الإلهية التي أوتيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نفس القرآن النازل عليه فإنه لا يحسن ظاهرا أن يتفرع عليه قوله: "فلا تك في مرية منه" و هو ظاهر و لا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله: "قل إني على بينة من ربي و كذبتم به:" الأنعام: - 57 فإن المقام غير المقام.

و بما مر يظهر أن قول من يقول: إن المراد بمن كان إلخ، النبي خاصة إرادة استعمالية ليس في محله و إنما هو مراد بحسب انطباق المورد.



و كذا قول من قال: إن المراد به المؤمنون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا دليل على التخصيص.

و يظهر أيضا فساد القول بأن المراد بالبينة هو القرآن، و كذا القول بأنها حجة العقل و أضيفت إلى الرب تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية و النقلية.

و وجه فساده أنه لا دليل على التخصيص و لا تقاس البينة القائمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ناحيته تعالى بالتعريف الإلهي القائم لنا من ناحية العقول.

و قوله تعالى: "و يتلوه شاهد منه" المراد بالشهادة تأدية الشهادة التي تفيد صحة الأمر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقية القرآن و هو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل.

و الظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقية القرآن و كان على بصيرة إلهية من أمره فآمن به عن بصيرته و شهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد و الرسالة فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش و ريب التفرد فإن الإنسان إذا أذعن بأمر و تفرد فيه ربما أوحشه التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به أما إذا قال به غيره من الناس و أيد نظره في ذلك زالت عنه الوحشة و قوي قلبه و ارتبط جأشه و قد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله: "قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم:" الأحقاف: - 10.

و على هذا فقوله: "يتلوه" من التلو لا من التلاوة، و الضمير فيه راجع إلى "من" أو إلى "بينة" باعتبار أنه نور أو دليل، و مآل الوجهين واحد فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه و الضمير في قوله: "منه" راجع إلى "من" دون قوله: "ربه" و عدم رجوعه إلى البينة ظاهر و محصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر و لحق به من هو من نفسه فشهد على صحة أمره و استقامته.

و على هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين أن المراد بالشاهد علي (عليه السلام) إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية.

و للقوم في معنى الجملة أقوال شتى فقيل: إن "يتلو" من التلاوة كما قيل: إنه من التلو، و قيل: إن الضمير في "يتلوه" راجع إلى "بينة" كما قيل: إنه راجع إلى "من".

و قيل: المراد بالشاهد القرآن: و قيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لعله مأخوذ من قوله تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون:" النساء: - 166، و قيل: الشاهد ملك يسدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يحفظه القرآن، و لعله لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة.

و قيل: الشاهد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد قال تعالى: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا:" الأحزاب: 45، و قيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه.

و قيل: الشاهد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، و قد وردت به عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة.

و التأمل في سياق الآية و ظاهر جملها يكفي مئونة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها و المناقشة فيها.



و قوله تعالى: "و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة" الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير "يتلوه" و الجملة حال بعد حال أي أ فمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله و الحال أن معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة و الحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما و رحمة أو قبل بينته التي منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف و الشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما فليس هو أو ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل و نظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى.

و من هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى و هو التوراة بالإمام و الرحمة فإنه مشتمل على معارف حقة و شريعة إلهية يؤتم به في ذلك و يتنعم بنعمته، و قد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال: "قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم - إلى أن قال - و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه و إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين:" الأحقاف: - 12.

و الآيات - كما ترى - أقرب الآيات مضمونا من الآية المبحوث عنها تذكر أولا: أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية ثم تذكر شهادة الشاهد من بني إسرائيل عليه و تأيده بها ثم تذكر أنه مسبوق فيما يتضمنه من المعارف و الشرائع بكتاب موسى الذي كان إماما و رحمة يأتم به الناس و يهتدون، و طريقا مسلوكا مجربا، و القرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لإنذار الظالمين و تبشير المحسنين.

و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: "إماما و رحمة" حال من كتاب موسى لا من قوله: "شاهد منه" على ما ذكره بعضهم.

قوله تعالى: "أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" المشار إليهم بقوله: "أولئك" بناء على ما تقدم من معنى صدر الآية هم الذين كانوا على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: "أ فمن كان" إلخ، و أما إرجاع الإشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم.

و كذا الضمير في قوله: "به" راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى أو أمر قامت عليه البينة، و أما إرجاعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائم ما قررناه من معنى الآية فإن في صدر الآية بيان حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو العموم حتى يتفرع عليه قوله: "فلا تك في مرية منه" كأنه قيل: إنك على بينة كذا و معك شاهد و قبلك كتاب موسى، و من كان على هذه الصفة يؤمن بما أوتي من كتاب الله، و لا يصح أن يقال: و من كان على هذه الصفة يؤمن بك، و الكلام في الضمير في "و من يكفر به" كالكلام في ضمير "يؤمنون به".

و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى ألوف من المحتملات بعضها صحيح و بعضها خلافه.

قوله تعالى: "فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك و لكن أكثر الناس لا يؤمنون" المرية كجلسة النوع من الشك، و الجملة تفريع على صدر الآية، و المعنى أن من كان على بينة من ربه في أمر و قد شهد عليه شاهد منه و قبله إمام و رحمة ككتاب موسى ليس كغيره من الناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من أمر الله و لا يوحشه إعراض أكثر الناس عما عنده، و أنت كذلك فإنك على بينة من ربك و يتلوك شاهد و من قبلك كتاب موسى إماما و رحمة و إذا كان كذلك فلا تك في مرية من أمر ما أنزل إليك من القرآن إنه محض الحق من جانب الله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون.



و قوله: "إنه الحق من ربك" تعليل للنهي و قد أكد بإن و لام الجنس للدلالة على توافر الأسباب النافية للمرية و هي قيام البينة و شهادة الشاهد و تقدم كتاب موسى إماما و رحمة.

قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا" إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيئول المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله الكذب لأن المفتري على الله كذبا من أظلم الظالمين، و لهم من وبال كذبهم كذا و كذا.

و كيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شيء إليه بغير الحق أو بغير علم، و الافتراء من أظهر أفراد الظلم و الإثم، و يعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة و الكبرياء كان من أعظم الظلم.

و الكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم و هو الله لا إله إلا هو، و إذ صدوا عن سبيل الله و معناه نفي كونه سبيلا لله و هو افتراء، و إذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم و كان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدي إليها الفطرة و النبوة، و إذ كفروا بالآخرة فنفوها و ذلك إثبات مبدإ من غير معاد و نسبة اللغو و فعل الباطل إليه تعالى و هو افتراء عليه.

و بالجملة انتحالهم بغير دين الله و نحلته، و أخذهم بالعقائد الباطلة في المبدإ و المعاد و استنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية - و الذي من الله إنما هو الحق و لا سنة عند الله إلا دين الحق - افتراء على الله، و سيشهد عليهم الأشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم.

و قوله تعالى: "أولئك يعرضون على ربهم" العرض إظهار الشيء ليرى و يوقف عليه، و لما كان ارتفاع الحجب بينهم و بين ربهم يوم القيامة بظهور آياته و وضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمي بوجه آخر بروزا منهم لله فقال: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء:" المؤمن: - 16، و قال: "و برزوا لله الواحد القهار:" إبراهيم: - 48 فقال: "أولئك يعرضون على ربهم" أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم و بين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء.

و قوله: "و يقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم" الأشهاد جمع شهيد كأشراف جمع شريف و قيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، و يؤيد الأول قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد:" النساء: - 41 و قوله: "و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد:" ق: - 21.

و قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق و لا مناص فيه عن الاعتراف و القبول كما قال تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا:" النبأ: - 38 و قال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا:" آل عمران: - 30.



قوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله" إلخ، تتمة قول الأشهاد، و الدليل عليه قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:" الأعراف: - 45.

و هذا القول منهم المحكي في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد و اللعن على الظالمين و تسجيل للعذاب، و ليس اللعن و الرحمة يوم القيامة كاللعن و الرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى: "أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون:" البقرة: - 159 و ذلك أن الدنيا دار عمل و يوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر لهم إليهم فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين و تسجيل عذاب البعد عليه.

ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: "الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون" فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له و إنما يعملون للدنيا و يسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا المادية فحسب، و هو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق و ملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع و عملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة و هو الإسلام أم لم يعتقدوا به ممن يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، و قد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية 44 - 45.

و قد بان مما تقدم من البحث في الآيتين أولا: أن الدين في عرف القرآن هو السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع.

و ثانيا: أن السنن الاجتماعية إما دين حق فطري و هو الإسلام أو دين محرف عن الدين الحق و سبيل الله عوجا.

قوله تعالى: "أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض و ما كان لهم من دون الله من أولياء" إلى آخر الآية.

الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الآيتين السابقتين.

و المقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب و يصدون عن سبيله و يبغونها عوجا فكل ذلك لا لأن قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه و مشيتهم سبقت مشيته، و لا لأنهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره و هم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم و كذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، و ذلك قوله: "و ما كان لهم من دون الله من أولياء".

و بالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه و لا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم و يحملونهم على ما يأتون به من البغي و الظلم بل الله سبحانه هو وليهم و هو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم و أعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب و يستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم:" الصف: - 5، و قال: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:" البقرة: - 26.



و قوله: "يضاعف لهم العذاب" ذلك لأنهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لأنهم عصوا الله بأنفسهم و حملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم:" النحل: - 25 و قال: "و نكتب ما قدموا و آثارهم:" يس: - 12.

و قوله: "ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون" في مقام التعليل و لذا جيء بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا و لم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة الله و لا لأن لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار و التبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث و الزجر من قبله و ما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله: "لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل:" الأعراف: - 179، و في قوله: "و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة:" الأنعام: - 110، و قوله: "ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة:" البقرة: - 7، و آيات أخرى كثيرة تدل على أنه تعالى سلبهم عقولهم و أعينهم و آذانهم غير أنه تعالى يحكي عنهم مثل قولهم: "و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم:"، الملك: - 11، و اعترافهم بأن عدم سمعهم و عقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: "و ما يضل به إلا الفاسقين:" البقرة: - 26 و غيره.

و ذكروا في معنى قوله: "ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون" وجوها أخرى: منها: أن قوله: ما كانوا "إلخ"، في محل النصب بنزع الخافض و هو متعلق بقوله: يضاعف "إلخ"، و الأصل: بما كانوا يستطيعون السمع و بما كانوا يبصرون، و المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون.

و منها: أنه عنى بقوله: "ما كانوا يستطيعون" إلخ، نفي السمع و البصر عن آلهتهم و أوثانهم، و تقدير الكلام أولئك الكفار و آلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، و قال مخبرا عن الآلهة: ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون.

و منها: أن لفظة ما في "ما كانوا" ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم: لأواصلنك ما لاح نجم، و المعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء.

و منها: أن نفي السمع و البصر بمعنى نفي الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله و النظر فيها و كراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع و لا يبصر فالكلام على الكناية.

و أعدل الوجوه آخرها و هي جميعا سخيفة ظاهرة السخافة و الوجه ما قدمناه.



قوله تعالى: "أولئك الذين خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون" أما خسرانهم فإن الإنسان لا يملك بالحقيقة - و ذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه و إذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها و ضيعتها بالكفر و المعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، و أما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا و افتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم و مزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء و الهوسات الدنيوية و بانطواء بساط الحياة الدنيا يزول و ينمحي تلك الأوهام و يضل ما لاح و استقر فيها من الكذب و الافتراء و يومئذ يعلمون أن الله هو الحق المبين، و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

قوله تعالى: "لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون" عن الفراء: أن "لا جرم" في الأصل بمعنى لا بد و لا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم و صارت بمعنى "حقا" و لهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا.

انتهى، و قد ذكروا أن "جرم" بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة "لا محالة" و تفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع أن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في "لا محالة" فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.

و وجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين أن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها و إضاعتها بالكفر و العناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا و يسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى: "الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون:" الأنعام: - 12.

و قال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم و أبصارهم و قلوبهم: "و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:" يس: - 10.

و قال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله:" الجاثية: - 23.

و إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم و صدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة و أما الدنيا فليست إلا قليلا، قال تعالى: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار:" الأحقاف: - 35.

على أن الأعمال تشتد و تتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى: "و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا:" إسراء: - 72، و أحسن الوجهين أولهما لأن ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الآخرة قبال الدنيا.

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أخبتوا إلى ربهم" إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: الخبت المطمئن من الأرض و أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل و أنجد ثم استعمل الإخبات في استعمال اللين و التواضع قال الله تعالى: و أخبتوا إلى ربهم، و قال: و بشر المخبتين أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، و قوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين و تخشع.

انتهى.

فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون و لا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل إن الأصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام.



و تقييده تعالى الإيمان و العمل الصالح بالإخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين و هم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، و هو الذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله: "أ فمن كان على بينة من ربه" إلخ أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس و هم أهل البصيرة الإلهية و من عميت عين بصيرته.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعني قوله: "أ فمن كان على بينة من ربه - إلى قوله - أ فلا تذكرون" بيان لحال الفريقين و هم الذين يكفرون بالقرآن و الذين يؤمنون به.

قوله تعالى: "مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان مثلا أ فلا تذكرون المثل هو الوصف، و غلب في المثل السائر و هو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه و يتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، و المراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة، و الباقي واضح.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه" فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشاهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و رسول الله على بينة من ربه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن الحسن (عليهم السلام): في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية منها فأدت الأمور و أفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوة و اختاره للرسالة، و أنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز و جل فكان أبي أول من استجاب لله عز و جل و لرسله و أول من آمن و صدق الله و رسوله، و قد قال الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه" فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي على بينة من ربه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه.

الخطبة.

أقول: و كلامه (عليه السلام) أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته (عليه السلام) بالشاهد من باب الانطباق.

و في بصائر الدرجات، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، و الله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا و قد علمت فيمن أنزلت، و لا أحد ممن مر على رأسه المواسي إلا و قد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أ ما سمعت الله يقول: "أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه" فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه و أنا الشاهد له و منه: أقول: و روى هذا المعنى المفيد في الأمالي، مسندا و في كشف الغمة، مرسلا عن عباد بن عبد الله الأسدي عنه (عليه السلام)، و العياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه (عليه السلام) و كذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه (عليه السلام) و كذا عن الأصبغ و عن زين العابدين و الباقر و الصادق (عليهما السلام) عنه (عليه السلام).



و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أ ما تقرأ سورة هود "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه" رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه، و أنا شاهد منه: أقول: و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى علي (عليه السلام) مثله و فيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي (عليه السلام) مثله. و كذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله.

و فيه، أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أ فمن كان على بينة من ربه" أنا "و يتلوه شاهد منه قال: علي: أقول: و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.

و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال أبو مريم: حدث علينا الحديث الذي حدثتني به عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: "من عنده علم الكتاب" "أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه" "إنما وليكم الله - و رسوله و الذين آمنوا".

و فيه، عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبي نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه" رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة و أنا الشاهد.

و فيه، أيضا عن موفق بن أحمد قال: قوله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه" قال ابن عباس: هو علي يشهد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو منه.

أقول: و رواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس: "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه" علي خاصة.

أقول: قال صاحب المنار، في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: و منها: أنه علي رضي الله عنه ترويه الشيعة و يفسرونه بالإمامة، و روي: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره و فسره بأنه لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قابلهم خصومهم بمثلها فقالوا: أنه أبو بكر، و هما من التفسير بالهوى.

انتهى أما قوله: "إن الشيعة ترويه" فقد عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، و أما قوله: "إنه مثل تفسيره بأبي بكر من التفسير بالهوى" فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع.

و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجيء عنكم شيء إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب تسليم قال: فترحم عليه ثم قال: أ تدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و الله الإخبات قول الله عز و جل: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات - و أخبتوا إلى ربهم:" أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره و الكشي و كذا صاحب البصائر عن أبي أسامة زيد الشحام عنه (عليه السلام).

11 سورة هود - 25 - 35

وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنى لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ (25) أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللّهَ إِنى أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاك إِلا بَشراً مِّثْلَنَا وَ مَا نَرَاك اتّبَعَك إِلا الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى الرّأْىِ وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضلِ بَلْ نَظنّكُمْ كَذِبِينَ (27) قَالَ يَقَوْمِ أَ رَءَيْتُمْ إِن كُنت عَلى بَيِّنَةٍ مِّن رّبى وَ ءَاتَاخ رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَت عَلَيْكمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنتُمْ لهََا كَرِهُونَ (28) وَ يَقَوْمِ لا أَسئَلُكمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى اللّهِ وَ مَا أَنَا بِطارِدِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّهُم مّلَقُوا رَبهِمْ وَ لَكِنى أَرَاشْ قَوْماً تجْهَلُونَ (29) وَ يَقَوْمِ مَن يَنصرُنى مِنَ اللّهِ إِن طرَدتهُمْ أَ فَلا تَذَكرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْب وَ لا أَقُولُ إِنى مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيهُمُ اللّهُ خَيراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فى أَنفُسِهِمْ إِنى إِذاً لّمِنَ الظلِمِينَ (31) قَالُوا يَنُوحُ قَدْ جَدَلْتَنَا فَأَكثرْت جِدَلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كنت مِنَ الصدِقِينَ (32) قَالَ إِنّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شاءَ وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنفَعُكمْ نُصحِى إِنْ أَرَدت أَنْ أَنصحَ لَكُمْ إِن كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْترَاهُ قُلْ إِنِ افْترَيْتُهُ فَعَلىّ إِجْرَامِى وَ أَنَا بَرِىءٌ مِّمّا تجْرِمُونَ (35)

بيان

شروع في قصص الأنبياء (عليهم السلام) و قد بدأ بنوح و عقبه بجماعة ممن بعده كهود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام).

و قد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (عليه السلام) على قومه في التوحيد فهو (عليه السلام) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، و أكثر ما قص من احتجاجه (عليه السلام) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن و بعضه من الموعظة و قليل منه من الحكمة و هو الذي يناسب تفكر البشر الأولي و الإنسان القديم الساذج و خاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم.

قوله تعالى: "و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين" القراءة المعروفة "إني" بكسر الهمزة على تقدير القول و قرىء أني بفتح الهمزة بنزع الخافض و التقدير بأني لكم نذير مبين، و الجملة أعني قوله: "إني لكم نذير مبين" على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه و أرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.

فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إني لكم نذير مبين بيان لذلك بالإجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه و هي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، و ليس له من الأمر شيء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.

قوله تعالى: "أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم".

بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: "إني لكم نذير مبين" و مآل الوجهين واحد، و أن على أي حال مفسرة، و المعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار و التخويف.

و ذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: "أن لا تعبدوا" إلخ، بدل من قوله: "إني لكم نذير مبين" أو مفعول لقوله مبين.

و لعل السياق يؤيد ما قدمناه.

و الظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: "يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء" الآية، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.

فهو (عليه السلام) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان و يخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم و نسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله: "عذاب يوم أليم" من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.

و بما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (عليه السلام) من تعذيبهم المقطوع؟ و الخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.



و بالجملة كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، و إنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم و دبر شئون حياتهم و أمور معاشهم بخلق السماوات و الأرض و إشراق الشمس و القمر و إنزال الأمطار و إنبات الأرض و إنشاء الجنات و شق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (عليه السلام) في سورة نوح.

و إذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه و ليعبدوه وحده.

و هذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب و عذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم و التسليم لإرادتهم و لو استكبر عن الخضوع لهم و التسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم و عاقبوهم بما أجرموا و تمردوا.

و على هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون و ولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه و إخماد نار غضبه بالخضوع له و التقرب إليه بتقديم القرابين و التضحية و سائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون و هو مبني على الظن.

لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى و الاستكبار عن التسليم و الخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي و المتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.

و قد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون و ربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب و على ذلك يجري كل شيء في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها و كان ذلك منازعة منه لها و عند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره و إرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو و إلا حطمتها حاطمات الأسباب و نازلات النوائب و البلايا، و هذا أيضا من النواميس الكلية.

و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع و الإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته و وافق بذلك سائر أجزاء الكون و فتحت له أبواب السماء ببركاتها و سمحت له الأرض بكنوز خيراتها، و هذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح و من بعده من الأنبياء و الرسل (عليهم السلام).

و إن تخطاه و انحرف عنه فقد نازع أسباب الكون و أجزاء الوجود في نظامها الجاري و زاحمها في شئون حياتها فليتوقع مر البلاء و لينتظر العذاب و العناء فإن استقام في أمره و خضع لإرادة الله سبحانه و هي ما تحطمه من الأسباب العامة فمن المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة و إلا فهو الهلاك و الفناء و إن الله لغني عن العالمين، و قد تقدم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة.

قوله تعالى: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا" إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح (عليه السلام)، و فيه إشارة إلى أنهم بادروه بالرد و الإنكار من دون أن يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم.



و المجيبون هم الملأ من قومه و الأشراف و الكبراء الذين كفروا به و لم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته و الاستكبار عن طاعته فإن قوله: "إني لكم نذير مبين" إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة و ملوحا إلى وجوب الاتباع و قد صرح به فيما حكي عنه في موضع آخر، قال تعالى: "قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون:" نوح: - 3.

و محصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الإضراب و الترقي و لذلك أخر قولهم: "بل نظنكم كاذبين".

و الحجة الأولى التي مدلولها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: "ما نراك إلا بشرا" إلخ، و قوله: "و ما نراك اتبعك" إلخ، و قوله: "و ما نرى لكم علينا".

إلخ.

و الحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين و لذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك و نرى.

فقوله: "ما نراك إلا بشرا مثلنا" أول جوابهم عما يدعيه نوح (عليه السلام) من الرسالة، و قد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه و تقريره: أنك مثلنا في البشرية و لو كنت رسولا إلينا من عند الله لم تكن كذلك و لا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، و إذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك.

ففي الكلام تكذيب لرسالته (عليه السلام) بأنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، و الدليل على ما ذكرنا قول نوح (عليه السلام) فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: "يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي" إلخ.

و قد اشتبه الأمر على بعض المفسرين فقرر قولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا" بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية و استنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة.

إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه (عليه السلام) كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه و هكذا كان كل رسول من وسط قومه، و وجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا و الآخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح.

انتهى.

و لو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر أنه بشر و لا حاجة إلى الإشارة إلى بشريته، و لكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: و ما نرى لكم علينا من فضل، و كان فضلا من الكلام.

و من العجب استفادته من الكلام مساواته (عليه السلام) لهم في البيت و الشخصية ثم قوله: "و هكذا كان كل رسول من وسط قومه" و في الرسل مثل إبراهيم و سليمان و أيوب (عليهما السلام).

و قوله: "و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" قال في المفردات،: الرذل - بفتح الراء - و الرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: "و منكم من يرد إلى أرذل العمر" و قال: "إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" و قال: "قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون" جمع الأرذل.

و قال في المجمع،: الرذل الخسيس الحقير من كل شيء و الجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب و أكلب و أكالب، و يجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر.



و قال: و الرأي الرؤية من قوله: "يرونهم مثليهم رأي العين" أي رؤية العين و الرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر و جمعه آراء.

انتهى.

و قال في المفردات،: و قوله: "بادىء الرأي" أي ما يبدأ من الرأي و هو الرأي الفطير، و قرىء: بادي بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي و لم يترو فيه.

انتهى.

و قوله: "بادىء الرأي" يحتمل أن يكون قيدا لقوله: "هم أراذلنا" أي كونهم أراذل و سفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي و النظر أو في أول نظرة.

و يحتمل كونه قيدا لقوله: "اتبعك أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في أوله من غير تعمق و تفكر و لو تفكروا قليلا و قلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، و هذا الاحتمال لا يستغني عن تكرار الفعل ثانيا و التقدير: اتبعوك بادي الأمر و إلا اختل المعنى لو لم يتكرر و قيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا.

و بالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل و الأخساء من القوم و لو اتبعناك ساويناهم و دخلنا في زمرتهم و هذا ينافي شرافتنا و يحط قدرنا في المجتمع، و في الكلام إيماء إلى بطلان رسالته (عليه السلام) بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء و العظماء و أولوا القوة و الطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الأخساء و الضعفاء كالعبيد و المساكين و الفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه و لا مكانة له عند العامة فلا خير فيه.

و قوله: "و ما نرى لكم علينا من فضل" المراد نفي مطلق الفضل من متاع دنيوي يختصون بالتنعم به أو شيء من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية و ذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفي فتفيد العموم.

و قد أشركوا أتباع نوح (عليه السلام) و المؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: "و ما نرى لكم علينا" و لم يقولوا: "و لا نرى لك" لأنهم كانوا يحثونهم و يرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة.

و المعنى أن دعوتكم إيانا - و عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال و البنين و العلم و القوة - إنما يستقيم و يؤثر أثره لو كان لكم شيء من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب ذلك خضوعا منا لكم و لا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟.

و إنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية و غيره كعلم الغيب و القوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال و الكثرة و غيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي.

مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح (عليه السلام) يدل على ذلك و هو قوله: "و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك" إلخ على ما سيأتي.

و قوله تعالى: "بل نظنكم كاذبين" إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة إليه فمحصله أنا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتباع و هو أنا نظنكم كاذبين.



و معناه على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم و أنكم تلحون علينا بالسمع و الطاعة و أنتم صفر الأيدي من مزايا الحياة من مال و جاه و هذه الحال تستدعي الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة و بالجملة هذه أمارة توجب عادة الظن بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال و القبض على ثروة الناس و الاستعلاء عليهم بالحكم و الرئاسة، و هذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم:" المؤمنون: - 24.

و بهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، و أن المراد بالكذب الكذب المخبري دون الخبري.

قوله تعالى: "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي" إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوح (عليه السلام) عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، و التعمية الإخفاء فمعنى عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم و كراهتكم للحق.

و قرىء عميت بالتخفيف و البناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.

لما كانت حجتهم مبنية على الحس و نفي ما وراءه و قد استنتجوا منها أولا عدم الدليل على وجوب طاعته و اتباعه ثم أضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم (عليهم السلام) بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته و ما يتبعه، و نفي ما حاولوا إثباته باتهامه و اتهام أتباعه بالكذب غير أنه استعطفهم بخطاب يا قوم - بالإضافة إلى ضمير التكلم - مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم.

و قد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا و أجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة إنتاجه أن لا دليل على اتباعه (عليه السلام) و أن الدليل على خلافه و ذلك قوله: "يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة" إلخ، و قوله: "و ما أنا بطارد الذين آمنوا" إلخ، و قوله: "و لا أقول لكم عندي خزائن الله" إلخ، ثم أخذت من كل حجة سابقة شيئا يجري مجرى التلخيص فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال و التمام.

فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوءة بالخطاب و هي قوله: "يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة" إلخ، و قوله: "و يا قوم لا أسألكم عليه مالا" إلخ، و قوله: "و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم" إلخ، فتدبر فيها.

فقوله: "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي" جواب عن قولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا" يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها و يماثلونه فبأي شيء يدعي وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم و يترأس عليهم.

و إذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفي رسالته و سندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة و الاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة و هو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، و لذلك أشار (عليه السلام) بقوله: "يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي" إلى أن معه بينة من الله و آية معجزة تدل على صدقه في دعواه.

و من هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لأن ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي و ذلك لكونه معنى أجنبيا عن السياق.



و قوله: "و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم" الظاهر أنه (عليه السلام) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب و العلم، و قد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب و كذا تسمية العلم بالله و آياته رحمة قال تعالى: "و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة:" هود: - 17، و قال: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى و رحمة:" النحل: - 89، و قال: "فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا:" الكهف: - 65، و قال: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة:" آل عمران: - 8.

و أما قوله: "فعميت عليكم فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، و المراد أن ما عندي من العلم و المعرفة أخفاها عليكم جهلكم و كراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به و بثثته فيكم.

و قوله: "أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون" الإلزام جعل الشيء مع الشيء بحيث لا يفارقه و لا ينفك منه، و المراد بإلزامهم الرحمة و هم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله و آياته و التلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور و البصيرة.

و معنى الآية - و الله أعلم - أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشرا مثلكم و كانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب و علم يهديكم الحق لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم و استكباركم أ يجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته و قد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا و استكبارا و ليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.

ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة و بانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله و ليس إلا الإجبار و الإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الإجبار، و لا إجبار في دين الله.

و الآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع و هي شريعة نوح (عليه السلام) و هو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ.

و قد ظهر مما تقدم أن الآية، أعني قوله: "يا قوم أ رأيتم إن كنت" إلخ، جواب عن قولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا" و يظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنه جواب عن قولهم: "بل نظنكم كاذبين" و قول آخرين: إنه جواب عن قولهم: "ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي" و قول طائفة أخرى أنه جواب عن قولهم: "و ما نرى لكم علينا من فضل" و لا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها و ردها.

قوله تعالى: "و يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله" يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم و أخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم أن يتهموه بذلك.

قوله تعالى: "و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم و لكني أراكم قوما تجهلون" جواب عن قولهم: "و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي" و قد بدل لفظة الأراذل - و هي لفظة إرزاء و تحقير - من قوله: الذين آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم و إشارة إلى ارتباطهم بربهم.

نفى في جوابه أن يكون يطردهم و علل ذلك بقوله: "إنهم ملاقوا ربهم" إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم و ليس لغيره من الأمر شيء، فليس على نوح (عليه السلام) أن يحاسبهم فيجازيهم بشيء لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء و المساكين و الضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير و يسلبوا النعمة و الشرافة و الكرامة.



فظهر أن المراد بقوله: "إنهم ملاقوا ربهم" الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى: "و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين:" الأنعام: - 57.

و أما قول من قال: إن معنى قوله: "إنهم ملاقوا ربهم" إنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم و طردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل و كيف يجوز طردهم و هم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم.

على أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: "و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم" الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.

و ظهر أيضا أن المراد بقوله: "و لكني أراكم قوما تجهلون" جهلهم بأمر المعاد و أن الحساب و الجزاء إلى الله لا إلى غيره، و أما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل و الحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة الامتياز بين إنسان و إنسان باتباع الحق و عمل البر و التحلي بالفضائل لا بالمال و الجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: "و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أ فلا تذكرون" النصر مضمن معنى المنع أو الإنجاء و نحوهما و المعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أ فلا تتذكرون أنه ظلم، و الله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم و ينتقم منه، و العقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم و المظلوم، و لا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه و يشفي به غليل صدر المظلوم و الله عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى: "و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك" جواب عن قولهم: "و ما نرى لكم علينا من فضل" يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه بما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير و شفاء العليل و إحياء الموتى و التصرف في السماء و الأرض و سائر أجزاء الكون بما شاء و كيف شاء.

و أن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، و يدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه و بالجملة يستكثر من الخيرات و يصان من المكاره.

و أن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة و مبرى من حوائج البشرية و نقائصها فلا يأكل و لا يشرب و لا ينكح و لا يقع في تعب اكتساب الرزق و اقتناء لوازم الحياة و أمتعتها.

فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها و يمتلكها فيستقل بها، و قد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة و إني لست أدعي شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك، و بالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، و إنما أقول إني على بينة من ربي تصدق رسالتي و آتاني رحمة من عنده.

و المراد بقوله: "خزائن الله" جميع الذخائر و الكنوز الغيبية التي ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم و بقائهم و يستعينون به على تتميم نقائصهم و تكميلها.



فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء و الأولياء يؤتون مفاتيحها و يمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون و يحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد حكاه الله تعالى إذ يقول: "و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا:" إسراء: - 93.

و إنما قال: "و لا أعلم الغيب" و لم يقل: و لا أقول إني أعلم الغيب لأن هذا النوع من العلم لما كان مما يضن به و لا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفي بخلاف قوله: "لا أقول لكم عندي خزائن الله" و قوله: "و لا أقول إني ملك"، و لم يكرر قوله: "لكم" لحصول الكفاية بالواحدة.

و قد أمر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح (عليه السلام) قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى و البصير أ فلا تتفكرون:" الأنعام: - 50.

انظر إلى قوله: "لا أقول لكم" إلخ، ثم إلى قوله: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" ثم إلى قوله: "قل هل يستوي الأعمى و البصير" إلخ، فهو ينفي أولا الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس و هو أنه بصير بإبصار الله تعالى و أن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير و هذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الأعمى البصير، و هو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه.

كلام في قدرة الأنبياء و الأولياء فلسفي قرآني

الناس في جهل بمقام ربهم و غفلة عن معنى إحاطته و هيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده و أحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة و الطبيعة و التوغل في الأحكام و القوانين الطبيعية ثم السنن و النواميس الاجتماعية و الأنس بالكثرة و البينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده و رعيته.

فهناك فرد من الإنسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء و أمراء و الجنديون و الجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى أنه و له عطايا و مواهب لمن شاء و إرادة و كراهة و أخذ و رد و قبض و إطلاق و رحمة و سخط و قضاء و نسخ إلى غير ذلك.

و كل من الملك و خدمه و أياديه العمالة و رعاياه و ما يدور بأيديهم من النعم و أمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام و قوانين و سنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن و اعتقاد المعتقد.

و قد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله على هذا النظام فهو تعالى يريد و يكره و يعطي و يمنع و يدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، و هو محدود الوجود منعزل الكون و كل من ملائكته و سائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود و النعم الموهوبة دون الله سبحانه، و قد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شيء معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.



فقد أثبتوا - كما ترى - موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزماني دائمي، و له قدرة على كل شيء، و علم بكل شيء، و إرادة لا تنكسر و قضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات و الأعمال كما يستقل الواحد منا فيملك ما عنده من الحياة و العلم و القدرة و غير ذلك فحياته حياة له و ليست لله، و علمه علمه لا علم الله، و قدرته قدرته لا قدرة الله و هكذا، و إنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا أنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة أنها للملك بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده و وضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم على أساس المحدودية و الانعزال.

لكن البراهين اليقينية تقضي بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر و الحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها و آثار ذواتها و إذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه و الانعزال منه على الإطلاق إذ لو فرض استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأي وجه فرض في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة و هو محال.

فكل ممكن غير مستقل في شيء من ذاته و آثار ذاته، و الله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته و هو الغني الذي لا يفتقر في شيء و لا يفقد شيئا من الوجود و كمال الوجود كالحياة و القدرة و العلم فلا حد له يتحدد به.

و قد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة:" المائدة: - 73.

و على ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، و لا فرق في ذلك بين القليل و الكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شيء أو قدرة على كل شيء أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه و لا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض.

نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية و لا فرق فيه بين الكثير و القليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.

و أما من جهة النقل فالكتاب الإلهي و إن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات و الأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات و الإحياء و الإماتة و الخلق كما في قوله: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو:" الأنعام: - 59، و قوله: "و أنه هو أمات و أحيا:" النجم: - 44: "و قوله الله يتوفى الأنفس حين موتها:" الزمر: - 42، و قوله: "الله خالق كل شيء:" الزمر: - 62، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة بآيات أخر كقوله: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول:" الجن: - 27، و قوله: "قل يتوفاكم ملك الموت:" الم السجدة: - 11، و قوله عن عيسى (عليه السلام): "و أحيا الموتى بإذن الله:" آل عمران: - 49، و قوله: "و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني:" المائدة: - 110 إلى غير ذلك من الآيات.

و انضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة و الاستقلال و المراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية و عدم الاستقلال.

فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق الفكر و القدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه و أوليائه كما وقع كثيرا في الأخبار و الآثار و نفى معه الأصالة و الاستقلال بأن يكون العلم و القدرة مثلا له تعالى و إنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط و وقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه.



و من أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة و الاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي و إن أسنده إلى الله سبحانه و فيض رحمته لم يخل من غلو و كان مشمولا لمثل قوله: "لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق:" النساء: - 171.

قوله تعالى: "و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين" قال في المفردات،: زريت عليه عبته و أزريت به قصدت به و كذلك ازدريت به و أصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم و تستهين بهم.

انتهى.

و هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه و بنوا عليه سنة الأشرافية و طريقة السيادة، و هو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء و الضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول و أرباب القدرة المعتضدون بالمال و العدة، و أما الضعفاء فهم الباقون.

و الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني لهم النعمة و الكرامة، و لأجلهم انعقاد المجتمع، و غيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسي الحكومة المستبدة، و العبيدة بالنسبة إلى الموالي، و الخدم و العملة بالنسبة إلى المخدومين و النساء بالنسبة إلى الرجال، و بالأخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوي المستعلي عليه.

و بالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع و يشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله و ينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة و العناية.

فهذا هو الذي كانوا يرونه و كان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، و قد رد نوح (عليه السلام) ذلك إليهم بقوله: "و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا".

ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: "الله أعلم بما في نفوسهم" أي إن أعينكم إنما تزدريهم و تستحقرهم و تستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم و هوانهم، و ليس هو الملاك في إحراز الخير و نيل الكرامة بل الملاك في ذلك و خاصة الكرامات و المثوبات الإلهية أمر النفس و تحليها بحلي الفضيلة و المنقبة المعنوية، و لا طريق لي و لا لكم إلى العلم ببواطن النفوس و خبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي و لا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير و السعادة.

ثم بين بقوله: "إني إذا لمن الظالمين" السبب في تحاشيه عن هذا القول و معناه أنه قول بغير علم، و تحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.

و هذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول: "و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة:" الأعراف: - 49.

و في الكلام أعني قول نوح (عليه السلام): "و لا أقول للذين تزدري أعينكم" إلخ، تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية و يقولون: إنهم لا يسعدون بدين و إنما يسعد به أشراف المجتمع و أقوياؤهم، و فيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون.



و إنما عقب نوح (عليه السلام) قوله: "و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك" و هو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: "و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا" إلخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لأن الملأ ألحقوهم به في قولهم: "و ما نرى لكم علينا من فضل".

و توضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك و لمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا و لا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون ملكا منزها من ألواث المادة و الطبيعة، و أما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الآيسون من كرامة الإنسانية المحرومون من الرحمة و العناية.

فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعي شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة و أما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا و فضلا فهو أعلم بأنفسهم، و ملاك الكرامة الدينية و الرحمة الإلهية زكاء النفس و سلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين.

قوله تعالى: "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" كلام ألقوه إلى نوح (عليه السلام) بعد ما عجزوا عن دحض حجته و إبطال ما دعا إليه من الحق، و هو مسوق سوق التعجيز و المراد بقولهم: "ما تعدنا" ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.

و قد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد و يخاصمهم و يحاجهم بفنون الخصام و الحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم و أنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكي عنه (عليه السلام) في دعائه: "قال رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا - إلى أن قال - ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا:" نوح: - 9 و في سورة العنكبوت: "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما:" العنكبوت: - 14.

فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه و جوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، و هو كثير النظير في القرآن الكريم و لا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر و بكل ما فيه و الذي يسمعها بالوحي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أوتي من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم و أطراف الزمان.

و المعنى - و الله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا و مللنا و ما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، و هم لا يعترفون بالعجز عن خصامه و جداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج و يطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل الداعي الآيس من السمع و الطاعة و هو الشر الذي يهددهم به و يذكره وراء نصحه.



قوله تعالى: "قال إنما يأتيكم به الله إن شاء و ما أنتم بمعجزين" لما كان قولهم: "فأتنا بما تعدنا" إلخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب و ليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا - في سياق قصر القلب - أن الإتيان بالعذاب ليس إلي بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم و إليه مرجع أمركم كله، و لا يرجع إلي من أمر التدبير شيء حتى أن وعدي إياكم بالعذاب و اقتراحكم علي بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به و أن لم يشأ فلا.

و من هنا يظهر أن قوله (عليه السلام): "إن شاء" من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه و هو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شيء و لا يقهره قاهر يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ:" هود: - 108.

و قوله: "و ما أنتم بمعجزين" تنزيه آخر لله سبحانه و هو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزي الذي ألقوه إليه (عليه السلام) فإن ظاهره أنهم لا يعبئون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم.

قوله تعالى: "و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم" إلخ، قال في المفردات،: النصح تجري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه - قال - و هو من قولهم نصحت له الود أي أخلصته و ناصح العسل خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط و النصاح الخيط.

و قال أيضا: الغي جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا، و قد يكون من اعتقاد شيء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي قال تعالى: ما ضل صاحبكم و ما غوى، و قال: و إخوانهم يمدونهم في الغي.

انتهى.

و على هذا فالفرق بين الإغواء و الإضلال أن الإضلال إخراج من الطريق مع بقاء المقصد في ذكر الضال، و الإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.

و الإرادة و المشية كالمترادفتين، و هي من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية لوجود شيء بالضرورة فكون الشيء مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده و أكملها فهو كائن لا محالة، و أما أصل السببية الجارية فهي مرادة بنفسها و لذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشية و المشية بنفسها.

و بالجملة قوله: "و لا ينفعكم نصحي" إلخ، كأحد شقي الترديد و الشق الآخر قوله: "و ما أنتم بمعجزين" كأنه (عليه السلام) يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب و لا يدفع عذابه و لا يقهر مشيته شيء فلا أنتم معجزوه، و لا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمة العذاب، و قيد نصحه بالشرط لأنهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم.

و الإغواء كالإضلال و إن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كان يعصي الإنسان و يستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق و يخليه و نفسه فيغوي و يضل عن سبيل الحق قال تعالى: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:" البقرة: - 26.

و في الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهي كما يلوح إليه قوله تعالى: "و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:" إسراء: - 16، و قال: "و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم و حق عليهم القول:" حم السجدة: - 25.



و قوله: "هو ربكم و إليه ترجعون" تعليل لقوله: "و لا ينفعكم نصحي" إلخ، أو لقوله: "إنما يأتيكم به الله إن شاء - إلى قوله - يريد أن يغويكم" جميعا و محصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، و الله سبحانه هو ربكم و إليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، و ليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم و ليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.

و قد ذكروا في قوله: "إن كان الله يريد أن يغويكم" وجوها من التأويل: منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، و قد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: "فسوف يلقون غيا:" مريم: - 59.

و منها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إياهم و من عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه، و من هذا الباب قوله: "الله يستهزىء بهم" أي يعاقبهم على استهزائهم و قوله: "و مكروا و مكر الله:" آل عمران: - 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.

و منها: أن الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.

و منها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، و أن ما هم عليه بإرادة الله، و لو لا ذلك لغيره و أجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم و الإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.

و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.

قوله تعالى: "أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بريء مما تجرمون" أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة و أجرم أي صار ذا جرم، و استعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم و فتحها بمعنى الاكتساب المكروه و هو المعصية.

و الآية، واقعة موقع الاعتراض، و النكتة فيه أن دعوة نوح و احتجاجاته على وثنية قومه و خاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شيء بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و احتجاجه على وثنية أمته.

و إن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - و هي في الحقيقة سورة الاحتجاج - و قابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك السورة بقوله: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك - إلى أن قال - و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي - إلى أن قال - قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي و كذبتم به".

و لك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه ع في سورة نوح و الأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام و في هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه.



و لهذه المشابهة و المناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح (عليه السلام) في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رموه بالافتراء على الله، و هو لا ينذرهم و لا يلقي إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح (عليه السلام) و ألقاه من الحجج إلى قومه، و هذا كما ينذر رسول الملك قومه و المتمردين المستنكفين عن الطاعة و يلقي إليهم النصح و يتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك و لا طاعة و لا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، و يذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه و مواعظه يبعثه الوجد و الأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء و لم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة و النصيحة لا جرم إن افتريته فعلي إجرامي و لا تقبلوا قولي غير أني بريء من عملكم.

و قد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال: "و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك - إلى أن قال - و قل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون و انتظروا إنا منتظرون:" هود: - 122.

و ذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة و الخطاب فيها لنوح، و المعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بريء مما تجرمون، و على هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب و هذا بعيد عن سياق الكلام غايته.

و في قوله: "و أنا بريء مما تجرمون" إثبات إجرام مستمر لهم و قد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: "فعلي إجرامي" من إثبات الجرم و ذلك أن الذي ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا (عليه السلام) لم يحتج بهذه الحجج و هي حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب و هي تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان و العمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا و ليس بمفتر.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله في نوح (عليه السلام) و لا ينفعكم نصحي - إن أردت أن أنصح لكم - إن كان الله يريد أن يغويكم" قال: الأمر إلى الله يهدي و يضل.

أقول: قد مر بيانه و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: "أم يقولون افتراه" الآية:، الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال: إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال: و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

11 سورة هود - 36 - 49

وَ أُوحِىَ إِلى نُوحٍ أَنّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِك إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَئس بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصنَع الْفُلْك بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لا تخَطِبْنى فى الّذِينَ ظلَمُوا إِنهُم مّغْرَقُونَ (37) وَ يَصنَعُ الْفُلْك وَ كلّمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسخَرُونَ (38) فَسوْف تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخْزِيهِ وَ يحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ (39) حَتى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التّنّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كلٍّ زَوْجَينِ اثْنَينِ وَ أَهْلَك إِلا مَنْ سبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ ءَامَنَ وَ مَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) وَ قَالَ ارْكبُوا فِيهَا بِسمِ اللّهِ مجْراهَا وَ مُرْساهَا إِنّ رَبى لَغَفُورٌ رّحِيمٌ (41) وَ هِىَ تجْرِى بِهِمْ فى مَوْجٍ كالْجِبَالِ وَ نَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فى مَعْزِلٍ يَبُنىّ ارْكب مّعَنَا وَ لا تَكُن مّعَ الْكَفِرِينَ (42) قَالَ سئَاوِى إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلا مَن رّحِمَ وَ حَالَ بَيْنهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَ قِيلَ يَأَرْض ابْلَعِى مَاءَكِ وَ يَسمَاءُ أَقْلِعِى وَ غِيض الْمَاءُ وَ قُضىَ الأَمْرُ وَ استَوَت عَلى الجُْودِى وَ قِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظلِمِينَ (44) وَ نَادَى نُوحٌ رّبّهُ فَقَالَ رَب إِنّ ابْنى مِنْ أَهْلى وَ إِنّ وَعْدَك الْحَقّ وَ أَنت أَحْكَمُ الحَْكِمِينَ (45) قَالَ يَنُوحُ إِنّهُ لَيْس مِنْ أَهْلِك إِنّهُ عَمَلٌ غَيرُ صلِحٍ فَلا تَسئَلْنِ مَا لَيْس لَك بِهِ عِلْمٌ إِنى أَعِظك أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ (46) قَالَ رَب إِنى أَعُوذُ بِك أَنْ أَسئَلَك مَا لَيْس لى بِهِ عِلْمٌ وَ إِلا تَغْفِرْ لى وَ تَرْحَمْنى أَكن مِّنَ الْخَسِرِينَ (47) قِيلَ يَنُوحُ اهْبِط بِسلَمٍ مِّنّا وَ بَرَكَتٍ عَلَيْك وَ عَلى أُمَمٍ مِّمّن مّعَك وَ أُمَمٌ سنُمَتِّعُهُمْ ثمّ يَمَسهُم مِّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْك مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْك مَا كُنت تَعْلَمُهَا أَنت وَ لا قَوْمُك مِن قَبْلِ هَذَا فَاصبرْ إِنّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ (49)

بيان

تتمة قصة نوح (عليه السلام) و هي تشتمل على فصول كإخباره (عليه السلام) بنزول العذاب على قومه، و أمره بصنع الفلك، و كيفية نزول العذاب و هو الطوفان، و قصة ابنه الغريق، و قصة نجاته و نجاة من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد و هو فصل القضاء بينه (عليه السلام) و بين قومه.

قوله تعالى: "و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" الابتئاس من البؤس و هو حزن مع استكانة.

و قوله: "لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" إيئاس و إقناط له (عليه السلام) من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، و لذلك فرع عليه قوله: "فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس و يغتم من مخالفة المدعوين و تمردهم ما دام يرجو منهم الإيمان و الاستجابة لدعوته، و أما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم و لا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع و الطاعة و الإلحاح عليهم بالإقبال إليه و لو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة و إبراز المعذرة.

و على هذا ففي قوله: "فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" تسلية من الله لنوح (عليه السلام) و تطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه و بين قومه، و صيانة لنفسه من الوجد و الغم لما كان يشاهد من فعلهم به و بالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل مما يقرب من ألف سنة لبث فيه بينهم.

و يظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: "لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه و فيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب و أما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا و لا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، و أما ثباتهم و دوامهم على الإيمان فلا دليل عليه.

و يستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإيمان مرجوا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر و رجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.

و ثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله: "و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا:" نوح: - 27 كان واقعا بين قوله: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" إلخ، و بين قوله: "و اصنع الفلك - إلى قوله - إنهم مغرقون".

و ذلك لأنه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل و إنما طريقه السمع بالوحي فهو (عليه السلام) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك و لا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب و ذكر في دعائه ما أوحي إليه فلما استجاب الله دعوته و أراد إهلاكهم أمره (عليه السلام) باتخاذ السفينة و أخبره أنهم مغرقون.



قوله تعالى: "و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" الفلك هي السفينة مفردها و جمعها واحد و الأعين جمع قلة للعين و إنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة و شدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.

و ذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله: "و اصنع الفلك" إلخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحي في مقام العمل و هو تسديد و هداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا و افعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم ع بقوله: "و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين:" الأنبياء: - 73، و قد تقدمت الإشارة إليه في المباحث السابقة و سيجيء إن شاء الله في تفسير الآية.

و قوله: "و لا تخاطبني في الذين ظلموا" أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع به الشر و العذاب و تشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل و الحكم حتم و بذلك يظهر أن قوله: "إنهم مغرقون" في محل التعليل لقوله: "و لا تخاطبني" إلخ، أو لمجموع قوله: "و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا" و يظهر أيضا أن قوله: "و لا تخاطبني" إلخ، كناية عن الشفاعة.

و المعنى: و اصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة و تعليمنا إياك و لا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضي عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له.

قوله تعالى: "و يصنع الفلك و كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" قال في المجمع،: السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، و منه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، و الفرق بين السخرية و اللعب أن في السخرية خديعة و استنقاصا و لا تكون إلا في الحيوان و قد يكون اللعب بجماد، انتهى.

و قال الراغب في المفردات،: سخرت منه و استسخرته للهزء منه قال تعالى: "إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون" "بل عجبت و يسخرون" و قيل: رجل سخر - بالضم فالفتح - لمن سخر و سخرة - بالضم فالسكون - لمن يسخر منه، و السخرية - بالضم - و السخرية - بالكسر - لفعل الساخر، انتهى.

و قوله: "و يصنع الفلك" حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجري على نوح (عليه السلام) من إيذاء قومه و قيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته و الاستهزاء به في عمل السفينة و صبره عليه في جنب الدعوة الإلهية و إقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل و ينثني.

و قوله: "كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" حال من فاعل يصنع و الملأ هاهنا الجماعة الذين يعبأ بهم، و في الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه و هو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، و أنه (عليه السلام) كان يصنعها في مرأى منهم و ممر عام.

و قوله: "قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" في موضع الجواب لسؤال مقدر كان قائلا قال: فما ذا قال نوح (عليه السلام)؟ فقيل: "قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم" و لذا فصل الكلام من غير عطف.



و لم يقل (عليه السلام): إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه و عن عصابة المؤمنين به و كأنه كان يستمد من أهله و اتباعه في ذلك و كانوا يشاركونه في عمل السفينة و كانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحا و من معه في عمل السفينة بسخرية نوح و رميه (عليه السلام) بالخبل و الجنون فيشمل هزؤهم نوحا و من معه و إن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط.

على أن الطبع و العادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض و إن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، و لذا قيل: "سخروا منه" و لم يقل: سخروا منه و من المؤمنين.

و السخرية و إن كانت قبيحة و من الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة و بعنوان المقابلة و خاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة و إتمام الحجة قال تعالى: "فيسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم:" التوبة: - 79، و يدل على اعتبار المجازاة و المقابلة بالمثل في الآية قوله: "كما تسخرون".

قوله تعالى: "فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم" السياق يقضي أن يكون قوله: "فسوف تعلمون" تفريعا على الجملة الشرطية السابقة "أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم" و تكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح (عليه السلام) و يكون قوله: "من يأتيه عذاب يخزيه" إلخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم.

و المعنى: أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ و هذه سخرية بقول حق.

و قوله: "من يأتيه عذاب يخزيه" المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا و هو الغرق الذي أخزاهم و أذلهم، و المراد بقوله: "و يحل عليه عذاب مقيم" أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، و الدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا و الثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة و تكرر العذاب - منكرا - في اللفظ و توصيف الأول بالإخزاء و الثاني بالإقامة.

و ربما أخذ بعضهم قوله: "فسوف تعلمون" تاما من غير ذكر متعلق العلم و قوله: "من يأتيه عذاب يخزيه" إلخ، ابتداء كلام من نوح و هو بعيد عن السياق.

قوله تعالى: "حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور" إلى آخر الآية، يقال: فار القدر يفور فورا و فورانا إذا غلا و اشتد غليانه، و فارت النار إذا اشتعلت و ارتفع لهيبها، و التنور تنور الخبز، و هو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية و الفارسية أو الكلمة فارسية في الأصل.

و فوران التنور نبع الماء و ارتفاعه منه، و قد ورد في الروايات: أن أول ما ابتداء الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجر الماء من تنور، و على هذا فاللام في التنور للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، و يحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: "حمي الوطيس" إذا اشتد الحرب.

فقوله: "حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور": أي كان الأمر على ذلك حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الأمر الربوبي و تعلق بهم و فار الماء من التنور أو اشتد غضب الرب تعالى قلنا له كذا و كذا.

و في التنور أقوال أخر بعيدة من الفهم كقول من قال إن المراد به طلوع الفجر و كان عند ذلك أول ظهور الطوفان، و قول بعضهم: إن المراد به أعلى الأرض و أشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة و نجود الأرض، و قول آخرين: إن التنور وجه الأرض هذا.



و قوله: "قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين" أي أمرنا نوحا (عليه السلام) أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين و هي الذكر و الأنثى.

و قوله: "و أهلك إلا من سبق عليه القول" أي و احمل فيها أهلك و هم المختصون به من زوج و ولد و أزواج الأولاد و أولادهم إلا من سبق عليه قولنا و تقدم عليه عهدنا أنه هالك، و كان هذا المستثنى زوجته الخائنة التي يذكرها الله تعالى في قوله: "ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما:" التحريم: - 10.

و ابن نوح الذي يذكره الله تعالى في الآيات التالية و كان نوح (عليه السلام) يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى بين الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله و أنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من الذين ظلموا.

و قوله: "و من آمن و ما آمن معه إلا قليل" أي و احمل فيها من آمن بك من قومك غير أهلك لأن من آمن به من أهله أمر بحمله بقوله: "و أهلك" و لم يؤمن به من القوم إلا قليل.

في قوله: "و ما آمن معه" دون أن يقال: و ما آمن به تلويح إلى أن المعنى: و ما آمن بالله مع نوح إلا قليل، و ذلك أنسب بالمقام و هو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، و الملاك فيه هو الإيمان بالله و الخضوع لربوبيته، و كذا في قوله: "إلا قليل" دون أن يقال إلا قليل: منهم بلوغا في استقلالهم إن من آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلة.

قوله تعالى: "و قال اركبوا فيها بسم الله مجراها و مرساها إن ربي لغفور رحيم" قرىء مجراها بفتح الميم و هو مجرى السفينة و سيرها، و مجراها بضم الميم و هو إجراء السفينة و سياقها، و مرساها بضم الميم مصدر ميمي مرادف الإرساء، و الإرساء الإثبات و الإيقاف، قال تعالى: "و الجبال أرساها:" النازعات: - 32.

و قوله: "و قال اركبوا فيها" معطوف على قوله في الآية السابقة: "جاء أمرنا" أي حتى إذا قال نوح إلخ، و خطابه لأهله و سائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة.

و قوله: "بسم الله مجراها و مرساها" تسمية منه (عليه السلام) يجلب به الخير و البركة لجري السفينة و إرسائها فإن في تعليق فعل من الأفعال أو أمر من الأمور على اسم الله تعالى و ربطه به صيانة له من الهلاك و الفساد و اتقاء من الضلال و الخسران لما أنه تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور و الفناء و العي و العناء إليه فما تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء.

فهو (عليه السلام) يعلق جري السفينة و إرساءها باسم الله و هذان هما السببان الظاهران في نجاة السفينة و من فيها من الغرق، و إنما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الإلهية من ركبها، و إنما تشمل العناية بشمول المغفرة الإلهية لخطايا ركابها و الرحمة الإلهية لهم لينجوا من الغرق و يعيشوا على رسلهم في الأرض، و لذلك علل (عليه السلام) تسميته بقوله: "إن ربي لغفور رحيم" أي إنما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي و مرساها لأنه ربي الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها و مرساها من الاختلال و التخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته و رحمته.



و نوح (عليه السلام) أول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهو (عليه السلام) أول فاتح فتح هذا الباب كما أنه أول من أقام الحجة على التوحيد، و أول من جاء بكتاب و شريعة و أول من انتهض لتعديل الطبقات و رفع التناقض عن المجتمع الإنساني.

و ما قدمناه من معنى قوله: "بسم الله مجراها و مرساها" مبني على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح (عليه السلام) و المجرى و المرسى مصدرين ميميين و ربما احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها و مرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى.

قال في الكشاف، في الآية: يجوز أن يكون كلاما واحدا و كلامين: فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالا من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها و وقت إرسائها إما لأن المجرى و المرسى للوقت و إما لأنهما مصدران كالإجراء و الإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم و مقدم الحاج، و يجوز أن يراد مكانا الإجراء و الإرساء، و انتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.

و الكلامان أن يكون بسم الله مجراها و مرساها جملة من مبتدإ و خبر مقتضبة 1 أي بسم الله إجراؤها و إرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، و إذا أن ترسو قال: بسم الله فرست، و يجوز أن يقحم 1.

الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما و يراد بالله إجراؤها و إرساءها.

قال: و قرىء مجراها و مرساها بفتح الميم من جرى و رسى إما مصدرين أو وقتين أو مكانين، و قرأ مجاهد: مجريها و مرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله.

قوله تعالى: "و هي تجري بهم في موج كالجبال" الضمير للسفينة، و الموج اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - و هي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء و في الآية إشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء و لم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل.

قوله تعالى: "و نادى نوح ابنه و كان في معزل يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين" المعزل اسم مكان من العزل و قد عزل ابنه نفسه عن أبيه و المؤمنين في مكان لا يقرب منهم، و لذلك قال: "و نادى نوح ابنه" و لم يقل: و قال نوح لابنه.

و المعنى: و نادى نوح ابنه و كان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم و قال في ندائه: يا بني - بالتصغير و الإضافة دلالة على الإشفاق و الرحمة - اركب معنا السفينة و لا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة و عدم ركوب السفينة، و لم يقل (عليه السلام): و لا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه و أنه غير مؤمن إلا باللفظ، و لذلك دعاه إلى الركوب.

قوله تعالى: "قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله" إلخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوي أويا و مأوى تقول: أوى إلى كذا: انضم إليه يأوي أويا و مأوى و آواه غيره يؤويه إيواء، انتهى.

و المعنى: قال ابن نوح مجيبا لأبيه رادا لأمره: سأنضم إلى جبل يعصمني و يقيني من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - و هو يوم اشتد غضب الله و قضى بالغرق لأهل الأرض إلا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل و لا غيره، و حال بين نوح و ابنه الموج فكان ابنه من المغرقين و لو لم يحل الموج بينهما و لم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره و تبرأ منه.



و في الكلام إشارة إلى أن أرضهم كانت أرضا جبلية لا مئونة زائدة في صعود الإنسان إلى بعض جبال كانت هناك.

قوله تعالى: "و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين" البلع إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف، و الإقلاع الإمساك و ترك الشيء من أصله، و الغيض جذب الأرض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها و هو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقصته.

و الجودي مطلق الجبل و الأرض الصلبة، و قيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهي إلى أرمينية و هي المسماة "آرارات".

و قوله: "و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي" نداء صادر من ساحة العظمة و الكبرياء لم يصرح باسم قائله و هو الله عز اسمه للتعظيم، و الأمر تكويني تحمله كلمة "كن" الصادرة من ذي العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع الأرض ما على وجهها من الماء المتفجر من عيونها، و أن تكف السماء عن أمطارها.

و فيه دلالة على أن الأرض و السماء كانتا مشتركتين في إطغاء الماء بأمر الله كما يبينه قوله تعالى: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر:" القمر: - 12.

و قوله: "و غيض الماء" أي نقص الماء و نشف عن ظاهر الأرض و انكشف البسيط، و ذلك إنما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران و تشكيل البحار و البحيرات، و انتشاف ما على سائر البسيطة.

و قوله: "و قضي الأمر" أي أنجز ما وعد لنوح (عليه السلام) من عذاب القوم و أنفذ الأمر الإلهي بغرقهم و تطهر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل فقضاء الأمر كما يقال على جعل الحكم و إصداره كذلك يقال على إمضائه و إنفاذه و تحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإلهي و الحكم الربوبي الذي هو عين الوجود الخارجي جعله و إنفاذه واحد، و إنما الاختلاف بحسب التعبير.

و قوله: "و استوت على الجودي" أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودي المعهود، و هو إخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح و من معه من أمر الطوفان.

و قوله: "و قيل بعدا للقوم الظالمين" أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته و طردهم عن دار كرامته، و الكلام في ترك ذكر فاعل "قيل" هاهنا كالكلام فيه في "قيل" السابق.

و الأمر أيضا في قوله: "بعدا للقوم الظالمين" كالأمرين السابقين: "يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي" تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدي إلى خزيهم في الدنيا و خسرانهم في الآخرة، و إن كان من وجه آخر من جنس الأمر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الأمر الإلهي بالإيمان و العمل، و كونه جزاء لهم على استكبارهم و استعلائهم على الله عز و جل.

و للصفح عن ذكر الفواعل في قوله: "و قيل يا أرض" إلخ، و قوله: "و قضي الأمر" و قوله: "و قيل بعدا" إلخ، في الآية وجه آخر مشترك و هو أن هذه الأمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر.



و لمثل هذه النكتة حذف فاعل "غيض الماء" و هو الأرض، و فاعل "استوت على الجودي" و هو السفينة، و لم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، و لا الناجون بأنهم نوح (عليه السلام) و من معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغا ليس فيه إلا سماء تنزل أمطارها، و أرض انفجرت بعيونها و انغمرت بالماء و سفينة تجري في أمواجه، و أمر مقضي، و قوم ظالمون هم قوم نوح و أمر إلهي بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، و لو استقر شيء و استوى فإنما هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و قيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه و القوم الظالمون هم المقضي عليهم بالعذاب، و لو قيل: قضي الأمر فإنما القاضي هو الله سبحانه، و الأمر هو ما وعده نوحا و نهاه أن يراجعه في ذلك و هو أنهم مغرقون، و لو قيل للسماء: أقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد إقلاعها و إمساكها ماءها.

ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الإيجاز و توافق لطيف فيما بينها كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول و يدهش الألباب و إن كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها.

و قد اهتم بأمرها رجال البلاغة و علماء البيان فغاصوا لجي بحرها و أخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، و ما هو - و قد اعترفوا بذلك - إلا كغرفة من بحر أو حصاة من بر.

قوله تعالى: "و نادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق و أنت أحكم الحاكمين" دعاء نوح (عليه السلام) لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة و قد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه و أمره بركوب السفينة فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح (عليه السلام) و هو يرى أنه مؤمن بالله من أهله و قد وعده الله بإنجاء أهله.

و لما به من الوجد و الحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى: "و نادى نوح ربه" و لم يقل: سأل أو قال أو دعا، و رفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر و هاج به الوجد أمر طبعي.

و الدعاء أعني نداء نوح (عليه السلام) ربه في ابنه و إن ذكر في القصة بعد ذكر إنجاز غرق القوم و ظاهره كون النداء بعد تمام الأمر و استواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال أن يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما و على هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان إنما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الأخذ ببيان بعض جهاته الباقية.

و قد كان (عليه السلام) رسولا أحد الأنبياء أولي العزم عالما بالله عارفا بمقام ربه بصيرا بموقف نفسه في العبودية، و الظرف ظهرت فيه آية الربوبية و القهر الإلهي أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا و أهلها، و نودي من ساحة العظمة و الكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوح (عليه السلام) يدعو لابنه و الظرف هذا الظرف لم يجترىء (عليه السلام) - على ما يقتضيه أدب النبوة - على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، و ابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: "احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك".

و كان أهله - غير امرأته - حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا و لو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح (عليه السلام) مؤمنا لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة فهو (عليه السلام) الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا و لم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر و إنما هي معصية دون الكفر.

و لذلك كله قال (عليه السلام): "رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق" فذكر وعد ربه و ضم إليه أن ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة "رب" على الاسترحام، و دلالة الإضافة في "ابني" على الحجة في قوله: "من أهلي" و دلالة التأكيد بإن و لام الجنس في قوله: "و إن وعدك الحق" على أداء حق الإيمان.



و كانت الجملتان: "إن ابني من أهلي" "و إن وعدك الحق" ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه (عليه السلام) لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله بل سلم الحكم الحق و القضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: "و أنت أحكم الحاكمين".

فالمعنى: رب إن ابني من أهلي، و إن وعدك حق كل الحق، و إن ذلك يدل على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق و مع ذلك فالحكم الحق إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنه (عليه السلام) يستوضح ما هو حقيقة الأمر و لم يذكر نجاة ابنه و لا زاد على هذا الذي حكاه الله عنه شيئا و سيوافيك بيان ذلك.

قوله تعالى: "قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم" إلخ.

بين سبحانه لنوح (عليه السلام) وجه الصواب فيما ذكره بقوله: "إن ابني من أهلي و إن وعدك" إلخ، و هو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى: "إنه ليس من أهلك" فارتفع بذلك أثر حجته.

و المراد بكونه ليس من أهله - و الله أعلم - أنه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم لأن المراد بالأهل في قوله: "و أهلك إلا من سبق عليه القول" الأهل الصالحون، و هو ليس بصالح و إن كان ابنه و من أهله بمعنى الاختصاص، و لذلك علل قوله: "إنه ليس من أهلك" بقوله: "إنه عمل غير صالح".

فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنها إنما خرجت من الحكم بالاستثناء و هي داخلة موضوعا في قوله: "و أهلك" و يكون ابنه ليس من أهله و خارجا موضوعا لا بالاستثناء و هو بعيد.

قلت: المراد بالأهل في قوله: "و أهلك إلا من سبق عليه القول" هم الأهل بمعنى الاختصاص و بالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين و مصداقه امرأته و ابنه هذا، و أما الأهل الواقع في قوله هذا: "إنه ليس من أهلك" فهم الصالحون من المختصين به (عليه السلام) طبقا لما وقع في قوله: "رب إن ابني من أهلي" فإنه (عليه السلام) لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من أولي الاختصاص و إلا شمل امرأته و بطلت حجته فافهم ذلك.

فهذا هو الظاهر من معنى الآية، و يؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و ذكروا في تفسير الآية معان أخر: منها: أن المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله.

و نسب إلى جماعة من المفسرين.

و فيه أنه في نفسه معنى لا بأس به إلا أنه غير مستفاد من سياق الآية لأن الله سبحانه ينفي عنه الأهلية بالمعنى الذي كان يثبتها له به نوح (عليه السلام) و لم يكن نوح يريد بأهليته أنه مؤمن غير كافر بل إنما كان يريد أنه أهله بمعنى الاختصاص و الصلاح و إن كان لازمه الإيمان.

اللهم إلا أن يرجع إلى المعنى المتقدم.

و منها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة و إنما ولد على فراشه فقال نوح (عليه السلام): إنه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أن الأمر على خلاف ذلك، و نبهه على خيانة امرأته.

و ينسب إلى الحسن و مجاهد.



و فيه: أنه على ما فيه من نسبة العار و الشين إلى ساحة الأنبياء (عليهم السلام)، و الذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم و ينزه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة و لا ظهور فليس في القصة إلا قوله: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" و ليس بظاهر فيما تجرءوا عليه و قوله في امرأة نوح: "امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما:" التحريم: - 10 و ليس إلا ظاهرا في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما و تسران إليهم بأسرارهما و تستنجدانهم عليهما.

و منها: أنه كان ابن امرأته (عليه السلام) و كان ربيبه لا ابنه من صلبه.

و فيه أنه مما لا دليل عليه من جهة اللفظ.

على أنه لا يلائم قوله في تعليل أنه ليس من أهله: "إنه عمل غير صالح" و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يقال: إنه ابن المرأة.

على أن من المستبعد جدا أن لا يكون نوح (عليه السلام) عالما بأنه ربيبه و ليس بابنه حتى يخاطب ربه بقوله: "إن ابني من أهلي" أو يكون عالما بذلك و يتكلم بالمجاز و يحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه أنه ليس ابنه و إنما هو ربيب.

و قوله: "إنه عمل غير صالح" ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح (عليه السلام) فيكون هو العمل غير الصالح، و عده عملا غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، و قولها: فإنما هي إقبال و إدبار، أي ذات إقبال و إدبار.

فالمعنى: إن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.

و يؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: "إنه عمل غير صالح" بالفعل الماضي أي عمل عملا غير صالح.

و ذكر بعضهم: أن الضمير راجع إلى سؤال نوح (عليه السلام) المفهوم من قوله: "رب إن ابني من أهلي" أي إن سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنه سؤال لما ليس لك به علم و لا ينبغي لنبي أن يخاطب ربه بمثل ذلك و هو من أسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئا من الجملتين المكتنفتين به لا قوله: "إنه ليس من أهلك" و لا قوله: "فلا تسئلن ما ليس لك به علم" و هو ظاهر، و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: "إنه ليس من أهلك" و يتصل بقول نوح (عليه السلام).

على أنك عرفت أن قول نوح (عليه السلام): "رب إن ابني من أهلي" إلخ، لا يتضمن سؤالا و إنما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكن العناية الإلهية حالت بينه و بين السؤال.

و قوله: "فلا تسئلن ما ليس لك به علم" كان قول نوح (عليه السلام): "رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق" في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه و هو لا يعلم أنه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهية، و حال التسديد الغيبي بينه و بين السؤال فأدركه النهي بقوله: "لا تسئلن ما ليس لك به علم" بتفريع النهي على ما تقدم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملا غير صالح و أنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم.

و النهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه (عليه السلام) لا مستقلا و لا في ضمن قوله: "رب إن ابني من أهلي" لأن النهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلا، و قد قال تعالى: "لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم:" الحجر: - 88 فنهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حب الدنيا و الافتتان بزينتها و حاشاه عن ذلك.



و إنما يفتقر النهي في صحة تعلقه بفعل ما أن يكون فعلا اختياريا يمكن أن يبتلي به المكلف، و ما نهي عنه الأنبياء (عليهم السلام) على هذه الصفة و إن كانوا ذوي عصمة إلهية و تسديد غيبي، فإن من العصمة و التسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم و كلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإنسان نبههم على وجه الصواب و يدعوهم إلى السداد و التزام طريق العبودية، قال تعالى: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا:" إسراء: - 75 فأنبأ تعالى أنه هو الذي ثبته و لم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلا عن نفس الركون.

و قال تعالى و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما:" النساء: - 113.

و من الدليل على أن النهي - "فلا تسئلن" إلخ - نهي عما لم يقع بعد قول نوح (عليه السلام) بعد استماع هذا النهي: "رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم" و لو كان سأل شيئا لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق و الارتكاب.

و من الدليل أيضا على أنه (عليه السلام) لم يسأل ذلك تعقيب قوله: "فلا تسئلن ما ليس لك به علم" بقوله: "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" فإن معناه: أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، و لو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم.

فإن قلت: إنه تعالى قال: "أن تكون من الجاهلين" أي ممن استقرت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة و الدفعة، و بذلك يعلم أنه سأل ما سأل و تحقق منه الجهل مرة و إنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.

قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار و التكرر و إنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه، و يشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة: "قالوا أ تتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين:" البقرة: - 67، و قوله في قصة يوسف: "و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين:" يوسف: - 33 و قوله خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "و لو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين:" الأنعام: - 35.

و أيضا لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى: "إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا:" النور: - 17.

قوله تعالى: "قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين" لما تبين لنوح (عليه السلام) أنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم و كان من الجاهلين و إن عناية الله حالت بينه و بين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته و رحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: "رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم".



و الكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأمور المهلكة و المعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب و الآثام و قد تقدم الكلام فيه و قد أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستعاذة من الشيطان و هو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: "قل أعوذ برب الناس - إلى أن قال - من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس:" الناس: - 5 و قال: "و أعوذ بك رب أن يحضرون:" المؤمنون: - 98 و الوحي مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم:" الجن: - 28.

و قوله: "و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين كلام صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم و التأديب.

أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة و لازمها طلب مغفرة الله و رحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلته و هلاكته و شمول عنايته لحاله و قد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الأمر التشريعي بل كل وبال و أثر سيىء الإنسان بوجه، و أن المغفرة أعم من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الإنسان و يجمع شمله.

و أما حقيقة الشكر فإن العناية الإلهية التي حالت بينه و بين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين و عصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا على زلة في طريقه و رحمة و نعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله (عليه السلام): "و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين" أي إن لم تعذني من الزلات لخسرت، ثناء و شكر لصنعه الجميل.

قوله تعالى: "قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك" إلخ، السلام هو السلامة أو التحية غير أن ذكر مس العذاب في آخر الآية يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب و كذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتع يدل على أن المراد بالبركات ليس مطلق النعم و أمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير و السعادة و العاقبة المحمودة.

فقوله: "قيل - و لم يذكر القائل و هو الله سبحانه للتعظيم - يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك" معناه - و الله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - و نعم ذوات بركات و خيرات نازلة منا عليك أو أنزل بتحية و بركات نازلة منا عليك.

و قوله: "و على أمم ممن معك" معطوف على قوله: "عليك" و تنكير أمم يدل على تبعيضهم لأن من الأمم من يذكره تعالى بعد في قوله: "و أمم سنمتعهم".

و الخطاب أعني قوله تعالى: "يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك" إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره و ليس وقتئذ متنفس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان و قد أغرقوا جميعا و لم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة و قد رست و استوت على الجودي، و قد قضي أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها و يعيشوا فيها إلى حين.

خطاب عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهي يوم أهبط آدم (عليه السلام) من الجنة إلى الأرض و قد حكاه الله تعالى في موضع بقوله: "و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين - إلى أن قال - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:" البقرة: - 39 و في موضع آخر بقوله: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون:" الأعراف: - 25.



و هذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأول موجه إلى نوح (عليه السلام) و من معه من المؤمنين - و إليهم ينتهي نسل البشر اليوم - متعلق بهم و بمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، و هو يتضمن تقدير حياتهم الأرضية و الإذن في نزولهم إليها و استقرارهم فيها و إيوائهم إياها.

و قد قسم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام و البركات و هم نوح (عليه السلام) و أمم ممن معه، و لطائفة أخرى بالتمتيع، و عقب التمتيع بمس العذاب لهم كما كلمتي السلام و البركات لا تخلوان من بشرى الخير و السعادة بالنسبة إلى من تعلقتا به.

فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام و بركات و تمتيع موجه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، و وزانه وزان خطاب الهبوط الموجه إلى آدم و زوجته (عليه السلام)، و في هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضية و وعد لمن أطاع الله سبحانه و وعيد لمن عصاه كما أن في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.

و ظهر بذلك أن المراد بقوله: "و على أمم ممن معك" الأمم الصالحون من أصحاب السفينة و من سيظهر من نسلهم من الصالحين، و الظاهر على هذا أن يكون "من" في قوله "ممن معك" ابتدائية لا بيانية، و المعنى و على أمم يبتدي تكونهم ممن معك، و هم أصحاب السفينة و الصالحون من نسلهم.

و ظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، و الاعتبار يساعد ذلك فإنهم قد محصوا بالبلاء تمحيصا و آثروا ما عند الله من زلفى و قد صدق الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل: "إلا من قد آمن:" آية - 36 من السورة، و قال: "و من آمن و ما آمن معه إلا قليل:" آية - 40 من السورة.

و قوله: "و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" كأنه مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: و ممن معك أمم أو و هناك أمم سنمتعهم إلخ، و قد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: و متاع لأمم آخرين سيعذبون طردا لهم من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أمما آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم و هم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة و زلفى.

و في الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في "قيل" و تخصيص نوح (عليه السلام) بخطاب الهبوط و التكلم مع الغير في قوله: "منا في موضعين و "سنمتعهم" و غير ذلك.

و ظهر أيضا: أن ما فسروا به قوله: "على أمم ممن معك" أن معناه: على أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب و كذا قول من قال: يعني بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لأن الله جعل فيهم البركة.

و فساده أظهر.

قوله تعالى: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك" أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

و قوله: "ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا" أي كانت و هي على محوضة الصدق و الصحة مجهولة لك و لقومك من قبل هذا، و الذي عند أهل الكتاب منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته (عليه السلام).



و قوله: "فاصبر إن العاقبة للمتقين" أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح (عليه السلام) و قومه من هلاك قومه و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين و قد ورثهم الله الأرض على ما صبروا، و نصر نوحا على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين، و هم الصابرون في جنب الله سبحانه.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا (عليه السلام) كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل و معه ابنه و هو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا ثم أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه و سالت الدماء. قال نوح (عليه السلام): رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، و إن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم و أنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه و آيسه من إيمان قومه و أخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال و لا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعني لا تحزن عليهم و اصنع الفلك. قال: يا رب و ما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء فأغرق أهل معصيتي و أطهر أرضي منهم. قال: يا رب و أين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.



و في الكافي، بإسناده عن المفضل قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد رحمه الله ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين و هو آخر السراجين فنزل و قال: انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطه آدم و أنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى و النعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت: و كانت الكوفة و مسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضل و كان منزل نوح و قومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة. قال: و كان نوح رجلا نجارا فجعله الله عز و جل نبيا و انتجبه، و نوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء. قال: و لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز و جل فيهزءون به و يسخرون منه فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا - إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا - إلا فاجرا كفارا، فأوحى الله عز و جل إلى نوح أن اصنع سفينة و أوسعها و عجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله (عليه السلام) عند زوال الشمس فقام أبو عبد الله (عليه السلام) فصلى الظهر و العصر ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الدارين و هي موضع دار ابن حكيم و ذلك فرات اليوم فقال: يا مفضل و هاهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر. ثم مضى حتى ركب دابته. فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال في: دورين. قلت: و كم الدوران؟ قال: ثمانين 1 سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلا. كيف؟ و الله يقول: "و وحينا" قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عز و جل: "حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور" فأين كان موضعه؟ و كيف كان؟ فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبله ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: و كان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال نعم: إن الله عز و جل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله تبارك و تعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضا و العيون كلهن فيضا فغرقهم الله و أنجى نوحا و من معه في السفينة - الحديث.

أقول: و الرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنة و لتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.

و في الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: "و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا" الآية، و في الرواية نسبة زياد إلى أبي سفيان و لعل الوارد في لفظ الإمام "زياد" فأضيف إليه "ابن أبي سفيان" في لفظ بعض الرواة.

و فيه، بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن نوحا (عليه السلام) لما فرغ من السفينة و كان ميعاده فيما بينه و بين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة فقالت إن التنور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء و أدخل من أراد أن يدخل و أخرج من أراد أن يخرج ثم جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عز و جل: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر - و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر - و حملناه على ذات ألواح و دسر. قال: و كان نجره في وسط مسجدكم. و لقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

أقول: و كون فوران التنور علامة له (عليه السلام) يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة و العامة و سياق الآية: "فلما جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل" الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.

و فيه، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد و هي الفطرة التي فطر الناس عليها و أخذ الله ميثاقه على نوح و النبيين أن يعبدوا الله تبارك و تعالى و لا يشركوا به شيئا و أمر بالصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحلال و الحرام، و لم يفرض عليه أحكام حدود و لا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم سرا و علانية فلما أبوا و عتوا قال: "رب إني مغلوب فانتصر" فأوحى الله عز و جل إليه: "لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" فذلك قول نوح: "و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا" فأوحى الله إليه: "أن اصنع الفلك:. أقول: و رواه العياشي عن الجعفي مرسلا و ظاهر الرواية أن له (عليه السلام) دعاءين على قومه أحدهما و هو أولهما قوله: "رب إني مغلوب فانتصر" الواقع في سورة القمر، و ثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه و هو قوله: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا" الواقع في سورة نوح.

و في معاني الأخبار، بإسناده عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل "و ما آمن معه إلا قليل" قال: كانوا ثمانية: أقول: و رواه العياشي أيضا عن حمران عنه (عليه السلام)، و للناس في عددهم أقوال أخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان و سبعون أو ثمانون و لا دليل على شيء منها.



و في العيون، بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا (عليه السلام): لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح و ولده و من تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين.

أقول: و لا تنافي بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح (عليه السلام) و قد عمر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.

و فيه، بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال أبي: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز و جل قال لنوح: "إنه ليس من أهلك" لأنه كان مخالفا له، و جعل من اتبعه من أهله. قال: و سألني كيف يقرءون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عمل غير صالح، و إنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه و لكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.

أقول: و لعله (عليه السلام) يشير بقوله: "و جعل من اتبعه من أهله" إلى قوله تعالى "فنجيناه و أهله من الكرب العظيم:" الأنبياء - 76.

فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه.

و كان المراد من قراءة الآية تفسيرها و الراوي يشير بإيراد القراءتين إلى تفسير من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه و لذلك قرأ بعضهم: "و نادى نوح ابنها" أو "و نادى نوح ابنه" بفتح الهاء مخفف ابنها و نسبوا القراءتين إلى علي و بعض الأئمة من ولده (عليهم السلام).

قال في الكشاف،: و قرأ علي رضي الله عنه "ابنها" و الضمير لامرأته، و قرأ محمد بن علي و عروة بن الزبير "ابنه" بفتح الهاء يريدان "ابنها" فاكتفيا بالفتحة عن الألف و به ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: و الله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه "إن ابني من أهلي" و أنت تقول: لم يكن ابنه، و أهل الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال: و من يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ و استدل بقوله من أهلي و لم يقل: مني.

انتهى.

و استدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله و لم يعده بنجاة من كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني مني عند سؤال نجاته، و قد تقدم بيان أن لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.

و ما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق.

و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف و أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه: أنه قرأ: "و نادى نوح ابنها".

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: "و نادى نوح ابنه" قال هي بلغة طيىء لم يكن ابنه و كان ابن امرأته:. أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام).

و في تفسير العياشي، عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "و نادى نوح ابنه" قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته و هي لغة طيىء يقولون لابن امرأته: ابنه.

الحديث.
<<        الفهرس        >>