جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج14 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


22 سورة الحج - 17 - 24

إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ الّذِينَ هَادُوا وَ الصبِئِينَ وَ النّصرَى وَ الْمَجُوس وَ الّذِينَ أَشرَكوا إِنّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسجُدُ لَهُ مَن فى السمَوَتِ وَ مَن فى الأَرْضِ وَ الشمْس وَ الْقَمَرُ وَ النّجُومُ وَ الجِْبَالُ وَ الشجَرُ وَ الدّوَاب وَ كثِيرٌ مِّنَ النّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَاب وَ مَن يهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) هَذَانِ خَصمَانِ اخْتَصمُوا فى رَبهِمْ فَالّذِينَ كفَرُوا قُطعَت لهَُمْ ثِيَابٌ مِّن نّارٍ يُصب مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَْمِيمُ (19) يُصهَرُ بِهِ مَا فى بُطونهِمْ وَ الجُْلُودُ (20) وَ لهَُم مّقَمِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كلّمَا أَرَادُوا أَن يخْرُجُوا مِنهَا مِنْ غَمٍ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَاب الحَْرِيقِ (22) إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ يحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَ هُدُوا إِلى الطيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صرَطِ الحَْمِيدِ (24)

بيان

بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس و اختصامهم في الله سبحانه بين تابع ضال يجادل في الله بغير علم، و متبوع مضل يجادل في الله بغير علم و مذبذب يعبد الله على حرف، و الذين آمنوا بالله و عملوا الصالحات، ذكر في هذه الآيات أن الله شهيد عليهم و سيفصل بينهم يوم القيامة و هم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته و كبريائه حقيقة و إن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا و هم الذين حق عليهم العذاب.

ثم ذكر أجر المؤمنين و جزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة.

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" إلخ.

المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة هم الذين آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و كتابهم القرآن.

و الذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه و كتابهم التوراة و قد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كوروش ملك إيران بابل و تخلص بنو إسرائيل من الإسارة و رجعوا إلى الأرض المقدسة.

و الصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة بينهم و بين الذين أشركوا بل هم - على ما قيل - قوم متوسطون بين اليهودية و المجوسية و لهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي و يسمى الواحد منهم اليوم عند العامة "صبي" و قد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين:" البقرة: 62.

و النصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) و من قبله من الأنبياء و كتبهم المقدسة الأناجيل الأربعة للوقا و مرقس و متى و يوحنا و كتب العهد القديم على ما اعتبرته و قدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الإنجيل النازل على عيسى (عليه السلام).

و المجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت و كتابهم المقدس "أوستا" غير أن تاريخ حياته و زمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره و قد افتقدوا الكتاب باستيلاء إسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم و المسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدأ الخير و مبدأ الشر يزدان و أهريمن أو النور و الظلمة - و يقدسون الملائكة و يتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، و يقدسون البسائط العنصرية و خاصة النار و كانت لهم بيوت نيران بإيران و الصين و الهند و غيرها و ينهون الجميع إلى "أهورامزدا" موجد الكل.

و الذين أشركوا هم الوثنية عبدة الأصنام و أصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية الصابئة، و البرهمانية، و البوذية، و قد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الأصنام ما شاءوا كما شاءوا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز و طوائف في أطراف المعمورة و قد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب.



و قوله: "إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة" المراد به فصل القضاء فيما اختلف فيه أصحاب هذه المذاهب و اختصموا فينفصل المحق منهم و يتميز من المبطل انفصالا و تميزا لا يستره ساتر و لا يحجبه حاجب.

و تكرار إن في الآية للتأكيد دعى إلى ذلك طول الفصل بين "إن" في صدر الآية و بين خبرها و نظيره ما في قوله: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم:" النحل: 110، و قوله "ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم:" النحل: 119.

و قوله: "إن الله على كل شيء شهيد" تعليل للفصل إنه فصل بالحق.

قوله تعالى: "أ لم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب" إلى آخر الآية، الظاهر أن الخطاب لكل من يرى و يصلح لأن يخاطب، و المراد بالرؤية العلم، و يمكن أن يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية كما قال فيه: "ما كذب الفؤاد ما رأى أ فتمارونه على ما يرى:" النجم: 12.

و تعميم السجدة لمثل الشمس و القمر و النجوم و الجبال من غير أولي العقل دليل على أن المراد بها السجدة التكوينية و هي التذلل و الصغار قبال عزته و كبريائه تعالى و تحت قهره و سلطنته، و لازمه أن يكون "من في الأرض" شاملا لنوع الإنسان من مؤمن و كافر إذ لا استثناء في السجدة التكوينية و التذلل الوجودي.

و عدم ذكر نفس السماوات و الأرض في جملة الساجدين مع شمول الحكم لهما في الواقع يعطي أن معنى الكلام أن المخلوقات العلوية و السفلية من ذي عقل و غير ذي عقل ساجدة لله متذللة في وجودها تجاه عزته و كبريائه، و لا تزال تسجد له تعالى سجودا تكوينيا اضطراريا.

و قوله: "و كثير من الناس" عطف على "من في السماوات" إلخ.

أي و يسجد له كثير من الناس، و إسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق و إن كانا مشتركين في أصل معنى التذلل، و هذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الأرض تمثيلا للسجود و التذلل التكويني الاضطراري و إظهارا لمعنى العبودية.

و قوله: "و كثير حق عليه العذاب" المقابلة بينه و بين سابقه يعطي أن معناه و كثير منهم يأبى عن السجود، و قد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه و هو ثبوت العذاب على من استكبر على الله و أبى أن يخضع له تعالى، و إنما وضع ثبوت العذاب موضع الإباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، و ليكون تمهيدا لقوله تلوا: "و من يهن الله فما له من مكرم" الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم عن السجود هوان و خزي يتصل بهم ليس بعده كرامة و خير.

فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم و هو إهانة ليس بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، "بيدك الخير:" آل عمران: 26 فإذا منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره.

و قوله: "إن الله يفعل ما يشاء" كناية عن عموم القدرة و تعليل لما تقدمه من حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له و إهانتهم إهانة لا إكرام بعده.



فالمعنى - و الله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات العلوية و السفلية يخضعون و يتذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في مقام العبودية الخضوع و التذلل له و بين من يستكبر عن ذلك و هؤلاء هم الذين حق عليهم العذاب و أهانهم الله إهانة لا إكرام بعده و هو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، و من هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها.

قوله تعالى: "هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم" الإشارة بقوله: "هذان" إلى القبيلين اللذين دل عليهما قوله سابقا: "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" و قوله بعده: "و كثير من الناس و كثير حق عليه العذاب".

و يعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم و مذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا منقسمون إلى محق و مبطل إذ لو لا الحق و الباطل لم ينحصر الملل و النحل على تشتتها في اثنين البتة، و المحق و المبطل هما المؤمن بالحق و الكافر به فهذه الطوائف على تشتت أقوالهم ينحصرون في خصمين اثنين و على انحصارهم في خصمين اثنين لهم أقوال مختلفة فوق اثنين فما أحسن تعبيره بقوله: "خصمان اختصموا" حيث لم يقل: خصوم اختصموا و لم يقل: خصمان اختصما.

و قد جعل اختصامهم في ربهم أي أنهم اختلفوا في وصف ربوبيته تعالى فإلى وصف الربوبية يرجع اختلافات المذاهب بالغة ما بلغت فهم بين من يصف ربه بما يستحقه من الأسماء و الصفات و ما يليق به من الأفعال فيؤمن بما وصف و هو الحق و يعمل على ما يقتضيه وصفه و هو العمل الصالح فهو المؤمن العامل بالصالحات، و من لا يصفه بما يستحقه من الأسماء و الصفات كمن يثبت له شريكا أو ولدا فينفي وحدانيته أو يسند الصنع و الإيجاد إلى الطبيعة أو الدهر أو ينكر النبوة أو رسالة بعض الرسل أو ضروريا من ضروريات الدين الحق فيكفر بالحق و يستره و هو الكافر فالمؤمن بربه و الكافر بالمعنى الذي ذكرهما الخصمان.

ثم شرع في جزاء الخصمين و بين عاقبة أمر كل منهما بعد فصل القضاء و قدم الذين كفروا فقال: "فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم" أي الماء الحار المغلي.

قوله تعالى: "يصهر به ما في بطونهم و الجلود" الصهر الإذابة أي يذوب و ينضج بذاك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء و الجلود.

قوله تعالى: "و لهم مقامع من حديد" المقامع جمع مقمعة و هي المدقة و العمود.

قوله تعالى: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق" ضمير "منها" للنار و "من غم" بيان له أو من بمعنى السببية و الحريق بمعنى المحرق كالأليم بمعنى المؤلم.

قوله تعالى: "إن الله يدخل الذين آمنوا" إلى آخر الآية، الأساور على ما قيل - جمع أسورة و هي جمع سوار و هو على ما ذكره الراغب معرب "دستواره" و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و هدوا إلى الطيب من القول و هدوا إلى صراط الحميد" الطيب من القول ما لا خباثة فيه و خبيث القول باطله على أقسامه، و قد جمع القول الطيب كله قوله تعالى إخبارا عنهم: "دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:" يونس: 10 فهدايتهم إلى الطيب من القول تيسيره لهم، و هدايتهم إلى صراط الحميد و الحميد من أسمائه تعالى أن لا يصدر عنهم إلا محمود الفعل كما لا يصدر عنهم إلا طيب القول.

و بين هذه الآية و قوله: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق" مقابلة ظاهرة.

بحث روائي

في التوحيد، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في حديث: قال (عليه السلام): سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل إليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله إليهم كتابا و بعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها. فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا و أهلكته فاخرج نطهرك و نقيم عليك الحد فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا قولي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت و إلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و أمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك قال: أ و ليس قد زوج بنيه بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحا الله ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب و المنافقون أشد حالا منهم. قال الأشعث. و الله ما سمعت بمثل هذا الجواب، و الله لا عدت إلى مثلها أبدا.

أقول: قوله: "و المنافقون أشد حالا منهم" فيه تعريض للأشعث و في كون المجوس من أهل الكتاب روايات أخر فيها أنهم كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "إن الله يفعل ما يشاء": أخرج ابن أبي حاتم و اللالكائي في السنة، و الخلعي في فوائده، عن علي: أنه قيل له: إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال بل لما يشاء قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال بل إذا شاء. قال فيدخلك الجنة حيث شاء أو حيث شئت؟ قال: بل حيث شاء. قال: و الله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.

أقول: و رواه في التوحيد، بإسناده عن عبد الله بن الميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) و فيه: "فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت" و لم يذكر الجنة.

و قد تقدمت رواية في هذا المعنى شرحناها في ذيل قوله: "و لا يضل به إلا الفاسقين:" البقرة: 26 في الجزء الأول من الكتاب.

و في التوحيد، بإسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا (عليه السلام): المشية من صفات الأفعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد.

أقول: في قوله (عليه السلام) ثانيا: "لم يزل مريدا شائيا تلويح إلى اتحاد الإرادة و المشية و هو كذلك فإن المشية معنى يوصف به الإنسان إذا اعتبر كونه فاعلا شاعرا بفعله المضاف إليه، و إذا تمت فاعليته بحيث لا ينفك عنه الفعل سمي هذا المعنى بعينه إرادة، و على أي حال هو وصف خارج عن الذات طار عليه، و لذلك لا يتصف تعالى بها كاتصافه بصفاته الذاتية كالعلم و القدرة لتنزهه عن تغير الذات بعروض العوارض بل هي من صفات فعله منتزعة من نفس الفعل أو من حضور الأسباب عليه.

فقولنا: أراد الله كذا معناه أنه فعله عالما بأنه أصلح أو أنه هيأ أسبابه عالما بأنه أصلح، و إذا كانت بمعناها الذي فينا غير الذات فلو قيل: لم يزل الله مريدا كان لازمه إثبات شيء أزلي غير مخلوق له معه و هو خلاف توحيده، و أما قول القائل: إن معنى الإرادة هو العلم بالأصلح، و العلم من صفات الذات فلم يزل مريدا أي عالما بما فعله أصلح فهو إرجاع للإرادة إلى العلم و لا محذور فيه غير أن عد الإرادة على هذا صفة أخرى وراء الحياة و العلم و القدرة لا وجه له.



و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية "هذان خصمان اختصموا في ربهم إلى قوله إن الله يفعل ما يريد" نزلت في الثلاثة و الثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر و هم حمزة بن المطلب و عبيدة بن الحارث و علي بن أبي طالب و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة. قال علي أنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة:. أقول: و رواه فيه، أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن قيس بن سعد بن عبادة و ابن عباس و غيرهما، و رواه في مجمع البيان، عن أبي ذر و عطاء:. و في الخصال، عن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي (عليهما السلام): يا با عبد الله حدثني عن قوله تعالى: "هذان خصمان اختصموا في ربهم" فقال: نحن و بنو أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، و قالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة.

أقول: و هو من الجري، و نظيره ما في الكافي، بإسناده عن ابن أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام): فالذين كفروا بولاية علي (عليه السلام) قطعت لهم ثياب من نار.

و في تفسير القمي،: "و هدوا إلى الطيب من القول" قال: التوحيد و الإخلاص "و هدوا إلى صراط الحميد" قال: الولاية:. أقول: و في المحاسن، بإسناده عن ضريس عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه:. و في المجمع، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما أحد أحب إليه الحمد من الله عز ذكره.

22 سورة الحج - 25 - 37

إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ وَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ الّذِى جَعَلْنَهُ لِلنّاسِ سوَاءً الْعَكِف فِيهِ وَ الْبَادِ وَ مَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَ إِذْ بَوّأْنَا لابْرَهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشرِك بى شيْئاً وَ طهِّرْ بَيْتىَ لِلطائفِينَ وَ الْقَائمِينَ وَ الرّكع السجُودِ (26) وَ أَذِّن فى النّاسِ بِالحَْجّ يَأْتُوك رِجَالاً وَ عَلى كلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍ عَمِيقٍ (27) لِّيَشهَدُوا مَنَفِعَ لَهُمْ وَ يَذْكرُوا اسمَ اللّهِ فى أَيّامٍ مّعْلُومَتٍ عَلى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَمِ فَكلُوا مِنهَا وَ أَطعِمُوا الْبَائس الْفَقِيرَ (28) ثُمّ لْيَقْضوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطوّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِك وَ مَن يُعَظمْ حُرُمَتِ اللّهِ فَهُوَ خَيرٌ لّهُ عِندَ رَبِّهِ وَ أُحِلّت لَكمُ الأَنْعَمُ إِلا مَا يُتْلى عَلَيْكمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْس مِنَ الأَوْثَنِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ (30) حُنَفَاءَ للّهِ غَيرَ مُشرِكِينَ بِهِ وَ مَن يُشرِك بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السمَاءِ فَتَخْطفُهُ الطيرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فى مَكانٍ سحِيقٍ (31) ذَلِك وَ مَن يُعَظمْ شعَئرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكمْ فِيهَا مَنَفِعُ إِلى أَجَلٍ مّسمّى ثُمّ محِلّهَا إِلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَ لِكلِّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسكاً لِّيَذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَمِ فَإِلَهُكمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسلِمُوا وَ بَشرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُمْ وَ الصبرِينَ عَلى مَا أَصابهُمْ وَ الْمُقِيمِى الصلَوةِ وَ ممّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ (35) وَ الْبُدْنَ جَعَلْنَهَا لَكم مِّن شعَئرِ اللّهِ لَكمْ فِيهَا خَيرٌ فَاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيهَا صوَاف فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبهَا فَكلُوا مِنهَا وَ أَطعِمُوا الْقَانِعَ وَ الْمُعْترّ كَذَلِك سخّرْنَهَا لَكمْ لَعَلّكُمْ تَشكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللّهَ لحُُومُهَا وَ لا دِمَاؤُهَا وَ لَكِن يَنَالُهُ التّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِك سخّرَهَا لَكمْ لِتُكَبرُوا اللّهَ عَلى مَا هَدَاشْ وَ بَشرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

بيان

تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام و تقرعهم بالتهديد و تشير إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإبراهيم (عليه السلام) و أمره بتأذين الحج في الناس و جملة من أحكام الحج.

قوله تعالى: "الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله و المسجد الحرام الذي جعلناه للناس" إلخ.

الصد المنع، و "سواء" مصدر بمعنى الفاعل، و العكوف في المكان الإقامة فيه، و البادي من البدو و هو الظهور، و المراد به - كما قيل - الطارىء أي الذي يقصده من خارج فيدخله، و الإلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة و أصله إلحاد حافر الدابة.

و المراد بالذين كفروا مشركوا مكة الذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول البعثة قبل الهجرة و كانوا يمنعون الناس عن الإسلام و هو سبيل الله و المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة و إقامة الصلاة و سائر المناسك فقوله: "يصدون" للاستمرار و لا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله "الذين كفروا" و المعنى الذين كفروا قبل و يستمرون على منع الناس عن سبيل الله و المؤمنين عن المسجد الحرام.

و بذلك يظهر أن قوله: "و المسجد الحرام" عطف على "سبيل الله" و المراد بصده منعهم المؤمنين عن أداء العبادات و المناسك فيه و كان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها.

و به يتبين أن المراد بقوله: "الذي جعلناه للناس" - و هو وصف المسجد الحرام - جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحدا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم و صدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس و إلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.

و يؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: "سواء العاكف فيه و الباد" أي المقيم فيه و الخارج منه مساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، و المراد بالإقامة فيه و في الخارج منه إما الإقامة بمكة و في الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة و الطرو عليه لها.

و قوله: "و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد و لازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه و مفعول "يرد" محذوف للدلالة على العموم، و الباء في "بإلحاد" للملابسة و في "بظلم" للسببية و الجملة تدل على خبر قوله: "إن الذين كفروا" في صدر الآية.

و المعنى الذين كفروا و لا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله و هو دين الإسلام و يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف فيه و البادي نذيقهم.

من عذاب أليم لأنهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم و من يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

و للمفسرين في إعراب مفردات الآية و جملها أقاويل كثيرة جدا و لعل ما أوردناه أنسب للسياق.



قوله تعالى: "و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود" بوء له مكانا كذا أي جعله مباءة و مرجعا له يرجع إليه و يقصده، و المكان ما يستقر عليه الشيء فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني فيها، و المراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة و الصلاة.

و الركع جمع راكع كسجد جمع ساجد و السجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.

و قوله: "و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" الظرف فيه متعلق بمقدر أي و اذكر وقت كذا و فيه تذكير لقصة جعل البيت معبدا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحادا بظلم.

و تبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة و مرجعا لعبادته لا لأن يتخذه بيت سكنى يسكن فيه، و يلوح إليه قوله بعد "طهر بيتي" بإضافة البيت إلى نفسه، و لا ريب أن هذا الجعل كان وحيا لإبراهيم فقوله: "بوأنا لإبراهيم مكان البيت" في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة و مرجعا لعبادتي و إن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، و بعبارة أخرى أن اعبدني في هذا المكان.

و بذلك يتضح أن "أن" في قوله: "أن لا تشرك بي شيئا" مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا و نحوه.

و يتضح أيضا أن قوله: "أن لا تشرك بي شيئا" ليس المراد به - و هو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقا و إن كان منهيا عنه مطلقا بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة و بعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان و الإهلال لها و نحوهما.

و كذا قوله: "و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود" و التطهير إزالة الأقذار و الأدناس عن الشيء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأولي، و قد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: "بيتي" أي بيتا يختص بعبادتي، و تطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة و الأرجاس التي تفسد العبادة و ليست إلا الشرك و مظاهره.

فتطهير بيته إما تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصة بأن يشرع إبراهيم (عليه السلام) للناس و يعلمهم طريقا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك و لا يدنسها دنسه كما أمر لنفسه بذلك، و إما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية و المعنوية لكن الذي يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنوية و تنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها و لا يشركون به شيئا.

فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق و اذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتي هذا بأخذه مباءة و مرجعا لعبادتي و لا تشرك بي شيئا في عبادتي و سن لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين و القائمين و الركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.

و في الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف و قيام و ركوع و سجود و إشعار بأن الركوع و السجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر.



و مما قيل في الآية أن قوله: "بوأنا" معناه "قلنا تبوء" و قيل: معناه "أعلمنا" و من ذلك أن "أن" في قوله: "أن لا" مصدرية و قيل: مخففة من الثقيلة، و من ذلك أن المراد بالطائفين الطارءون و بالقائمين المقيمون بمكة، و قيل: المراد بالقائمين و الركع السجود: المصلون، و هي جميعا وجوه بعيدة.

قوله تعالى: "و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق" التأذين: الإعلام برفع الصوت و لذا فسر بالنداء، و الحج القصد سمي به العمل الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم (عليه السلام) و جرت عليه شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فيه من قصد البيت الحرام، و رجال جمع راجل خلاف الراكب، و الضامر المهزول الذي أضمره السير، و الفج العميق - على ما قيل - الطريق البعيد.

و قوله: "و أذن في الناس بالحج" أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج و الجملة معطوفة على قوله: "لا تشرك بي شيئا" و المخاطب به إبراهيم و ما قيل: إن المخاطب نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيد من السياق.

و قوله: "يأتوك رجالا" إلخ، جواب الأمر أي أذن فيهم و أن تؤذن فيهم يأتوك راجلين و على كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، و لفظة "كل" تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.

قوله تعالى: "ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله في أيام معلومات" إلخ، اللام للتعليل أو الغاية و الجار و المجرور متعلق بقوله: "يأتوك" و المعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم و قد أطلقت المنافع و لم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.

و المنافع نوعان: منافع دنيوية و هي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية و يصفو بها العيش و ترفع بها الحوائج المتنوعة و تكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة و السياسة و الولاية و التدبير و أقسام الرسوم و الآداب و السنن و العادات و مختلف التعاونات و التعاضدات الاجتماعية و غيرها.

فإذا اجتمعت أقوام و أمم من مختلف مناطق الأرض و أصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب و الألوان و السنن و الآداب ثم تعارفوا بينهم و كلمتهم واحدة هي كلمة الحق و إلههم واحد و هو الله عز اسمه و وجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح و وحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه و أعطاه ما يرضيه، و استعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم و أعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعا أرقى، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعا وسيعا له من القوة و العدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، و لا تقوى عليه أي قوة جبارة طاحنة، و لا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد و لا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، و لا تفاهم كتفاهم الدين.

و منافع أخروية و هي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول و فعل و عمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله و ترك لذائذ الحياة و شواغل العيش و السعي إليه بتحمل المشاق و الطواف حول بيته و الصلاة و التضحية و الإنفاق و الصيام و غير ذلك.

و قد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الأركان و الأجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم (عليه السلام) في مسيره في مراحل التوحيد و نفي الشريك و إخلاص العبودية لله سبحانه.



فإتيان الناس إبراهيم (عليه السلام) أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أخرويها و دنيويها و إذا شهدوها تعلقوا بها فالإنسان مجبول على حب النفع.

و قوله: "و يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" قال الراغب: و البهيمة ما لا نطق له و ذلك لما في صوته من الإبهام لكن خص في التعارف بما عدا السباع و الطير فقال تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام".

انتهي.

و قال: و النعم مختص بالإبل و جمعه أنعام و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم، و لا يقال لها: أنعام حتى تكون في جملتها الإبل.

انتهي.

فالمراد ببهيمة الأنعام الأنواع الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم من معز أو ضأن و الإضافة بيانية.

و الجملة أعني قوله: "و يذكروا"، إلخ معطوف على قوله: "يشهدوا" أي و ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و هي يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و ثلاثة أيام بعده.

و ظاهر قوله: "على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" أنه متعلق بقوله: "يذكروا" و قوله: "من بهيمة الأنعام" بيان للموصول و المراد ذكرهم اسم الله على البهيمة - الأضحية - عند ذبحها أو نحوها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لأصنامهم.

و قد ذكر الزمخشري أن قوله: "و يذكروا اسم الله" إلخ كناية عن الذبح و النحر و يبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص و العناية في الكناية متعلقة بالمكني عنه دون نفس الكناية، و يظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج و هو كما ترى.

و قوله: "فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير" البائس من البؤس و هو شدة الضر و الحاجة، و الذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي.

قوله تعالى: "ثم ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم و ليطوفوا بالبيت العتيق" التفث شعث البدن، و قضاء التفث إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار و أخذ الشعر و نحو ذلك و هو كناية عن الخروج من الإحرام.

و المراد بقوله: "و ليوفوا نذورهم" إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، و بقوله: "و ليطوفوا بالبيت العتيق" طواف النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإن الخروج من الإحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحل بطواف النساء و هو آخر العمل.

و البيت العتيق هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى للعالمين:" آل عمران: 96، و قد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة و هو معمور و كان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين و خمسمائة سنة.

قوله تعالى: "ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه" إلى آخر الآية الحرمة، ما لا يجوز انتهاكه و وجب رعايته، و الأوثان جمع وثن و هو الصنم، و الزور الميل عن الحق و لذا يسمى الكذب و قول الباطل زورا.

و قوله: "ذلك" أي الأمر ذلك أي الذي شرعناه لإبراهيم (عليه السلام) و من بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه و أشرنا إليه من الإحرام و الطواف و الصلاة و التضحية بالإخلاص لله و التجنب عن الشرك.



و قوله: "و من يعظم حرمات الله فهو خير له" ندب إلى تعظيم حرمات الله و هي الأمور التي نهى عنها و ضرب دونها حدودا منع عن تعديها و اقتراف ما وراءها و تعظيمها الكف عن التجاوز إليها.

و الذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة و تمهيد لما بعدها من قوله "و أحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم" فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الأنعام - على كونها مما رزقهم الله و قد أحلها لهم - فيها حرمة إلهية و هي التي يدل عليها الاستثناء - إلا ما يتلى عليكم -.

و المراد بقوله ما يتلى عليكم" استمرار التلاوة، فإن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام و هي مكية و في سورة النحل و هي نازلة في آخر عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة و أول عهده بالمدينة، و في سورة البقرة و قد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها - على ما روي - و لا موجب لجعل "يتلى" للاستقبال و أخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.

و الآيات المتضمنة لمحرمات الأكل و إن تضمنت منها عدة أمور كالميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها و ما بعدها بخصوص ما أهل به لغير الله فإن المشركين كانوا يتقربون في حجهم - و هو السنة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم - بالأصنام المنصوبة على الكعبة و على الصفا و على المروة و بمنى و يهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها و من الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنى به من الآية و إن كان أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله.

و يؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور" فإن اجتناب الأوثان و اجتناب قول الزور و إن كانا من تعظيم حرمات الله و لذلك تفرع "فاجتنبوا الرجس" على ما تقدمه من قوله: "و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه" لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذ و إصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك و إهلال الضحايا باسمها.

و بذلك يظهر أن قوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور" نهي عام عن التقرب إلى الأصنام و قول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، و عن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، و على ذلك يبتني التفريع بالفاء.

و في تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله: "من الأوثان" إشعار بالعلية كأنه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنها رجس و في تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها أو التقرب أو التوجه إليها أو مسها و نحو ذلك - مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان - مبالغة ظاهرة.

و قد تبين بما مر أن "من" في قوله: "من الأوثان" بيانية، و ذكر بعضهم أنها ابتدائية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان و هو عبادتها، و ذكر آخرون أنها تبعيضية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان و هو عبادتها، و في الوجهين من التكلف و إخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.



قوله تعالى: "حنفاء لله غير مشركين به و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير" إلخ، الحنفاء جمع حنيف و هو المائل من الأطراف إلى حاق الوسط.

و كونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار و هي الآلهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى.

و هما أعني قوله: "حنفاء لله" و قوله: "غير مشركين به" حالان عن فاعل "فاجتنبوا" أي اجتنبوا التقرب من الأوثان و الإهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.

و قوله: "و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير" أي تأخذه بسرعة، شبه المشرك في شركه و سقوطه به من أعلى درجات الإنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.

و قوله: "أو تهوي به الريح في مكان سحيق" أي بعيد في الغاية و هو معطوف على "تخطفه الطير" تشبيه آخر من جهة البعد.

قوله تعالى: "ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" "ذلك" خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي قلنا، و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و شعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: "إن الصفا و المروة من شعائر الله" و قال: "و البدن جعلناها لكم من شعائر الله" الآية.

و المراد بها البدن التي تساق هديا و تشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و يؤيده ظاهر قوله تلوا: "لكم فيها منافع" إلخ، و قوله بعد: "و البدن جعلناها" الآية، و قيل: المراد بها جميع الأعلام المنصوبة للطاعة، و السياق لا يلائمه.

و قوله: "فإنها من تقوى القلوب" أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير.

و إضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى و هي التحرز و التجنب عن سخطه تعالى و التورع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب و هي النفوس و ليست هي جسد الأعمال التي هي حركات و سكنات فإنها مشتركة بين الطاعة و المعصية كالمس في النكاح و الزنا، و إزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما و الصلاة المأتي بها قربة أو رياء و غير ذلك، و لا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان و الطاعة و نحوها.

قوله تعالى: "لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق" المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، و ضمير فيها للشعائر، و المعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر - و هي البدن - منافع من ركوب ظهرها و شرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، و الجملة في معنى قوله: "هديا بالغ الكعبة" هذا على تفسير أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و أما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك و منتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.



قوله تعالى: "و لكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" إلى آخر الآية.

المنسك مصدر ميمي و اسم زمان و مكان، و ظاهر قوله: "ليذكروا اسم الله" إلخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة و هي العبادة التي فيها ذبح و تقريب قربان.

و المعنى: و لكل أمة - من الأمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية و تقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.

و قوله: "فإلهكم إله واحد فله أسلموا" أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع لكم و للأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم و إله من قبلكم إله واحد فأسلموا و استسلموا له بإخلاص عملكم له و لا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في "فإلهكم" لتفريع السبب على المسبب و في قوله: "فله أسلموا" لتفريع المسبب على السبب.

و قوله: "و بشر المخبتين" فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، و قد فسره بقوله: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و الصابرين على ما أصابهم و المقيمي الصلاة و مما رزقناهم ينفقون" و انطباق الصفات المعدودة في الآية و هي الوجل و الصبر و إقامة الصلاة و الإنفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم.

قوله تعالى: "و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير" إلى آخر الآية البدن بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين و هي السمينة الضخمة من الإبل، و السياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا.

و قوله: "فاذكروا اسم الله عليها صواف" الصواف جمع صافة و معنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها و رجلاها و جمعت و قد ربطت يداها.

و قوله: "فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر" الوجوب السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت و غابت، و الجنوب جمع جنب، و المراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها و هو كناية عن موتها، و الأمر في قوله: "فكلوا منها" للإباحة و ارتفاع الحظر، و القانع هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء سأل أم لا، و المعتر هو الذي أتاك و قصدك من الفقراء، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم" إلى آخر الآية.

بمنزلة دفع الدخل كأن متوهما بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعا في هذه الضحايا و لحومها و دمائها فأجيب أن الله سبحانه لن يناله شيء من لحومها و دمائها لتنزهه عن الجسمية و عن كل حاجة و إنما يناله التقوى نيلا معنويا فيقرب المتصفين به منه تعالى.

أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية و عن كل نقص و حاجة و لا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأجيب بتقرير الكلام و أن الأمر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها و هذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى و تقرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى معه بينه و بينه حجاب يحجبه عنه.



و قوله: "كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم" الظاهر أن المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء و العظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته و عبوديته و المعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته و التقرب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء و العظمة على هذه الهداية.

و قيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة و بالهداية الهداية إلى تسخيرها و المعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.

و أول الوجهين أوجه و أمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام و هو تسخيرها لتضحى و يتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة التي فيها رضاه و ثوابه، و أما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام.

و قوله: "و بشر المحسنين" أي الذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإحسان و هو الإنفاق في سبيل الله.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في قوله تعالى: "و من يرد فيه بإلحاد" إلخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه مع رجلين أحدهما مهاجري و الآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام و هرب إلى مكة فنزلت فيه "و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.

أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها و رجوع الذيل إلى الصدر و كونه متمما لمعناه كما مر.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن الذين كفروا" إلى قوله "و الباد" قال: نزلت في قريش حين صدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مكة، و قوله: "سواء العاكف فيه و الباد" قال: أهل مكة و من جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول و دخول الحرم و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية "سواء العاكف فيه و الباد" فقال كانت مكة ليس على شيء منها باب، و كان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور و منازلها.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و تحرير المسألة في الفقه.

و في الكافي، عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و من يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: كل ظلم إلحاد، و ضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد.

و فيه، بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل: "و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" فقال: كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإني أراه إلحادا، و لذلك كان يتقي أن يسكن الحرم.

أقول: و رواه أيضا في العلل عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) و فيه: و لذلك كان ينهى أن يسكن الحرم، و في معنى هذه الرواية و التي قبلها روايات أخر.



و في الكافي، أيضا بإسناده عن الربيع بن خثيم قال: شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) و هو يطاف به حول الكعبة في محمل و هو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول: ارفعوني. فلما فعل ذلك مرارا في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إن هذا يشق عليك فقال: إني سمعت الله عز و جل يقول: "ليشهدوا منافع لهم" فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: الكل. و في المجمع، في الآية و قيل: منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و إثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة.

و في العيون، فيما كتبه الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: و علة الحج الوفادة إلى الله عز و جل و طلب الزيادة و الخروج من كل ما اقترف و ليكون تائبا مما مضى مستأنفا لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشهوات و اللذات و التقرب بالعبادة إلى الله عز و جل و الخضوع و الاستكانة. و الذل شاخصا في الحر و البرد و الأمن و الخوف، دائبا في ذلك دائما. و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، و الرغبة و الرهبة إلى الله تعالى، و منه ترك قساوة القلب و جساءة النفس و نسيان الذكر و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق و حظر النفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها و من في البر و البحر ممن يحج و من لا يحج من تاجر و جالب و بائع و مشتر و كاسب و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.

أقول و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه (عليه السلام):.


و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و يذكروا اسم الله في أيام معلومات" قال: هي أيام التشريق.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر عن الباقر و الصادق (عليهما السلام)، و هناك ما يعارضها كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، و ما يدل على أن المعلومات عشر ذي الحجة و المعدودات أيام التشريق، و الآية أشد ملاءمة لما يدل على أن المراد بالمعلومات أيام التشريق.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: "ثم ليقضوا تفثهم" قال: هو الحلق و ما في جلد الإنسان.

و في الفقيه، في رواية البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: التفث تقليم الأظفار و طرح الوسخ و طرح الإحرام عنه.

و في التهذيب، بإسناده عن حماد الناب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و ليطوفوا بالبيت العتيق" قال: هو طواف النساء.

أقول: و في معنى الروايات الثلاث روايات أخرى عنهم (عليهم السلام).

و في الكافي، بإسناده عن أبان عمن أخبره عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لم سمى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد.

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: و إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق.

و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه و الترمذي و حسنه و ابن جرير و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما سمى الله البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط.



أقول: أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدقها و قد خرب البيت ثم غيره عبد الله بن الزبير نفسه ثم الحصين بن نمير بأمر يزيد ثم الحجاج بأمر عبد الملك ثم القرامطة، و يمكن أن يكون مراده (صلى الله عليه وآله وسلم) الإخبار عما مضى على البيت و أما الرواية السابقة عليها فلم تثبت.

و فيه، أخرج سفيان بن عيينة و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الحجر من البيت لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طاف بالبيت من ورائه، قال الله: "و ليطوفوا بالبيت العتيق".

أقول: و في معناه روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و الحاكم و صححه عن جبير بن مطعم: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت و صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار.

و في المجمع،: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" و روى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار من ذلك. "و اجتنبوا قول الزور" و روى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية.

و فيه، و روى أيمن بن خزيم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خطبنا فقال: أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان - و اجتنبوا قول الزور":. أقول: و روى ما في الذيل في الدر المنثور، عن أحمد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن أيمن:.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "لكم فيها منافع إلى أجل مسمى" قال: إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها و إن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف.

أقول: و روى أيضا نظيره عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: قوله: "فله أسلموا و بشر المخبتين" قال: العابدين.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى: "فاذكروا اسم الله عليها صواف" قال: ذلك حين تصف للنحر تربط يديها ما بين الخف إلى الركبة، و وجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض.

و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "فإذا وجبت جنوبها" قال: إذا وقعت على الأرض "فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر" قال: القانع الذي يرضى بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا، و المعتر المار بك لتطعمه.

و في المعاني، عن سيف التمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سعيد بن عبد الملك قدم حاجا فلقي أبي فقال: إني سقت هديا فكيف أصنع؟ فقال: أطعم أهلك ثلثا، و أطعم القانع ثلثا، و أطعم المسكين ثلثا. قلت: المسكين هو السائل؟ قال: نعم، و القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، و المعتر يعتريك لا يسألك.

أقول: و الروايات في المعاني السابقة عن الأئمة كثيرة و ما نقلناه نبذة منها.

و في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: "لن ينال الله لحومها و لا دماؤها" و روي أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.

أقول: روى ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس.

و في تفسير القمي،: قوله عز و جل: "لتكبروا الله على ما هداكم" قال: التكبير أيام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشر صلاة، و في الأمصار عقيب عشرة صلوات.

22 سورة الحج - 38 - 57

إِنّ اللّهَ يُدَفِعُ عَنِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّ اللّهَ لا يحِب كلّ خَوّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظلِمُوا وَ إِنّ اللّهَ عَلى نَصرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَرِهِم بِغَيرِ حَقٍ إِلا أَن يَقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاس بَعْضهُم بِبَعْضٍ لهُّدِّمَت صوَمِعُ وَ بِيَعٌ وَ صلَوَتٌ وَ مَسجِدُ يُذْكرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كثِيراً وَ لَيَنصرَنّ اللّهُ مَن يَنصرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِىّ عَزِيزٌ (40) الّذِينَ إِن مّكّنّهُمْ فى الأَرْضِ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ ءَاتَوُا الزّكوةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَ للّهِ عَقِبَةُ الأُمُورِ (41) وَ إِن يُكَذِّبُوك فَقَدْ كذّبَت قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصحَب مَدْيَنَ وَ كُذِّب مُوسى فَأَمْلَيْت لِلْكفِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْف كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا وَ هِىَ ظالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا وَ بِئرٍ مّعَطلَةٍ وَ قَصرٍ مّشِيدٍ (45) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَتَكُونَ لهَُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسمَعُونَ بهَا فَإِنهَا لا تَعْمَى الأَبْصرُ وَ لَكِن تَعْمَى الْقُلُوب الّتى فى الصدُورِ (46) وَ يَستَعْجِلُونَك بِالْعَذَابِ وَ لَن يخْلِف اللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنّ يَوْماً عِندَ رَبِّك كَأَلْفِ سنَةٍ مِّمّا تَعُدّونَ (47) وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْت لهََا وَ هِىَ ظالِمَةٌ ثُمّ أَخَذْتهَا وَ إِلىّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَأَيهَا النّاس إِنّمَا أَنَا لَكمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ (49) فَالّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُم مّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ الّذِينَ سعَوْا فى ءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُولَئك أَصحَب الجَْحِيمِ (51) وَ مَا أَرْسلْنَا مِن قَبْلِك مِن رّسولٍ وَ لا نَبىٍ إِلا إِذَا تَمَنى أَلْقَى الشيْطنُ فى أُمْنِيّتِهِ فَيَنسخُ اللّهُ مَا يُلْقِى الشيْطنُ ثُمّ يحْكمُ اللّهُ ءَايَتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيْطنُ فِتْنَةً لِّلّذِينَ فى قُلُوبهِم مّرَضٌ وَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنّ الظلِمِينَ لَفِى شِقَاقِ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبِّك فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِت لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (54) وَ لا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتى تَأْتِيَهُمُ الساعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَاب يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْك يَوْمَئذٍ لِّلّهِ يحْكمُ بَيْنَهُمْ فَالّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ فى جَنّتِ النّعِيمِ (56) وَ الّذِينَ كَفَرُوا وَ كذّبُوا بِئَايَتِنَا فَأُولَئك لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ (57)

بيان

تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال و هي - كما قيل - أول ما نزلت في الجهاد و قد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم أومر بشيء في القتال، و كان يأتيه كل يوم و هو بمكة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب و مشجوج و معذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة من المشركين فيسليهم و يأمرهم بالصبر و انتظار الفرج حتى نزلت الآيات و هي تشتمل على قوله: "أذن للذين يقاتلون" إلخ.

و هي - كما تقدم - أول ما نزلت في الجهاد، و قيل: أول ما نزل فيه قول تعالى: "و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم:" البقرة: 190، و قيل: إنه قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم" الآية: التوبة: 111.

و الاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا و ذلك لاشتمالها على الإذن صريحا و احتفافها بالتوطئة و التمهيد و تهييج القوم و تقوية قلوبهم و تثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا و تصريحا و ذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم و كل ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامة و بيانها و إبلاغها لأول مرة و خاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية و التفدية و هو أشق حكم اجتماعي و أصعبه في الإسلام و أمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام و استيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.

فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم.

ثم نص على إذنهم في القتال و ذكر أنهم مظلومون و القتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة و وصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم و أنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.

قوله تعالى: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور" المدافعة مبالغة في الدفع، و الخوان اسم مبالغة من الخيانة و كذا الكفور من الكفران و المراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة و إن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأن الآيات تشرع القتال و لا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، و المورد لا يكون مخصصا.

و المراد بكل خوان كفور المشركون، و إنما كانوا مكثرين في الخيانة و الكفران لأن الله حملهم أمانة الدين الحق و جعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه و رعايته سعادة الدارين و عرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد و الإنكار و غمرهم بنعمه الظاهرة و الباطنة فكفروا بها و لم يشكروه بالعبودية.

و في الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا و إنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء و لا يحب أولئك لخيانتهم و كفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم و شكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.

فهو تعالى مولاهم و وليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:" سورة محمد: 11.



قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و أن الله على نصرهم لقدير" ظاهر السياق أن المراد بقوله: "أذن" إنشاء الإذن دون الإخبار عن إذن سابق و إنما هو إذن في القتال كما يدل عليه قوله: "للذين يقاتلون" إلخ، و لذا بدل قوله: "الذين آمنوا" من قوله: "الذين يقاتلون" ليدل على المأذون فيه.

و القراءة الدائرة "يقاتلون" بفتح التاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون لأنهم الذين أرادوا القتال و بدءوهم به، و الباء في "بأنهم ظلموا" للسببية و فيه تعليل الإذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، و أما ما هو الظلم فتفسيره قوله: "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" إلخ.

و في عدم التصريح بفاعل "أذن" تعظيم و تكبير و نظيره ما في قوله: "و إن الله على نصرهم لقدير" من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شيء قدير.

و المعنى أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون و هم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا - من جانب المشركين - و إن الله على نصرهم لقدير، و هو كناية عن النصر.

قوله تعالى: "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" إلى آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين و هو أنهم أخرجوا من ديارهم و قد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم.

و لم يخرجوهم بحمل و تسفير بل آذوهم و بالغوا في إيذائهم و شددوا بالتعذيب و التفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة و التغرب عن الوطن و ترك الديار و الأموال فقوم إلى الحبشة و آخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإخراجهم إياهم إلجاؤهم إلى الخروج.

و قوله: "إلا أن يقولوا ربنا الله" استثناء منقطع معناه و لكن أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله، و فيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم و ألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله و هو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره.

و قيل: الاستثناء متصل و المستثنى منه هو الحق و المعنى أخرجوا بغير حق إلا الحق الذي هو قولهم: ربنا الله.

و أنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره.

و توصيف الذين آمنوا بهذا الوصف - كونهم مخرجين من ديارهم - و هو وصف بعضهم و هم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد و الائتلاف فإن المؤمنين إخوة و هم يد واحدة على من سواهم و توصيف، الأمم بوصف بعض الأفراد في القرآن الكريم فوق حد الإحصاء.

و قوله: "و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا" الصوامع جمع صومعة و هي بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال و البراري و يسكنه الزهاد و المعتزلون من الناس للعبادة، و البيع جمع بيعة بكسر الباء معبد اليهود و النصارى، و الصلوات جمع صلاة و هي مصلى اليهود سمي بها تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى: "لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى - إلى قوله - و لا جنبا إلا عابري سبيل".

و قيل: هي معرب "صلوثا" بالثاء المثلثة و القصر و هي بالعبرانية المصلى، و المساجد جمع مسجد و هو معبد المسلمين.



و الآية و إن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال و الجهاد، و محصلها أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور الله فلو لا ذلك لانهدمت المعابد الدينية و المشاعر الإلهية و نسخت العبادات و المناسك.

لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس بعضا ذبا عن منافع الحياة و حفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس و السنن الفطرية منتهية إليه تعالى و يشهد به تجهيز الإنسان كسائر الموجودات بأدوات و قوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع و الدفاع عن نفسه أو أي شأن من شئون نفسه مما تتم به حياته و تتوقف عليه سعادته.

و الدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض و تحمل لمشقة في سبيل راحة سنة جارية في المجتمع الإنساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما و استقلال ما.

ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية و هي دفع الناس بعضهم بعضا عن شئون حياتهم، و إذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة.

و إنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لو لا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه و انمحت جميع آثاره لأن هذه المعابد و المعاهد هي الشعائر و الأعلام الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان.

و قوله: "و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" قسم مع تأكيد بالغ على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي و لقد صدق الله وعده فنصر المسلمين في حروبهم و مغازيهم فأيدهم على أعدائه و رفع ذكره ما كانوا ينصرونه.

و المعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه أحد و لا يمنعه شيء عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته و لا يعادله شيء في سلطنته و ملكه.

و يظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة و إن لم يبين كيفيته.

قوله تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر" إلخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات، و هو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأشخاص و المراد من تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحو الحياة من غير مانع يمنعهم أو مزاحم يزاحمهم.

يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض و أعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر و تخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية و الزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها.

و إذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات و المراد به عقد مجتمع صالح و حكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة المسلمين إلى يوم القيامة و الخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح و إن كان ربما غشيته الغواشي.



و ليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية و إن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم و ذلك لمنافاته عموم الموصوف المذكور في صدر الآيات و عموم حكم الجهاد لهم و لغيرهم قطعا.

على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الإسلام تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و تؤمر فيه بالمعروف و تنهى فيه عن المنكر مشمول للآية قطعا و كان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين.

و لم يتفق في تاريخ الإسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق و يميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي (عليه السلام) على الخلاف بين أهل السنة و الشيعة، و في ذلك إفساد معنى جميع الآيات.

على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول و خاصة المهاجرين منهم أمورا لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق و إماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع.

و قوله: "و لله عاقبة الأمور" تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر و إظهار المؤمنين على أعداء الدين الظالمين لهم.

قوله تعالى: "و إن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - فكيف كان نكير" فيه تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم قبلهم لأنبيائهم.

و إنذار و تخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من قبلهم من الأمم و هو الهلاك بعذاب من الله تعالى.

و قد عد من تلك الأمم قوم نوح و عادا و هم قوم هود و ثمود و هم قوم صالح و قوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و هم قوم شعيب، و ذكر تكذيب موسى.

قيل: و لم يقل: و قوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل و كانوا آمنوا به، و إنما كذبه فرعون و قومه.

و قوله: "فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير" الإملاء الإمهال و تأخير الأجل، و النكير الإنكار، و المعنى فأمهلت الكافرين - الذين كذبوا رسلهم من هذه الأمم - ثم أخذتهم و هو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم و كفرهم؟ و هو كناية عن بلوغ الإنكار و شدة الأخذ.

قوله تعالى: "فكأين من قرية أهلكناها و هي ظالمة فهي خاوية على عروشها و بئر معطلة و قصر مشيد" قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها فهي خربة، و البئر المعطلة الخالية من الواردين و المستقين و شاد القصر أي جصصه و الشيد بالكسر الجص.

و قوله: "فكأين من قرية أهلكناها ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية السابقة: "فكيف كان نكير" و قوله: "و بئر معطلة و قصر مشيد" عطف على قرية.

و المعنى: فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها على سقوفها، و كم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها و لا مستقي منها، و كم من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح و لا يسمع منهم حسيس، و أصحاب الآبار أهل البدو و أصحاب القصور أهل الحضر.



قوله تعالى: "أ فلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها" إلخ، حث و تحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة و الآثار المعطلة و القصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما بعث الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم و يستحضر الحجج في ذلك فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله و إعراضهم عن آياته و استكبارهم على الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به و يردعه عن الشرك و الكفر هذا إن وسعه أن يستقل بالتفكير.

و إن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا يريد به إلا الخير و عظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره و لا عظة ككتاب الله و لا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته.

و من هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب و الأذن من غير تعرض للبصر و ذلك لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل و تمييز الخير من الشر و النافع من الضار و بين الاتباع لمن يجوز اتباعه و هذان شأن القلب و الأذن.

ثم لما كان المعنيان جميعا - التعقل و السمع - في الحقيقة من شأن القلب أي النفس المدركة فهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له و مشاهدة منه، و لذلك عد من لا يعقل و لا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لأن الذي يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده و أما القلب فلا بدل له يتسلى به، و هو قوله تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور".

و جعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة، و في الكلام مجاز آخر ثان من هذا القبيل و هو نسبة العقل إلى القلب و هو للنفس، و قد تقدم التنبيه عليه مرارا.

قوله تعالى: "و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف الله وعده و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" كان القوم يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أخبرهم أن الله سبحانه وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به و تعجيزا له قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله: "و لن يخلف الله وعده" فإن كان المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر و إن كان المراد به ما يقضى به بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد و قد أخبر الله عنه في قوله: "و لكن أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم:" يونس: 47 إلى آخر الآيات.

و قوله: "و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" حكم بتساوي اليوم الواحد و الألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا و لا يستكثر ذلك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد و طول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون، و لذا عقب الكلام بقوله في الآية التالية: "و كأين من قرية أمليت لها و هي ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير".

و قوله: "و إن يوما عند ربك كألف سنة" رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله يستوي عنده قليل الزمان و كثيره، كما أن قوله: "و لن يخلف الله وعده" تسلية و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله و تعجيزهم له و استهزائهم به.

و قيل: معنى قوله: "و إن يوما عند ربك" إن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها.



و قيل: المراد أن يوما لهم و هم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.

و المعنيان لا يلائمان صدر الآية و لا الآية التالية كما هو ظاهر.

قوله تعالى: "و كأين من قرية أمليت لها و هي ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير" الآية - كما مر - متممة لقوله: "و إن يوما عند ربك كألف سنة" بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، و المعنى: قليل الزمان و كثيره عند ربك سواء و قد أملى لكثير من القرى الظالمة و أمهلها ثم أخذها بعد مهل.

و قوله: "و إلي المصير" بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.

و قد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: "فكأين من قرية" إلخ، فلكل من الآيتين مفادها.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى و هو الحلم و المطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.

قوله تعالى: "قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين - إلى قوله - أصحاب الجحيم" أمر بإعلام الرسالة بالإنذار و بيان ما للإيمان به و العمل الصالح من الأجر الجميل و هو المغفرة بالإيمان و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، و ما للكفر و الجحود من التبعة السيئة و هي صحابة الجحيم من غير مفارقة.

و قوله: "سعوا في آياتنا معاجزين" السعي الإسراع في المشي و هو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها و إطفاء نورها بمعاجزة، الله و التعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله: "أمليت لها" إلخ.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" إلخ، التمني تقدير الإنسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا كتمني الفقير أن يكون غنيا و من لا ولد له أن يكون ذا ولد، و تمني الإنسان أن يكون له بقاء لا فناء معه و أن يكون له جناحان يطير بهما، و يسمى صورته الخيالية التي يلتذ بها أمنية، و الأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير، و قيل: ربما جاء بمعنى القراءة و التلاوة يقال: تمنيت الكتاب أي قرأته.

و الإلقاء في الأمنية المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها و يفسد أمرها.

و معنى الآية على أول المعنيين و هو كون التمني هو تمني القلب: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى و قدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه و إقبال الناس عليه و إيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته و داخل فيها بوسوسة الناس و تهييج الظالمين و إغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي و أبطل سعيه فينسخ الله و يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي و إظهار الحق و الله عليم حكيم.



و المعنى: على ثاني المعنيين و هو كون التمني بمعنى القراءة و التلاوة: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تلا و قرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها و يفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده.

و في الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة و الرسالة لا بنحو العموم و الخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث و أمر بالتبليغ و النبي من بعث سواء أمر بالتبليغ أم، لا إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في الآية: "و لا نبي" غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، و ينافيه قوله: "و ما أرسلنا".

و قد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه و يكلمه و النبي هو من يرى المنام و يوحى إليه فيه، و قد استفدناه مضمون هذه الروايات من قوله تعالى: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا:" إسراء: 95 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

و أما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة و النبوة كقول من قال: إن الرسول من بعث بشرع جديد و النبي أعم منه و ممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد صرح القرآن على رسالة جمع كثير منهم غير هؤلاء.

على أن هذا القول لا دليل له.

و قول من قال: إن الرسول من كان له كتاب و النبي بخلافه و قول من قال: إن الرسول من له كتاب و نسخ في الجملة و النبي بخلافه، و يرد على القولين نظير ما ورد على القول الأول.

و في قوله: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته" التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و الوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة و إسناد النسخ و الإحكام إلى من لا يقوم له شيء، و لذلك بعينه أعاد لفظ الجلالة ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع المضمر و منه أيضا إعادة لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقي هو الشيطان الذي لا يعبأ به و بكيده في قباله تعالى، و كان الظاهر أن يقال: فينسخ ما يلقيه ثم يحكم آياته.

قوله تعالى: "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم" إلخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن يذعن به من الحق و هو الشك و الارتياب، و قساوة القلب صلابته و غلظه مأخوذ من الحجر القاسي أي الصلب.

و صلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني الحقة كالخشوع و الرحمة و التواضع و المحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطيء الإذعان به، و القلب القسي بطيئهما معا، و كلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.

و الإلقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق و أهله و تبطل مساعي الرسل و الأنبياء دون أن تؤثر أثرها و إن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار لما كانت واقعة في ملكه تعالى، و لا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا بإذنه، و لا يقع شيء بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الإذن، و لا يستند إليه إلا ما فيه خير لا يخلو من مصلحة و غاية.



لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الإلقاءات الشيطانية مصلحة و هي أنها محنة يمتحن بها الناس عامة و الامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم الإنساني و يتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته و الشقي بشقائه، و فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: "كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا:" إسراء: 20.

و هذا معنى قوله: "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم" فاللام في "ليجعل" للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول و النبي أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا و معناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان العباد و فتنة أهل الشك و الجحود و غرورهم.

و قد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء و الامتحان الذي ينتج الغرور و الضلال و بالذين في قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار و بالقاسية قلوبهم أهل الجحود و العناد منهم.

و قوله: "و إن الظالمين لفي شقاق بعيد" الشقاق و المشاقة المباينة و المخالفة و توصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، و المعنى: و إن الظالمين - و هم أهل الجحود على ما يعطيه السياق أو هم و أهل الشك جميعا - لفي مباينة و مخالفة بعيد صاحبها من الحق و أهله.

قوله تعالى: "و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم" إلخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: "ليجعل" و تعليل لقوله: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته" و الضمير في "أنه" على هذا لما يتمناه الرسول و النبي المفهوم من قوله "إذا تمنى" إلخ، و لا دليل على إرجاعه إلى القرآن.

و المعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب ذاك النسخ و الأحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين و تخشع له قلوبهم.

و يمكن أن يكون قوله "و ليعلم" معطوفا على محذوف و مجموع المعطوف و المعطوف عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم.

و المعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا و كذا و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك "إلخ" على حد قوله: "و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا:" آل عمران: 140، و هو كثير الورود في القرآن.

و قوله: "إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم" في مقام التعليل لكون علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا أن الأمر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: "و لا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم" إلخ الآية - كما ترى - تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الإيمان مدى حياتهم فليس المراد بهم مطلق الكفار لقبول بعضهم الإيمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين لم يوفقوا للإيمان ما عاشوا كما في قوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:" البقرة: 6.

و عقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده و هو يوم الهلاك أو يوم القيامة، و المراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة.



و المعنى و يستمر الذين كفروا في شك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم عذاب يوم القيامة و هو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشيء و لا يخلف بعده يوما حتى يقضى فيه ما فات قبله.

و إنما ردد بين يوم القيامة و بين عذابه لأنهم يعترفون عند مشاهدة كل منهما بالحق و يطيح عنهم الريب و المرية قال تعالى: "قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون:" يس: 52، و قال: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا:" الأحقاف: 34.

و قد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة و تارة بالعقم للدلالة على كونه بحيث لا ينفع معها حيلة و لا يقع بعدها تدارك لما فات قبله.

قوله تعالى: "الملك يومئذ لله يحكم بينهم" - إلى قوله - عذاب مهين" قد تقدم مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله ظهور كون الملك له تعالى لأن الملك له دائما و كذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الأمر يومئذ لله و كون القوة يومئذ لله و هكذا.

و لسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن الملك قسمان ملك حقيقي حق و ملك مجازي صوري و للأشياء ملك مجازي صوري ملكها الله ذلك و له تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة ارتفع كل ملك صوري عن الشيء المتلبس به و لم يبق من الملك إلا حقيقته و هو لله وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله و على هذا القياس.

و قوله: "يحكم بينهم" أي و لا حاكم غيره لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن يومئذ لأحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم.

و قوله: "فالذين آمنوا و عملوا الصالحات في جنات النعيم و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا - و هؤلاء المعاندون المستكبرون - فأولئك لهم عذاب مهين" بيان لحكمه تعالى.

بحث روائي

في المجمع، روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" و قلده سيفا.

و فيه،: كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجيء مشجوج و مضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. و هي أول آية نزلت في القتال.

أقول: و روى في الدر المنثور، عن جم غفير من أرباب الجوامع، عن ابن عباس و غيره: أنها أول آية نزلت في القتال.

و ما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي لما مر أن الآية مطلقة و أنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم و هو حكم عام.

و نظير الكلام جار في قوله تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض" إلخ بل و في قوله: "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" إلخ على ما تقدم في البيان.

و فيه،: في قوله تعالى: "الذين أخرجوا من ديارهم" و قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا.



أقول: و على ذلك يحمل ما في المناقب، عنه (عليه السلام): في الآية: نحن. نزلت فينا و في روضة الكافي عنه (عليه السلام): جرت في الحسين (عليه السلام).

و كذا ما في المجمع،: في قوله تعالى: "و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر" عنه (عليه السلام): نحن هم.

و كذا ما في الكافي، و المعاني، و كمال الدين، عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام): في قوله تعالى: "و بئر معطلة و قصر مشيد" قالا: البئر المعطلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق.

و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نصر السجزي في الإبانة و البيهقي في شعب الإيمان و الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس الأعمى من يعمى بصره و لكن الأعمى من تعمى بصيرته.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى.

و المراد بمعاينة الملك على ما في غيره من الروايات نزول الملك عليه و ظهوره له و تكليمه بالوحي، و قد تقدم بعض هذه الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع "أ فرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا. ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قال جبريل لم آتك بهذا. هذا من الشيطان فأنزل الله "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي". الآية.

أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس و جمع من التابعين و قد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر.

لكن الأدلة القطعية على عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) تكذب متنها و إن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أشنع الجهل و أقبحه فقد تلى "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" و جهل أنه ليس من كلام الله و لا نزل به جبريل، و جهل أنه كفر صريح يوجب الارتداد و دام على جهة حتى سجد و سجدوا في آخر السورة و لم يتنبه ثم دام على جهله حتى نزل عليه جبريل و أمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه و أعاد الجملتين و هو مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع و الخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء و المرسلين و هي قوله: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته".

و بذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من لسان دفعه بتصرف من الشيطان سهوا منه (عليه السلام) و غلطا من غير تفطن.

فلا متن الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، و لا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو و الغلط.

على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي" الآية فيضعه في لسان النبي و ذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه و هو حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه.

أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله، و آية "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي" إلخ، و جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان و يستر بما ألقاه من الآية و أبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، و بذلك يرتفع الاعتماد و الوثوق بكتاب الله من كل جهة و تلغو الرسالة و الدعوة النبوية بالكلية جلت ساحة الحق من ذلك.

<<        الفهرس        >>