جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج17 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


39 سورة الزمر - 11 - 20

قُلْ إِنى أُمِرْت أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مخْلِصاً لّهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْت لأَنْ أَكُونَ أَوّلَ الْمُسلِمِينَ (12) قُلْ إِنى أَخَاف إِنْ عَصيْت رَبى عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مخْلِصاً لّهُ دِينى (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنّ الخَْسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا ذَلِك هُوَ الخُْسرَانُ الْمُبِينُ (15) لهَُم مِّن فَوْقِهِمْ ظلَلٌ مِّنَ النّارِ وَ مِن تحْتهِمْ ظلَلٌ ذَلِك يخَوِّف اللّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعِبَادِ فَاتّقُونِ (16) وَ الّذِينَ اجْتَنَبُوا الطغُوت أَن يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلى اللّهِ لهَُمُ الْبُشرَى فَبَشرْ عِبَادِ (17) الّذِينَ يَستَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسنَهُ أُولَئك الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَ أُولَئك هُمْ أُولُوا الأَلْبَبِ (18) أَ فَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كلِمَةُ الْعَذَابِ أَ فَأَنت تُنقِذُ مَن فى النّارِ (19) لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْا رَبهُمْ لهَُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ وَعْدَ اللّهِ لا يخْلِف اللّهُ الْمِيعَادَ (20)

بيان

في الآيات نوع رجوع إلى أول الكلام و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم أن الذي يدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم و يزيد أنه مأمور أن يكون أول مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له و آمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردوها.

فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله و سيرته دعوته فإنه مجيب لربه مسلم له متصلب في دينه خائف منه أن يعصيه ثم تنذر الكافرين و تبشر المؤمنين بما أعد الله سبحانه لكل من الفريقين من عذاب أو نعمة.

قوله تعالى: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين - إلى قوله - أول المسلمين" نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين" بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم و يوافقهم على الإشراك بالله كما يشير إليه أول سورة ص و آيات أخر.

فكأنه يقول: قل لهم إن الذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين - و قد وجه به الخطاب إلي - ليس المراد به مجرد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل "إياك أعني و اسمعي يا جارة" بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، و لا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري - فأنا أخاف ربي و أعبده بالإخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا في.

فقوله: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين" إشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشارك غيره في الأمر بدون الإخلاص.

و قوله: "و أمرت لأن أكون أول المسلمين" إشارة إلى أن في الأمر المتوجه إلي زيادة على ما توجه إليكم من التكليف و هو أني أمرت بما أمرت و قد توجه الخطاب إلي قبلكم و الغرض منه أن أكون أول من أسلم لهذا الأمر و آمن به.

قيل: اللام في قوله: "لأن أكون" للتعليل و المعنى و أمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين، و قيل: اللام زائدة كما تركت اللام في قوله تعالى: "قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم:" الأنعام: - 14.

و مآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول المسلمين يعطي عنوانا لإسلامه و عنوان الفعل يصح أن يجعل غاية للأمر بالفعل و أن يجعل متعلقا للأمر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، و يقال: أدبه بالضرب.

قال في الكشاف،: و في معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني و من قومي لأنه أول من خالف دين آبائه و خلع الأصنام و حطمها، و أن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، و أن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعا و لا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، و أن أفعل ما استحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب.

انتهي.

و أنت خبير بأن الأنسب لسياق الآيات هو الوجه الثالث و هو الذي قدمناه و يلزمه سائر الوجوه.

قوله تعالى: "قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" المراد بمعصية ربه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصا له الدين، و باليوم العظيم يوم القيامة و الآية كالتوطئة لمضمون الآية التالية.

قوله تعالى: "قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه" تصريح بأنه ممتثل لأمر ربه مطيع له بعد التكنية عنه في الآية السابقة، و إياس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربه.

و تقديم المفعول في قوله: "قل الله أعبد" يفيد الحصر، و قوله: "مخلصا له ديني" يؤكد معنى الحصر، و قوله: "فاعبدوا ما شئتم من دونه" أمر تهديدي بمعنى أنهم لا ينفعهم ذلك فإنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالإخلاص كما يشير إليه ذيل الآية "قل إن الخاسرين" إلخ.

قوله تعالى: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة" إلخ الخسر و الخسران ذهاب رأس المال إما كلا أو بعضا و الخسران أبلغ من الخسر، و خسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة و الشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها و كذا خسارة الأهل.

و في الآية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله: "فاعبدوا ما شئتم من دونه" كأنه يقول: فأيا ما عبدتم فإنكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة و أهليكم و هم خاصتكم بحملهم على الكفر و الشرك و هي الخسران بالحقيقة.

و قوله: "ألا ذلك هو الخسران المبين" و ذلك لأن الخسران المتعلق بالدنيا - و هو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الآخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنه لا زوال له و لا انقطاع.

على أن المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت.

هذا على تقدير كون المراد بالأهل خاصة الإنسان في الدنيا، و قيل: المراد بالأهل من أعده الله في الجنة للإنسان لو آمن و اتقى من أزواج و خدم و غيرهم و هو أوجه و أنسب للمقام فإن النسب و كل رابطة من الروابط الدنيوية الاجتماعية مقطوعة يوم القيامة قال تعالى: "فلا أنساب بينهم يومئذ:" المؤمنون: - 101 و قال: "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا:" الانفطار: - 19 إلى غير ذلك من الآيات.

و يؤيده أيضا قوله تعالى: "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا و ينقلب إلى أهله مسرورا:" الانشقاق: - 9.

قوله تعالى: "لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل" إلخ الظلل جمع ظلة و هي - كما قيل - الستر العالي.

و المراد بكونها من فوقهم و من تحتهم إحاطتها بهم فإن المعهود من النار الجهتان و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى" قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد و كل معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع.

انتهي.

و الظاهر أن المراد بها في الآية الأوثان و كل معبود طاغ من دون الله.

و لم يقتصر على مجرد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله: "و أنابوا إلى الله" إشارة إلى أن مجرد النفي لا يجدي شيئا بل الذي ينفع الإنسان مجموع النفي و الإثبات، عبادة الله و ترك عبادة غيره و هو عبادته مخلصا له الدين.

و قوله: "لهم البشرى" إنشاء بشرى و خبر لقوله: "و الذين اجتنبوا" إلخ.

قوله تعالى: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" إلى آخر الآية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشرهم غير أنه قيل: فبشر عباد و أضيف إلى ضمير التكلم لتشريفهم به و لتوصيفهم بقوله: "الذين يستمعون القول" إلخ.



و المراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتباع ما له نوع ارتباط و مساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحق و أنصحه للإنسان، و الإنسان إذا كان ممن يحب الحسن و ينجذب إلى الجمال كان كلما زاد الحسن زاد انجذابا فإذا وجد قبيحا و حسنا مال إلى الحسن، و إذا وجد حسنا و أحسن قصد ما هو أحسن، و أما لو لم يمل إلى الأحسن و انجمد على الحسن كشف ذلك عن أنه لا ينجذب إليه من حيث حسنه و إلا زاد الانجذاب بزيادة الحسن.

فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق و إرادة الرشد و إصابة الواقع فكلما دار الأمر بين الحق و الباطل و الرشد و الغي اتبعوا الحق و الرشد و تركوا الباطل و الغي و كلما دار الأمر بين الحق و الأحق و الرشد و ما هو أكثر رشدا أخذوا بالأحق الأرشد.

فالحق و الرشد هو مطلوبهم و لذلك يستمعون القول و لا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه و يفقهوه.

فقوله: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" مفاده أنهم طالبو الحق و الرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقا و خوفا أن يفوتهم شيء منه.

و قيل: المراد باستماع القول و اتباع أحسنه استماع القرآن و غيره و اتباع القرآن، و قيل: المراد استماع أوامر الله تعالى و اتباع أحسنها كالقصاص و العفو فيتبعون العفو و إبداء الصدقات و إخفائها فيتبعون الإخفاء، و القولان من قبيل التخصيص من غير مخصص.

و قوله: "أولئك الذين هداهم الله" إشارة إلى أن هذه الصفة هي الهداية الإلهية و هذه الهداية أعني طلب الحق و التهيؤ التام لاتباع الحق أينما وجد هي الهداية الإجمالية و إليها تنتهي كل هداية تفصيلية إلى المعارف الإلهية.

و قوله: "و أولئك هم أولوا الألباب" أي ذوو العقول و يستفاد منه أن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق و آيته صفة اتباع الحق، و قد تقدم في تفسير قوله: "و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه:" البقرة: - 130 أنه يستفاد منه أن العقل ما يتبع به دين الله.

قوله تعالى: "أ فمن حق عليه كلمة العذاب أ فأنت تنقذ من في النار" ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الأرض: "و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:" البقرة: - 39 و ما في معناه من الآيات.

و مقتضى السياق أن في الآية إضمارا يدل عليه قوله: "أ فأنت تنقذ من في النار" و التقدير أ فمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه و هو أولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنة.

و قيل: المعنى أ فمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أ فأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر "من في النار" عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدإ و جيء بالاستفهام مرتين للتأكيد تنبيها على المعنى.

و قيل: التقدير أ فأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير و هو أردأ الوجوه.

قوله تعالى: "لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار" الغرف جمع غرفة و هي المنزل الرفيع.

قيل: و هذا في مقابلة قوله في الكافرين: "لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل".

و قوله: "وعد الله" أي وعدهم الله ذلك وعدا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله و قوله: "لا يخلف الله الميعاد" إخبار عن سنته تعالى في مواعيده و فيه تطييب لنفوسهم.

بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم" يقول: غبنوا أنفسهم و أهليهم.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الذين اجتنبوا الطاغوت - أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى": روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أنتم هم و من أطاع جبارا فقد عبده.

أقول: و هو من الجري.

و في الكافي،: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله تبارك و تعالى بشر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه - أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب".

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: في قوله تعالى: "و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" قال: نزلت هاتان الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل و أبي ذر الغفاري و سلمان الفارسي:. أقول: و رواه في المجمع، عن عبد الله بن زيد، و روي في الدر المنثور، أيضا عن ابن مردويه عن ابن عمر: أنها نزلت في سعيد بن زيد و أبي ذر و سلمان، و روي أيضا عن جويبر عن جابر بن عبد الله: أنها نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك لما نزل قوله تعالى: "لها سبعة أبواب" الآية، و الظاهر أن الجميع من تطبيق القصة على الآية.

39 سورة الزمر - 21 - 37

أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَسلَكَهُ يَنَبِيعَ فى الأَرْضِ ثُمّ يخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مخْتَلِفاً أَلْوَنُهُ ثمّ يَهِيجُ فَترَاهُ مُصفَرّا ثُمّ يجْعَلُهُ حُطماً إِنّ فى ذَلِك لَذِكْرَى لأُولى الأَلْبَبِ (21) أَ فَمَن شرَحَ اللّهُ صدْرَهُ لِلاسلَمِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِّن رّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَسِيَةِ قُلُوبهُم مِّن ذِكْرِ اللّهِ أُولَئك فى ضلَلٍ مّبِينٍ (22) اللّهُ نَزّلَ أَحْسنَ الحَْدِيثِ كِتَباً مّتَشبِهاً مّثَانىَ تَقْشعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يخْشوْنَ رَبهُمْ ثمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ذَلِك هُدَى اللّهِ يهْدِى بِهِ مَن يَشاءُ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَ فَمَن يَتّقِى بِوَجْهِهِ سوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ قِيلَ لِلظلِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذّب الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَاب مِنْ حَيْث لا يَشعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللّهُ الخِْزْى فى الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ لَعَذَاب الاَخِرَةِ أَكْبرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَ لَقَدْ ضرَبْنَا لِلنّاسِ فى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كلِّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ (27) قُرْءَاناً عَرَبِياّ غَيرَ ذِى عِوَجٍ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ (28) ضرَب اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شرَكاءُ مُتَشكِسونَ وَ رَجُلاً سلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَستَوِيَانِ مَثَلاً الحَْمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنّك مَيِّتٌ وَ إِنهُم مّيِّتُونَ (30) ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظلَمُ مِمّن كذَب عَلى اللّهِ وَ كَذّب بِالصدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَ لَيْس فى جَهَنّمَ مَثْوًى لِّلْكَفِرِينَ (32) وَ الّذِى جَاءَ بِالصدْقِ وَ صدّقَ بِهِ أُولَئك هُمُ الْمُتّقُونَ (33) لهَُم مّا يَشاءُونَ عِندَ رَبهِمْ ذَلِك جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكفِّرَ اللّهُ عَنهُمْ أَسوَأَ الّذِى عَمِلُوا وَ يجْزِيهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسنِ الّذِى كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَ لَيْس اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يخَوِّفُونَك بِالّذِينَ مِن دُونِهِ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَ مَن يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّضِلٍ أَ لَيْس اللّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ (37)

بيان

عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى و القول في اهتداء المهتدين و ضلال الضالين و المقايسة بين الفريقين و ما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، و فيها معنى هداية القرآن.

قوله تعالى: "أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض" إلى آخر الآية، قال في المجمع،: الينابيع جمع ينبوع و هو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، و الزرع ما ينبت على غير ساق و الشجر ما له ساق و أغصان النبات يعم الجميع، و هاج النبت يهيج هيجا إذا جف و بلغ نهايته في اليبوسة، و الحطام فتات التبن و الحشيش.

انتهي.

و قوله: "فسلكه ينابيع في الأرض" أي فأدخله في عيون و مجاري في الأرض هي كالعروق في الأبدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، و الباقي ظاهر و الآية - كما ترى - تحتج على توحده تعالى في الربوبية.

قوله تعالى: "أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" إلخ لما ذكر في الآية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء و إنبات النبات ذكرى لأولي الألباب و هم عباده المتقون و قد ذكر قبل أنهم الذين هداهم الله ذكر في هذه الآية أنهم ليسوا كغيرهم من الضالين و أوضح السبب في ذلك و هو أنهم على نور من ربهم يبصرون به الحق و في قلوبهم لين لا تعصي عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول.

فقوله: "أ فمن شرح الله صدره" خبره محذوف يدل عليه قوله: "فويل للقاسية قلوبهم" إلخ أي كالقاسية قلوبهم و الاستفهام للإنكار أي لا يستويان.

و شرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول و إذ كان ذلك للإسلام و هو التسليم لله فيما أراد و ليس إلا الحق كان معناه كون الإنسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحق و لا يرده، و ليس قبولا من غير دراية و كيفما كان بل عن بصيرة بالحق و عرفان بالرشد و لذا عقبه بقوله: "فهو على نور من ربه" فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه و يبصر ما يمر به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحق فيبصره و يميزه من الباطل بخلاف الضال الذي لا في صدره شرح فيسع الحق و لا هو راكب نور من ربه فيبصر الحق و يميزه.

و قوله: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" تفريع على الجملة السابقة بما يدل على أن القاسية القلوب - و قساوة القلب و صلابته لازمة عدم شرح الصدر و عدم النور - لا يتذكرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدل عليه من الحق، و لذا عقبه بقوله: "أولئك في ضلال مبين".

و في الآية تعريف الهداية بلازمها و هو شرح الصدر و جعله على نور من ربه، و تعريف الضلال بلازمه و هو قساوة القلب من ذكر الله.

و قد تقدم في تفسير قوله: "و من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" الآية: الأنعام: - 125 كلام في معنى الهداية فراجع.

قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني" إلى آخر الآية كالإجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الآية السابقة بالنظر إلى ما يتحصل من الآية في معنى الهداية و إن كانت بيانا لهداية القرآن.



فقوله: "الله نزل أحسن الحديث" هو القرآن الكريم و الحديث هو القول كما في قوله تعالى: "فليأتوا بحديث مثله:" الطور: - 34، و قوله: "فبأي حديث بعده يؤمنون:" المرسلات: - 50 فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو كلامه المجيد.

و قوله: "كتابا متشابها" أي يشبه بعض أجزائه بعضا و هذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنه صفة بعض آيات الكتاب و هذا صفة الجميع.

و قوله: "مثاني" جمع مثنية بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض و رجوعه إليه بتبين بعضها ببعض و تفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا و يناقضه كما قال تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا:" النساء: - 82.

و قوله: "تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم" صفة الكتاب و ليس استئنافا، و الاقشعرار تقبض الجلد تقبضا شديدا لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، و ليس ذلك إلا لأنهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية و أخذت جلودهم في الاقشعرار.

و قوله: "ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله" "تلين" مضمنة معنى السكون و الطمأنينة و لذا عدي بإلى و المعنى ثم تسكن و تطمئن جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله لينة تقبله أو تلين له ساكنة إليه.

و لم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لأن المراد بالقلوب النفوس و لا اقشعرار لها و إنما لها الخشية.

و قوله: "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء" أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله و هذا تعريف آخر للهداية بلازمها.

و قوله: "يهدي به من يشاء" أي يهدي بهداه من يشاء من عباده و هو الذي لن يبطل استعداده للاهتداء و لم يشغل بالموانع عنه كالفسق و الظلم و في السياق إشعار بأن الهداية من فضله و ليس بموجب فيها مضطر إليها.

و قيل: المشار إليه بقوله: "ذلك هدى الله" القرآن و هو كما ترى، و قد استدل بالآيات على أن الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، و الحق أنها خالية عن الدلالة على ذلك و إن كان الحق هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة و لمن اختاره من عباده لذلك تبعا كما يستفاد من مثل قوله: "قل إن هدى الله هو الهدى:" البقرة: - 120 و قوله: "إن علينا للهدى:" الليل: - 12، و قوله: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:" الأنبياء: - 73، و قوله: "و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم:" الشورى: - 52.

فالهداية كلها لله إما بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديين من خلقه و على هذا فمن أضله من خلقه بأن لم يهده بالواسطة و لا بلا واسطة فلا هادي له و ذلك قوله في ذيل الآية: "و من يضلل الله فما له من هاد" و سيأتي الجملة بعد عدة آيات و هي متكررة في كلامه تعالى.

قوله تعالى: "أ فمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون" مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة و الآمنين منه و الفريقان هما أهل الضلال و أهل الهدى و لذا عقب الآية السابقة بهذه الآية.



و الاستفهام للإنكار و خبر "من" محذوف و التقدير كمن هو في أمن منه، و يوم القيامة متعلق بيتقي، و المعنى أ فمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه.

كذا قيل.

و قيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لأن الوجه ليس مما يتقى به بل المراد الاتقاء بكليته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة و يوم القيامة قيد للعذاب و المراد عكس الوجه السابق، و المعنى أ فمن يتقي سوء العذاب الذي يوم القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصر على كفره، و لا يخلو من التكلف.

و قوله: "و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون" القول لملائكة النار، و الظاهر أن الجملة بتقدير قد أو بدونه و الأصل و قيل لهم ذوقوا "إلخ" لكن وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على علة الحكم و هي الظلم.

قوله تعالى: "كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون" أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجئوا و أخذوا على غفلة و هو أشد الأخذ، و في الآية و ما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم.

قوله تعالى: "فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" الخزي هو الذل و الصغار، و قد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق و الخسف و الصيحة و الرجفة و المسخ و القتل.

قوله تعالى: "و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون" أي ضربنا لهم من كل نوع من الأمثال شيئا لعلهم يتنبهون و يعتبرون و يتعظون بتذكر ما تتضمنه.

قوله تعالى: "قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون" العوج الانحراف و الانعطاف، "قرآنا عربيا" منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص و نحوه أو حال معتمد على الوصف.

قوله تعالى: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل يستويان" إلخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيىء الخلق، و قوله: "شركاء متشاكسون" أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

انتهى و فسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون.

مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أربابا و آلهة مختلفين فيشتركون فيه و هم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر و كل يريد أن يتفرد فيه و يخصه بخدمة نفسه، و للموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون و الموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل.

لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالا من صاحبه.

و هذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا:" الأنبياء: - 22 و عاد برهانا على نفي تعدد الأرباب و الآلهة.

و قوله: "الحمد لله" ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه.

و قوله: "بل أكثرهم لا يعلمون" مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة.



قوله تعالى: "إنك ميت و إنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" الآية الأولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم و الخطاب في "إنكم" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته أو المشركين منهم خاصة و الاختصام - كما في المجمع، - رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإنكار عليه.

و المعنى: إن عاقبتك و عاقبتهم الموت ثم إنكم جميعا يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون و قد حكى مما يلقيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا:" الفرقان: - 30.

و الآيتان عامتان بحسب لفظهما لكن الآيات الأربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين الكافرين من أمته يوم القيامة.

قوله تعالى: "فمن أظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه أ ليس في جهنم مثوى للكافرين" في الآية و ما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة و تلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنه قيل: و نتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم و أنه من هو الناجي منكم، و من هو الهالك؟ فإن القضاء يومئذ يدور مدار الظلم و الإحسان و لا أظلم من الكافر و المؤمن متق محسن و الظلم إلى النار و الإحسان إلى الجنة.

هذا ما يعطيه السياق.

فقوله: "فمن أظلم ممن كذب على الله" أي افترى عليه بأن ادعى أن له شركاء و الظلم يعظم بعظم من تعلق به و إذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كل ظلم و مرتكبه أظلم من كل ظالم.

و قوله: "و كذب بالصدق إذ جاءه" المراد بالصدق الصادق من النبإ و هو الدين الإلهي الذي جاء به الرسول بقرينة قوله: "إذ جاءه".

و قوله: "أ ليس في جهنم مثوى للكافرين" المثوى اسم مكان بمعنى المنزل و المقام، و الاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مقام هؤلاء الظالمين لتكبرهم على الحق الموجب لافترائهم على الله و تكذيبهم بصادق النبإ الذي جاء به الرسول.

و الآية خاصة بمشركي عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بمشركي أمته بحسب السياق و عامة لكل من ابتدع بدعة و ترك سنة من سنن الدين.

قوله تعالى: "و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون" المراد بالمجيء بالصدق الإتيان بالدين الحق و المراد بالتصديق به الإيمان به و الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قوله: "أولئك هم المتقون" لعل الإشارة إلى الذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعا بحسب المعنى و هو كل نبي جاء بالدين الحق و آمن بما جاء به بل و كل مؤمن آمن بالدين الحق و دعي إليه فإن الدعوة إلى الحق قولا و فعلا من شئون اتباع النبي، قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني:" يوسف: - 108.

قوله تعالى: "لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين" هذا جزاؤهم عند ربهم و هو أن لهم ما تتعلق به مشيتهم فالمشية هناك هي السبب التام لحصول ما يشاؤه الإنسان أيا ما كان بخلاف ما عليه الأمر في الدنيا فإن حصول شيء من مقاصد الحياة فيها يتوقف - مضافا إلى المشية - على عوامل و أسباب كثيرة منها السعي و العمل المستمد من الاجتماع و التعاون.



فالآية تدل أولا على إقامتهم في دار القرب و جوار رب العالمين، و ثانيا أن لهم ما يشاءون فهذان جزاء المتقين و هم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الأجر المذكور و هذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله: "ذلك جزاء المحسنين" و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و ذلك جزاؤهم.

و توصيفهم بالإحسان و ظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحق و العمل الحسن جميعا يشهد أن المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولا و فعلا.

على أن القرآن لا يسمي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدقا به.

قوله تعالى: "ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا" إلى آخر الآية و من المعلوم أنه إذا كفر أسوأ أعمالهم كفر ما دون ذلك، و المراد بأسوإ الذي عملوا ما هو كالشرك و الكبائر.

قال في المجمع البيان، في الآية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك و المعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم و إحسانهم و رجوعهم إلى الله تعالى انتهى و هو حسن من جهة تعميم الأعمال السيئة، و من جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالإيمان و الإحسان و التوبة فإن الآية تبين أثر تصديق الصدق الذي أتاهم و هو تكفير السيئات بالتصديق و الجزاء الحسن في الآخرة.

و قوله: "و يجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون".

قيل: المراد أنه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به و في غير الأحسن يجازيهم جزاء الأحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا.

و يمكن أن يقال: إن المراد أنه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفع درجتهم بحسبه فلا يضيع شيء مما هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الأسوإ خفاء.

و قيل: صيغة التفضيل في الآية "أسوأ" و "أحسن" مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه فإن معصية الله كلها أسوأ و طاعته كلها أحسن.

قوله تعالى: "أ ليس الله بكاف عبده و يخوفونك بالذين من دونه" المراد بالذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، و المراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الآيات السابقة و يشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شمولا أوليا.

و الاستفهام للتقرير و المعنى هو يكفيهم، و فيه تأمين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال تخويفهم إياه بآلهتهم و كناية عن وعده بالكفاية كما صرح به في قوله: "فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم:" البقرة: - 137.

قوله تعالى: "و من يضلل الله فما له من هاد و من يهد الله فما له من مضل" إلخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلية و لذا جيء فيهما باسم الجلالة و كان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير.

و في تعقيب قوله: "أ ليس الله بكاف" إلخ بقوله: "و من يضلل" إلخ إشارة إلى أن هؤلاء المخوفين لا يهتدون بالإيمان أبدا و لن ينجح مسعاهم و أنهم لن ينالوا بغيتهم و لا أمنيتهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الله لن يضله و قد هداه.

و قوله: "أ ليس الله بعزيز ذي انتقام" استفهام للتقرير أي هو كذلك، و هو تعليل ظاهر لقوله: "و من يضلل الله" إلخ فإن عزته و كونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممن جحد الحق و أصر على كفره فيضله و لا هادي يهديه لأنه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، و كذا إذا هدى عبدا من عباده لتقواه و إحسانه لم يقدر على إضلاله مضل.



و في التعليل دلالة على أن الإضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة و الانتقام دون الضلال الابتدائي و قد مر مرارا.

بحث روائي

عن روضة الواعظين، روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ "أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" فقال: إن النور إذا وقع في القلب انفسح له و انشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود و عن الحكيم الترمذي عن ابن عمر، و عن ابن جرير و غيره عن قتادة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "أ فمن شرح الله صدره" الآية قال: نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام).

أقول: و نزول السورة دفعة لا يلائمه كما مر في نظيره.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: "الله نزل أحسن الحديث".

أقول: و هو من التطبيق.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "تقشعر منه جلود" الآية: روي عن العباس بن عبد المطلب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت 1 عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "قرآنا عربيا غير ذي عوج": أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "قرآنا عربيا غير ذي عوج" قال: غير مخلوق.

أقول: الآية تأبى عن الانطباق على الرواية و قد تقدم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض:" البقرة: - 253 في الجزء الثاني من الكتاب.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و رجلا سلما لرجل": روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن علي أنه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):. أقول: و رواه أيضا عن العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) و هو من الجري و المثل عام.

و فيه،: في قوله تعالى: "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" قال ابن عمر: كنا نرى أن هذه فينا و في أهل الكتابين و قلنا: كيف نختصم نحن و نبينا واحد و كتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت.

و قال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: إن ربنا واحد و نبينا واحد و ديننا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين و شد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا:. أقول: و روي في الدر المنثور، الحديث الأول بطرق مختلفة عن ابن عمر و في ألفاظها اختلاف و المعنى واحد، و رواه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعي، و روي ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوام، و روي الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري.

و الأحاديث تعارض ما روي أن الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا و إن أخطئوا.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الذي جاء بالصدق و صدق به" قيل: الذي جاء بالصدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و صدق به علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أبي هريرة، و الظاهر أنه من الجري نظرا إلى قوله في ذيل الآية "أولئك هم المتقون".

و روي من طرقهم: أن الذي صدق به أبو بكر و هو أيضا من تطبيق الراوي، روي: أن الذي جاء به جبرئيل و الذي صدق به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أيضا تطبيق غير أن السياق يدفعه فإن الآيات مسوقة لوصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين و جبرئيل أجنبي عنه لا تعلق للكلام به.

39 سورة الزمر - 38 - 52

وَلَئن سأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلْ أَ فَرَءَيْتُم مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ إِنْ أَرَادَنىَ اللّهُ بِضرٍ هَلْ هُنّ كشِفَت ضرِّهِ أَوْ أَرَادَنى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنّ مُمْسِكَت رَحْمَتِهِ قُلْ حَسبىَ اللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكلُ الْمُتَوَكلُونَ (38) قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكمْ إِنى عَمِلٌ فَسوْف تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخْزِيهِ وَ يحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ (40) إِنّا أَنزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَب لِلنّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَ مَن ضلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنت عَلَيهِم بِوَكيلٍ (41) اللّهُ يَتَوَفى الأَنفُس حِينَ مَوْتِهَا وَ الّتى لَمْ تَمُت فى مَنَامِهَا فَيُمْسِك الّتى قَضى عَلَيهَا الْمَوْت وَ يُرْسِلُ الأُخْرَى إِلى أَجَلٍ مّسمّى إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ (42) أَمِ اتخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شفَعَاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلّهِ الشفَعَةُ جَمِيعاً لّهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشمَأَزّت قُلُوب الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَ إِذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ عَلِمَ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ أَنت تحْكمُ بَينَ عِبَادِك فى مَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنّ لِلّذِينَ ظلَمُوا مَا فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ بَدَا لهَُم مِّنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدَا لهَُمْ سيِّئَات مَا كسبُوا وَ حَاقَ بِهِم مّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (48) فَإِذَا مَس الانسنَ ضرّ دَعَانَا ثمّ إِذَا خَوّلْنَهُ نِعْمَةً مِّنّا قَالَ إِنّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمِ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنّ أَكْثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالهََا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنى عَنهُم مّا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابهُمْ سيِّئَات مَا كَسبُوا وَ الّذِينَ ظلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سيُصِيبهُمْ سيِّئَات مَا كَسبُوا وَ مَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

بيان

في الآيات كرة أخرى على المشركين بالاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية و أنه لا يصلح لها شركاؤهم و أن الشفاعة التي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلا الله سبحانه و فيها أمور أخر متعلقة بالدعوة من موعظة و إنذار و تبشير.

قوله تعالى: "و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله" إلى آخر الآية شروع في إقامة الحجة و قد قدم لها مقدمة تبتني الحجة عليها و هي مسلمة عند الخصم و هي أن خالق العالم هو الله سبحانه فإن الخصم لا نزاع له في أن الخالق هو الله وحده لا شريك له و إنما يدعي لشركائه التدبير دون الخلق.

و إذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات و الأرض من عين و لا أثر إلا و ينتهي وجوده إليه تعالى فما يصيب كل شيء من خير أو شر كان وجوده منه تعالى و ليس لأحد أن يمسك خيرا يريده تعالى له أو يكشف شرا يريده تعالى له لأنه من الخلق و الإيجاد و لا شريك له تعالى في الخلق و الإيجاد حتى يزاحمه في خلق شيء أو يمنعه من خلق شيء أو يسبقه إلى خلق شيء و التدبير نظم الأمور و ترتيب بعضها على بعض خلق و إيجاد فالله الخالق لكل شيء كاف في تدبير أمر العالم لأنه الخالق لكل شيء و ليس وراء الخلق شيء حتى يتوهم استناده إلى غيره فهو الله رب كل شيء و إلهه لا رب سواه و لا إله غيره.

فقوله: "قل أ فرأيتم ما تدعون من دون الله" أي أقم الحجة عليهم بانيا لها على هذه المقدمة المسلمة عندهم أن الله خالق كل شيء و قل مفرعا عليه أخبروني عما تدعون من دون الله، و التعبير عن آلهتهم بلفظة "ما" دون "من" و نحوه يفيد تعميم البيان للأصنام و أربابها جميعا فإن الخواص منهم و إن قصروا العبادة على الأرباب من الملائكة و غيرهم و اتخذوا الأصنام قبلة و ذريعة إلى التوجه إلى أربابها لكن عامتهم ربما أخذوا الأصنام نفسها أربابا و آلهة يعبدونها و نتيجة الحجة عامة تشمل الجميع.

و قوله: "إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته" الضر كالمرض و الشدة و نحوهما و ظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكل مصيبة، و إضافة الضر و الرحمة إلى ضميره تعالى في "كاشفات ضره" و "ممسكات رحمته" لحفظ النسبة لأن المانع من كشف الضر و إمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى.

و تخصيص الضر و الرحمة به (صلى الله عليه وآله وسلم) من عموم الحجة له و لغيره لكونه المخاصم الأصيل لهم و قد خوفوه بآلهتهم من دون الله.

و إرجاع ضمير الجمع المؤنث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير أولي العقل من الأصنام و هو يؤيد ما قدمناه في قوله: "أ فرأيتم ما تدعون من دون الله" أن التعبير بما لتعميم الحجة للأصنام و أربابها.

و قوله: "قل حسبي الله" أمر بالتوكل عليه تعالى كما يدل عليه قوله بعده: "عليه يتوكل المتوكلون" و هو موضوع موضع نتيجة الحجة كأنه قيل: قل لهم: إني اتخذت الله وكيلا لأن أمر تدبيري إليه كما أن أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلت الحجة على ربوبيته و صدقت ذلك عملا باتخاذه وكيلا في أموري.



و قوله: "عليه يتوكل المتوكلون" تقديم الظرف على متعلقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكلون لا على غيره، و إسناد الفعل إلى الوصف من مادته للدلالة على كون المراد المتوكلين بحقيقة معنى التوكل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنه الأهل للتوكل عليه يتوكل أهل البصيرة في التوكل فلا لوم علي أن توكلت عليه و قلت: حسبي الله.

قوله تعالى: "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل - إلى قوله - عذاب مقيم" المكانة هي المنزلة و القدر و هي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمروا على الحالة التي هم عليها من الكفر و العناد و الصد عن سبيل الله.

و قوله: "فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه" الظاهر أن "من" استفهامية لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلق بالجملة لا بالمفرد.

و قوله: "و يحل عليه عذاب مقيم" أي دائم و هو المناسب للحلول، و تفكيك أمر العذابين يشهد أن المراد بالأول عذاب الدنيا و بالثاني عذاب الآخرة، و في الكلام أشد التهديد.

و المعنى قل مخاطبا للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرين - على حالتكم التي أنتم عليها من الكفر و العناد إني عامل - كما أومر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يذله؟ و هو عذاب الدنيا كما في يوم بدر و يحل عليه و لا يفارقه عذاب دائم و هو عذاب الآخرة.

قوله تعالى: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق" إلى آخر الآية.

في مقام التعليل للأمر الذي في الآية السابقة، و اللام في قوله: "للناس" للتعليل أي لأجل الناس أن تتلوه عليهم و تبلغهم ما فيه، و الباء في قوله: "بالحق" للملابسة أي ملابسا للحق لا يشوبه باطل.

و قوله: "فمن اهتدى فلنفسه و من ضل فإنما يضل عليها" أي يتفرع على هذا الإنزال أن من اهتدى فإنما يعود نفعه من سعادة الحياة و ثواب الدار الآخرة إلى نفسه، و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود شقاؤه و وباله من عقاب الدار الآخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجل من أن ينتفع بهداهم أو يتضرر بضلالهم.

و قوله: "و ما أنت عليهم بوكيل" أي مفوضا إليه أمرهم قائما بتدبير شئونهم حتى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم.

و المعنى إنما أمرناك أن تهددهم بما قلنا لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لأجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنما يعود نفعه إلى نفسه و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود ضرره إلى نفسه و ما أنت وكيلا من قبلنا عليهم تدبر شئونهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الأمر شيء.

قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" إلى آخر الآية، قال في المجمع،: التوفي قبض الشيء على الإيفاء و الإتمام يقال: توفيت حقي من فلان و استوفيته بمعنى.

انتهي.

تقديم المسند إليه في الآية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفي لها لا غير و إذا انضمت الآية إلى مثل قوله تعالى: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:" السجدة: - 11، و قوله: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا:" الأنعام: - 61 أفادت معنى الأصالة و التبعية أي إنه تعالى هو المتوفي بالحقيقة و ملك الموت و الملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره.



و قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" المراد بالأنفس الأرواح المتعلقة بالأبدان لا مجموع الأرواح و الأبدان لأن المجموع غير مقبوض عند الموت و إنما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلقه بالبدن تعلق التصرف و التدبير و المراد بموتها موت أبدانها إما بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقلي، و كذا المراد بمنامها.

و قوله: "و التي لم تمت في منامها" معطوف على الأنفس في الجملة السابقة، و الظاهر أن المنام اسم زمان و في منامها متعلق بيتوفى و التقدير و يتوفى الأنفس التي لم تمت في وقت نومها.

ثم فصل تعالى في القول في الأنفس المتوفاة في وقت النوم فقال: "فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى" أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها و لا يردها إلى بدنها، و يرسل النفس الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى تنتهي إليه الحياة.

و جعل الأجل المسمى غاية للإرسال دليل على أن المراد بالإرسال جنسه بمعنى أنه يرسل بعض الأنفس إرسالا واحدا و بعضها إرسالا بعد إرسال حتى ينتهي إلى الأجل المسمى.

و يستفاد من الآية أولا: أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه و تستقل عنه و تبقى بحيالها.

و ثانيا: أن الموت و النوم كلاهما توف و إن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده و النوم توف ربما كان بعده إرسال.

ثم تمم الآية بقوله: "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" فيتذكرون أن الله سبحانه هو المدبر لأمرهم و أنهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا.

قوله تعالى: "أم اتخذوا من دون الله شفعاء" إلخ "أم" منقطعة أي بل اتخذ المشركون من دون الله شفعاء و هم آلهتهم الذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه كما قال في أول السورة: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" و قال: "يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله:" يونس: - 18.

و قوله: "قل أ و لو كانوا لا يملكون شيئا و لا يعقلون" أمر بأن يرده عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإن من البديهي أن الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد؟ و ممن يريد؟ و لمن يريد؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الذي لا شعور له و كذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة و يكون له حق أن يشفع و لا ملك لغير الله إلا أن يملكه الله شيئا و يأذن له في التصرف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقا الشامل لما لا يملكونه و لا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرص.

فالاستفهام في "أ و لو كانوا" إلخ للإنكار و المعنى قل لهم هل تتخذونهم شفعاء لكم و لو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئا كالملائكة و لا يعقلون شيئا كالأصنام؟ فإنه سفه.

قوله تعالى: "قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات و الأرض" إلخ توضيح و تأكيد لما مر من قوله: "قل أ و لو كانوا لا يملكون شيئا" و اللام في "لله" للملك، و قوله: "له ملك السموات و الأرض" في مقام التعليل للجملة السابقة، و المعنى كل شفاعة فإنها مملوكة لله فإنه المالك لكل شيء إلا أن يأذن لأحد في شيء منها فيملكه إياها، و أما استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقا كما يقولون فمما لا يكون قال تعالى: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه:" يونس: - 3.



و للآية معنى آخر أدق إذا انضمت إلى مثل قوله تعالى: "ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع:" الأنعام: - 51 و هو أن الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه و غيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدم في بحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن الشفاعة ينتهي إلى توسط بعض صفاته تعالى بينه و بين المشفوع له لإصلاح حاله كتوسط الرحمة و المغفرة بينه و بين عبده المذنب لإنجائه من وبال الذنب و تخليصه من العذاب.

و الفرق بين هذا الملك و ما في الوجه السابق أن المالك لا يتصف بمملوكه في الوجه السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإن المالك فيه يتصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته.

و قوله: "ثم إليه ترجعون" تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعا الدال على الحصر و ذلك أن الشفاعة إنما يملكها الذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها و أصلح حال المشفوع له و أما غيره فإنما يملكها إذا رضي بها و أذن فيها و الله سبحانه هو الذي يرجع إليه العباد دون الذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعا فقولهم بكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقا ثم عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبنى يعتمد عليه.

و قيل: قوله: "ثم إليه ترجعون" تهديد لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم و يخيب سعيكم في عبادتهم.

و قيل: يحتمل أن يكون تنصيصا على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة و إيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه تعالى، و الوجه ما قدمناه.

قوله تعالى: "و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة" إلخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفردا بالذكر من غير ذكر آلهتهم و من مصاديقه قول لا إله إلا الله، و الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشيء.

و إنما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالآخرة لأن ذلك هو الأصل في اشمئزازهم و لو كانوا مؤمنين بالآخرة و أنهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم و لم يرغبوا عن ذكره وحده.

و قوله: "و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" المراد بالذين من دونه آلهتهم، و الاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه.

قوله تعالى: "قل اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم" إلخ لما بلغ الكلام مبلغا لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الآخرة و إنكارهم الرجوع إليه تعالى حتى كانوا يشمئزون من ذكره تعالى وحده أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكره تعالى وحده و يذكرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الإقرار بالبعث و قد وصف الله تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض أي مخرجها من كتم العدم إلى ساحة الوجود، و عالم الغيب و الشهادة فلا يخفى عليه شيء، و لازمه أن يحكم بالحق و ينفذ حكمه.

قوله تعالى: "و لو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة" إلخ المراد بالذين ظلموا هم الذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، و الظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال: "أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:" الأعراف: - 45.

و المعنى: و لو أن للظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الأرض من أموال و ذخائر و كنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب.



و قوله: "و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" البداء و البدو بمعنى الظهور و الحساب و الحسبان العد، و الاحتساب الاعتداد بالشيء بمعنى البناء على عده شيئا و كثيرا ما يستعمل الحسبان و الاحتساب بمعنى الظن كما قيل و منه قوله: "ما لم يكونوا يحتسبون" أي ما لم يكونوا يظنون لكن فرق الراغب بين الحسبان و الظن حيث قال: و الحسبان أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله و يكون بعرض أن يعتريه فيه شك، و يقارب ذلك الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر.

انتهي.

و مقتضى سياق الآية أن المراد بيان أنهم سيواجهون يوم القيامة أمورا على صفة هي فوق ما تصوروه و أعظم و أهول مما خطر ببالهم لا أنهم يشاهدون أمورا ما كانوا يعتقدونها و يذعنون بها و بالجملة كانوا يسمعون أن لله حسابا و وزنا للأعمال و قضاء و نارا و ألوانا من العذاب فيقيسون ما سمعوه - على إنكار منهم له - على ما عهدوه من هذه الأمور في الدنيا فلما شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم مما كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الآية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنة: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين:" السجدة: - 17.

و أيضا مقتضى السياق أن البدو المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء و الانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:" ق: - 22.

قوله تعالى: "و بدا لهم سيئات ما كسبوا" إلى آخر الآية أي ظهر لهم سيئات أعمالهم بعد ما كانت خفية عليهم فهو كقوله: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء:" آل عمران: - 30.

و قوله: "و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون" أي و نزل عليهم و أصابهم ما كانوا يستهزءون به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة و أهواله و أنواع عذابه.

قوله تعالى: "فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم" إلخ الآية في مقام التعليل البياني لما تقدم من وصف الظالمين و لذا صدرت بالفاء لتتفرع على ما تقدم تفرع البيان على المبين.

فهو تعالى لما ذكر من حالهم أنهم أعرضوا عن كل آية دالة على الحق و لم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم و لم يسمعوا موعظة و لم يعتدوا بعبرة فجحدوا ربوبيته تعالى و أنكروا البعث و الحساب و بلغ بهم ذلك أن اشمأزت قلوبهم إذا ذكر الله وحده.

بين أن ذلك مما يستدعيه طبع الإنسان المائل إلى اتباع هوى نفسه و الاغترار بما زين له من نعم الدنيا و الأسباب الظاهرية الحافة بها فالإنسان حليف النسيان إذا مسه الضر أقبل إلى ربه و أخلص له و دعاه ثم إذا خوله ربه نعمة نسبه إلى علم نفسه و خبرته و نسي ربه و جهل أنها فتنة فتن بها.

فقوله: "فإذا مس الإنسان ضر" أي مرض أو شدة "دعانا" أي خصنا بالدعاء و انقطع عن غيرنا.

و قوله: "ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم" التخويل الإعطاء على نحو الهبة، و تقييد النعمة بقوله: "منا" للدلالة على كون وصف النعمة محفوظا لها و المعنى خولناه نعمة ظاهرا كونها نعمة.

و ضمير "أوتيته" للنعمة بما أنه شيء أو مال و العناية في ذلك بالإشارة إلى أنه لا يعترف بكونها نعمة منا بل يقطعها عنا فيسميها شيئا أو مالا و نحوه و لا يسميها نعمة حتى يضطره ذلك إلى الاعتراف بمنعم و الإشارة إليه كما قال: "أوتيته" فصفح عن الفاعل لذلك و التعبيران أعني "نعمة منا" "إنما أوتيته" من لطيف تعبير القرآن، و قد وجهوا تذكير الضمير في "أوتيته" بوجوه أخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصلات.



و الملائم لسياق الآية أن يكون معنى "على علم" على علم مني أي أوتيت هذا الذي أوتيت على علم مني و خبرة بطرق كسب المعاش و اقتناء الثروة و جمع المال.

و قيل: المراد إنما أوتيته على علم من الله بخير عندي أستحق به أن يؤتيني النعمة، و قيل: المراد على علم مني برضا الله عني، و أنت خبير بأن ما تقدم من معنى قوله: "ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته" لا يلائم شيئا من القولين.

و قوله: "بل هي فتنة و لكن أكثرهم لا يعلمون" أي بل النعمة التي خولناه منا فتنة أي ابتلاء و امتحان نمتحنه بذلك و لكن أكثرهم لا يعلمون بذلك.

و قيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، و قيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها و الوجهان بعيدان سيما الأخير.

قوله تعالى: "قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا" ضمير "قد قالها" راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة.

و الآية رد لقولهم و إثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنهم لو أوتوها على علم منهم و اكتسبوها بحولهم و قوتهم لأغنى عنهم كسبهم و لم يصبهم سيئات ما كسبوا و حفظوها لأنفسهم و تنعموا بها و لم يهلكوا دونها و ليس كذلك فهؤلاء الذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم و أصابهم سيئات ما كسبوا.

و الظاهر أن الآية تشير بقوله: "قد قالها الذين من قبلهم" إلى قارون و أمثاله و قد حكي عنه قول "إنما أوتيته على علم عندي" في قصته من سورة القصص.

قوله تعالى: "و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين" الإشارة بهؤلاء إلى قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيئات كسبهم و وبالات عملهم و ما هم بمعجزين لله.

قوله تعالى: "أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر" إلخ جواب آخر عن قول القائل منهم: "إنما أوتيته على علم" و قد كان الجواب الأول "قد قالها الذين من قبلهم" إلخ جوابا من طريق النقض و هذا جواب من طريق المعارضة بالإشارة إلى دلالة الدليل على أن الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق و يقدر.

بيان ذلك: أن سعي الإنسان عن علم و إرادة لتحصيل الرزق ليس سببا تاما موجبا لحصول الرزق و إلا لم يتخلف و من البين خلافه فكم من طالب رجع آيسا و ساع خاب سعيه.

فهناك علل و شرائط زمانية و مكانية و موانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حد الإحصاء إذا اجتمعت و توافقت أنتج ذلك حصول الرزق.

و ليس اجتماع هذه العلل و الشرائط على ما فيها من الاختلاف و التشتت و التفرق من مادة و زمان و مكان و مقتضيات أخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدمة و علل العلل و مقدماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعا و توافقا على سبيل الاتفاق فإن الاتفاق لا يكون دائميا و لا أكثريا و قانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحية بل المنبسط على أقطار العالم المشهود و أرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة و الانبساط و لو انقطع لهلكت الأشياء لأول لحظة و من فورها.



و هذا النظام الجاري بوحدته و تناسب أجزائه و تلاؤمها يكشف عن وحدانية ناظمه و فردانية مدبره و مديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به و هو الله عز اسمه.

على أن النظام من التدبير و التدبير من الخلق كما مر مرارا فخالق العالم مدبره و مدبره رازقه و هو الله تعالى شأنه.

و يشير إلى هذا البرهان في الآية قوله: "لمن يشاء" فإنه إذا كان بسط الرزق و قدره بمشيئته تعالى لم يكن بمشيئة الإنسان الذي يتبجح بعلمه و سعيه و لا بمشيئة شيء من العلل و الأسباب و إيجابه كما هو ظاهر و ليس من قبيل الاتفاق بل هو على نظام جار فهو بمشيئة جاعل النظام و مجريه و هو الله سبحانه.

و قد تقدم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى: "و ترزق من تشاء بغير حساب:" آل عمران: - 27 و سيأتي كلام فيه في تفسير قوله: "فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون:" الذاريات: - 23 إن شاء الله تعالى.

بحث روائي

في التوحيد، عن علي (عليه السلام) في حديث: و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و أما قوله: "يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم" و قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" و قوله: "توفته رسلنا و هم لا يفرطون" و قوله: "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" و قوله: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم" فإن الله تبارك و تعالى يدبر الأمر كيف يشاء و يوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه و يوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه. و ليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن فيهم القوي و الضعيف، و لأن منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله و أعانه عليه من خاصة أوليائه. و إنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، و أنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم.

و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم و هو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسده.

و في المجمع،: روى العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس و إن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح و هو قوله سبحانه: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" الآية. فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو مما يخيله الشيطان و لا تأويل له.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد و يرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا. فقال علي بن أبي طالب: أ فلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها - فيمسك التي قضى عليها الموت - و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى" فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت و هي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، و ما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقيها الشياطين في الهواء فكذبتها و أخبرتها بالأباطيل فعجب عمر من قوله.

أقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف و الرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، و قد أطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأعظم و ما بين السماء و الأرض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأصغر فتبصر.

39 سورة الزمر - 53 - 61

قُلْ يَعِبَادِى الّذِينَ أَسرَفُوا عَلى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوب جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَاب ثُمّ لا تُنصرُونَ (54) وَ اتّبِعُوا أَحْسنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رّبِّكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكمُ الْعَذَاب بَغْتَةً وَ أَنتُمْ لا تَشعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسرَتى عَلى مَا فَرّطت فى جَنبِ اللّهِ وَ إِن كُنت لَمِنَ السخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنّ اللّهَ هَدَاخ لَكنت مِنَ الْمُتّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَاب لَوْ أَنّ لى كرّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جَاءَتْك ءَايَتى فَكَذّبْت بهَا وَ استَكْبرْت وَ كُنت مِنَ الْكَفِرِينَ (59) وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللّهِ وُجُوهُهُم مّسوَدّةٌ أَ لَيْس فى جَهَنّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبرِينَ (60) وَ يُنَجِّى اللّهُ الّذِينَ اتّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسهُمُ السوءُ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ (61)

بيان

في الآيات أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعوهم إلى الإسلام و اتباع ما أنزل الله و يحذرهم عما يستعقبه إسرافهم على أنفسهم من الحسرة و الندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحق و الفوز و النجاة يومئذ للمتقين و النار و الخسران للكافرين، و في لسان الآيات من الرأفة و الرحمة ما لا يخفى.

قوله تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" إلخ أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعوهم من قبله و يناديهم بلفظة يا عبادي و فيه تذكير بحجة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم و ترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أما التذكير بالحجة فلأنه يشير إلى أنهم عباده و هو مولاهم و من حق المولى على عبده أن يطيعه و يعبده فله أن يدعوه إلى طاعته و عبادته، و أما ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الإضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسك بذيل رحمته و مغفرته.

و قوله: "الذين أسرفوا على أنفسهم" الإسراف - على ما ذكره الراغب - تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، و كان الفعل مضمن معنى الجناية أو ما يقرب منها و لذا عدي بعلى و الإسراف على النفس هو التعدي عليها باقتراف الذنب أعم من الشرك و سائر الذنوب الكبيرة و الصغيرة على ما يعطيه السياق.

و قال جمع: إن المراد بالعباد المؤمنون و قد غلب استعماله فيهم مضافا إليه تعالى في القرآن فمعنى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أيها المؤمنون المذنبون.

و يدفعه أن قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا" إلى تمام سبع آيات ذو سياق واحد متصل يفصح عن دعوتهم و قوله في ذيل الآيات: "بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها و استكبرت" إلخ كالصريح أو هو صريح في شمول العباد للمشركين.

و ما ورد في كلامه تعالى من لفظ "عبادي" و المراد به المؤمنون بضعة عشر موردا جميعها محفوفة بالقرينة و ليس بحيث ينصرف عند الإطلاق إلى المؤمنين كما أن الموارد التي أطلق فيها و أريد به الأعم من المشرك و المؤمن في كلامه كذلك.

و بالجملة شمول "عبادي" في الآية للمشركين لا ينبغي أن يرتاب فيه، و القول بأن المراد به المشركون خاصة نظرا إلى سياق الآيات كما نقل عن ابن عباس أقرب إلى القبول من تخصيصه بالمؤمنين.

و قوله: "لا تقنطوا من رحمة الله" القنوط اليأس، و المراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين و دعوتهم هو الرحمة المتعلقة بالآخرة دون ما هي أعم الشاملة للدنيا و الآخرة و من المعلوم أن الذي يفتقر إليه المذنبون من شئون رحمة الآخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة و لذا علل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا".

و في الآية التفات من التكلم إلى الغيبة حيث قيل: "إن الله يغفر" و لم يقل: إني أغفر و ذلك للإشارة إلى أنه الله الذي له الأسماء الحسنى و منها أنه غفور رحيم كأنه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإني أنا الله أغفر الذنوب جميعا لأن الله هو الغفور الرحيم.

و قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا تعليل للنهي عن القنوط و إعلام بأن جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامة لكنها تحتاج إلى سبب مخصص و لا تكون جزافا، و الذي عده القرآن سببا للمغفرة أمران: الشفاعة 1 و التوبة لكن ليس المراد في قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" المغفرة الحاصلة بالشفاعة لأن الشفاعة لا تنال الشرك بنص القرآن في آيات كثيرة و قد مر أيضا أن قوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء:" النساء: - 48 ناظر إلى الشفاعة و الآية أعني قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" موردها الشرك و سائر الذنوب.

فلا يبقى إلا أن يكون المراد المغفرة الحاصلة بالتوبة و كلامه تعالى صريح في مغفرة الذنوب جميعا حتى الشرك بالتوبة.

على أن الآيات السبع - كما عرفت - كلام واحد ذو سياق واحد متصل ينهى عن القنوط - و هو تمهيد لما يتلوه - و يأمر بالتوبة و الإسلام و العمل الصالح و ليست الآية الأولى كلاما مستقلا منقطعا عما يتلوه حتى يحتمل عدم تقييد عموم المغفرة فيها بالتوبة و أي سبب آخر مفروض للمغفرة.

و الآية أعني قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" من معارك الآراء بينهم فقد ذهب قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك و سائر الكبائر التي وعد الله عليها النار مع عدم تقييد العموم بالتوبة فالمغفرة لا تنال إلا الصغائر من الذنوب.

و ذهب آخرون إلى إطلاق المغفرة و عدم تقيدها بالتوبة و لا بسبب آخر من أسباب المغفرة غير أنهم قيدوها بالشرك لصراحة قوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" الآية فاستنتجوا عموم المغفرة و إن لم يكن هناك سبب مخصص يرجح المذنب المغفور له على غيره في مغفرته كالتوبة و الشفاعة و هي المغفرة الجزافية و قد استدلوا على 1 ذلك بوجوه غير سديدة.

و أنت خبير بأن مورد الآية هو الشرك و سائر الذنوب، و من المعلوم من كلامه تعالى أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة فتقيد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة مما لا مفر منه.

قوله تعالى: "و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون" عطف على قوله: "لا تقنطوا"، و الإنابة إلى الله الرجوع إليه و هو التوبة، و قوله: "إلى ربكم" من وضع الظاهر موضع المضمر و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و أنيبوا إليه و الوجه فيه الإشارة إلى التعليل فإن الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبية.

و المراد بالإسلام التسليم لله و الانقياد له فيما يريد، و إنما قال: "و أسلموا له" و لم يقل: و آمنوا به لأن المذكور قبل الآية و بعدها استكبارهم على الحق و المقابل له الإسلام.

و قوله: "من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون" متعلق بقوله: "أنيبوا و أسلموا" و المراد بالعذاب عذاب الآخرة بقرينة الآيات التالية، و يمكن على بعد أن يراد مطلق العذاب الذي لا تقبل معه التوبة و منه عذاب الاستئصال قال تعالى: "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده:" المؤمن: - 85.

و المراد بقوله: "ثم لا تنصرون" أن المغفرة لا تدرككم بوجه لعدم تحقق سببها فالتوبة مفروضة العدم و الشفاعة لا تشمل الشرك.

قوله تعالى: "و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون" الخطاب عام للمؤمن و الكافر كالخطابات السابقة و القرآن قد أنزل إلى الفريقين جميعا.



و في الآية أمر باتباع أحسن ما أنزل من الله قيل: المراد به اتباع الأحكام من الحلال و الحرام دون القصص، و قيل: اتباع ما أمر به و نهي عنه كإتيان الواجب و المستحب و اجتناب الحرام و المكروه دون المباح، و قيل: الاتباع في العزائم و هي الواجبات و المحرمات، و قيل: اتباع الناسخ دون المنسوخ، و قيل: ما أنزل هو جنس الكتب السماوية و أحسنها القرآن فاتباع أحسن ما أنزل و هو اتباع القرآن.

و الإنصاف أن قوله في الآية السابقة: "و أسلموا له" يشمل مضمون كل من هذه الأقوال فحمل قوله: "و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم" على شيء منها لا يخلو عن تكرار من غير موجب.

و لعل المراد من أحسن ما أنزل الخطابات التي تشير إلى طريق استعمال حق العبودية في امتثال الخطابات الإلهية الاعتقادية و العملية و ذلك كالخطابات الداعية إلى ذكر الله تعالى بالاستغراق و إلى حبه و إلى تقواه حق تقاته و إلى إخلاص الدين له فإن اتباع هذه الخطابات يحيي الإنسان حياة طيبة و ينفخ فيه روح الإيمان و يصلح أعماله و يدخله في ولاية الله تعالى و هي الكرامة ليست فوقها كرامة.

و قوله: "من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون" أنسب لهذا المعنى فإن الدعوة إلى عمل بالتخويف من مفاجأة الحرمان و مباغتة المانع إنما تكون غالبا فيما يساهل المدعو في أمره و يطيب نفسه بسوف و لعل، و هذا المعنى أمس بإصلاح الباطن منه بإصلاح الظاهر و الإتيان بأجساد الأعمال، و يقرب منه قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه:" الأنفال: - 24.

قوله تعالى: "أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله" إلخ قال في المجمع،: التفريط إهمال ما يجب أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته، و قال: التحسر الاغتمام مما فات وقته لانحساره عنه بما لا يمكن استدراكه.

انتهي.

و قال الراغب: الجنب الجارحة.

قال: ثم يستعار في الناحية التي تليها لعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين و الشمال.

انتهي.

فجنب الله جانبه و ناحيته و هي ما يرجع إليه تعالى مما يجب على العبد أن يعامله و مصداق ذلك أن يعبده وحده و لا يعصيه و التفريط في جنب الله التقصير في ذلك.

و قوله: "و إن كنت لمن الساخرين" "إن" مخففة من الثقيلة، و الساخرين اسم فاعل من سخر بمعنى استهزأ.

و معنى الآية إنما نخاطبكم بهذا الخطاب حذر أن تقول أو لئلا تقول نفس منكم يا حسرتا على ما قصرت في جانب الله و إني كنت من المستهزءين، و موطن القول يوم القيامة.

قوله تعالى: "أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين" ضمير تقول للنفس، و المراد بالهداية الإرشاد و إراءة الطريق، و المعنى ظاهر و هو قطع للعذر.

قوله تعالى: "أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين" لو للتمني و الكرة الرجعة، و المعنى أو تقول نفس متمنية حين ترى العذاب يوم القيامة: ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المحسنين.

قوله تعالى: "بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها و استكبرت و كنت من الكافرين" رد لها و جواب لخصوص قولها ثانيا: "لو أن الله هداني لكنت من المتقين" و مواطن الجواب يوم القيامة كما أن موطن القول ذلك و لسياق الجواب شهادة عليه.

و قد فصل بين قولها و جوابه بقوله: "أو تقول حين ترى" إلخ و لم يجب إلا عن قولها: "لو أن الله هداني" إلخ.

و الوجه في الفصل أن الأقوال الثلاثة المنقولة عنها مرتبة على ترتيب صدورها عن المجرمين يوم القيامة فإذا قامت القيامة و رأى المجرمون أن اليوم يوم الجزاء بالأعمال و قد فرطوا فيها و فاتهم وقتها تحسروا على ما فرطوا و نادوا بالحسرة على تفريطهم "يا حسرتا على ما فرطت" قال تعالى: "حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها:" الأنعام: - 31.

ثم إذا حوسبوا و أمر المتقون بدخول الجنة و قيل: "و امتازوا اليوم أيها المجرمون:" يس: - 59 تعللوا بقولهم: "لو أن الله هداني لكنت من المتقين".

ثم إذا أمروا بدخول النار فأوقفوا عليها ثم أدخلوا فيها تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليحسنوا فيها فيسعدوا "أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة" قال تعالى: "و لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين:" الأنعام: - 27، و قال حاكيا عنهم: "ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون:" المؤمنون: - 107.

ثم لما نقل الأقوال على ما بينها من الترتيب أخذ في الجواب و لو أخر القول المجاب عنه حتى يتصل بالجواب أو قدم الجواب حتى يتصل به اختل النظم 1.

و قد خص قولهم الثاني: "لو أن الله هداني" إلخ بالجواب و أمسك عن جواب قولهم الأول و الثالث لأن في الأول حديث استهزائهم بالحق و أهله و في الثالث تمنيهم للرجوع إلى الدنيا و الله سبحانه يزجر هؤلاء يوم القيامة و يمنعهم أن يكلموه و لا يجيب عن كلامهم كما يشير إلى ذلك قوله: "قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها و لا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري و كنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون:" المؤمنون: - 111.

قوله تعالى: "و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين" الكذب على الله هو القول بأن له شريكا و أن له ولدا و منه البدعة في الدين.

و سواد الوجه آية الذلة و هي جزاء تكبرهم و لذا قال: "أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين".

قوله تعالى: "و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء و لا هم يحزنون" الظاهر أن مفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز و هو الظفر بالمراد، و الباء في "بمفازتهم" للملابسة أو السببية فالفوز الذي يقضيه الله لهم اليوم سبب تنجيتهم.

و قوله: "لا يمسهم" إلخ بيان لتنجيتهم كأنه قيل: ينجيهم لا يمسهم السوء من خارج و لا هم يحزنون في أنفسهم.

و للآية نظر إلى قوله تعالى في ذيل آيات سورة المؤمنون المنقولة آنفا: "إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون" فتدبر و لا تغفل.

بحث روائي

في المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ما في القرآن آية أوسع من: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عن ابن سيرين عنه (عليه السلام)، و ستأتي إن شاء الله في تفسير سورة الليل الرواية عنه (عليه السلام) أن قوله تعالى: "و لسوف يعطيك ربك فترضى" أرجى من هذه الآية.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أحب أن لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر. الآية فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك" فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: إلا من أشرك.

أقول: في الرواية شيء فقد تقدم أن مورد الآية هو الشرك و أن الآية مقيدة بالتوبة.



و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لو لا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم.

أقول: ما في الحديث من المغفرة لا يأبى التقيد بأسباب المغفرة كالتوبة و الشفاعة.

و في الجميع،: قيل: هذه الآية يعني قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا" إلخ نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم و خاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الآية أسلم فقيل: يا رسول الله هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل للمسلمين عامة.

و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس نقلا عن تفسير الكلبي: بعث وحشي و جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ما يمنعنا من دينك إلا أننا سمعناك تقرأ في كتابك أن من يدعو مع الله إلها آخر و يقتل النفس و يزني يلق أثاما و يخلد في العذاب و نحن قد فعلنا ذلك كله فبعث إليهم بقوله تعالى "إلا من تاب و آمن و عمل صالحا" فقالوا: نخاف أن لا نعمل صالحا. فبعث إليهم "إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فقالوا نخاف أن لا ندخل في المشية. فبعث إليهم "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا" فجاءوا و أسلموا. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لوحشي قاتل حمزة: غيب وجهك عني فإني لا أستطيع النظر إليك. قال: فلحق بالشام فمات في الخمر.

أقول: و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، بعدة طرق و في بعضها أن قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا" إلخ نزل فيه كما في خبر المجمع، السابق، و يضعفه أن السورة مكية و قد أسلم وحشي بعد الهجرة.

على أن ظاهر الخبر عدم تقيد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة و قد عرفت أن السياق يأباه.

و قوله: فمات في الخمر لعله بفتح الخاء و تشديد الميم موضع من أعراض المدينة و لعله من غلط الناس و الصحيح الحمص، و لعل المراد به موته عن شرب الخمر فإنه كان مدمن الخمر و قد جلد في ذلك غير مرة ثم ترك.

و اعلم أن هناك روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تطبيق هذه الآيات على شيعتهم و تطبيق جنب الله عليهم و هي جميعا من الجري دون التفسير و لذا تركنا إيرادها هاهنا.

39 سورة الزمر - 62 - 75

اللّهُ خَلِقُ كلِّ شىْءٍ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ وَكِيلٌ (62) لّهُ مَقَالِيدُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ الّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِ اللّهِ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيرَ اللّهِ تَأْمُرُونى أَعْبُدُ أَيهَا الجَْهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْك وَ إِلى الّذِينَ مِن قَبْلِك لَئنْ أَشرَكْت لَيَحْبَطنّ عَمَلُك وَ لَتَكُونَنّ مِنَ الخَْسِرِينَ (65) بَلِ اللّهَ فَاعْبُدْ وَ كُن مِّنَ الشكِرِينَ (66) وَ مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَ الأَرْض جَمِيعاً قَبْضتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ السمَوَت مَطوِيّت بِيَمِينِهِ سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمّا يُشرِكُونَ (67) وَ نُفِخَ فى الصورِ فَصعِقَ مَن فى السمَوَتِ وَ مَن فى الأَرْضِ إِلا مَن شاءَ اللّهُ ثمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظرُونَ (68) وَ أَشرَقَتِ الأَرْض بِنُورِ رَبهَا وَ وُضِعَ الْكِتَب وَ جِاىءَ بِالنّبِيِّينَ وَ الشهَدَاءِ وَ قُضىَ بَيْنهُم بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَت كلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَت وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَ سِيقَ الّذِينَ كفَرُوا إِلى جَهَنّمَ زُمَراً حَتى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَت أَبْوَبُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَتِ رَبِّكُمْ وَ يُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلى وَ لَكِنْ حَقّت كلِمَةُ الْعَذَابِ عَلى الْكَفِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَب جَهَنّمَ خَلِدِينَ فِيهَا فَبِئْس مَثْوَى الْمُتَكبرِينَ (72) وَ سِيقَ الّذِينَ اتّقَوْا رَبهُمْ إِلى الْجَنّةِ زُمَراً حَتى إِذَا جَاءُوهَا وَ فُتِحَت أَبْوَبُهَا وَ قَالَ لهَُمْ خَزَنَتهَا سلَمٌ عَلَيْكمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ (73) وَ قَالُوا الْحَمْدُ للّهِ الّذِى صدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الأَرْض نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْث نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلَئكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسبِّحُونَ بحَمْدِ رَبهِمْ وَ قُضىَ بَيْنهُم بِالحَْقِّ وَ قِيلَ الحَْمْدُ للّهِ رَب الْعَلَمِينَ (75)

بيان

فصل من الآيات به تختم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثم يؤمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين أن ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلا جهلا بمقامه تعالى و يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحي إليه و إلى الذين من قبله: لئن أشرك ليحبطن عمله.

ثم يذكر سبحانه أن المشركين ما عرفوه واجب معرفته و إلا لم يرتابوا في ربوبيته لهم و لا عبدوا غيره ثم يذكر تعالى نظام الرجوع إليه و هو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه و يختم السورة بالحمد.

قوله تعالى: "الله خالق كل شيء" هذا هو الذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله: "و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله" الآية: - 38 من السورة و بنى عليه استناد الأشياء في تدبيرها إليه.

و الجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستندا إليه لما تقدم مرارا أن الخلق لا ينفك عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به و هو قوله: "له مقاليد السموات و الأرض" و من اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كل شيء القائم مقامه في تدبير أمره.

و قد تقدم في ذيل قوله: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء:" الأنعام: - 102 في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكل شيء.

قوله تعالى: "و هو على كل شيء وكيل" و ذلك لأن انتهاء خلق كل شيء وجوده إليه يقتضي أن يكون تعالى هو المالك لكل شيء فلا يملك شيء من الأشياء لا نفسه و لا شيئا مما يترشح من نفسه إلا بتمليك الله تعالى، فهو لفقره مطلقا لا يملك تدبيرا و الله المالك لتدبيره.

و أما تمليكه تعالى له نفسه و عمله فهو أيضا نوع من تدبيره تعالى مؤكد لملكه غير ناف و لا مناف من شئون وكالته تعالى عليهم لا تفويض للأمر و إبطال للوكالة فافهم ذلك.

و بالجملة إذ كان كل شيء من الأشياء لا يملك لنفسه شيئا كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبر لأمره و الأسباب و المسببات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربها وحده.

فقد تبين أن الجملة مسوقة للإشارة إلى توحده في الربوبية و هو المقصود بيانه فقول بعضهم إن ذكر ذلك بعد قوله: "الله خالق كل شيء" للدلالة على أنه هو الغني المطلق و أن المنافع و المضار راجعة إلى العباد، أو أن المراد أنه تعالى حفيظ على كل شيء فيكون إشارة إلى أن الأشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنها محتاجة إليه في حدوثها، أجنبي عن معنى الآية بالمرة.

قوله تعالى: "له مقاليد السموات و الأرض" إلخ المقاليد - كما قيل - بمعنى المفاتيح و لا مفرد له من لفظه.

و مفاتيح السماوات و الأرض مفاتيح خزائنها قال تعالى: "و لله خزائن السموات و الأرض:" المنافقون: - 7 و خزائنها غيبها الذي يظهر منه الأشياء و النظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:" الحجر: - 21.



و ملك مقاليد السماوات و الأرض كناية عن ملك خزائنها التي منها وجودات الأشياء و أرزاقها و أعمارها و آجالها و سائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدىء منه تعالى إلى حين ترجع إليه.

و هو أعني قوله: "له مقاليد" إلخ في مقام التعليل لقوله: "و هو على كل شيء وكيل" و لذا جيء به مفصولا من غير عطف.

و قوله: "و الذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون" قد تقدم أن قوله: "الله خالق كل شيء - إلى قوله - و الأرض" ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الآيات السابقة، و عليه فقوله: "و الذين كفروا بآيات الله" إلخ معطوف على قوله: "الله خالق كل شيء" و المعنى الذي تدل عليه الآيات و الحجج المتقدمة أن الله سبحانه خالق فمالك فوكيل على كل شيء أي متوحد في الربوبية و الألوهية و الذين كفروا بآيات ربهم فلم يوحدوه و لم يعبدوه أولئك هم الخاسرون.

و قد اختلفوا فيما عطف عليه قوله: "و الذين كفروا" إلخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطولات.

قوله تعالى: "قل أ فغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" لما أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحده تعالى بالخلق و الملك و التدبير و لازم ذلك توحده تعالى في الربوبية و الألوهية أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محل لعبادته غير الله و إجابة اقتراحهم و هل هي إلا الجهل.

فقوله: "أ فغير الله تأمروني أعبد" الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله: "الله خالق كل شيء" إلى آخر الآيتين، و الاستفهام إنكاري، و "غير الله" مفعول "أعبد" قدم عليه لتعلق العناية به، و "تأمروني" معترض بين الفعل و مفعوله و أصله تأمرونني أدغمت فيه إحدى النونين في الأخرى.

و قوله: "أيها الجاهلون" خطابهم بصفة الجهل للإشارة إلى أن أمرهم إياه بعبادة غير الله و اقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبية و الألوهية ليس إلا جهلا منهم.

قوله تعالى: "و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك" إلخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقلية المذكورة بالوحي كأنه قيل: لا تعبد غير الله فإنه جهل و كيف يسوغ لك أن تعبده و قد دل الوحي على النهي عنه كما دل العقل على ذلك.

فقوله: "و لقد أوحي إليك" اللام للقسم، و قوله: "لئن أشركت ليحبطن عملك" بيان لما أوحي إليه، و تقدير الكلام و أقسم لقد أوحي إليك لئن أشركت "إلخ" و إلى الذين من قبلك من الأنبياء و الرسل لئن أشركتم ليحبطن عملكم و لتكونن من الخاسرين.

و خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) بالنهي عن الشرك و إنذارهم بحبط العمل و الدخول في زمرة الخاسرين خطاب و إنذار على حقيقة معناهما كيف؟ و غرض السورة - كما تقدمت الإشارة إليه - بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بالإيمان بما يدعو المشركين إلى الإيمان به مكلف بما يكلفهم و لا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم.



و أما كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهية يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم و عدم صحة توجهه إليهم و لو كان كذلك لم تتصور في حقهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم.

على أن العصمة - و هي قوة يمتنع معها صدور المعصية - من شئون مقام العلم - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى: "و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء:" النساء: - 113 - لا تنافي ثبوت الاختيار الذي هو من شئون مقام العمل و صحة صدور الفعل و الترك عن الجوارح.

فمنع العلم القطعي بمفسدة شيء منعا قطعيا عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السم عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختارا في الفعل لصحة صدوره و لا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف.

و مما تقدم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أن نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشرك و نحوه نهي صوري و المراد به نهي أمته فهو من قبيل "إياك أعني و اسمعي يا جارة".

و وجه الضعف ظاهر مما تقدم، و أما قولنا كما ورد في بعض الروايات أن هذه الخطابات القرآنية من قبيل "إياك أعني و اسمعي يا جارة" فمعناه أن التكليف لما كان من ظاهر أمره أن يتعلق بمن يجوز عليه الطاعة و المعصية فلو تعلق بمن ليس منه إلا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفا على وجه أبلغ كالكناية التي هي أبلغ من التصريح.

و قوله: "و لتكونن من الخاسرين" ظهر معناه مما تقدم و يمكن أن يكون اللام في الخاسرين مفيدا للعهد، و المعنى و لتكونن من الخاسرين الذين كفروا بآيات الله و أعرضوا عن الحجج الدالة على وحدانيته.

قوله تعالى: "بل الله فاعبد و كن من الشاكرين" إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد، و تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر.

و الفاء في "فاعبد" زائدة للتأكيد على ما قيل، و قيل: هي فاء الجزاء و قد حذف شرطه و التقدير بل إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله.

و قوله: "و كن من الشاكرين" أي و كن بعبادتك له من الذين يشكرونه على نعمه الدالة على توحده في الربوبية و الألوهية، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "و سيجزي الله الشاكرين:" آل عمران: - 144 و قوله: "و لا تجد أكثرهم شاكرين:" الأعراف: - 17 أن مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللام فراجع.

قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره" إلى آخر الآية قدر الشيء هو مقداره و كميته من حجم أو عدد أو وزن و ما أشبه ذلك ثم استعير للمعنويات من المكانة و المنزلة.

فقوله: "و ما قدروا الله حق قدره" تمثيل أريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد و رجوع الأشياء إليه كما يدل عليه تعقيب الجملة بقوله: "و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة" إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة، و قبضه الأرض و طيه السماوات و نفخ الصور لإماتة الكل ثم لإحيائهم و إشراق الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء و القضاء و توفية كل نفس ما عملت و سوق المجرمين إلى النار و المتقين إلى الجنة فمن كان شأنه في الملك و التصرف هذا الشأن و عرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الإقبال إليه بعبادته وحده و الإعراض عن غيره بالكلية.



لكن المشركين لما لم يؤمنوا بالمعاد و لم يقدروه حق قدره و لم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه.

و قوله: "و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة" أي الأرض بما فيها من الأجزاء و الأسباب الفعالة بعضها في بعض، و القبضة مصدر بمعنى المقبوضة، و القبض على الشيء و كونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض و المراد هاهنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى: "و الأمر يومئذ لله:" الانفطار: - 19 و غيره من الآيات.

و قد مر مرارا أن معنى انحصار الملك و الأمر و الحكم و السلطان و غير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لأهل الجمع يومئذ و إلا فهي له تعالى دائما فمعنى كون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله.

و قوله: "و السموات مطويات بيمينه" يمين الشيء يده اليمنى و جانبه القوي و يكنى بها عن القدرة، و يستفاد من السياق أن محصل الجملتين أعني قوله: "و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه" تقطع الأسباب الأرضية و السماوية و سقوطها و ظهور أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه.

و قوله: "سبحانه و تعالى عما يشركون" تنزيه له تعالى عما أشركوا غيره في ربوبيته و ألوهيته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم و عبدوها.

قوله تعالى: "و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله" إلخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أن النفخ نفختان نفخة للإماتة و نفخة للإحياء، و هو الذي تدل عليه روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و بعض ما ورد من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام و لذا اختار بعضهم أنها ثلاث نفخات نفخة للإماتة و نفخة للإحياء و البعث و نفخة للفزع و الصعق و قال بعضهم: إنها أربع نفخات و لكن دون إثبات ذلك من ظواهر الآيات خرط القتاد.

و لعل انحصار النفخ في نفختي الإماتة و الإحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الأولى بالموت مع أن المعروف من معنى الصعق الغشية، قال في الصحاح،: يقال: صعق الرجل صعقا و تصاعقا أي غشي عليه و أصعقه غيره، ثم قال: و قوله تعالى: "فصعق من في السموات و من في الأرض" أي مات.

انتهي.

و قوله: "إلا من شاء الله" استثناء من أهل السماوات و الأرض و اختلف في من هم؟ فقيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل سادة الملائكة فإنهم إنما يموتون بعد ذلك، و قيل: هم هؤلاء الأربعة و حملة العرش، و قيل: هم رضوان و الحور و مالك و الزبانية، و قيل: و هو أسخف الأقوال: إن المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه.

و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الآيات يصح الاستناد إليه.

نعم لو تصور لله سبحانه خلق وراء السماوات و الأرض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعا أو قيل: إن الموت إنما يلحق الأجساد بانقطاع تعلق الأرواح بها و أما الأرواح فإنها لا تموت فالأرواح هم المستثنون استثناء متصلا و يؤيد هذا الوجه بعض 1 الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).



و قوله: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" ضمير "فيه" للصور، و "أخرى" صفة محذوف موصوفها أي نفخة أخرى، و قيام جمع قائم و "ينظرون" أي ينتظرون أو من النظر بمعناه المعروف.

و المعنى: و نفخ في الصور نفخة أخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحير.

و لا ينافي ما في هذه الآية من كونهم بعد النفخ قياما ينظرون ما في قوله: "و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون:" يس: - 51 أي يسرعون، و قوله: "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا:" النبأ: - 18، و قوله: "و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات و من في الأرض:" النمل: - 87 فإن فزعهم بالنفخ و إسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر و إتيانهم إليها أفواجا كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضا.

قوله تعالى: "و أشرقت الأرض بنور ربها" إلى آخر الآية إشراق الأرض إضاءتها، و النور معروف المعنى و قد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسي كثيرا و أطلق أيضا على الإيمان و على القرآن بعناية أن كلا منهما يظهر للمتلبس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور:" البقرة: - 257، و قال: "فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا:" التغابن: - 8.

و قد اختلفوا في معنى إشراق الأرض بنور ربها فقيل: إنها تضيء بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس و القمر و إضافته إليه تعالى من قبيل روحي و "ناقة الله".

و فيه أنه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه.

و قيل: المراد به تجلي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الأخبار من طرق أهل السنة.

و فيه أنه على تقدير صحة الرواية لا يدل على المدعى.

و قيل: المراد به إضاءة الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل.

و فيه أن صحة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الآية هو العدل إلا بدليل يدل عليه و لم يأت به.

و في الكشاف، قد استعار الله عز و جل النور للحق و البرهان في مواضع من التنزيل و هذا من ذاك، و المعنى و أشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق و العدل و يبسطه من القسط في الحساب و وزن الحسنات و السيئات.

و ينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه لأنه هو الحق العدل، و إضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله و ينصب فيها موازين قسطه و يحكم بالحق بين أهلها، و لا ترى أزين للبقاع من العدل و لا أعمر لها منه، و في هذه الإضافة أن ربها و خالقها هو الذي يعدل فيها و إنما يجور فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء و القضاء بالحق و هو النور المذكور، و ترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك و أضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الظلم ظلمات يوم القيامة و كما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم.

انتهي.

و فيه أولا: أن قوله إن النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحق و القرآن و البرهان فاستعارته للحق و البرهان غير ظاهر في شيء من الآيات.



و ثانيا: أن الحق و العدل مفهومان متغايران و إن كانا ربما يتصادقان و كون النور في الآية مستعارا للحق لا يستلزم كون العدل مرادا به، و لذا لما أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحق مع العدل ثم استنتج للعدل دون الحق.

و لا يبعد أن يراد - و الله أعلم - من إشراق الأرض بنور ربها ما هو خاصة يوم القيامة من انكشاف الغطاء و ظهور الأشياء بحقائقها و بدو الأعمال من خير أو شر أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين، و إشراق الشيء هو ظهوره بالنور و لا ريب أن مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الأسباب ساقطة دونه فالأشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى.

و هذا الإشراق و إن كان عاما لكل شيء يسعه النور لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض و أهله يومئذ من الشأن خصها بالبيان فقال: "و أشرقت الأرض بنور ربها" و ذكره تعالى بعنوان ربوبية الأرض تعريضا للمشركين المنكرين لربوبيته تعالى للأرض و ما فيها.

و المراد بالأرض مع ذلك الأرض و ما فيها و ما يتعلق بها كما تقدم أن المراد بالأرض في قوله: "و الأرض جميعا قبضته" ذلك.

و يستفاد ما قدمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:" ق: - 22 و قوله: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء:" آل عمران: - 30، و قوله: "يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره:" الزلزال: - 8 و آيات أخرى كثيرة تدل على ظهور الأعمال و تجسمها و شهادة الأعضاء و غير ذلك.

و قوله: "و وضع الكتاب" قيل: المراد به الحساب و هو كما ترى و قيل: المراد به صحائف الأعمال التي يحاسب عليها و يقضى بها، و قيل: المراد به اللوح المحفوظ و يؤيده قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون:" الجاثية: - 29.

و قوله: "و جيء بالنبيين و الشهداء" أما النبيون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى: "فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين:" الأعراف: - 6، و أما الشهداء و هم شهداء الأعمال فليؤدوا ما تحملوه من الشهادة قال تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا:" النساء: - 41.

و قوله: "و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون" ضميرا الجمع للناس المعلوم من السياق، و القضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كرارا في كلامه تعالى قال: "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون:" يونس: - 93.

قوله تعالى: "و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون" التوفية الإعطاء بالتمام و قد علقت بنفس ما عملت دون جزائه و يقطع ذلك الريب في كونه قسطا و عدلا من أصله و الآية بمنزلة البيان لقوله: "و هم لا يظلمون".

و قوله: "و هو أعلم بما يفعلون" أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء عن جهل منه و حاجة بل لأن يجري حكمه على القسط و العدل فهو أعلم بما يفعلون.

و الآية السابقة تتضمن القضاء و الحكم و هذه الآية إجراؤه و الآيات اللاحقة تفصيل إجرائه.



قوله تعالى: "و سيق الذين كفروا إلى جهنم" إلى آخر الآية السوق بالفتح فالسكون - على ما في المجمع، - الحث على السير، و الزمر جمع زمرة و هي - كما في الصحاح، - الجماعة من الناس.

و المعنى "و سيق" و حث على السير "الذين كفروا إلى جهنم زمرا" جماعة بعد جماعة "حتى إذا جاءوها" بلغوها "فتحت أبوابها" لأجل دخولهم و هي سبعة قال تعالى: "لها سبعة أبواب:" الحجر: - 44 "و قال لهم خزنتها" و هم الملائكة الموكلون عليها يقولون لهم تهجينا و إنكارا عليهم "أ لم يأتكم رسل منكم" من نوعكم من البشر "يتلون" و يقرءون "عليكم آيات ربكم" من الحجج الدالة على وحدانيته و وجوب عبادته "قالوا" بلى قد جاءوا و تلوا "و لكن" كفرنا و كذبنا و "حقت كلمة العذاب على الكافرين" و كلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط: "و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:" البقرة: - 39.

قوله تعالى: "قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين" القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنم، و في قوله: "فبئس مثوى المتكبرين" دلالة على أن هؤلاء الذين كفروا هم المكذبون بآيات الله المعاندون للحق.

قوله تعالى: "و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها" لم يذكر في الآية جواب إذا إشارة إلى أنه أمر فوق ما يوصف و وراء ما يقدر بقدر، و قوله: "و فتحت أبوابها" حال أي جاءوها و قد فتحت أبوابها، و قوله: "خزنتها" هم الملائكة الموكلون عليها.

و المعنى "و سيق" و حث على السير "الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا" جماعة بعد جماعة "حتى إذا جاءوها و" قد "فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها" الموكلون عليها مستقبلين لهم "سلام عليكم" أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلا ما ترضون "طبتم" و لعله تعليل لإطلاق السلام "فادخلوها خالدين" فيها.

و هو أثر طيبهم.

قوله تعالى: "و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض" إلى آخر الآية.

القائلون هم المتقون و المراد بالوعد ما تكرر في كلامه تعالى و فيما أوحي إلى سائر الأنبياء من وعد المتقين بالجنة قال: "للذين اتقوا عند ربهم جنات:" آل عمران: - 15 و قال: "إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم:" القلم: - 34، كذا قيل، و قيل: المراد بالوعد الوعد بالبعث و الثواب.

و لا يبعد أن يراد بالوعد الوعد بإيراث الجنة كما في قوله: "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:" المؤمنون: - 11 و يكون قوله: "و أورثنا الأرض" عطف تفسير لقوله "صدقنا وعده".

و قوله: "و أورثنا الأرض" المراد بالأرض - على ما قالوا - أرض الجنة و هي التي عليها الاستقرار فيها و قد تقدم في أول سورة المؤمنون أن المراد بوراثتهم الجنة بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم.

و قوله: "نتبوأ من الجنة حيث نشاء" بيان لإيراثهم الأرض، و تبديل ضمير الأرض بالجنة للإشارة إلى أنها المراد بالأرض.

و قيل: المراد بالأرض هي أرض الدنيا و هو سخيف إلا أن يوجه بأن الجنة هي عقبى هذه الدار قال تعالى: "أولئك لهم عقبى الدار:" الرعد: - 22.



و المعنى و قال المتقون بعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده أن سيدخلنا أو أن سيورثنا الجنة نسكن منها حيث نشاء و نختار - فلهم ما يشاءون فيها -.

و قوله: "فنعم أجر العاملين" أي فنعم الأجر أجر العاملين لله تعالى، و هو على ما يعطيه السياق قول أهل الجنة، و احتمل أن يكون من قوله تعالى.

قوله تعالى: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم" إلى آخر الآية الحف الإحداق و الإحاطة بالشيء، و العرش هو المقام الذي يصدر منه الفرامين و الأوامر الإلهية التي يدبر بها العالم، و الملائكة هم المجرون لمشيته العاملون بأمره، و رؤية الملائكة على تلك الحال كناية عن ظهور ذلك و قد طويت السماوات.

و المعنى: و ترى يومئذ الملائكة و الحال أنهم محدقون بالعرش مطيفون به لإجراء الأمر الصادر منه و هم يسبحون بحمد ربهم.

و قوله: "و قضي بينهم" احتمل رجوع الضمير إلى الملائكة، و رجوعه إلى الناس و الملائكة جميعا، و رجوعه إلى جميع الخلائق، و رجوعه إلى الناس فالقضاء بين أهل الجنة و أهل النار منهم أو بين الأنبياء و أممهم.

و يضعف الاحتمال الأخير أن القضاء بين الناس قد ذكر قبلا في قوله: "و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون" فذكر القضاء بينهم ثانيا تكرار من غير موجب.

لكن ظاهر القضاء بين جماعة هو الحكم لبعضهم على بعض لوجود اختلاف ما بينهم و لا تحقق للاختلاف بين الملائكة، و هذا يؤيد أن يكون الضمير لغيرهم و القضاء بين الناس غير أن القضاء كما يطلق على نفس حكم الحاكم يصح إطلاقه على مجموع الحكم و مقدماته و تبعاته من حضور المتخاصمين و طرح الدعوى و شهادة الشهود و حكم الحاكم و إيفاء المحق حقه فمن الممكن أن يكون المراد بالقضاء المذكور أولا نفس الحكم الإلهي و بهذا القضاء المذكور ثانيا هو مجموع ما يجري عليهم من حين يبعثون إلى حين دخول أهل النار النار و أهل الجنة الجنة و استقرارهم فيهما و بذلك يندفع إشكال التكرار من غير موجب.

و قوله: "و قيل الحمد لله رب العالمين" كلمة خاتمة للبدء و العود و ثناء عام له تعالى أنه لم يفعل و لا يفعل إلا الجميل.

قيل: قائله المتقون و كان حمدهم الأول على دخولهم الجنة و الثاني للقضاء بينهم و بين غيرهم بالحق، و قيل: قائله الملائكة و لم ينسب إليهم صريحا لتعظيم أمرهم، و قيل: القائل جميع الخلائق.

و يؤيد الأول قوله تعالى في صفة أهل الجنة: "و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:" يونس: - 10 و هو حمد عام خاتم للخلقة كما سمعت.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين" فهذه مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى لأمته، و هو ما قاله الصادق (عليه السلام): إن الله عز و جل بعث نبيه بإياك أعني و اسمعي يا جارة.

و عن كتاب التوحيد، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز و جل لا يوصف:. قال: و قال زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه: "و ما قدروا الله حق قدره؟" فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.



و فيه، بإسناده عن سليمان بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة" قال: ملكه لا يملكها معه أحد. و القبض عن الله تعالى في موضع آخر المنع و البسط منه الإعطاء و التوسع كما قال عز و جل: "و الله يقبض و يبسط و إليه ترجعون" يعني يعطي و يوسع و يضيق، و القبض منه عز و جل في وجه آخر الأخذ و الأخذ في وجه القبول منه كما قال: "و يأخذ الصدقات" أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها. قلت: فقوله عز و جل: "و السموات مطويات بيمينه"؟ قال: اليمين اليد و اليد القدرة و القوة يقول عز و جل: "و السموات مطويات بيمينه" أي بقدرته و قوته سبحانه و تعالى عما يشركون.

أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: "فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله" أنهم الشهداء مقلدون بأسيافهم حول عرشه الخبر و ظاهره أن النفخة غير نفخة الإماتة و قد تقدم أن الآية ظاهرة في خلافه.

و روي عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنهم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و حملة العرش و أنهم يموتون بعدها الخبر.

و الآية ظاهرة في خلافه.

و روي عن جابر: استثني موسى لأنه كان صعق قبل، الخبر.

و فيه أن الصعق سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختص الصعق قبل ذلك بموسى (عليه السلام).

و في المجمع،: في قوله تعالى: "لها سبعة أبواب" فيه قولان أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض و وضع إحدى يديه على الأخرى فقال: هكذا و أن الله وضع الجنان على الأرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية و في رواية الكلبي أسفلها الهاوية و أعلاها جهنم.

و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا. فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجيبت دعوتك و شفعت في شيعتك و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه. و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مثقال من بغضنا أهل البيت.

40 سورة المؤمن - 1 - 6

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذّنبِ وَ قَابِلِ التّوْبِ شدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يجَدِلُ فى ءَايَتِ اللّهِ إِلا الّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْك تَقَلّبهُمْ فى الْبِلَدِ (4) كذّبَت قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الأَحْزَاب مِن بَعْدِهِمْ وَ هَمّت كلّ أُمّةِ بِرَسولهِِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَدَلُوا بِالْبَطِلِ لِيُدْحِضوا بِهِ الحَْقّ فَأَخَذْتهُمْ فَكَيْف كانَ عِقَابِ (5) وَ كَذَلِك حَقّت كلِمَت رَبِّك عَلى الّذِينَ كَفَرُوا أَنهُمْ أَصحَب النّارِ (6)

بيان

تتكلم السورة في استكبار الكافرين و مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق الذي يدعون إليه و لذلك نراها تذكر جدالهم و تعود إليه عودة بعد عودة "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد" "الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا" "أ لم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون".

فتكسر سورة استكبارهم و جدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الأمم المكذبين و ما أعد الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف مما يجري عليهم في الآخرة.

و تدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحده في الربوبية و الألوهية و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و تعده و المؤمنين به بالنصر، و تأمرهم أن يؤذنهم أنه مسلم لربه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه.

و السورة مكية كلها لاتصال آياتها و شهادة مضامينها بذلك، و ما قيل فيه من الآيات إنه نزل بالمدينة لا يعبأ به و سيجيء الإشارة إليها إن شاء الله.

قوله تعالى "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم" التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله: "تنزيل الكتاب" من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها و التقدير هذا كتاب منزل من الله.

و تخصيص الوصفين: "العزيز العليم" بالذكر قيل: للإشارة إلى ما في القرآن من الإعجاز و أنواع العلوم التي يضيق عنها نطاق الأفهام، و قيل: هو من باب التفنن.

و الوجه أن يقال: إن السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين و مجادلتهم في آيات الله بالباطل جهلا و هم يحسبونه علما و يعتزون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله: "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم" و كما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى: "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد" و قوله لهم: "ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد".

افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم و استكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل و ضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق و بينه بحججه الباهرة.

و يؤيد هذا الوجه ما في الآية التالية من قوله: "غافر الذنب و قابل التوب" إلخ على ما سنبين.

قوله تعالى: "غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير" الإتيان بصيغة اسم الفاعل في "غافر الذنب و قابل التوب" - لعله - للدلالة على الاستمرار التجددي فإن المغفرة و قبول التوب من صفاته الفعلية و لا يزال تعالى يغفر الذنب ثم يغفر و يقبل التوب ثم يقبل.

و إنما عطف قابل التوب على ما قبله دون "شديد العقاب ذي الطول" لأن غافر الذنب و قابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة و تارة بغيرها كالشفاعة.

و العقاب و المعاقبة المؤاخذة التي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: و العقب و العقبى يختصان بالثواب نحو خير ثوابا و خير عقبا، و قال تعالى: "أولئك لهم عقبى الدار، و العاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو و العاقبة للمتقين، و بالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساءوا، و قوله: فكان عاقبتهما أنهما في النار يصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، و العقوبة و المعاقبة و العقاب تختص بالعذاب.

انتهي.

فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور و الرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة.

و الطول - على ما في المجمع، - الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنه أخص من المنعم لعدم شموله النعم القصار.

و ذكر هذه الأسماء الأربعة: غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للإشارة إلى أن تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقة المبني على العلم مبني على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الأسماء الأربعة.

و ذلك أن العالم الإنساني كما يتحد قبيلا واحدا في نيل الطول الإلهي و التنعم بنعمه المستمرة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الآخرة قسمين و ينشعب إلى شعبتين: سعيد و شقي و الله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه و كيف لا يعلم و هو خالقها و فاعلها، و مقتضى كونه غافرا للذنب قابلا للتوب أن يغفر لمن استعد للمغفرة و أن يقبل توبة التائب إليه، و مقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحق ذلك.

و مقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال: "إن علينا للهدى و إن لنا للآخرة و الأولى:" الليل: - 13، و قال: "و على الله قصد السبيل:" النحل: - 9.

لينقسم الناس بذلك قسمين و يتميز عنده السعيد من الشقي و المهتدي من الضال فيرحم هذا و يعذب ذلك.

فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبني على علمه المحيط بخلقه أنهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم و يضل بردها آخرون ليغفر لقوم و يعذب آخرين، و في حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعموا بطوله و نعمته في الدنيا ثم في دار القرار.

فهذا شأن كتابه المنزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل و المبني على الحق الذي لا يداخله باطل، و أين هو من تكذيب الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة و جدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق.

و على هذا الذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة: "ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك" فتدبر فيه.

و قوله: "لا إله إلا هو إليه المصير" ذكر كلمة التوحيد للإشارة إلى وجوب عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينية بتنزيل الكتاب، و ذكر كون مصير الكل و رجوعهم إليه و هو البعث للإشارة إلى أنه هو السبب العمدة الداعي إلى الإيمان بالكتاب و اتباعه فيما يدعو إليه لأن الاعتقاد بيوم الحساب هو الذي يستتبع الخوف و الرجاء خوف العقاب و رجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه.

قوله تعالى: "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد" لما ذكر تنزيل الكتاب و أشار إلى الحجة الباهرة على حقيته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الآيتين، الدالة على أنه منزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل و بالحق الذي لا يدحضه باطل تعرض لحال الذين قابلوا حججه الحقة بباطل جدالهم فلوح إلى أن هؤلاء أهل العقاب و ليسوا بفائتين و لا مغفولا عنهم فإنهم كما نزل الكتاب ليغفر الذنب و يقبل التوب كذلك نزله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جدالهم و لا يغرنه ما يشاهده من حالهم.

فقوله: "ما يجادل في آيات الله" لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدل على أن الجدال في الحق الذي تدل عليه الآيات بما هي آيات.



على أن طرف جدالهم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو داع إلى الحق الذي تدل عليه الآيات فجدالهم لدفع الحق لا للدفاع عن الحق.

على أن الجدال في الآية التالية مقيدة بالباطل لإدحاض الحق.

فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لإدحاضها و دفعها و هي المذمومة و لا تشمل الجدال لإثبات الحق و الدفاع عنه كيف؟ و هو سبحانه يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذا كان جدالا بالتي هي أحسن قال تعالى: "و جادلهم بالتي هي أحسن:" النحل: - 125.

قوله: "إلا الذين كفروا" ظاهر السياق أنهم الذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، و قد قيل: "ما يجادل" و لم يقل: لا يجادل، و كذا ظاهر قوله: "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" أن المراد بهم الكفار المعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن لم يكونوا من أهل مكة.

و تقلبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر و من نعمة إلى نعمة في سلامة و صحة و عافية، و توجيه النهي عن الغرور إلى تقلبهم في البلاد كناية عن نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنهم أعجزوه سبحانه.

قوله تعالى: "كذبت قبلهم قوم نوح و الأحزاب من بعدهم" إلخ في مقام الجواب عما يسبق إلى الوهم أنهم استكبروا و جادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس و سبقوا في ذلك.

و محصل الجواب: أن الأمم الماضين كقوم نوح و الأحزاب من بعدهم كعاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب و الجدال بالباطل و هموا برسولهم ليأخذوه فحل بهم العقاب و كذلك قضي في حق الكفار العذاب فتوهم أن هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهم باطل.

فقوله: "كذبت قبلهم قوم نوح و الأحزاب من بعدهم" دفع للدخل السابق و لذا جيء بالفصل، و قوله: "و همت كل أمة برسولهم ليأخذوه" يقال: هم به أي قصده و يغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الإخراج أو غيرهما كما قصه الله تعالى في قصصهم.

و قوله: "و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" الإدحاض الإزالة و الإبطال و قوله: "فأخذتهم" أي عذبتهم، و فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وحده و النكتة فيه الإشارة إلى أن أمرهم في هذا الطغيان و الاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه و بينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال: "فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد:" الفجر: - 14.

و قوله: "فكيف كان عقاب" توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفية إهلاكهم و قطع دابرهم ليحضر شدة ما نزل بهم و قد قصه الله فيما قص من قصصهم.

قوله تعالى: "و كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار" ظاهر السياق أن المشبه به هو ما في الآية السابقة من أخذهم و عقابهم، و المراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الماضين، و المعنى كما أخذ الله المكذبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الآخرة، و الذين كفروا من قومك منهم.

و قيل: المراد بالذين كفروا كفار مكة، و لا يساعد عليه السياق و التشبيه لا يخلو عليه من اختلال.

و في قوله: "كلمة ربك" و لم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تأييد له بالإشارة إلى أن الركن الذي يركن إليه هو الشديد القوي.

40 سورة المؤمن- 7 - 12

الّذِينَ يحْمِلُونَ الْعَرْش وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسبِّحُونَ بحَمْدِ رَبهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَستَغْفِرُونَ لِلّذِينَ ءَامَنُوا رَبّنَا وَسِعْت كلّ شىْءٍ رّحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَ اتّبَعُوا سبِيلَك وَ قِهِمْ عَذَاب الجَْحِيمِ (7) رَبّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّتِ عَدْنٍ الّتى وَعَدتّهُمْ وَ مَن صلَحَ مِنْ ءَابَائهِمْ وَ أَزْوَجِهِمْ وَ ذُرِّيّتِهِمْ إِنّك أَنت الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السيِّئَاتِ وَ مَن تَقِ السيِّئَاتِ يَوْمَئذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْت اللّهِ أَكْبرُ مِن مّقْتِكُمْ أَنفُسكمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلى الايمَنِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبّنَا أَمَتّنَا اثْنَتَينِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَينِ فَاعْترَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِّن سبِيلٍ (11) ذَلِكُم بِأَنّهُ إِذَا دُعِىَ اللّهُ وَحْدَهُ كفَرْتُمْ وَ إِن يُشرَك بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُْكْمُ للّهِ الْعَلىِّ الْكَبِيرِ (12)

بيان

لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا و جدالهم في آيات الله بالباطل و لوح إلى أنهم غير معجزين و لا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة و العناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب و إقامة الدعوة لمغفرة جمع و قبول توبتهم و عقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش و الحافون به من الملائكة و هم التائبون إلى الله المتبعون سبيله و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم، و قبيل ممقوتون معذبون و هم الكافرون بالتوحيد.

قوله تعالى: "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به" إلى آخر الآية.

لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم؟ و لا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: "و من حوله عليهم و قد قال فيهم: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش:" الزمر: - 75 أن حملة العرش أيضا من الملائكة.

و قد تقدم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب.

فقوله: "الذين يحملون العرش و من حوله" أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الأوامر و تصدر الأحكام الإلهية التي بها يدبر العالم، و الذين حول العرش من الملائكة و هم المقربون منهم.

و قوله: "يسبحون بحمد ربهم" أي ينزهون الله سبحانه و الحال أن تنزيههم له يصاحب ثناؤهم لربهم فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه و من ذلك وجود الشريك في ملكه و يثنون عليه على فعله و تدبيره.

و قوله: "و يؤمنون به" إيمانهم به - و الحال هذه الحال عرش الملك و التدبير لله و هم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقي الأوامر و ينزهونه عن كل نقص و يحمدونه على أفعاله - معناه الإيمان بوحدانيته في ربوبيته و ألوهيته ففي ذكر العرش و نسبة التنزيه و التحميد و الإيمان إلى الملائكة رد للمشركين حيث يعدون الملائكة المقربين شركاء لله في ربوبيته و ألوهيته و يتخذونهم أربابا آلهة يعبدونهم.

و قوله: "و يستغفرون للذين آمنوا" أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للذين آمنوا.

و قوله: "ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما" إلخ حكاية متن استغفارهم و قد بدءوا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة و العلم، و إنما ذكروا الرحمة و شفعوها بالعلم لأنه برحمته ينعم على كل محتاج فالرحمة مبدأ إفاضة كل نعمة و بعلمه يعلم حاجة كل محتاج مستعد للرحمة.

و قوله: "فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم" تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة و العلم، و المراد بالسبيل التي اتبعوها هو ما شرع لهم من الدين و هو الإسلام و اتباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالإيمان و المعنى فاغفر للذين رجعوا إليك بالإيمان بوحدانيتك و سلوك سبيلك الذي هو الإسلام و قهم عذاب الجحيم و هو غاية المغفرة و غرضها.

قوله تعالى: "ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" إلى آخر الآية تكرار النداء بلفظة ربنا لمزيد الاستعطاف و المراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله و في كتبه.

و قوله: "و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم" عطف على موضع الضمير في قوله: "و أدخلهم" و المراد بالصلوح صلاحية دخول الجنة، و المعنى و أدخل من صلح لدخول الجنة من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم جنات عدن.

ثم من المعلوم من سياق الآيات أن استغفارهم لعامة المؤمنين، و من المعلوم أيضا أنهم قسموهم قسمين اثنين قسموهم إلى الذين تابوا و اتبعوا سبيل الله و قد وعدهم الله جنات عدن، و إلى من صلح و قد جعلوا الطائفة الأولى متبوعين و الثانية تابعين.

و يظهر منه أن الطائفة الأولى هم الكاملون في الإيمان و العمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم: "الذين تابوا و اتبعوا سبيلك" فذكروهم و سألوه أن يغفر لهم و ينجز لهم ما وعدهم من جنات عدن، و الطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممن لم يستكمل الإيمان و العمل من ناقص الإيمان و مستضعف و سيىء العمل من منسوبي الطائفة الأولى فذكروهم و سألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الأولى الكاملين في جناتهم و يقيهم السيئات.

فالآية في معنى قوله تعالى: "و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء:" الطور: - 21 غير أن الآية التي نحن فيها أوسع و أشمل لشمولها الآباء و الأزواج بخلاف آية سورة الطور، و المأخوذ فيها الصلوح و هو أعم من الإيمان المأخوذ في آية الطور.

و قوله: "إنك أنت العزيز الحكيم" تعليل لقولهم: "فاغفر للذين تابوا" إلى آخر مسألتهم، و كان الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنك أنت الغفور الرحيم لكنه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لأنه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم: "ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما".

و لازم سعة الرحمة و هي عموم الإعطاء أن له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء و يمنع ما يشاء ممن يشاء و هذا معنى العزة التي هي القدرة على الإعطاء و المنع، و لازم سعة العلم لكل شيء أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئا منها و لازمه إتقان الفعل و هو الحكمة.

فقوله: "إنك أنت العزيز الحكيم" في معنى الاستشفاع بسعة رحمته و سعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا و توطئة لذكر الحاجة و هي المغفرة و الجنة.

قوله تعالى: "و قهم السيئات و من تق السيئات يومئذ فقد رحمته" إلخ ظاهر السياق أن الضمير في "قهم" للذين تابوا و من صلح جميعا.

و المراد بالسيئات - على ما قيل - تبعات المعاصي و هي جزاؤها و سميت التبعات سيئات لأن جزاء السيىء سيىء قال تعالى: "و جزاء سيئة سيئة مثلها:" الشورى: - 40.

و قيل: المراد بالسيئات المعاصي و الذنوب نفسها و الكلام على تقدير مضاف و التقدير و قهم جزاء السيئات أو عذاب السيئات.

و الظاهر أن الآية من الآيات الدالة على أن الجزاء بنفس الأعمال خيرها و شرها، و قد تكرر في كلامه تعالى أمثال قوله: "إنما تجزون ما كنتم تعملون:" التحريم: - 7.

و كيف كان فالمراد بالسيئات التي سألوا وقايتهم عنها هي الأهوال و الشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم: "و قهم عذاب الجحيم" "و قهم السيئات".

و قيل: المراد بالسيئات نفس المعاصي التي في الدنيا، و قولهم: "يومئذ" إشارة إلى الدنيا، و المعنى و احفظهم من اقتراف المعاصي و ارتكابها في الدنيا بتوفيقك.

و فيه أن السياق يؤيد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم: "و قهم عذاب الجحيم" و قولهم: "و أدخلهم جنات عدن" إلخ فالحق أن المراد بالسيئات ما يظهر للناس يوم القيامة من الأهوال و الشدائد.



و يظهر من هذه الآيات المشتملة على دعاء الملائكة و مسألتهم: أولا: أن من الأدب في الدعاء أن يبدأ بحمده و الثناء عليه تعالى ثم يذكر الحاجة ثم يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له.

و ثانيا: أن سؤال المغفرة قبل سؤال الجنة و قد كثر ذكر المغفرة قبل الجنة في كلامه تعالى إذا ذكرا معا، و هو الموافق للاعتبار فإن حصول استعداد أي نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة.

و ذكر بعضهم أن في قوله: "فاغفر للذين تابوا" الآية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة.

و فيه أن وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحة مسألته و طلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار: "ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" فقد سألوا لهم الجنة مع اعترافهم بأن الله وعدهم إياها و وعده تعالى واجب الإنجاز فإنه لا يخلف الميعاد، و أصرح من هذه الآية قوله يحكي عن المؤمنين: "ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد:" آل عمران: - 194.

و قبول التوبة مما أوجبه الله تعالى على نفسه و جعله حقا للتائبين عليه قال تعالى: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم:" النساء: - 17 فطلب كل حق أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده و إظهار اشتياق للفوز بكرامته.

و كذا لا يستلزم التفضل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبة فكل عطية من عطاياه تفضل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه و قهره عليه إذ هو المؤثر في كل شيء لا يؤثر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه و يؤول معناه إلى قضائه تعالى فعل شيء من الأفعال و إفاضة عطية من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه إنما يفعله بمشية من نفسه منزها عن إلزام الغير إياه عليه متفضلا به فالفعل تفضل منه و إن كان واجب الصدور، و أما لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضلا أوضح.

قوله تعالى: "إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون" المقت أشد البغض.

لما ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم.

و ظاهر الآية و الآية التالية أن هذا النداء المذكور فيها إنما ينادون به في الآخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أن كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الأنبياء إلى الإيمان كان مقتا و شدة بغض منهم لأنفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم.

و ينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: أقسم لمقت الله و شدة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم و شدة بغضكم لها إذ تدعون - حكاية حال ماضية - إلى الإيمان من قبل الأنبياء فتكفرون.

قوله تعالى: "قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل" سياق الآية و ما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، و إنما يقولونه و هم في النار بدليل قولهم: "فهل إلى خروج من سبيل".

و تقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب و توسل إلى التخلص من العذاب و لات حين مناص، و ذلك أنهم كانوا - و هم في الدنيا - في ريب من البعث و الرجوع إلى الله فأنكروه و نسوا يوم الحساب و كان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب و ذهابهم لوجوههم في المعاصي و نسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية و ضلال قال تعالى: "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب:" ص: - 26.

ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة و أحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث و الرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت و الحياة بعد الحياة و قد كانوا يرون أن الموت فناء، و يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين.

و بالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين و بقيت الذنوب و المعاصي و لذلك توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله: "و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون:" الم السجدة: - 12، و تارة اعترفوا بذنوبهم كما في الآية المبحوث عنها و قد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم و أفعالهم لهم أن يشاءوا ما شاءوا و أن يفعلوا ما فعلوا و لا حساب و لا ذنب.

و من ذلك يظهر وجه ترتب قولهم: "فاعترفنا بذنوبنا" على قولهم: "أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين" فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات و ذنوبا.

و المراد بقولهم: "أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين" - كما قيل - الإماتة عن الحياة الدنيا و الإحياء للبرزخ ثم الإماتة عن البرزخ و الإحياء للحساب يوم القيامة فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا و الإماتة بعد الحياة البرزخية و إلى الإحياء في البرزخ و الإحياء ليوم القيامة و لو لا الحياة البرزخية لم تتحقق الإماتة الثانية لأن كلا من الإماتة و الإحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه.

و لم يتعرضوا للحياة الدنيا و لم يقولوا: و أحييتنا ثلاثا و إن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد و هو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة و أما الحياة الدنيوية فإنها و إن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد و هم أحياء في الدنيا.

و بما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لو كان المراد بالإحياءتين ما كان في البرزخ و في الآخرة لكان من الواجب أن يقال: "أمتنا اثنتين و أحييتنا ثلاثا" إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الإماتة و الإحياءة و ذلك إماتتان اثنتان و إحياءات ثلاث.

و الجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الإماتة و الإحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد، و ليس الإحياء الدنيوي على هذه الصفة.

و قيل: المراد بالإماتة الأولى حال النطفة قبل ولوج الروح، و بالإحياءة الأولى ما هو حال الإنسان بعد ولوجها، و بالإماتة الثانية إماتته في الدنيا، و بالإحياءة الثانية إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، و الآية منطبقة على ما في قوله تعالى: "كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم:" البقرة: - 28.

و لما أحسوا بعدم صدق الإماتة على حال الإنسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف، و شروحه.



على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الإماتة و الإحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد و الحياة الدنيا و الموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك.

و قيل: إن الحياة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر، و الموتة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر و لا تعرض في الآية لحياة يوم البعث، و يرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها، و الحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك.

و قيل: المراد بالإحياءتين إحياء البعث و الإحياء الذي قبله و إحياء البعث قسمان إحياء في القبر و إحياء عند البعث و لم يتعرض لهذا التقسيم في الآية فتشمل الآية الإحياءات الثلاث و الإماتتين جميعا.

و يرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ و المراد التعدد الشخصي لا النوعي.

و قيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الإماتة ثم الإحياء في الدنيا ثم الإماتة ثم الإحياء للبعث، و يرد عليه ما يرد على سوابقه.

و قيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى: "ثم ارجع البصر كرتين:" الملك: - 4، و المعنى أمتنا إماتة و أحييتنا إحياءة بعد إحياءة.

و أورد عليه أنه إنما يتم لو كان القول: أمتنا إماتتين و أحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد و هو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله: "إلهين اثنين:" النحل: - 51.

و قولهم: "فهل إلى خروج من سبيل" دعاء و مسألة في صورة الاستفهام، و في تنكير الخروج و السبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت فقد بلغ بهم الجهد و اليوم يوم تقطعت بهم الأسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب.

قوله تعالى: "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا" إلخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة، و يحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك.

و الإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما هم فيه من الشدة، و في قوله: "و إن يشرك به" دلالة على الاستمرار، و الكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق و معاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد و يؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا و لا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته و لا يراعي في حكمه لهم جانبا.

و بهذا المعنى يتصل قوله: "فالحكم لله العلي الكبير" بأول الآية و يتفرع عليه كأنه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرة و كفرتم بكل ما يريده و آمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم و يحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم.

فالآية في معنى قوله: "نسوا الله فنسيهم:" التوبة: - 67، و الجملة أعني قوله: "فالحكم لله العلي الكبير" خاصة بحسب السياق و إن كانت عامة في نفسها، و فيها تهديد و يتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير.

40 سورة المؤمن - 13 - 20

هُوَ الّذِى يُرِيكُمْ ءَايَتِهِ وَ يُنزِّلُ لَكُم مِّنَ السمَاءِ رِزْقاً وَ مَا يَتَذَكرُ إِلا مَن يُنِيب (13) فَادْعُوا اللّهَ مخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ (14) رَفِيعُ الدّرَجَتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاقِ (15) يَوْمَ هُم بَرِزُونَ لا يخْفَى عَلى اللّهِ مِنهُمْ شىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْك الْيَوْمَ للّهِ الْوَحِدِ الْقَهّارِ (16) الْيَوْمَ تجْزَى كلّ نَفْسِ بِمَا كسبَت لا ظلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سرِيعُ الحِْسابِ (17) وَ أَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوب لَدَى الحَْنَاجِرِ كَظِمِينَ مَا لِلظلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خَائنَةَ الأَعْينِ وَ مَا تخْفِى الصدُورُ (19) وَ اللّهُ يَقْضى بِالْحَقِّ وَ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضونَ بِشىْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

بيان

احتجاج على التوحيد و إنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله و مكذب بالآيات مجادل بالباطل.

قوله تعالى: "هو الذي يريكم آياته" إلى آخر الآية المراد بالآيات هي العلائم و الحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية بدليل ما سيجيء من تفريع قوله: "فادعوا الله مخلصين له الدين" عليه، و الآيات مطلقة شاملة للآيات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الإدراك و الآيات التي تجري على أيدي الرسل و الحجج القائمة من طريق الوحي.

و الجملة مشتملة على حجة فإنه لو كان هناك إله تجب عبادته على الإنسان و كانت عبادته كمالا للإنسان و سعادة له كان من الواجب في تمام التدبير و كامل العناية أن يهدي الإنسان إليه، و الذي تدل الآيات الكونية على ربوبيته و ألوهيته و يؤيد دلالتها الرسل و الأنبياء بالدعوة و الإتيان بالآيات هو الله سبحانه، و أما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شيء فالله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، و إلى هذه الحجة يشير علي (عليه السلام) بقوله فيما روي عنه: "لو كان لربك شريك لأتتك رسله".

و قوله: "و ينزل لكم من السماء رزقا" حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شئون الربوبية و الألوهية و الرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الإله دونهم.

و قد فسروا الرزق بالمطر و السماء بجهة العلو، و لا يبعد أن يراد بالرزق نفس الأشياء التي يرتزق بها و بنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:" الحجر: - 21.

و قوله: "و ما يتذكر إلا من ينيب" معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل و هم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر و الجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة و الاتباع للحق.

قوله تعالى: "فادعوا الله مخلصين له الدين و لو كره الكافرون" الأنسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين و غيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الآية و هم المكذبون المجادلون بالباطل.

كأنه قيل: إذا كانت الآيات تدل على وحدانيته تعالى و هو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا و جادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، و أما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم و لا آية تفيدهم و لا حجة تقنعهم فاعبدوه بالإخلاص و دعوا الكافرين يكرهون ذلك.

قوله تعالى: "رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده" إلخ صفات ثلاث له تعالى و كل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله: "هو الذي يريكم آياته" و الآية و ما بعدها مسوقة للإنذار.

و قد أورد لقوله: "رفيع الدرجات" تفاسير شتى فقيل: معناه رافع درجات الأنبياء و الأولياء في الجنة، و قيل: رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، و قيل: رفيع مصاعد عرشه، و قيل: كناية عن رفعة شأنه و سلطانه.

و الذي يعطيه التدبر أن الآية و ما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق و يتنزل منه الأمر متعاليا بدرجات رفيعة هي مراتب خلقه و لعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته و أن أمره يتنزل بينهن و هي التي تحجب عرشه عن الناس.

ثم إن له يوما هو يوم التلاق يرفع فيه الحجاب ما بينه و بين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم و طي السماوات بيمينه و إظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شيء لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم.

فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه و يعود قوله: "رفيع الدرجات ذو العرش" كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق و غيبته و احتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة و مراحل بعيدة.

و قوله: "يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده" إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الإنذار، و تقييد الروح بقوله: "من أمره" دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله: "قل الروح من أمر ربي:" الإسراء: - 85، و هي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا:" النحل: - 2.

فالمراد بإلقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، و المراد بقوله: "من يشاء من عباده" الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته، و في معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبأ بها.

و قوله: "لينذر يوم التلاق" و هو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق و المخلوق أو لالتقاء أهل السماء و الأرض أو لالتقاء الظالم و المظلوم أو لالتقاء المرء و عمله و لكل من هذه الوجوه قائل.

و يمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله: "بلقاء ربهم لكافرون:" الروم: - 8، و قوله: "إنهم ملاقوا ربهم:" هود: - 29، و قوله: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه:" الانشقاق: - 6 و معنى اللقاء تقطع الأسباب الشاغلة و ظهور أن الله هو الحق المبين و بروزهم لله.

قوله تعالى: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء" إلخ تفسير ليوم التلاق، و معنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم و ارتفاع الأسباب الوهمية التي كانت تجذبهم إلى نفسها و تحجبهم عن ربهم و تغفلهم عن إحاطة ملكه و تفرده في الحكم و توحده في الربوبية و الألوهية.

فقوله: "يوم هم بارزون" إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب، و قوله: "لا يخفى على الله منهم شيء" تفسير لمعنى بروزهم لله و توضيح فقلوبهم و أعمالهم بعين الله و ظاهرهم و باطنهم و ما ذكروه و ما نسوه مكشوفة غير مستورة.

و قوله: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" سؤال و جواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم و هي ظهور ملكه و سلطانه تعالى على الخلق على الإطلاق.

و في توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لأنه إذ قهر كل شيء ملكه و تسلط عليه بسلب الاستقلال عنه و هو واحد فله الملك وحده.

قوله تعالى: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" الباء في "بما كسبت" للصلة و المراد بيان خصيصة اليوم و هي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون:" التحريم: - 7.

و قوله: "إن الله سريع الحساب" تعليل لنفي الظلم في قوله: "لا ظلم اليوم" أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطىء فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها.

و هذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشىء عن الخطإ و أما الظلم عن عمد و علم فانتفاؤه مفروغ عنه لأن الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم.



قوله تعالى: "و أنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" إلى آخر الآية.

الأزفة من أوصاف القيامة و معناها القريبة الدانية قال تعالى: "إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا:" المعارج: - 7.

و قوله: "إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" الحناجر جمع حنجرة و هي رأس الغلصمة من خارج و كون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنها تزول عن مقرها و تبلغ الحناجر من شدة الخوف، و كاظمين من الكظم و هو شدة الاغتمام.

و قوله: "ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع" الحميم القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحمية القرابة قال تعالى: "فلا أنساب بينهم يومئذ:" المؤمنون: - 101، و لا شفيع يطاع في شفاعته.

قوله تعالى: "يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور" قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو، و ليس المراد بخائنة الأعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور.

و قيل: "خائنة الأعين" من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، و لازمه كون العلم بمعنى المعرفة و المعنى يعرف الأعين الخائنة، و الوجه هو الأول.

و قوله: "و ما تخفي الصدور" و هو ما تسره النفس و تستره من وجوه الكفر و النفاق و هيئات المعاصي.

قوله تعالى: "و الله يقضي بالحق و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء" إلخ هذه حجة أخرى على توحده تعالى بالألوهية أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار الملك فيه يوم القيامة و علمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور تمهيدا و توطئة.

و محصلها أن من اللازم الضروري في الألوهية أن يقضي الإله في عباده و بينهم و الله سبحانه هو يقضي بين الخلق و فيهم يوم القيامة و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء لأنهم عباد مملوكون لا يملكون شيئا.

و من قضائه تعالى تدبيره جزئيات أمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنه مصداق القضاء و الحكم قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون:" يس: - 82، و قال: "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون:" آل عمران: - 47، و لا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء.

و من قضائه تعالى تشريع الدين و ارتضاؤه سبيلا لنفسه قال تعالى: "و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" الآية: الإسراء: - 23.

و قوله: "إن الله هو السميع البصير" أي له حقيقة العلم بالمسموعات و المبصرات لذاته، و ليس لغيره من ذلك إلا ما ملكه الله و أذن فيه لا لذاته.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده" قال: روح القدس و هو خاص برسول الله و الأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في المعاني، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و أهل الأرض:. أقول: و رواه القمي في تفسيره، مضمرا مرسلا.

و في التوحيد، بإسناده عن ابن فضال عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث قال: و يقول الله عز و جل: "لمن الملك اليوم" ثم ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون ""لله الواحد القهار" ثم يقول الله جل جلاله: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" الآية.

و في نهج البلاغة،: و أنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا زمان و لا حين و لا مكان، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و الساعات، فلا شيء إلا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها و في تفسير القمي، بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء. ثم ذكر (عليه السلام) كيفية النفخ و موت أهل الأرض و السماء إلى أن قال فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر السماء فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله: "يوم تمور السماء مورا و تسير الجبال سيرا" يعني يبسط و تبدل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة، و يعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته و قدرته. قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات و الأرضين "لمن الملك اليوم" فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز و جل مجيبا لنفسه "لله الواحد القهار" الحديث.

أقول: التدبر في الروايات الثلاث الأخيرة يهدي إلى أن الذي يفنى من الخلق استقلال وجودها و النسب و روابط التأثير التي بينها كما تفيده الآيات القرآنية و أن الأرواح لا تموت، و أن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، و في الروايات لطائف من الإشارات تظهر للمتدبر، و فيها ما يخالف بظاهره ما تقدم.

و في روضة الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا أساءه ذلك و ندم عليه و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "كفى بالندم توبة" و قال: "من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن" فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له شفاعة و كان ظالما و الله تعالى يقول: "ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع".

و في المعاني، بإسناده إلى عبد الرحمن بن سلمة الحريري قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "يعلم خائنة الأعين" فقال: أ لم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء و كأنه لا ينظر فذلك خائنة الأعين.

و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النسائي و ابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلا أربعة نفر و امرأتين، و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان. فلما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أ ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا إلى حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك. قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.

40 سورة المؤمن - 21 - 54

أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَيَنظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الّذِينَ كانُوا مِن قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشدّ مِنهُمْ قُوّةً وَ ءَاثَاراً فى الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبهِمْ وَ مَا كانَ لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِك بِأَنّهُمْ كانَت تّأْتِيهِمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ إِنّهُ قَوِىّ شدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا مُوسى بِئَايَتِنَا وَ سلْطنٍ مّبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هَمَنَ وَ قَرُونَ فَقَالُوا سحِرٌ كذّابٌ (24) فَلَمّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ وَ استَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ مَا كيْدُ الْكَفِرِينَ إِلا فى ضلَلٍ (25) وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونى أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبّهُ إِنى أَخَاف أَن يُبَدِّلَ دِينَكمْ أَوْ أَن يُظهِرَ فى الأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَ قَالَ مُوسى إِنى عُذْت بِرَبى وَ رَبِّكم مِّن كلِّ مُتَكَبرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِْسابِ (27) وَ قَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبىَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَتِ مِن رّبِّكُمْ وَ إِن يَك كذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِن يَك صادِقاً يُصِبْكُم بَعْض الّذِى يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى مَنْ هُوَ مُسرِفٌ كَذّابٌ (28) يَقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْك الْيَوْمَ ظهِرِينَ فى الأَرْضِ فَمَن يَنصرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَ مَا أَهْدِيكمْ إِلا سبِيلَ الرّشادِ (29) وَ قَالَ الّذِى ءَامَنَ يَقَوْمِ إِنى أَخَاف عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظلْماً لِّلْعِبَادِ (31) وَ يَقَوْمِ إِنى أَخَاف عَلَيْكمْ يَوْمَ التّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَ لَقَدْ جَاءَكمْ يُوسف مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا زِلْتُمْ فى شكٍ مِّمّا جَاءَكم بِهِ حَتى إِذَا هَلَك قُلْتُمْ لَن يَبْعَث اللّهُ مِن بَعْدِهِ رَسولاً كذَلِك يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسرِفٌ مّرْتَابٌ (34) الّذِينَ يجَدِلُونَ فى ءَايَتِ اللّهِ بِغَيرِ سلْطنٍ أَتَاهُمْ كبرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَ عِندَ الّذِينَ ءَامَنُوا كَذَلِك يَطبَعُ اللّهُ عَلى كلِّ قَلْبِ مُتَكَبرٍ جَبّارٍ (35) وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَهَمَنُ ابْنِ لى صرْحاً لّعَلى أَبْلُغُ الأَسبَب (36) أَسبَب السمَوَتِ فَأَطلِعَ إِلى إِلَهِ مُوسى وَ إِنى لأَظنّهُ كذِباً وَ كذَلِك زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سوءُ عَمَلِهِ وَ صدّ عَنِ السبِيلِ وَ مَا كيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فى تَبَابٍ (37) وَ قَالَ الّذِى ءَامَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكمْ سبِيلَ الرّشادِ (38) يَقَوْمِ إِنّمَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدّنْيَا مَتَعٌ وَ إِنّ الاَخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سيِّئَةً فَلا يجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَ مَنْ عَمِلَ صلِحاً مِّن ذَكرٍ أَوْ أُنثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئك يَدْخُلُونَ الجَْنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسابٍ (40) وَ يَقَوْمِ مَا لى أَدْعُوكمْ إِلى النّجَوةِ وَ تَدْعُونَنى إِلى النّارِ (41) تَدْعُونَنى لأَكفُرَ بِاللّهِ وَ أُشرِك بِهِ مَا لَيْس لى بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكمْ إِلى الْعَزِيزِ الْغَفّرِ (42) لا جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنى إِلَيْهِ لَيْس لَهُ دَعْوَةٌ فى الدّنْيَا وَ لا فى الاَخِرَةِ وَ أَنّ مَرَدّنَا إِلى اللّهِ وَ أَنّ الْمُسرِفِينَ هُمْ أَصحَب النّارِ (43) فَستَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكمْ وَ أُفَوِّض أَمْرِى إِلى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللّهُ سيِّئَاتِ مَا مَكرُوا وَ حَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سوءُ الْعَذَابِ (45) النّارُ يُعْرَضونَ عَلَيهَا غُدُوّا وَ عَشِيّا وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشدّ الْعَذَابِ (46) وَ إِذْ يَتَحَاجّونَ فى النّارِ فَيَقُولُ الضعَفَؤُا لِلّذِينَ استَكبرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِّنَ النّارِ (47) قَالَ الّذِينَ استَكبرُوا إِنّا كلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَينَ الْعِبَادِ (48) وَ قَالَ الّذِينَ فى النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُوا رَبّكُمْ يخَفِّف عَنّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَ وَ لَمْ تَك تَأْتِيكُمْ رُسلُكم بِالْبَيِّنَتِ قَالُوا بَلى قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَؤُا الْكفِرِينَ إِلا فى ضلَلٍ (50) إِنّا لَنَنصرُ رُسلَنَا وَ الّذِينَ ءَامَنُوا فى الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ الأَشهَدُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظلِمِينَ مَعْذِرَتهُمْ وَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَ لَهُمْ سوءُ الدّارِ (52) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْهُدَى وَ أَوْرَثْنَا بَنى إِسرءِيلَ الْكتَب (53) هُدًى وَ ذِكرَى لأُولى الأَلْبَبِ (54)

بيان

في الآيات موعظتهم بالإرجاع إلى آثار الأمم الماضين و قصصهم للنظر و الاعتبار فلينظروا فيها و ليعتبروا بها و يعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الأقوياء و استكبار المستكبرين و مكر الماكرين و تذكر منها من باب الأنموذج طرفا من قصص موسى و فرعون و فيها قصة مؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: "أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا" إلى آخر الآية الاستفهام إنكاري، و الواقي اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره.

و المعنى: أ و لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم "في الأرض فينظروا" نظر تفكر و اعتبار "كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم" من الأمم الدارجة المكذبين لرسلهم "كانوا هم أشد منهم قوة" أي قدرة و تمكنا و سلطة "و آثارا" كالمدائن الحصينة و القلاع المنيعة و القصور العالية المشيدة "في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم" و أهلكهم بأعمالهم "و ما كان لهم من الله من واق" يقيهم و حافظ يحفظهم.

قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات" إلخ الإشارة بذلك إلى الأخذ الإلهي، و المراد بالبينات الآيات الواضحات، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين" لعل المراد بالآيات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا و اليد و غيرهما و بالسلطان المبين السلطة الإلهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله و يطفىء نوره، و قيل: المراد بالآيات الحجج و الدلالات و بالسلطان معجزاته من العصا و اليد و غيرهما، و قيل: غير ذلك.

قوله تعالى: "إلى فرعون و هامان و قارون فقالوا ساحر كذاب" فرعون جبار القبط و مليكهم، و هامان وزيره و قارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ و إنما اختص الثلاثة من بين الأمتين بالذكر لكونهم أصولا ينتهي إليهم كل فساد و فتنة فيهما.

قوله تعالى: "فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه" إلخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى و دعاهم إليه و بين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق و كان من الواجب أن يقبلوه لأنه حق و كان ما جاء به من عند الله و كان من الواجب أن يقبلوه و لا يردوه فقابلوه بالكيد و قالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه.

و يشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون و هو من بني إسرائيل و لا ضير فيه لأن الحكم بقتل الأبناء و استحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة و هذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته و بغضه موسى و المؤمنين من قومه.

و في قوله: "الذين آمنوا معه" و لم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته.

قوله تعالى: "و قال فرعون ذروني أقتل موسى و ليدع ربه" إلخ "ذروني" أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملأه، و فيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى و يكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى: "قالوا أرجه و أخاه:" الشعراء: - 36.



و قوله: "و ليدع ربه" كلمة قالها كبرا و عتوا يقول: اتركوني أقتله و ليدع ربه فلينجه من يدي و ليخلصه من القتل إن قدر.

و قوله: "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد" تعليل لما عزم عليه من القتل و قد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم و من جهة دنياهم، أما من جهة دينهم - و هو عبادة الأصنام - فأن يبدله و يضع موضعه عبادة الله وحده، و أما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره و يتقوى جانبه و يكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد و المخالفة فيئول الأمر إلى المشاجرة و القتال و انسلاب الأمن.

قوله تعالى: "و قال موسى إني عذت بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل و استعاذة منه بربه، و قوله: "عذت بربي و ربكم" فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: "و ليدع ربه" حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: "عذت بربي و ربكم" إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم و قد وقى.

و من هنا يظهر أن الخطاب في قوله: "و ربكم" لفرعون و من معه دون قومه من بني إسرائيل.

و قوله: "من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" يشير به إلى فرعون و كل من يشاركه في صفتي التكبر و عدم الإيمان بيوم الحساب و لا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا.

قوله تعالى: "و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه" إلى آخر الآية.

ظاهر السياق أن "من آل فرعون" صفة رجل و "يكتم إيمانه" صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون و هم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية.

و قيل: قوله: "من آل فرعون" مفعول ثان لقوله: "يكتم" قدم عليه، و الغالب فيه و إن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله: "و لا يكتمون الله حديثا:" النساء: - 42 لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح،.

و فيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر و نحوه.

على أن الرجل يكرر نداء فرعون و قومه بلفظة "يا قوم" و لو لم يكن منهم لم يكن له ذلك.

و قوله: "أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله و قد جاءكم بالبينات من ربكم" إنكار لعزمهم على قتله، و في قوله: "من ربكم" دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم.

و قوله: "و إن يك كاذبا فعليه كذبه" قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه.

و قوله: "و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم" فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير و أقلها كأنه يقول: و إن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب و لا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد.

و قوله: "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" تعليل للتقدير الثاني فقط و المعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لأنكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم و اتخاذ أرباب من دونه و الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، و أما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه.



و من هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم.

قوله تعالى: "يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا" ظهورهم غلبتهم و علوهم في الأرض، و الأرض أرض مصر، و بأس الله أخذه و عذابه و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: يا قوم لكم الملك حال كونهم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله و عذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ و قد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجيء البأس ليكون أبلغ في النصح و أوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه.

قوله تعالى: "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق و هي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، و هذا كان تمويها منه و تجلدا.

قوله تعالى: "و قال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب - إلى قوله - للعباد" المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، و لا يعبأ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، و المراد بالأحزاب الأمم المذكورون في الآية التالية قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم، و قوله: "مثل دأب قوم نوح" بيان للمثل السابق و الدأب هو العادة.

و المعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم و تكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر و التكذيب و ما الله يريد ظلما للعباد.

قوله تعالى: "و يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - إلى قوله - من هاد" يوم التناد يوم القيامة، و لعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا و ينادون بالويل و الثبور على ما اعتادوا به في الدنيا.

و قيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة و أصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف، و هناك وجوه أخر ذكروها لا جدوى فيها.

و قوله: "يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم" المراد به يوم القيامة و لعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق:" الحج: - 22.

و قوله: "و من يضلل الله فما له من هاد" بمنزلة التعليل لقوله: "ما لكم من الله من عاصم" أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم و لو كان لكان من جانب الله و ليس و ذلك لأن الله أضلهم و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: "و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات" إلى آخر الآية.

لما ذكر أن الله أضلهم و لا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف (عليه السلام) في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده.

فالمعنى: و أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك و مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم و لم تبالوا.

ثم أكده - و هو في معنى التعليل - بقوله: "كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب".



قوله تعالى: "الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم" إلخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق و اتباع الهوى و استقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم و لا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه.

و قوله: "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة و لا يركنون إلى برهان.

قوله تعالى: "و قال فرعون يا هامان ابن لي صرحا - إلى قوله - في تباب" أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى و لعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن و بعد الانصراف عن قتل موسى و لذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن و احتجاجاته.

و الصرح - على ما في المجمع، - البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد، و الأسباب جمع سبب و هو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك.

و قوله: "لعلي أبلغ الأسباب" في معنى التعليل لأمره ببناء الصرح، و المعنى آمرك ببنائه لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب ثم فسر الأسباب بقوله: "أسباب السموات" و فرع عليه قوله: "فأطلع إلى إله موسى" كأنه يقول: إن الإله الذي يدعوه و يدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع من جهتها إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا.

و قيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الأرضية و هو حسن، و على أي حال لا يستقيم ما ذكره على شيء من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه و ما هو من الظالمين ببعيد.

و قوله: "و كذلك زين لفرعون سوء عمله و صد عن السبيل" مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا و صده عن سبيل الرشاد فرأى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل و أتى بمثل هذه الأعمال القبيحة و المكائد السفيهة لإدحاض الحق.

و لذلك ختمت الآية بقوله: "و ما كيد فرعون إلا في تباب" أي هلاك و انقطاع.

قوله تعالى: "و قال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد" يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، و سبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق و الظفر بالسعادة، و الهداية بمعنى إراءة الطريق، و في قوله: "أهدكم سبيل الرشاد" تعريض لفرعون حيث قال: "و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد" و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار" هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد و التدين بدين الحق لا غنى عنه بحال و هو الاعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الآخرة و أن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة و مقدمة مقصودة لأجلها، و لذلك بدأ به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة و العمل الصالح.

قوله تعالى: "من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها" إلى آخر الآية.

أي إن الذي يصيبه و يعيش به في الآخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل و الآخرة دار جزاء.



من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها مما يسوؤه و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى من غير فرق بينهما في ذلك و الحال أنه مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.

و فيه إشارة إلى المساواة بين الذكر و الأنثى في قبول العمل و تقييد العمل الصالح في تأثيره بالإيمان لكون العمل حبطا بدون الإيمان قال تعالى: "و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله:" المائدة: - 5 إلى غيرها من الآيات.

و قد جمع الدين الحق و هو سبيل الرشاد في أوجز بيان و هو أن للإنسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيىء أو صالح فليعمل صالحا و لا يعمل سيئا، و زاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب.

قوله تعالى: "و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة و تدعونني إلى النار - إلى قوله - العزيز الغفار" كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل و إصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة.

فقال: و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار و تدعونني إلى النار و قد كان يدعوهم إلى سبب النجاة و يدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لأن الجزاء هو العمل بوجه.

ثم فسر ما دعوه إليه و ما دعاهم إليه فقال: تدعونني لأكفر أي إلى أن أكفر بالله و أشرك به ما ليس لي به علم أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، و أنا أدعوكم إلى العزيز، الذي يغلب و لا يغلب الغفار لمن تاب إليه و آمن به أي أدعوكم إلى الإيمان به و الإسلام له.

قوله تعالى: "لا جرم إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا و لا في الآخرة" إلخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لا بد، و مفاد الآية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه و في ذلك تأييد لقوله في الآية السابقة "ما ليس لي به علم".

و المعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، و لا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، و أما الذي أدعوكم إليه و هو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا و هي التي تصداها أنبياؤه و رسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج و البينات، و في الآخرة و هي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى: "يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده:" إسراء: - 52.

و من المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى: "هو الذي يريكم آياته" الآية: - 13 من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا و نظيرتها الدعوة في الآخرة، و إذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا و الآخرة دون ما يدعونه إليه فهو الإله دون ما يدعون إليه.

و قوله: "و أن مردنا إلى الله و أن المسرفين هم أصحاب النار" معطوف على قوله: "إنما تدعونني" أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الإسلام له و اتباع سبيله و رعاية حدود العبودية، و لا جرم أن المسرفين و هم المتعدون طور العبودية - و هم أنتم - أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه.



قوله تعالى: "فستذكرون ما أقول لكم و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد" صدر الآية موعظة و تخويف لهم و هو تفريع على قوله: "و أن مردنا إلى الله" إلخ أي إذ كان لا بد من الرجوع إلى الله و حلول العذاب بالمسرفين و أنتم منهم و لم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب و تعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم.

و قوله: "و أفوض أمري إلى الله" التفويض على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الأمر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل و التسليم و الاعتبار مختلف: فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الأمر إلى الله سبحانه و حال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، و التوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الأمر، و التسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه و منه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض و هو أدق من التوكل ثم التسليم و هو أدق منهما.

و قوله: "إن الله بصير بالعباد" تعليل لتفويضه أمره إلى الله، و في وضع اسم الجلالة موضع ضميره - و كان مقتضى الظاهر الإضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لأنه الله عز اسمه.

قوله تعالى: "فوقاه الله سيئات ما مكروا" تفريع على تفويضه الأمر إلى الله فكفاه الله شرهم و وقاه سيئات مكرهم، و فيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه.

قوله تعالى: "و حاق بآل فرعون سوء العذاب - إلى قوله - أشد العذاب" أي نزل بهم و أصابهم العذاب السيىء فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و في التوصيف بالمصدر مبالغة، و آل فرعون أشياعه و أتباعه، و ربما يقال آل فلان و يشمل نفسه.

و قوله: "النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب و ليس من الاستئناف في شيء.

و الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها و الإدخال أشد من العرض، و ثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال و هو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين الموت و البعث - و ثالثا: أن التعذيب في البرزخ و يوم تقوم الساعة بشيء واحد و هو نار الآخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد و أهل الآخرة بدخولها.

و في قوله: "غدوا و عشيا" إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، و لعل لأهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة و العشي.

و في قوله: "و يوم تقوم الساعة أدخلوا" إيجاز بالحذف و التقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

قوله تعالى: "و إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا - إلى قوله - بين العباد" يفيد السياق أن الضمير في "يتحاجون" لآل فرعون و من الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: "و قال الذين في النار" و المعنى و حاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو و اذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا و كان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج و تنصرونا في الشدائد و لا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار و إن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض.



و هذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم و متبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة و هم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا و الأمر يومئذ لله و له نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ و خلفهم و إنكارهم أعمالهم و تكذيب بعضهم لبعض و غير ذلك.

و قوله: "قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد" جواب من مستكبريهم عن قولهم و محصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالأسباب ساقطة عن التأثير و قد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة و القدرة فحالنا و حالكم - و نحن جميعا في النار - واحدة.

فقولهم: "إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد" مفاده أن ظهور الحكم الإلهي قد أبطل أحكام سائر الأسباب و تأثيراتها و أثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب.

و مما قيل في الآية أن الضمير في قوله "يتحاجون" لمطلق الكفار من أهل النار و هو بعيد كما عرفت، و قيل: الضمير لقريش و هو أبعد.

قوله تعالى: "و قال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" مكالمة بين أهل النار - و منهم آل فرعون - و بين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، و هم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم.

و المراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، و يؤول معناه إلى قطعة من العذاب.

قوله تعالى: "قالوا أ و لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك و هو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق و هو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا و لا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء.

و قوله: "و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الإجابة و هو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، و يحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد.

و الجملة على أي حال تفيد معنى التعليل و المحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، و الكافرون لا يستجاب لهم دعاء.

و تعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته و ذلك أن الله سبحانه و إن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال: "أجيب دعوة الداع إذا دعان:" البقرة - 186، و الدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء و طلب حقيقة و أن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي و يطلب جدا و ينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الأسباب التي يسميها أسبابا.

و الكافر بعذاب الآخرة و هو الذي ينكرها و يستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، و أما في الآخرة فلأنه و إن أيقن به بالمعاينة و انقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة و قد انقطعت عنه الأسباب لكن صفة الإنكار لزمته وبالا و قد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا.

على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص و أنى له الانقطاع إلى الله هناك و لم يتلبس به في الدنيا فافهمه.



و بذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الآية عدم استجابة دعائه في ما يكفر به و ينكره لا مطلقا كيف؟ و هناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار.

قوله تعالى: "إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد" الأشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، و الآية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، و قد تقدم كلام في معنى النصر الإلهي في تفسير قوله تعالى : "إنهم لهم المنصورون:" الصافات: - 172.

قوله تعالى: "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار" تفسير ليوم يقوم الأشهاد، و ظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله "معذرتهم" و لم يقل: إن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، و أما قوله: "هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون:" المرسلات: - 36 فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة و عقباته لدلالة آيات أخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ.

و قوله: "و لهم اللعنة" أي البعد من رحمة الله، و قوله "لهم سوء الدار" أي الدار السيئة و هي جهنم.

قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بني إسرائيل الكتاب - إلى قوله - الألباب" خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالآيات و السلطان المبين و مجادلة آل فرعون في الآيات بالباطل و محاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها و قد صدرت بلام القسم إلى حقية ما أرسل به و ظلمهم في ما قابلوه به.

و المراد بالهدى الدين الذي أوتيه موسى، و بإيراث بني إسرائيل الكتاب" إبقاء التوراة بينهم يعملون بها و يهتدون.

و قوله: "هدى و ذكرى لأولي الألباب" أي حال كون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم و ذكرى يتذكر به خاصتهم من أولي الألباب.

بحث روائي

في العلل، بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول فرعون: "ذروني أقتل موسى" ما كان يمنعه؟ قال: منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلا أولاد الزنا.

و في المجمع، قال أبو عبد الله: التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة و الآيات تؤيدها كقوله: "إلا أن تتقوا منهم تقاة:" آل عمران: - 28 و قوله: "إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان:" النحل: - 106.

و في المحاسن، بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "فوقاه الله سيئات ما مكروا" قال: أما لقد سطوا عليه و قتلوه و لكن أ تدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

أقول: و في معناه بعض روايات أخر و في بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل.

و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟ إلى أن قال و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: "و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد" فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: "فوقاه الله سيئات ما مكروا".

أقول: و هو مروي في غير هذا الكتاب.



و في تفسير القمي،: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في قول الله عز و جل: "النار يعرضون عليها غدوا و عشيا" فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس؟ فقال: يقولون: إنها في نار الخلد و هم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء. فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: "يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب".

أقول: مراده (عليه السلام) بالدنيا البرزخ و هو كثير الورود في رواياتهم.

و في المجمع، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، و إن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة: أورده البخاري و مسلم في الصحيح،. أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عنهما و عن ابن أبي شيبة و ابن مردويه.

و هذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الأول من الكتاب و غيره من المواضع.

<<        الفهرس        >>