جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج18 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


42 سورة الشورى - 1 - 6

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذَلِك يُوحِى إِلَيْك وَ إِلى الّذِينَ مِن قَبْلِك اللّهُ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (3) لَهُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلىّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السمَوت يَتَفَطرْنَ مِن فَوْقِهِنّ وَ الْمَلَئكَةُ يُسبِّحُونَ بحَمْدِ رَبهِمْ وَ يَستَغْفِرُونَ لِمَن فى الأَرْضِ أَلا إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ (5) وَ الّذِينَ اتخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيهِمْ وَ مَا أَنت عَلَيهِم بِوَكِيلٍ (6)

بيان

تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لأنبيائه و رسله كما يدل عليه ما في مفتتحها من قوله: "كذلك يوحي إليك و إلى الذين من قبلك الله" الآية و ما في مختتمها من قوله: "و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا إلخ" الآيات، و رجوع الكلام إليه مرة بعد أخرى في قوله: "و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا" الآية، و قوله: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" الآية، و قوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان" الآية و ما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجيء.

فالوحي هو الموضوع الذي يجري عليه الكلام في السورة و ما فيها من التعرض لآيات التوحيد و صفات المؤمنين و الكفار و ما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم و رجوعهم إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني و كلام جره كلام.

و السورة مكية و قد استثني قوله: "و الذين استجابوا لربهم" إلى تمام ثلاث آيات، و قوله: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" إلى تمام أربع آيات و سيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "حم عسق" من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية، و ذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية.

و قد اختلف المفسرون من القدماء و المتأخرين في تفسيرها و قد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها: أحدها: أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو.

الثاني: أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها.

الثالث: أنها أسماء القرآن أي لمجموعه.

الرابع: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله: "الم" معناه أنا الله أعلم، و قوله: "المر" معناه أنا الله أعلم و أرى، و قوله: "المص" معناه أنا الله أعلم و أفصل، و قوله: "كهيعص" الكاف من الكافي، و الهاء من الهادي، و الياء من الحكيم، و العين من العليم، و الصاد من الصادق، و هو مروي عن ابن عباس، و الحروف المأخوذة من الأسماء مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي، و منها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم، و منها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم.

الخامس: أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول: الر و حم و ن يكون الرحمن و كذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها و هو مروي عن سعيد بن جبير.

السادس: أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه و هي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة، و أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و أصول لغات الأمم على اختلافها.

السابع: أنها إشارات إلى آلائه تعالى و بلائه و مدة الأقوام و أعمارهم و آجالهم.

الثامن: أن المراد بها الإشارة إلى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل.

التاسع: أن المراد بها حروف المعجم و قد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال: أب و يراد به جميع الحروف.

العاشر: أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن و أن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله: "لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه" الآية، فربما صفروا و ربما صفقوا و ربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلاوته، فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها و استمعوا إليها و تفكروا فيها و اشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.

الحادي عشر: أنها من قبيل تعداد حروف التهجي و المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى، و إنما كررت الحروف في مواضع استظهارا في الحجة، و هو مروي عن قطرب و اختاره أبو مسلم الأصبهاني و إليه يميل جمع من المتأخرين.

فهذه أحد عشر قولا و فيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس في "الم" أن الألف إشارة إلى الله و اللام إلى جبريل و الميم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ما عن بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كان يقال: إن "ن" إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و "ق" إشارة إلى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة، و ما عن بعضهم أن هذه الحروف للإيقاظ.

و الحق أن شيئا من هذه الأقوال لا تطمئن إليه النفس: أما القول الأول فقد تقدم في بحث المحكم و المتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب أنه أحد الأقوال في معنى المتشابه و عرفت أن الإحكام و التشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها، و أن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها و متشابهاتها، و على هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات و لا معانيها المراد بها تأويلات لها.

و أما الأقوال العشرة الآخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال و لا دليل يدل على شيء منها.

نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعض التأييد للقول الرابع و السابع و الثامن و العاشر و سيأتي نقلها و الكلام في مفادها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و الذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى و هي تسع و عشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد و هي ص و ق و ن، و بعضها بحرفين و هي سور طه و طس و يس و حم.

و بعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي "الم" و "الر" و "طسم" و بعضها بأربعة أحرف كما في سورتي "المص" و "المر" و بعضها بخمسة أحرف كما في سورتي "كهيعص" و "حمعسق".

و تختلف هذه الحروف أيضا من حيث أن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل "ن" و بعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل "الم" و "الر" و "طس" و "حم".

ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات و الراءات و الطواسين و الحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين و تناسب السياقات ما ليس بينها و بين غيرها من السور.

و يؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله: "تنزيل الكتاب من الله" أو ما هو في معناه، و ما في مفتتح الراءات من قوله: "تلك آيات الكتاب" أو ما هو في معناه، و نظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، و ما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.



و يمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذا الحروف المقطعة و بين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا، و يؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات و ص، و كذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات و الراءات.

و يستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه و بين رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها و بين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا.

و لعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف و قايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض تبين له الأمر أزيد من ذلك.

و لعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي (عليه السلام) على ما في المجمع،: أن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي. قوله تعالى: "كذلك يوحي إليك و إلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - إلى قوله - العلي العظيم" مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته و الإشارة إلى غايته و آثاره أن تكون الإشارة بقوله: "كذلك" إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب فيكون كقولنا في تعريف الإنسان مثلا هو كزيد.

و عليه يكون قوله: "إليك و إلى الذين من قبلك" في معنى إليكم جميعا، و إنما عبر بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة، و المعنى أن الوحي الذي نوحيه إليكم معشر الأنبياء - نبيا بعد نبي سنة جارية - هو كهذا الذي تجده و تشاهده في تلقي هذه السورة.

و قد أخذ جمهور المفسرين قوله: "كذلك" إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل عليها السورة و تتضمنها و استنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى جميع الأنبياء فهو من الوحي المشترك فيه، و قد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة و يأباه سياق آياتها.

و قوله: "العزيز الحكيم له ما في السماوات و ما في الأرض و هو العلي العظيم" خمسة من أسمائه الحسنى، و قوله: "له ما في السماوات و ما في الأرض" في معنى المالك، و هو واقع موقع التعليل لأصل الوحي و لكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا و الآخرة و ليس المانع أن يمنعه تعالى عن ذلك لأنه عزيز غير مغلوب فيما يريد، و لا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لأنه حكيم متقن في أفعاله و من إتقان الفعل أن يساق إلى غايته.

و من حقه تعالى أن يتصرف فيهم و في أمورهم كيف يشاء، لأنه مالكهم و له أن يعبدهم و يستعبدهم بالأمر و النهي لأنه على عظيم فلكل من الأسماء الخمسة حظه من التعليل، و ينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولي غيره.

قوله تعالى: "تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن" إلخ التفطر التشقق من الفطر بمعنى الشق.

الذي يهدي إليه السياق و الكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي و غايته و آثاره أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه و السماوات طرائق إلى الأرض قال تعالى: "و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين": المؤمنون: 17.

و الوجه في تقييد "يتفطرن" بقوله: "من فوقهن" ظاهر فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق و العظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن.

على ما فيه من إعظام أمر الوحي و إعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله و لكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن.

فالآية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله و مروره على السماوات نظيره قوله: "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير": سبأ: 23 في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه، و نظيره قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله": الحشر: 21 في إعظامه على فرض نزوله على جبل و نظيره قوله: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا": المزمل: 5 في استثقاله و استصعاب حمله.

هذا ما يعطيه السياق.

و قد حمل القوم الآية على أحد معنيين آخرين: أحدهما: أن المراد تفطرهن من عظمة الله و جلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى قبله بالعلي العظيم.

و ثانيهما: أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض و قولهم: "اتخذ الرحمن ولدا" فقد قال تعالى فيه: "تكاد السماوات يتفطرن منه": مريم: 90 فأدى ذلك إلى التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله: "من فوقهن" و خاصة على المعنى الثاني، و كذا في توجيه اتصال قوله: "و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض" إلخ بما قبله كما لا يخفى على من راجع كتبهم.

و قوله: "و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض" أي ينزهونه تعالى عما لا يليق بساحة قدسه و يثنون عليه بجميل فعله، و مما لا يليق بساحة قدسه أن يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي و هو منه فعل جميل، و يسألونه تعالى أن يغفر لأهل الأرض، و حصول المغفرة إنما هو بحصول سببها و هو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى و الملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الأرض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك.

و يشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي و كذا تعلق الاستغفار بمن في الأرض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال: "اتخذ الله ولدا" و قد حكى الله تعالى عنهم: "و يستغفرون للذين آمنوا" الآية: المؤمن: 7 فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها و هو تشريع الدين لأهل الأرض ليغفر لمن تدين به.

و قوله: "ألا إن الله هو الغفور الرحيم" أي إن الله سبحانه لاتصافه بصفتي المغفرة و الرحمة و تسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الأرض ما ينالون به المغفرة و الرحمة من عنده و هو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق الوحي و التكليم.

قيل: و في قوله: "ألا إن الله" إلخ إشارة إلى قبول استغفار الملائكة و أنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة.



قوله تعالى: "و الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم و ما أنت عليهم بوكيل" لما استفيد من الآيات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره و هو يتولى أمر من في الأرض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه الحسنى و صفاته العليا، و لازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه، أشار في هذه الآية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية و الألوهية فذكر أنه ليس بغافل عما يعملون و أن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و ليس على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسئولا عن أعمالهم.

فقوله: "الله حفيظ عليهم" أي يحفظ عليهم شركهم و ما يتفرع عليه من الأعمال السيئة.

و قوله: "و ما أنت عليهم بوكيل" أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم بهدايتهم إلى الحق، و الكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البخاري في تاريخه و ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم ذلك الكتاب" فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون؟ و الله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه "الم ذلك الكتاب" فقالوا: أنت سمعته؟ قال نعم. فمشى أولئك النفر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد أ لم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك "الم ذلك الكتاب"؟ قال: بلى. قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه؟ و ما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب و أقبل على من كان معه: الألف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون فهذه إحدى و سبعون سنة أ فتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه و أجل أمته إحدى و سبعون سنة. ثم أقبل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذا؟ قال: المص قال: هذا أثقل و أطول الألف واحدة، و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الصاد تسعون فهذه مائة و إحدى و ستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذا؟ قال: الر. قال: هذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الراء مائتان فهذه إحدى و ثلاثون و مائتا سنة فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم قال: ما ذا؟، قال المر قال: فهذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الراء مائتان فهذه إحدى و سبعون سنة و مائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أ قليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي و من معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى و سبعون و إحدى و ستون و مائة و إحدى و ثلاثون و مائتان فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: "هو الذي أنزل عليك الكتاب - منه آيات محكمات هن أم الكتاب - و أخر متشابهات":. أقول: و روي قريبا منه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و روى مثله أيضا القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، و ليس في الرواية ما يدل على إمضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدعواهم و لا كانت لهم على ما ادعوه حجة، و قد تقدم أن الآيات المتشابهة غير الحروف المقطعة في فواتح السور.

و في المعاني، بإسناده عن جويرية عن سفيان الثوري قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز و جل: الم و المص و الر و المر و كهيعص و طه و طس و طسم و يس و ص و حم و حمعسق و ق و ن؟ قال (عليه السلام) أما الم في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، و أما الم في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد، و المص فمعناه أنا الله المقتدر الصادق، و الر فمعناه أنا الله الرءوف، و المر فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق، و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد، فأما طه فاسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه يا طالب الحق الهادي إليه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به. و أما طس فمعناه أنا الطالب السميع، و أما طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدىء المعيد، و أما يس فاسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه يا أيها السامع للوحي و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم. و أما ص فعين تنبع من تحت العرش و هي التي توضأ منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عرج به و يدخلها جبرئيل كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج منها فينفض أجنحته فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكا يسبح الله و يقدسه و يكبره و يحمده إلى يوم القيامة. و أما حم فمعناه الحميد المجيد، و أما حمعسق فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر القوي، و أما ق فهو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه و به يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها، و أما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز و جل اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال عز و جل للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور. قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول الله بين لي أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك، و اللوح يؤدي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدي إلى جبرئيل، و جبرئيل يؤدي إلى الأنبياء و الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: ثم قال لي: قم يا سفيان فلا آمن عليك. أقول: ظاهر ما في الرواية من تفسير غالب الحروف المقطعة بأسماء الله الحسنى أنها حروف مأخوذة من الأسماء إما من أولها كالميم من الملك و المجيد و المقتر، و إما من بين حروفها كاللام من الله و الياء من الولي فتكون الحروف المقطعة إشارات على سبيل الرمز إلى أسماء الله تعالى، و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس و الربيع بن أنس و غيرهما لكن لا يخفى عليك أن الرمز في الكلام إنما يصار إليه في الإفصاح عن الأمور التي لا يريد المتكلم أن يطلع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه بما لا يتعداه و مخاطبه و لا يقف عليه غيرهما و هذه الأسماء الحسنى قد أوردت و بينت في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحا و تلويحا و إجمالا و تفصيلا و لا يبقى مع ذلك فائدة في الإشارة إلى كل منها بحرف مأخوذ منه رمزا إليه.

فالوجه - على تقدير صحة الرواية - أن يحمل على كون هذه الأحرف دالة على هذه المعاني دلالة غير وضعية فتكون رموزا إليها مستورة عنا مجهولة لنا دالة على مراتب من هذه المعاني هي أدق و أرقى و أرفع من أفهامنا، و يؤيد ذلك بعض التأييد تفسيره الحرف الواحد كالميم في المواضع المختلفة بمعان مختلفة، و كذا ما ورد أنها من حروف اسم الله الأعظم.



و قوله: "و أما ق فهو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه" إلخ و روى قريبا منه القمي في تفسيره، و هو مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و لفظ بعضها جبل من زمرد محيط بالدنيا على كنفي السماء، و في بعضها أنه جبل محيط بالبحر المحيط بالأرض و السماء الدنيا مترفرفة عليها و أن هناك سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات.

و في بعض ما عن ابن عباس: خلق الله جبلا يقال له: ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية.

و الروايات بظاهرها أشبه بالإسرائيليات، و لو لا قوله: "و به يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها" لأمكن حمل قوله: "و أما ق فهو الجبل المحيط بالدنيا و خضرة السماء منه" على إرادة الهواء المحيط بالأرض بضرب من التأويل.

و أما قوله: إن طه و يس من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعنى الذي فسره به فينبغي أن يحمل أيضا على ما قدمناه به و يفسر الروايات الكثيرة الواردة من طرق العامة و الخاصة في أن طه و يس من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و أما قوله في ن إنه نهر صيره الله مدادا كتب به القلم بأمره على اللوح ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة، و أن المداد و القلم و اللوح من النور ثم قوله: إن المداد ملك و القلم ملك و اللوح ملك فهو نعم الشاهد على أن ما ورد في كلامه تعالى من العرش و الكرسي و اللوح و القلم و نظائر ذلك و فسر بما فسر به في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من باب التمثيل أريد به تقريب معارف حقيقية هي أعلى و أرفع من سطح الأفهام العامة بتنزيلها منزلة المحسوس.

و في المعاني، أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال "الم" هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإمام فإذا دعا به أجيب. الحديث.

أقول: كون هذه الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و قد تبين في البحث عن الأسماء الحسنى في سورة الأعراف أن الاسم الأعظم الذي له أثره الخاص به ليس من قبيل الألفاظ، و أن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره بنوع من الصرف المناسب له.

و فيه، بإسناده عن محمد بن زياد و محمد بن سيار عن العسكري (عليه السلام) أنه قال: كذبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تقوله فقال الله: "الم ذلك الكتاب" أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. الحديث.

أقول: و الحديث من تفسير العسكري و هو ضعيف.

و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: "يتفطرن من فوقهن" أي يتصدعن.

و عن جوامع الجامع،: في قوله تعالى: "و يستغفرون لمن في الأرض": قال الصادق (عليه السلام): لمن في الأرض من المؤمنين:. أقول: و روي ما في معناه في المجمع، عنه (عليه السلام) و رواه القمي مضمرا.

42 سورة الشورى - 7 - 12

وَكَذَلِك أَوْحَيْنَا إِلَيْك قُرْءَاناً عَرَبِيّا لِّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَى وَ مَنْ حَوْلهََا وَ تُنذِرَ يَوْمَ الجَْمْع لا رَيْب فِيهِ فَرِيقٌ فى الجَْنّةِ وَ فَرِيقٌ فى السعِيرِ (7) وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لجََعَلَهُمْ أُمّةً وَحِدَةً وَ لَكِن يُدْخِلُ مَن يَشاءُ فى رَحْمَتِهِ وَ الظلِمُونَ مَا لهَُم مِّن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلىّ وَ هُوَ يحْىِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (9) وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبى عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ إِلَيْهِ أُنِيب (10) فَاطِرُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ جَعَلَ لَكم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجاً وَ مِنَ الأَنْعَمِ أَزْوَجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْس كَمِثْلِهِ شىْءٌ وَ هُوَ السمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (12)

بيان

فصل ثان من الآيات يعرف فيه الوحي من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل السابق بالإشارة إليه نفسه.

فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحي إنذار الناس و خاصة الإنذار المتعلق بيوم الجمع الذي يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة و فريق في السعير إذ لو لا الإنذار بيوم الجمع الذي فيه الحساب و الجزاء لم تنجح دعوة دينية و لم ينفع تبليغ.

ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذي شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين و إنذار الناس يوم الجمع من طريق الوحي لأنه وليهم الذي يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه.

ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية و أنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شيء منها.

قوله تعالى: "و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها" الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السياق، و أم القرى هي مكة المشرفة و المراد بإنذار أم القرى إنذار أهلها، و المراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده توصيف القرآن بالعربية.

و ذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة العشيرة الأقربين كما قال: "و أنذر عشيرتك الأقربين": الشعراء، 214 ثم توسعت فتعلقت بالعرب عامة كما قال: "قرآنا عربيا لقوم يعلمون": حم السجدة: 3 ثم بجميع الناس كما قال: "و أنزل إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ".

و من الدليل على ما ذكرناه من الأمر بالتوسع تدريجا قوله تعالى: "قل ما أسألكم عليه من أجر - إلى أن قال - إن هو إلا ذكر للعالمين": ص: 87 فإن الخطاب على ما يعطيه سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض، فإذا كان للجميع فلا معنى لأن يسأل بعضهم - كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعضا عليه أجرا.

على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب و خاصة باليهود و النصارى من ضروريات القرآن، و كذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسي و بلال الحبشي و صهيب الرومي من ضروريات التاريخ.

و قيل المراد بقوله: "من حولها" سائر الناس من أهل قرى الأرض كلها و يؤيده التعبير عن مكة بأم القرى.

و الآية - كما ترى - تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الإلقاء الإلهي و هو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة و الإنذار.

قوله تعالى: "و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة و فريق في السعير" عطف على "تنذر" السابق و هو من عطف الخاص على العام لأهميته كأنه قيل: لتنذر الناس و تخوفهم من الله و خاصة من سخطه يوم الجمع.

و قوله: "يوم الجمع" مفعول ثان لقوله: "تنذر" و ليس بظرف له و هو ظاهر، و يوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى: "ذلك يوم مجموع له الناس - إلى أن قال - فمنهم شقي و سعيد": هود: 105.

و قوله: "فريق في الجنة و فريق في السعير" في مقام التعليل و دفع الدخل كأنه قيل: لما ذا ينذرهم يوم الجمع؟ فقيل: "فريق في الجنة و فريق في السعير" أي إنهم يتفرقون فريقين: سعيد مثاب و شقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء و الهبوط في مهبط الهلكة.

قوله تعالى: "و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" إلى آخر الآية لما كانت الآية مسوقة لبيان لزوم الإنذار و النبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الأسبق إلى الذهن من جعلهم أمة واحدة مطلق رفع التفرق و التميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة واحدة من غير فرق و ميز، و لم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة و الإنذار.

و قوله: "و لكن يدخل من يشاء في رحمته و الظالمون ما لهم من ولي و لا نصير" استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق و لم يشأ جعلهم أمة واحدة يدل على ذلك قوله: "يدخل من يشاء" الدال على الاستمرار، و لم يقل: و لكن أدخل و نحوه.

و قد قوبل في الآية قوله: "من يشاء" بقوله: "و الظالمون" فالمراد بمن يشاء غير الظالمين و قد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون": الأعراف: 45 فهم المعاندون المنكرون للمعاد.

و قوبل أيضا بين الإدخال في الرحمة و بين نفي الولي و النصير فالمدخلون في رحمته هم الذين وليهم الله، و الذين ما لهم من ولي و لا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته، و أيضا الرحمة هي الجنة و انتفاء الولاية و النصرة يلازم السعير.

فمحمل معنى الآية: أن الله سبحانه إنما قدر النبوة و الإنذار المتفرع على الوحي لمكان ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير.

و لو أراد الله لجعلهم أمة واحدة فاستوت حالهم و لم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة و الإنذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت سنته على أن يتولى أمر قوم منهم و هم غير الظالمين فيدخلهم الجنة و في رحمته، و لا يتولى أمر آخرين و هم الظالمون فيكونوا لا ولي لهم و لا نصير و يصيروا إلى السعير لا مخلص لهم من النار.

فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة و إدخال الجميع في السعير أي أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة و الأشقياء في النار فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين و جرت سنته على ذلك و وعد بذلك و هو لا يخلف الميعاد و مع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب و لم تتغير فقوله: "و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه" إلى تمام الآيتين في معنى قوله في سورة هود: "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس" إلى تمام سبع آيات فراجع و تدبر.

و قيل: المراد بجعلهم أمة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة، قال في الكشاف: و المعنى و لو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان و لكنه شاء مشيئة حكمة فكلفهم و بنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته و هم المرادون بمن يشاء أ لا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين، و يترك الظالمين بغير ولي و لا نصير في عذابه.

و استدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى: "و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها": الم السجدة: 13 و قوله: "و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا": يونس: 99 و الدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله: "أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".



و فيه أن الآيات - كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته و أن تفرق في الناس يوم الجمع: فريقين سبب يستدعي وجود النبوة و الإنذار من طريق الوحي، و قوله: "و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك و لا ملزم به بل له أن لا يفعل، و هذا المعنى يتم بمجرد أن لا يجعلهم متفرقين فريقين بل أمة واحدة كيفما كانوا، و أما كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى له هناك.

و أما ما استدل به من الآيتين فسياقهما غير سياق الآية المبحوث عنها، و المراد بهما غير الإيمان القسري الذي ذكره و قد تقدم البحث عنهما في الكتاب.

و قيل: إن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمة واحدة كافرة كما في قوله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين": البقرة: 213 فالمعنى: و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم فيبقوا على ما هم عليه من الكفر و لكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم فيتأثر به من تأثر فيوفقهم الله للإيمان و الطاعات في الدنيا و يدخلهم في رحمته في الآخرة، و لا يتأثر به الآخرون و هم الظالمون فيعيشون في الدنيا كافرين و يصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي و لا نصير.

و فيه أولا: أن المراد من كون الناس أمة واحدة في الآية المقيس عليها ليس هو اتفاقهم على الكفر بل عدم اختلافهم في الأمور الراجعة إلى المعاش كما تقدم في تفسير الآية، و لو سلم ذلك أدى إلى التنافي البين بين المقيسة و المقيس عليها لدلالة المقيسة على التفرق و عدم الاتحاد دلالة المقيس عليها على ثبوت الاتحاد و عدم التفرق.

و لو أجيب عنه بأن المقيس عليها تدل على كون الناس أمة واحدة بحسب الطبع دون الفعلية فلا تنافي بين الآيتين، رد بمنافاته لما دل من الآيات على كون الإنسان مؤمنا بحسب الفطرة الأصلية كقوله تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8.

و ثانيا: أن فيه إخراجا لقوله: "و لكن يدخل من يشاء في رحمته" عن المقابلة مع قوله: "و الظالمون" إلخ من غير دليل، ثم تكلف تقدير ما يفيد معناه ليحفظ به ما يقيده الكلام من المقابلة.

قوله تعالى: "أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي - إلى قوله - فحكمه إلى الله" "أم" تفيد الإنكار كما ذكره الزمخشري.

لما أفاد في الآية السابقة أن الله سبحانه يتولى أمر المؤمنين خاصة فيدخلهم في رحمته و أن الظالمين هم الكافرون المعاندون لا ولي لهم تعرض في هذه الآية لاتخاذهم أولياء يدينون لهم و يعبدونهم من دونه و كان يجب أن يتخذوا الله وليا يدينون له و يعبدونه فأنكر عليهم ذلك و احتج على وجوب اتخاذه وليا بالحجة بعد الحجة و ذلك قوله: "فالله هو الولي" إلخ.

فقوله: "فالله هو الولي" تعليل للإنكار السابق لاتخاذهم من دونه أولياء فيكون حجة لوجوب اتخاذه وليا، و الجملة - فالله هو الولي - تفيد حصر الولاية في الله و قد تبينت الحجة على أصل ولايته و انحصارها فيه من قوله في الآيات السابقة: "العزيز الحكيم له ما في السماوات و ما في الأرض و هو العلي العظيم" كما أشرنا إليه في تفسير الآيات.

و المعنى: أنه تعالى ولي ينحصر فيه الولاية فمن الواجب على من يتخذ وليا أن يتخذه وليا و لا يتعداه إلى غيره إذ لا ولي غيره.

و قوله: "و هو يحيي الموتى" حجة ثانية على وجوب اتخاذه تعالى وحده وليا، و محصله أن عمدة الغرض في اتخاذ الولي و التدين له بعبوديته التخلص من عذاب السعير و الفوز بالجنة يوم القيامة و المثيب و المعاقب يوم القيامة هو الله الذي يحيي الموتى فيجمعهم فيجازيهم بأعمالهم فهو الذي يجب أن يتخذ وليا دون أوليائهم الذين هم أموات غير أحياء و لا يشعرون أيان يبعثون.

و قوله: "و هو على كل شيء قدير" حجة ثالثة على وجوب اتخاذه تعالى وليا دون غيره، و محصله أن من الواجب في باب الولاية أن يكون للولي قدرة على ما يتولاه من شئون من يتولاه و أموره، و الله سبحانه على كل شيء قدير و لا قدرة لغيره إلا مقدار ما أقدره الله عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره فهو الولي لا ولي غيره تعالى و تقدس.

و قوله: "و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" حجة رابعة على كونه تعالى وليا لا ولي غيره، و حكم الحاكم بين المختلفين هو أحكامه و تثبيته الحق المضطرب بينهما بسبب تخالفهما بالإثبات و النفي، و الاختلاف ربما كان في عقيدة كالاختلاف في أن الإله واحد أو كثير، و ربما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في أمور المعيشة و شئون الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقا و إن اختلفا مفهوما.

ثم الحكم و القضاء إنما يتم إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك و الولاية و إن كان بتمليك المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعا إلى ثالث فاتخذاه حكما ليحكم بينهما و يتسلما ما يحكم به فقد ملكاه الحكم بما يرى و أعطياه من نفسهما القبول و التسليم فهو وليهما في ذلك.

و الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك سواه لكون كل شيء بوجوده و آثار وجوده قائما به تعالى فله الحكم و القضاء بالحق قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون": القصص: 88، و قال: "إن الله يحكم ما يريد": المائدة: 2 و قال: "الحق من ربك": آل عمران: 60.

و حكمه تعالى إما تكويني و هو تحقيقه و تثبيته المسببات قبال الأسباب المجتمعة عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسميه سببا تاما على غيره قال تعالى حاكيا عن يعقوب (عليه السلام): "إن الحكم إلا لله عليه توكلت": يوسف: 67 و إما تشريعي كالتكاليف الموضوعة في الدين الإلهي الراجعة إلى الاعتقاد و العمل قال تعالى: "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم": يوسف: 40.

و هناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعد من كل من القسمين السابقين بوجه و هو حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه و هو إعلانه و إظهاره الحق يوم القيامة لأهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان و إيقان فيسعد به و بآثاره من كان مع الحق و يشقى بالاستكبار عليه و تبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى: "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون": البقرة: 113.

ثم إن اختلاف الناس في عقائدهم و أعمالهم اختلاف تشريعي لا يرفعه إلا الأحكام و القوانين التشريعية و لو لا الاختلاف لم يجود قانون كما يشير إليه قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه": البقرة: 213، و قد تبين أن الحكم التشريعي لله سبحانه فهو الولي في ذلك فيجب أن يتخذ وحده وليا فيعبد و يدان بما أنزله من الدين.

و هذا معنى قوله: "و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" و محصل الحجة أن الولي الذي يعبد و يدان له يجب أن يكون رافعا لاختلافات من يتولونه مصلحا لما فسد من شئون مجتمعهم سائقا لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم و هو الدين، و الحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الولي الذي يجب أن يتخذ وليا لا غير.



و للقوم في تفسير الآية أعني قوله: "و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" تفاسير أخر فقيل: هو حكاية قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمؤمنين أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب و المشركين فاختلفتم أنتم و هم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله و هو إثابة المحقين فيه من المؤمنين و معاقبة المبطلين ذكره صاحب الكشاف.

و قيل معناه ما اختلفتم فيه و تنازعتم في شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول".

و قيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية و اشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى محكم كتاب الله و ظاهر سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قيل: المعنى و ما اختلفتم فيه من العلوم مما لا يتصل بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى: "و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي".

و الآية على جميع هذه الأقوال من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما بنحو الحكاية و إما بتقدير "قل" في أولها.

و أنت بالتدبر في سياق الآيات ثم الرجوع إلى ما تقدم لا ترتاب في سقوط هذه الأقوال.

قوله تعالى: "ذلكم الله ربي عليه توكلت و إليه أنيب" كلام محكي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإشارة بذلكم إلى من أقيمت الحجج في الآيتين على وجوب اتخاذه وليا و هو الله سبحانه، و لازم ولايته ربوبيته.

لما أقيمت الحجج على أنه تعالى هو الولي لا ولي غيره أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلام أنه الله و أنه اتخذه وليا بالاعتراف له بالربوبية التي هي ملك التدبير ثم عقب ذلك بالتصريح بما للاتخاذ المذكور من الآثار و هو قوله: "عليه توكلت و إليه أنيب".

و ذلك أن ولاية الربوبية تتعلق بنظام التكوين بتدبير الأمور و تنظيم الأسباب و المسببات بحيث يتعين بها للمخلوق المدبر كالإنسان مثلا ما قدر له من الوجود و البقاء، و تتعلق بنظام التشريع و هو تدبير أعمال الإنسان بجعل قوانين و أحكام يراعيها الإنسان بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته.

و لازم اتخاذه تعالى ربا وليا من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن الأسباب الظاهرية و الركون إليه من حيث أنه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كل سبب و هذا هو التوكل، و من جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كل واقعة يستقبله الإنسان في مسير حياته و هذا هو الإنابة فقوله: "عليه توكلت و إليه أنيب" أي أرجع في جميع أموري، تصريح بإرجاع الأمر إليه تكوينا و تشريعا.

قوله تعالى: "فاطر السماوات و الأرض" إلى آخر الآية لما صرح بأنه تعالى هو ربه لقيام الحجج على أنه هو الولي وحده عقب ذلك بإقامة الحجة في هذه الآية و التي بعدها على ربوبيته تعالى وحده.

و محصل الحجة: أنه تعالى موجد الأشياء و فاطرها بالإخراج من كتم العدم إلى الوجود و قد جعلكم أزواجا فكثركم بذلك و جعل من الأنعام أزواجا فكثرها بذلك لتنتفعوا بها، و هذا خلق و تدبير، و هو سميع لما يسأله خلقه من الحوائج فيقضي لكل ما يستحقه من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الأعمال فيجازيهم بما عملوا و هو الذي يملك مفاتيح خزائن السماوات و الأرض التي ادخر فيها ما لها من خواص وجودها و آثاره مما يتألف منها بظهورها النظام المشهود و هو الذي يرزق المرزوقين فيوسع في رزقهم و يضيق عن علم منه بذلك.

و هذا كله من التدبير فهو الرب المدبر للأمور.

فقوله: "فاطر السماوات و الأرض" أي موجدها من كتم العدم على سبيل الإبداع.

و قوله: "جعل لكم من أنفسكم أزواجا" و ذلك بخلق الذكر و الأنثى للذين يتم بتزاوجهما أمر التوالد و التناسل و تكثر الأفراد "و من الأنعام أزواجا" أي و جعل من الأنعام أزواجا "يذرؤكم فيه" أي يكثركم في هذا الجعل، و الخطاب في "يذرؤكم" للإنسان و الأنعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشري.

و قوله: "ليس كمثله شيء" أي ليس مثله شيء، فالكاف زائدة للتأكيد و له نظائر كثيرة في كلام العرب.

و قوله: "و هو السميع البصير" أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير لأعمال خلقه قال تعالى: "يسأله من في السماوات و الأرض": الرحمن: 29، و قال: "و آتاكم من كل ما سألتموه": إبراهيم: 34، و قال: "و الله بما تعملون بصير": الحديد: 4.

قوله تعالى: "له مقاليد السماوات و الأرض" إلى آخر الآية المقاليد المفاتيح و في إثبات المقاليد للسماوات و الأرض دلالة على أنها خزائن لما يظهر في الكون من الحوادث و الآثار الوجودية.

و قوله: "يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر" بسط الرزق توسعته و قدره تضييقه و الرزق كل ما يمد به البقاء و يرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره.

و تذييل الكلام بقوله: "إنه بكل شيء عليم" للإشارة إلى أن الرزق و اختلافه في موارده بالبسط و القدر ليس على سبيل المجازفة جهلا بل عن علم منه تعالى بكل شيء فرزق كل مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله و الرزق بحسب حاله و ما يحف بهما من الأوضاع و الأحوال الخارجية، و هذا هو الحكمة فهو يبسط و يقدر بالحكمة.

42 سورة الشورى - 13 - 16

شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصى بِهِ نُوحاً وَ الّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَ مَا وَصيْنَا بِهِ إِبْرَهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرّقُوا فِيهِ كَبرَ عَلى الْمُشرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يجْتَبى إِلَيْهِ مَن يَشاءُ وَ يهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيب (13) وَ مَا تَفَرّقُوا إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنهُمْ وَ لَوْ لا كلِمَةٌ سبَقَت مِن رّبِّك إِلى أَجَلٍ مّسمّى لّقُضىَ بَيْنهُمْ وَ إِنّ الّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَب مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شكٍ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِك فَادْعُ وَ استَقِمْ كمَا أُمِرْت وَ لا تَتّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ قُلْ ءَامَنت بِمَا أَنزَلَ اللّهُ مِن كتَبٍ وَ أُمِرْت لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَ رَبّكُمْ لَنَا أَعْمَلُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَلُكمْ لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اللّهُ يجْمَعُ بَيْنَنَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَ الّذِينَ يحَاجّونَ فى اللّهِ مِن بَعْدِ مَا استُجِيب لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضةٌ عِندَ رَبهِمْ وَ عَلَيهِمْ غَضبٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ شدِيدٌ (16)

بيان

فصل ثالث من الآيات يعرف الوحي الإلهي بأثره الذي هو مفاده و ما احتوى عليه من المضمون و هو الدين الإلهي الواحد الذي يجب على الناس أن يتخذوه سنة في الحياة و طريقة مسلوكة إلى سعادتهم.

و قد بين فيها بحسب مناسبة المقام أن الشريعة المحمدية أجمع الشرائع المنزلة و أن الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماوي و إنما هي من بغي الناس بعد علمهم، و في الآيات فوائد أخر أشير إليها في خلالها.

قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى" يقال: شرع الطريق شرعا أي سواه طريقا واضحا بينا.

قال الراغب: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات و يقال: أوصاه و وصاه انتهى.

و في معناه إشعار بالأهمية فما كل أمر يوصى به و إنما يختار لذلك ما يهتم به الموصي و يعتني بشأنه.

فقوله: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" أي بين و أوضح لكم من الدين و هو سنة الحياة ما قدم و عهد إلى نوح مهتما به، و اللائح من السياق أن الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته، و أن المراد مما وصى به نوحا شريعة نوح (عليه السلام).

و قوله: "و الذي أوحينا إليك" ظاهر المقابلة بينه و بين نوح (عليه السلام) أن المراد بما أوحي إليه ما اختصت به شريعته من المعارف و الأحكام، و إنما عبر عن ذلك بالإيحاء دون التوصية لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به و يعتنى بشأنه خاصة و هو أهم العقائد و الأعمال، و شريعته (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعة لكل ما جل و دق محتوية على الأهم و غيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم و الموافق لمبلغ استعدادهم.

و الالتفات في قوله: "و الذي أوحينا" من الغيبة إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة فإن العظماء يتكلمون عنهم و عن خدمهم و أتباعهم.

و قوله: "و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى" عطف على قوله: "ما وصى به" و المراد به ما شرع لكل واحد منهم (عليهم السلام).

و الترتيب الذي بينهم (عليهم السلام) في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليه السلام)، و إنما قدم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتشريف و التفضيل كما في قوله تعالى: "و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم": الأحزاب: 7 و إنما قدم نوحا و بدأ به للدلالة على قدم هذه الشريعة و طول عهدها.

و يستفاد من الآية أمور: أحدها: أن السياق بما أنه يفيد الامتنان و خاصة بالنظر إلى ذيل الآية و الآية التالية يعطي أن الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية و لا ينافيه قوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا": المائدة: 48 لأن كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.

الثاني: أن الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنما هي شريعة نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.

و لازم ذلك أولا: أن لا شريعة قبل نوح (عليه السلام) بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية و قد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين" الآية: البقرة: 213.

و ثانيا: أن الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم و بعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى و هكذا.

الثالث: أن الأنبياء أصحاب الشرائع و أولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء و يدل على تقدمهم أيضا قوله: "و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم": الأحزاب: 7.

و قوله: "أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا" أن تفسيرية، و إقامة الدين حفظه بالاتباع و العمل و اللام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، و عدم التفرق فيه حفظ وحدته بالاتفاق عليه و عدم الاختلاف فيه.

لما كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعا باتباعه و العمل به من غير اختلاف فسره بالأمر بإقامة الدين و عدم التفرق فيه فكان محصله أن عليهم جميعا إقامة الدين جميعا و عدم التفرق و التشتت فيه بإقامة بعض و ترك بعض، و إقامته الإيمان بجميع ما أنزل الله و العمل بما يجب عليه العمل به.

فجميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته و عدم التفرق فيه فأما الأحكام السماوية المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الإقامة فيها ظاهر و أما الأحكام المشرعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة الحكم المنسوخ أنه حكم ذو أمد خاص بطائفة من الناس في زمن خاص و معنى نسخه تبين انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى: "و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل": الأحزاب: 4 فالحكم المنسوخ حق دائما غير أنه خاص بطائفة خاصة في زمن خاص يجب عليهم أن يؤمنوا به و يعملوا به و يجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل و هذا معنى إقامته و عدم التفرق فيه.

فتبين أن الأمر بإقامة الدين و عدم التفرق فيه في قوله: "أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه" مطلق شامل لجميع الناس في جميع الأزمان.

و بذلك يظهر فساد قول جمع إن الأمر بالإقامة و عدم التفرق إنما يشمل الأحكام المشتركة بين الشرائع دون المختصة فهي أحكام متفاوتة مختلفة باختلاف الأمم من حيث أحوالها و مصالحها.

و ذلك أنه لا موجب لتقييد إطلاق قوله: "أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه" و لو كان كما يقولون كان الأمر بالإقامة مختصا بأصول الدين الثلاثة: التوحيد و النبوة و المعاد، و أما غيرها من الأحكام الفرعية فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه في جميع خصوصياته بين جميع الشرائع و هذا مما يأباه قطعا سياق قوله: "شرع لكم من الدين ما وصى به" إلخ، و مثل قوله: "و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا": المؤمنون: 53 و قوله: "إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم": آل عمران: 19.

و قوله: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه" المراد بقوله: "ما تدعوهم إليه" دين التوحيد الذي كان يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد به الآية التالية، و المراد بكبره على المشركين تحرجهم من قبوله.



و قوله: "الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب" الاجتباء هو الجمع و الاجتلاب، و مقتضى اتساق الضمائر أن يكون ضمير "إليه" الثاني و الثالث راجعا إلى ما يرجع إليه الأول و المعنى الله يجمع و يجتلب إلى دين التوحيد - و هو ما تدعوهم إليه - من يشاء من عباده و يهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء" في معنى قوله: هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم": الحج: 78.

و قيل: الضميران لله تعالى، و لا بأس به لكن ما تقدم هو الأنسب، و على أي حال قوله: "الله يجتبي إليه" إلى آخر الآية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان المشركين المستكبرين للإيمان نظير قوله تعالى: "فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون": حم السجدة: 38.

و قيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الإيمان به و هو الرسالة أي إن رسالتك كبرت عليهم، و قوله: "الله يجتبي" إلخ في معنى قوله: "الله أعلم حيث يجعل رسالته": الأنعام: 124 و هو خلاف الظاهر.

قوله تعالى: "و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم" إلى آخر الآية ضمير "تفرقوا" للناس المفهوم من السياق، و البغي الظلم أو الحسد، و تقييده بقوله: "بينهم" للدلالة على تداوله، و المعنى و ما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم و تركهم الاتفاق إلا حال كون تفرقهم آخذا - أو ناشئا - من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم.

و هذا هو الاختلاف في الدين المؤدي إلى الانشعابات و التحزبات الذي ينسبه الله سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، و أما الاختلاف المؤدي إلى نزول الشريعة و هو الاختلاف في شئون الحياة و التفرق في أمور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف طبائع الناس في مقاصدهم و هو الذريعة إلى نزول الوحي و تشريع الشرع لرفعه كما يشير إليه قوله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين": البقرة: 213 كما تقدم في تفسير الآية.

و قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم" المراد بالكلمة مثل قوله: حين إهباط آدم (عليه السلام) إلى الأرض: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين": البقرة: 36.

و المعنى: و لو لا أن الله قضى فيهم الاستقرار و التمتع في الأرض إلى أجل سماه و عينه لقضي بينهم إثر تفرقهم في دينه و انحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا الذنب العظيم.

و قول القائل: إن الله قد قضى و أهلك كما يقصه في قصص نوح و هود و صالح (عليهما السلام) و قد قال تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط": يونس: 47.

مدفوع بأن ما قصه تعالى من القضاء و الإهلاك إنما هو في أمم الأنبياء في زمانهم من المكذبين بين الرادين عليهم و ما نحن فيه من قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك" الآية في أممهم بعدهم و هو واضح من السياق.

و قوله: "و إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب" ضمير "من بعدهم" لأولئك الذين تفرقوا من بعد علم بغيا بينهم و هم الأسلاف، و الذين أورثوا الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الآية أن البادئين بالاختلاف المؤسسين للتفرقة كانوا على علم من الحق و إنما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، و أخلافهم الذين أورثوا الكتاب من بعدهم في شك مريب - موقع في الريب - منه.

و ما أوردناه في معنى الآية هو الذي يعطيه السياق، و لهم في تفسيرها أقاويل كثيرة لا جدوى في إسقاطها فليرجع في الوقوف عليها إلى كتبهم.

قوله تعالى: "فلذلك فادع و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم" إلى آخر الآية.

تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الأنبياء و أممهم ثم انقسام أممهم إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغيا، و إلى أخلاف شاكين مرتابين فيما أورثوه من الكتاب أي فلأجل أنه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع و لأجل ما ذكر من تفرق بعضهم بغيا و ارتياب آخرين فاستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم.

و اللام في قوله: "فلذلك" للتعليل، و قيل: اللام بمعنى إلى أي إلى ما شرع لكم من الدين فادع و استقم كما أمرت، و الاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج المستقيم، و قوله: "و لا تتبع أهواءهم" كالمفسر له.

و قوله: "و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب" تسوية بين الكتب السماوية من حيث تصديقها و الإيمان بها و هي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع.

و قوله: "و أمرت لأعدل بينكم" قيل: اللام زائدة للتأكيد نظير قوله: "و أمرنا لنسلم لرب العالمين": الأنعام: 71، و المعنى: و أمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم فلا أقدم قويا على ضعيف و لا غنيا على فقير و لا كبيرا على صغير، و لا أفضل أبيض على أسود و لا عربيا على عجمي و لا هاشميا أو قرشيا على غيره فالدعوة متوجهة إلى الجميع، و الناس قبال الشرع الإلهي سواء.

فقوله: "آمنت بما أنزل الله من كتاب" تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها، و قوله: "و أمرت لأعدل بينكم" تسوية بين الناس من حيث الدعوة و توجه ما جاء به من الشرع.

و قيل: اللام في "لأعدل بينكم" للتعليل، و المعنى: و أمرت بما أمرت لأجل أن أعدل بينكم، و كذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، و قيل: العدل في القضاء بينكم، و قيل غير ذلك، و هذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.

و قوله: "الله ربنا و ربكم" إلخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب و الشرائع في الإيمان بها و بين الناس في دعوتهم و شمول الأحكام لهم، و لذا جيء في الكلام بالفصل من غير عطف.

فقوله: "الله ربنا و ربكم" يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى فليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه و يتفاضلوا بالأرباب و يقتصر كل منهم بالإيمان بشريعة ربه بل الله هو رب الجميع و هم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره و الشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده فلا موجب للإيمان ببعضها دون بعض كما يؤمن اليهود بشريعة موسى دون من بعده و كذا النصارى بشريعة عيسى دون محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل الواجب الإيمان بكل كتاب نازل من عنده لأنها جميعا من عنده.

و قوله: "لنا أعمالنا و لكم أعمالكم" يشير إلى أن الأعمال و إن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة و من حيث الجزاء ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها فلكل امرىء ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر و لا يتضرر بعمل غيره فليس له أن يقدم امرأ للانتفاع بعمله أو يؤخر امرأ للتضرر بعمله نعم في الأعمال تفاضل تختلف به درجات العاملين لكن ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبي فمن دونه - الذين هم جميعا عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئا، و هذا هو الذي ذكره تعالى في محاورة نوح (عليه السلام) قومه: "قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون": الشعراء: 113، و كذا قوله يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء": الأنعام: 52.

و قوله: "لا حجة بيننا و بينكم" لعل المراد أنه لا حجة تدل على تقدم بعض على بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدمه عليه.



و يمكن أن يكون نفي الحجة كناية عن نفي لازمها و هو الخصومة أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات لأن ربنا واحد و نحن في أننا جميعا عباده واحد و لكل نفس ما عملت فلا حجة في البين أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة.

و من هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج و لا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة و لا للمخالفة محمل سوى المكابرة و العناد انتهى.

إذ الكلام مسوق لبيان ما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه و في أمته من سنة التسوية لا لإثبات شيء من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها عليه.

و قوله: "الله يجمع بيننا" المراد بضمير التكلم فيه مجموع المتكلم و المخاطب في الجمل السابقة، و المراد بالجمع جمعه تعالى إياهم يوم القيامة للحساب و الجزاء على ما قيل.

و غير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبية فهو رب الجميع و الجميع عباده فيكون قوله: "الله يجمع بيننا" تأكيدا لقوله السابق: "الله ربنا و ربكم" و توطئة و تمهيدا لقوله: "و إليه المصير" و يكون مفاد الجملتين أن الله هو مبدئنا لأنه ربنا جميعا و إليه منتهانا لأنه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلا هو عز اسمه.

و كان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: "الله ربي و ربكم لي عملي و لكم أعمالكم لا حجة بيني و بينكم على محاذاة قوله: "آمنت" "و أمرت لأعدل" لكن عدل عن المتكلم وحده إلى المتكلم مع الغير لدلالة قوله السابق: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" إلخ، و قوله: "الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب" إن هناك قوما يؤمنون بما آمن به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يلبون دعوته و يتبعون شريعته.

فالمراد بالمتكلم مع الغير في "ربنا" و "لنا أعمالنا" و "بيننا" هو (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون به، و بالمخاطبين في قوله: "و ربكم" و "أعمالكم" و "بينكم" سائر الناس من أهل الكتاب و المشركين، و الآية على وزان قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون": آل عمران: 64.

قوله تعالى: "و الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم و عليهم غضب و لهم عذاب شديد" الحجة هي القول الذي يقصد به إثبات شيء أو إبطاله من الحج بمعنى القصد، و الدحض البطلان و الزوال.

و المعنى: - على ما قيل - و الذين يحاجون في الله أي يحتجون على نفي ربوبيته أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب الناس له و دخلوا في دينه لظهور الحجة و وضوح المحجة حجتهم باطلة زائلة عند ربهم و عليهم غضب منه تعالى و لهم عذاب شديد.

و الظاهر أن المراد بالاستجابة له ما هو حق الاستجابة و هو التلقي بالقبول عن علم لا يداخله شك تضطر إليه الفطرة الإنسانية السليمة فإن الدين بما فيه من المعارف فطري تصدقه و تستجيب له الفطرة الحية قال تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله": الأنعام: 36، و قال: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8، و قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها": الروم: 30.

و محصل الآية: على هذا أن الذين يحاجون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجتهم باطلة زائلة عند ربهم و عليهم غضب منه و لهم عذاب شديد لا يقادر قدره.

و يؤيد هذا الوجه بعض التأييد سياق الآيات السابقة حيث تذكر أن الله شرع دينا و وصى به أنبياءه و اجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجة في أن لله دينا يستعبد به عباده داحضة و من الممكن حينئذ أن يكون قوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان" في مقام التعليل و حجة مدحضة لحجتهم فتدبر فيه.

و قيل: ضمير "له" للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و المستجيب أهل الكتاب، و استجابتهم له اعترافهم بورود أوصافه و نعوته في كتبهم و المراد أن محاجتهم في الله بعد اعترافهم له بما اعترفوا حجتهم باطلة عند ربهم.

و قيل: الضمير له (صلى الله عليه وآله وسلم) و المستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، و دعاءه على أهل مكة فابتلاهم بالقحط و السنة، و دعاءه على المستضعفين حتى خلصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاته، و المعنيان بعيدان من السياق.

بحث روائي

في روح المعاني،: في قوله تعالى: "و الذين يحاجون في الله" الآية: عن ابن عباس و مجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام و إضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم و نبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم: و في رواية: بدل "فديننا" إلخ فنحن أولى بالله منكم. و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إذا جاء نصر الله و الفتح قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت: "و الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له" الآية.

أقول: مضمون الآية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجة في القصة، و كذا الخبر السابق لا يفي بتوجيه قوله: "من بعد ما استجيب له".

42 سورة الشورى - 17 - 26

اللّهُ الّذِى أَنزَلَ الْكِتَب بِالحَْقِّ وَ الْمِيزَانَ وَ مَا يُدْرِيك لَعَلّ الساعَةَ قَرِيبٌ (17) يَستَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مُشفِقُونَ مِنهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنّهَا الحَْقّ أَلا إِنّ الّذِينَ يُمَارُونَ فى الساعَةِ لَفِى ضلَلِ بَعِيدٍ (18) اللّهُ لَطِيف بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِى الْعَزِيزُ (19) مَن كانَ يُرِيدُ حَرْث الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فى حَرْثِهِ وَ مَن كانَ يُرِيدُ حَرْث الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنهَا وَ مَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شرَكؤُا شرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ وَ لَوْ لا كلِمَةُ الْفَصلِ لَقُضىَ بَيْنهُمْ وَ إِنّ الظلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظلِمِينَ مُشفِقِينَ مِمّا كسبُوا وَ هُوَ وَاقِعُ بِهِمْ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ فى رَوْضاتِ الْجَنّاتِ لهَُم مّا يَشاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِك هُوَ الْفَضلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِك الّذِى يُبَشرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ قُل لا أَسئَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدّةَ فى الْقُرْبى وَ مَن يَقْترِف حَسنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْترَى عَلى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشإِ اللّهُ يخْتِمْ عَلى قَلْبِك وَ يَمْحُ اللّهُ الْبَطِلَ وَ يحِقّ الحَْقّ بِكلِمَتِهِ إِنّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (24) وَ هُوَ الّذِى يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السيِّئَاتِ وَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَ يَستَجِيب الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ يَزِيدُهُم مِّن فَضلِهِ وَ الْكَفِرُونَ لهَُمْ عَذَابٌ شدِيدٌ (26)

بيان

فصل رابع من الآيات يعرف الوحي الإلهي بأن الدين النازل به كتاب مكتوب على الناس و ميزان يوزن به أعمالهم فيجزون بذلك يوم القيامة، و الجزاء الحسن من الرزق ثم يستطرد الكلام في ما يستقبلهم يوم القيامة من الثواب و العقاب، و فيها آية المودة في القربى و ما يلحق بذلك.

قوله تعالى: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان" إلخ، كان مفتتح الفصول السابقة في سياق الفعل إخبارا عن الوحي و غرضه و آثاره "كذلك يوحي إليك" "و كذلك أوحينا إليك" "شرع لكم من الدين" و قد غير السياق في مفتتح هذا الفصل فجيء بالجملة الاسمية المتضمنة لتوصيفه تعالى بإنزال الكتاب و الميزان "الله الذي أنزل الكتاب" إلخ، و لازمه تعريف الوحي بنزول الكتاب و الميزان به.

و لعل الوجه فيه ما تقدم في الآية السابقة من ذكر المحاجة في الله "و الذين يحاجون في الله" فاستدعى ذلك تعريفه تعالى للمحاجين فيه بأنه الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان، و لازمه تعريف الوحي بأثره كما عرفت.

و كيف كان فالمراد بالكتاب هو الوحي المشتمل على الشريعة و الدين الحاكم في المجتمع البشري، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة" الآية: البقرة: 213 أن هذا المعنى هو المراد بالكتاب في الكتاب، و كون إنزاله بالحق نزوله مصاحبا للحق لا يخالطه اختلاف شيطاني و لا نفساني.

و الميزان ما يوزن و يقدر به الأشياء، و المراد به بقرينة ذيل الآية و الآيات التالية هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به العقائد و الأعمال فتحاسب عليه و يجزي بحسبه الجزاء يوم القيامة فالميزان هو الدين بأصوله و فروعه، و يؤيده قوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان": الحديد: 25، على ما هو ظاهر قوله: "معهم".

و قيل: المراد به العدل و سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف و التسوية بين الناس و العدل كذلك و أيد بسبق ذكر العدل في قوله: "و أمرت لأعدل بينكم".

و فيه أنه لا شاهد يشهد عليه من اللفظ، و قد تقدم أن المراد بالعدل في "لأعدل" هو التسوية بين الناس في التبليغ و في جريان الحكم دون عدل الحاكم و القاضي.

و قيل: المراد به الميزان المعروف المقدر للأثقال.

و هو كما ترى.

و قيل: المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من الوجه لأن النبي مصداق كامل و مثل أعلى للدين بأصوله و فروعه و لكل فرد من أمته من الزنة الدينية قدر ما يشابهه و يماثله لكن لا يلائم هذا الوجه ما تقدم نقله آنفا من آية سورة الحديد كثير ملاءمة.

و قوله: "و ما يدريك لعل الساعة قريب" لما كان الميزان المشعر بالحساب و الجزاء يومىء إلى البعث و القيامة انتقل إلى الكلام فيه و إنذارهم بما سيستقبلهم فيه من الأهوال و التبشير بما أعد فيه للصالحين.



و الإدراء الإعلام، و المراد بالساعة - على ما قيل - إتيانها و لذا جيء بالخبر مذكرا، و المعنى: ما الذي يعلمك لعل إتيان الساعة قريب و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل من له أن يسمع و يعم الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: "يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها و الذين آمنوا مشفقون منها" إلخ المراد استعجالهم استعجال سخرية و استهزاء و قد تكرر في القرآن نقل قولهم: "متى هذا الوعد إن كنتم صادقين".

و الإشفاق نوع من الخوف، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى: "و هم من الساعة مشفقون" فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى: "إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" "مشفقون منها" انتهى.

و قوله: "ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد" المماراة الإصرار على الجدال، و المراد إلحاحهم على إنكارها بالجدال، و إنما كانوا في ضلال بعيد لأنهم أخطئوا طريق الحياة التي أصابتها أهم ما يتصور للإنسان فتوهموها حياة مقطوعة فانية انكبوا فيها على شهوات الدنيا و إنما هي حياة خالده باقية يجب عليهم أن يتزودوا من دنياهم لأخراهم لكنهم ضلوا عن سبيل الرشد فوقعوا في سبيل الغي.

قوله تعالى: "الله لطيف بعباده يرزق من يشاء و هو القوي العزيز" في معنى اللطف شيء من الرفق و سهولة الفعل و شيء من الدقة في ما يقع عليه الفعل فإذا تم الرفق و الدقة و كان الفاعل يفعل برفق و سهولة و يقع فعله على الأمور الدقيقة كان لطيفا كالهواء النافذ في منافذ الأجسام برفق و سهولة المماس لدقائق أجزائها الباطنة.

و إذا ألقيت الخصوصيات المادية عن هذا المعنى صح أن يتصف به الله سبحانه فإنه تعالى ينال دقائق الأمور بإحاطته و علمه و يفعل فيها ما يشاء برفق فهو لطيف.

و قد رتب الرزق في الآية على كونه تعالى لطيفا بعباده قويا عزيزا دلالة على أنه تعالى بلطفه لا يغيب عنه أحد ممن يشاء أن يرزق و لا يعصيه و بقوته عليه لا يعجز عنه و بعزته لا يمنعه مانع عنه.

و المراد بالرزق ما يعم موهبة الدين الذي يتلبس بها من يشاء من عباده على ما يشهد به الآية التالية، و لذا ألحق القول فيه بقوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان".

قوله تعالى: "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه" إلخ، الحرث الزرع و المراد به نتيجة الأعمال التي يؤتاها الإنسان في الآخرة على سبيل الاستعارة كان الأعمال الصالحة بذور و ما تنتجه في الآخرة حرث.

و المراد بالزيادة له في حرثه تكثير ثوابه و مضاعفته، قال تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها": الأنعام: 160، و قال: "و الله يضاعف لمن يشاء": البقرة: 261.

و قوله: "و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب" أي و من كان يريد النتائج الدنيوية بأن يعمل للدنيا و يريد نتيجة ما عمله فيها دون الآخرة نؤته من الدنيا و ما له في الآخرة نصيب، و في التعبير بإرادة الحرث إشارة إلى اشتراط العمل لما يريده من الدنيا و الآخرة كما قال تعالى: "و أن ليس للإنسان إلا ما سعى": النجم: 39.



و قد أبهم ما يعطيه من الدنيا إذ قال: "نؤته منها" إشارة إلى أن الأمر إلى المشية الإلهية فربما بسطت الرزق و ربما قدرت كما قال تعالى: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد": إسراء: 18.

و الالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله "نزد له" و "نؤته منها" للدلالة على العظمة التي يشعر بها قوله: "و هو القوي العزيز".

و المحصل من معنى الآيتين: أن الله سبحانه لطيف بعباده جميعا ذو قوة مطلقة و عزة مطلقة يرزق عباده على حسب مشيته و قد شاء في من أراد الآخرة و عمل لها أن يرزقه منها و يزيد فيه، و فيمن أراد الدنيا و عمل لها فحسب أن يؤتيه منها و ما له في الآخرة من نصيب.

و يظهر من ذلك أن الآية الأولى عامة تشمل الفريقين، و المراد بالعباد ما يعم أهل الدنيا و الآخرة، و كذا الرزق و أن الآية الثانية في مقام تفصيل ما في قوله: "يرزق من يشاء" من الإجمال.

قوله تعالى: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" إلى آخر الآية لما بين أن الله سبحانه هو الذي أنزل الكتاب بالحق و شرع لهم الدين الذي هو ميزان أعمالهم و أنه بلطفه و قوته و عزته يرزق من أراد الآخرة و عمل لها ما أراده منها و يزيد، و إن من أراد الدنيا و نسي الآخرة لا نصيب له فيها سجل على من كفر بالآخرة عدم النصيب فيها بإنكار أن لا دين غير ما شرعه الله يدين به هؤلاء حتى يرزقوا بالعمل به مثل ما يرزق أهل الإيمان بالآخرة فيها إذ لا شريك لله حتى يشرع دينا غير ما شرعه الله من غير إذن منه تعالى فلا دين إلا لله و لا يرزق في الآخرة رزقا حسنا إلا من آمن بها و عمل لها.

فقوله: "أم لهم شركاء" إلخ، في مقام الإنكار، و قوله: "و لو لا كلمة الفصل لقضي بينهم" إشارة إلى الكلمة التي سبقت منه تعالى أنهم يعيشون في الأرض إلى أجل مسمى، و فيه إكبار لجرمهم و معصيتهم.

و قوله: "و إن الظالمين لهم عذاب أليم" وعيد لهم على ظلمهم، و إشارة إلى أنهم لا يفوتونه تعالى فإن لم يقض بينهم و لم يعذبهم في الدنيا فلهم في الآخرة عذاب أليم.

قوله تعالى: "ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا و هو واقع بهم" إلخ، الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل من من شأنه أن يرى، و المراد بالظالمين التاركون لدين الله الذي شرعه لعباده المعرضون عن الساعة، و المعنى: يرى الراءون هؤلاء الظالمين يوم القيامة خائفين مما كسبوا من السيئات و هو واقع بهم لا مناص لهم عنه.

و الآية من الآيات الظاهرة في تجسم الأعمال، و قيل: في الكلام مضاف محذوف و التقدير مشفقين من وبال ما كسبوا، و لا حاجة إليه.

و قوله: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنات" في المجمع،: أن الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات، و الجنة الأرض التي تحفها الشجر فروضات الجنات الحدائق المشجرة المخضرة متونها.

و قوله: "لهم ما يشاءون عند ربهم" أي إن نظام الأسباب مطوي فيها بل السبب الوحيد هو إرادتهم وحدها يخلق الله لهم من عنده ما يشاءون ذلك هو الفضل الكبير.

و قوله: "ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات" تبشير للمؤمنين الصالحين، و إضافة العباد تشريفية.



قوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" الذي نفي سؤال الأجر عليه هو تبليغ الرسالة و الدعوة الدينية، و قد حكى الله ذلك عن عدة ممن قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرسل كنوح و هود و صالح و لوط و شعيب فيما حكي مما يخاطب كل منهم أمته: "و ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين" الشعراء و غيرها.

و قد حكي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إذ قال: "و ما تسألهم عليه من أجر": يوسف: 104، و قد أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب الناس بذلك بتعبيرات مختلفة حيث قال: "قل ما أسألكم عليه من أجر": ص 86، و قال: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله": سبأ: 47، و قال: "قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين": الأنعام: 90، فأشار إلى وجه النفي و هو أنه ذكرى للعالمين لا يختص ببعض دون بعض حتى يتخذ عليه الأجر.

و قال: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا": الفرقان: 57، و معناه على ما مر في تفسير الآية: إلا أن يشاء أحد منكم أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي يستجيب دعوتي باختياره فهو أجري أي لا شيء هناك وراء الدعوة أي لا أجر.

و قال تعالى في هذه السورة: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" فجعل أجر رسالته المودة في القربى، و من المتيقن من مضامين سائر الآيات التي في هذا المعنى أن هذه المودة أمر يرجع إلى استجابة الدعوة إما استجابة كلها و إما استجابة بعضها الذي يهتم به و ظاهر الاستثناء على أي حال أنه متصل بدعوى كون المودة من الأجر و لا حاجة إلى ما تمحله بعضهم بتقريب الانقطاع فيه.

و أما معنى المودة في القربى فقد اختلف فيه تفاسيرهم: فقيل - و نسب إلى الجمهور - أن الخطاب لقريش و الأجر المسئول هو مودتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقرابته منهم و ذلك لأنهم كانوا يكذبونه و يبغضونه لتعرضه لآلهتهم على ما في بعض الأخبار فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم: إن لم يؤمنوا به فليودوه لمكان قرابته منهم و لا يبغضوه و لا يؤذوه فالقربى مصدر بمعنى القرابة، و في للسببية.

و فيه أن معنى الأجر إنما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مال و نحوه فسؤال الأجر من قريش و هم كانوا مكذبين له كافرين بدعوته إنما كان يصح على تقدير إيمانهم به (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم على تقدير تكذيبه و الكفر بدعوته لم يأخذوا منه شيئا حتى يقابلوه بالأجر، و على تقدير الإيمان به - و النبوة أحد الأصول الثلاثة في الدين - لا يتصور بغض حتى تجعل المودة أجرا للرسالة و يسأل.

و بالجملة لا تحقق لمعنى الأجر على تقدير كفر المسئولين و لا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم حتى يسألوا المودة.

و هذا الإشكال وارد حتى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعا فإن سؤال الأجر منهم على أي حال إنما يتصور على تقدير إيمانهم و الاستدراك على الانقطاع إنما هو عن الجملة بجميع قيودها فأجد التأمل فيه.

و قيل: المراد بالمودة في القربى ما تقدم و الخطاب للأنصار فقد قيل: إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت الآية فرده، و قد كان له منهم قرابة من جهة سلمى بنت زيد النجارية و من جهة أخوال أمه آمنة على ما قيل.



و فيه أن أمر الأنصار في حبهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضح من أن يرتاب فيه ذو ريب و هم الذين سألوه أن يهاجر إليهم، و بوءوا له الدار، و فدوه بالأنفس و الأموال و البنين و بذلوا كل جهدهم في نصرته و حتى في الإحسان على من هاجر إليهم من المؤمنين به، و قد مدحهم الله تعالى بمثل قوله: "و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفهسم و لو كان بهم خصاصة": الحشر: 9، و هذا مبلغ حبهم للمهاجرين إليهم لأجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما هو الظن في حبهم له؟.

و إذا كان هذا مبلغ حبهم فما معنى أن يؤمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوسل إلى مودتهم بقرابته منهم هذه القرابة البعيدة؟.

على أن العرب ما كانت تعتني بالقرابة من جهة النساء ذاك الاعتناء و فيهم القائل: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.

بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

و القائل: و إنما أمهات الناس أوعية.

مستودعات و للأنساب آباء.

و إنما هو الإسلام أدخل النساء في القرابة و ساوى بين أولاد البنين و أولاد البنات و قد تقدم الكلام في ذلك.

و قيل: الخطاب لقريش و المودة في القربى هي المودة بسبب القرابة غير أن المراد بها مودة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا مودة قريش كما في الوجه الأول، و الاستثناء منقطع، و محصل المعنى: أني لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الهدى الذي ينتهي بكم إلى روضات الجنات و الخلود فيها و لا أطلب منكم جزاء لكن حبي لكم بسبب قرابتكم مني دفعني إلى أن أهديكم إليه و أدلكم عليه.

و فيه أنه لا يلائم ما يخده الله سبحانه له (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق الدعوة و الهداية فإنه تعالى يسجل عليه في مواضع كثيرة من كلامه أن الأمر في هداية الناس إلى الله و ليس له من الأمر شيء و أن ليس له أن يحزن لكفرهم و ردهم دعوته و إنما عليه البلاغ فلم يكن له أن يندفع إلى هداية أحد لحب قرابة أو يعرض عن هداية آخرين لبغض أو كراهة و مع ذلك كله كيف يتصور أن يأمره الله بقوله: "قل لا أسألكم" الآية أن يخبر كفار قريش أنه إنما اندفع إلى دعوتهم و هدايتهم بسبب حبه لهم لقرابتهم منه لا لأجر يسألهم إياه عليه.

و قيل: المراد بالمودة في القربى مودة الأقرباء و الخطاب لقريش أو لعامة الناس و المعنى: لا أسألكم على دعائي أجرا إلا أن تودوا أقرباءكم.

و فيه أن مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست مما يندب إليه في الإسلام قال تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22، و سياق هذه الآية لا يلائم كونها مخصصة أو مقيدة لعموم قوله: "إلا المودة في القربى" أو إطلاقه حتى تكون المودة للأقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة على أن هذه المودة الخاصة لا تلائم خطاب قريش أو عامة الناس.

بل الذي يفيده سياق الآية أن الذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله من غير أن يكون للقرابة خصوصية في ذلك، نعم هناك اهتمام شديد بأمر القرابة و الرحم لكنه بعنوان صلة الرحم و إيتاء المال، على حبه ذوي القربى لا بعنوان مودة القربى فلا حب إلا لله عز اسمه.

و لا مساغ للقول بأن المودة في القربى في الآية كناية عن صلتهم و الإحسان إليهم بإيتاء المال إذ ليس في الكلام ما يدفع كون المراد هو المعنى الحقيقي غير الملائم لما ندب إليه الإسلام من الحب في الله.



و قيل: معنى القربى هو التقرب إلى الله، و المودة في القربى هي التودد إليه تعالى بالطاعة و التقرب فالمعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توددوا إليه تعالى بالتقرب إليه.

و فيه أن في قوله: "إلا المودة في القربى" على هذا المعنى إبهاما لا يصلح به أن يخاطب به المشركون فإن حاق مدلوله التودد إليه - أو وده تعالى - بالتقرب إليه و المشركون لا ينكرون ذلك بل يرون ما هم عليه من عبادة الآلهة توددا إليه بالتقرب منه فهم القائلون على ما يحكيه القرآن عنهم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى": الزمر: 3، "هؤلاء شفعاؤنا عند الله": يونس: 18.

فسؤال التودد إلى الله بالتقرب إليه من غير تقييده بكونه بعبادته وحده، و جعل ذلك أجرا مطلوبا ممن يرى شركة نوع تودد إلى الله بالتقرب إليه، و خطابهم بذلك على ما فيه من الإبهام - و المقام مقام تمحيضه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في دعوتهم إلى دين التوحيد لا يسألهم لنفسه شيئا قط - مما لا يرتضيه الذوق السليم.

على أن المستعمل في الآية هو المودة دون التودد فالمراد بالمودة حبهم لله في التقرب إليه و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه و إن ورد العكس كما في قوله: "إن ربي رحيم ودود": هود: 90، و قوله: "و هو الغفور الودود": البروج: 14، و لعل ذلك لما في لفظ المودة من الإشعار بمراعاة حال المودود و تعاهده و تفقده، حتى قال بعضهم - على ما حكاه الراغب - أن مودة الله لعباده مراعاته لهم.

و الإشكال السابق على حاله و لو فسرت المودة في القربى بموادة الناس بعضهم بعضا و محابتهم في التقرب إلى الله بأن تكون القربات أسبابا للمودة و الحب فيما بينهم فإن للمشركين ما يماثل ذلك فيما بينهم على ما يعتقدون.

و قيل: المراد بالمودة في القربى، مودة قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم عترته من أهل بيته (عليهم السلام) و قد وردت به روايات من طرق أهل السنة و تكاثرت الأخبار من طرق الشيعة على تفسير الآية بمودتهم و موالاتهم، و يؤيده الأخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت (عليهم السلام) و محبتهم.

ثم التأمل الكافي في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتضمنة لإرجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين و فروعها و بيان حقائقه إلى أهل البيت (عليهم السلام) كحديث الثقلين و حديث السفينة و غيرهما لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم و جعلها أجرا للرسالة إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إليهم فيما كان لهم من المرجعية العلمية.

فالمودة المفروضة على كونها أجرا للرسالة لم تكن أمرا وراء الدعوة الدينية من حيث بقائها و دوامها، فالآية في مؤداها لا تغاير مؤدى سائر الآيات النافية لسؤال الأجر.

و يئول معناها إلى أني لا أسألكم عليه أجرا إلا أن الله لما أوجب عليكم مودة عامة المؤمنين و من جملتهم قرابتي فإني أحتسب مودتكم لقرابتي و أعدها أجرا لرسالتي، قال تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا": مريم: 96 و قال: "و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض": التوبة: 71.



و بذلك يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا و يسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم و قراباتهم.

و أيضا فيه منافاة لقوله تعالى: "و ما تسألهم عليه من أجر": يوسف: 104.

وجه الفساد أن إطلاق الأجر عليها و تسميتها به إنما هو بحسب الدعوى و أما بحسب الحقيقة فلا يزيد مدلول الآية على ما يدل عليه الآيات الآخر النافية لسؤال الأجر كما عرفت و ما في ذلك من النفع عائد إليهم فلا مورد للتهمة.

على أن الآية على هذا مدنية خوطب بها المسلمون و ليس لهم أن يتهموا نبيهم المصون بعصمة إلهية - بعد الإيمان به و تصديق عصمته - فيما يأتيهم به من ربهم و لو جاز اتهامهم له في ذلك و كان ذلك غير مناسب لشأن النبوة لا يصلح لأن يخاطب به، لاطرد مثل ذلك في خطابات كثيرة قرآنية كالآيات الدالة على فرض طاعته المطلقة و الدالة على كون الأنفال و الغنائم لله و لرسوله، و الدالة على خمس ذوي القربى، و ما أبيح له في أمر النساء و غير ذلك.

على أنه تعالى تعرض لهذه التهمة و دفعها في قوله الآتي: "أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك" الآية على ما سيأتي.

و هب أنا صرفنا الآية عن هذا المعنى بحملها على غيره دفعا لما ذكر من التهمة فما هو الدافع لها عن الأخبار التي لا تحصى كثرة الواردة من طرق الفريقين في إيجاب مودة أهل البيت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

و أما منافاة هذا الوجه لقوله تعالى: "و ما تسألهم عليه من أجر" فقد اتضح بطلانه مما ذكرناه، و الآية بقياس مدلولها إلى الآيات النافية لسؤال الأجر نظيره قوله تعالى: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا": الفرقان: 57.

قال في الكشاف بعد اختياره هذا الوجه: فإن قلت: هلا قيل: إلا مودة القربى أو إلا المودة للقربى، و ما معنى قوله: إلا المودة في القربى؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة و مقرا لها كقولك: لي في آل فلان مودة، و لي فيهم هوى و حب شديد، تريد أحبهم و هم مكان حبي و محله.

قال: و ليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى.

إنما هي متعلقه بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، و تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى و متمكنة فيها.

انتهي.

قوله تعالى: "و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور" الاقتراف الاكتساب، و الحسنة الفعلة التي يرتضيها الله سبحانه و يثيب عليها، و حسن العمل ملاءمته لسعادة الإنسان و الغاية التي يقصدها كما أن مساءته و قبحه خلاف ذلك، و زيادة حسنها إتمام ما نقص من جهاتها و إكماله و من ذلك الزيادة في ثوابها كما قال تعالى: "و لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون": العنكبوت: 7، و قال: "ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله": النور: 38.

و المعنى: و من يكتسب حسنة نزد له في تلك الحسنة حسنا - برفع نقائصها و زيادة أجرها - إن الله غفور يمحو السيئات شكور يظهر محاسن العمل من عامله.



و قيل: المراد بالحسنة مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يؤيده ما في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن قوله: "قل لا أسألكم عليه أجرا" إلى تمام أربع آيات نزلت في مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لازم ذلك كون الآيات مدنية و أنها ذات سياق واحد و أن المراد بالحسنة من حيث انطباقها على المورد هي المودة، و على هذا فالإشارة بقوله: "أم يقولون افترى" إلخ، إلى بعض ما تفوه به المنافقون تثاقلا عن قبوله و في المؤمنين سماعون لهم، و بقوله: "و هو الذي يقبل التوبة" إلى آخر الآيتين إلى توبة الراجعين منهم و قبولها.

و في قوله: "إن الله غفور شكور" التفات من التكلم إلى الغيبة و الوجه فيه الإشارة إلى علة الاتصاف بالمغفرة و الشكر فإن المعنى: أن الله غفور شكور لأنه الله عز اسمه.

قوله تعالى: "أم يقولون افترى على الله كذبا" إلى آخر الآية أم منقطعة، و الكلام مسوق للتوبيخ و لازمه إنكار كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مفتريا على الله كذبا.

و قوله: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" معناه على ما يعطيه السياق أنك لست مفتريا على الله كذبا فإنه ليس لك من الأمر شيء حتى تشاء الفرية فتأتي بها و إنما هو وحي من الله سبحانه من غير أن يكون لك فيه صنع و الأمر إلى مشيته تعالى فإن يشأ يختم على قلبك و سد باب الوحي إليك، لكنه شاء أن يوحي إليك و يبين الحق، و قد جرت سنته أن يمحو الباطل و يحق الحق بكلماته.

فقوله: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" كناية عن إرجاع الأمر إلى مشية الله و تنزيه لساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي بشيء من عنده.

و هذا المعنى - كما سترى - أنسب للسياق بناء على كون المراد بالقربى قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و التوبيخ متوجها إلى المنافقين و مرضي القلوب.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخر: منها: ما ذكره الزمخشري في الكشاف حيث فسر قوله: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" بقوله: فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يفتري على الله الكذب إلا من كان في مثل حالهم.

و هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله و أنه في البعد مثل الشرك بالله و الدخول في جملة المختوم على قلوبهم، و مثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلني لعل الله أعمى قلبي و هو لا يريد إثبات الخذلان و عمى القلب و إنما يريد استبعاد أن يخون مثله و التنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.

انتهي.

و منها ما قيل: إن المعنى لو حدثت نفسك بأن تفتري على الله الكذب لطبع الله على قلبك و لأنساك القرآن فكيف تقدر أن تفتري على الله، و هذا كقوله: "لئن أشركت ليحبطن عملك".

و منها ما قيل: إن معناه فإن يشإ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم: إنه مفتر و ساحر، و هي وجوه لا تخلو من ضعف.

و منها ما قيل: إن المعنى فإن يشإ الله يختم على قلبك كما ختم على قلوبهم و هو تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليشكر ربه على ما آتاه من النعمة.

و منها ما قيل: إن المعنى فإن يشإ الله يختم على قلوب الكفار و على ألسنتهم و يعاجلهم بالعذاب، و عدل عن الغيبة إلى الخطاب و عن الجمع إلى الإفراد، و المراد: يختم على قلبك أيها القائل: أنه افترى على الله كذبا.

و قوله: "و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته" الإتيان بالمضارع - يمحو و يحق - للدلالة على الاستمرار، فمحو الباطل و إحقاق الحق بالكلمات سنة جارية له تعالى و المراد بالكلمات ما ينزل على الأنبياء من الوحي الإلهي و التكليم الربوبي و يمكن أن يكون المراد نفوس الأنبياء من حيث أنها مفصحة عن الضمير الغيبي.



و قوله: "إنه عليم بذات الصدور" تعليل لقوله: "و يمح الله الباطل إلخ أي أنه يمحو الباطل و يحق الحق بكلماته لأنه عليم بالقلوب و ما انطوت عليه فيعلم ما تستدعيه من هدى أو ضلال أو شرح أو ختم بإنزال الوحي و توجيه الدعوة.

قيل: و في الآية إشعار بوعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصر و لا يخلو من وجه.

قوله تعالى: "و هو الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفوا عن السيئات و يعلم ما تفعلون" يقال: قبل منه و قبل عنه قال في الكشاف: يقال: قبلت منه الشيء و قبلته عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه و جعلته مبدأ قبولي و منشأه، و معنى قبلته عنه عزلته و أبنته عنه.

انتهي.

و في قوله: "و يعلم ما تفعلون" تحضيض على التوبة و تحذير عن اقتراف السيئات و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله و الكافرون لهم عذاب شديد" فاعل "يستجيب" ضمير راجع إليه تعالى و "الذين آمنوا" إلخ، في موضع المفعول بنزع الخافض و التقدير و يستجيب للذين - آمنوا على ما قيل - و قيل: فاعل "يستجيب" هو "الذين" و هو بعيد من السياق.

و الاستجابة إجابة الدعاء و لما كانت العبادة دعوة له تعالى عبر عن قبولها بالاستجابة لهم، و الدليل على هذا المعنى قوله: "و يزيدهم من فضله" فإن ظاهره زيادة الثواب و كذا مقابلة استجابة المؤمنين بقوله: "و الكافرون لهم عذاب شديد".

و قيل: المراد أنه يستجيب لهم إذا دعوه و أعطاهم ما سألوه و زادهم على ما طلبوه و هو بعيد من السياق.

على أن استجابة الدعاء لا يختص بالمؤمن.

بحث روائي

في المجمع، روى زادان عن علي (عليه السلام) قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن. ثم قرأ "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى".

قال الطبرسي: و إلى هذا أشار الكميت في قوله: وجدنا لكم في آل حم آية.

تأولها منا تقي و معرب.

و فيه، و صح عن الحسن بن علي (عليهما السلام): أنه خطب الناس فقال في خطبته: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى".

و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجرا - إلا المودة في القربى" قال: هم الأئمة.

أقول: و الأخبار في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة جدا مروية عنهم.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن مردويه من طريق طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "إلا المودة في القربى" فقال سعيد بن جبير: هم قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: إلا أن تصلوا ما بيني و بينكم من القرابة.: أقول: و رواه أيضا عن ابن عباس بطرق أخرى غير هذا الطريق، و قد تقدم في بيان الآية أن هذا المعنى غير مستقيم و لا منطبق على سياق الآية، و من العجيب ما في بعض هذه الطرق أن الآية منسوخة بقوله تعالى: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله".



و فيه، أخرج أبو نعيم و الديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أن تحفظوني في أهل بيتي و تودوهم لي.

و فيه، أخرج ابن المنذر، و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية "قل لا أسألكم عليه أجرا - إلا المودة في القربى" قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم قال: علي و فاطمة و ولداها:. أقول: و رواه الطبرسي في المجمع،: و فيها "و ولدها" مكان "و ولداها".

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم و استأصلكم فقال له علي بن الحسين: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أ قرأت آل حم؟ قال: نعم قال: أ ما قرأت "قل لا أسألكم عليه أجرا - إلا المودة في القربى"؟ قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "و من يقترف حسنة" قال: المودة لآل محمد: أقول: و روي ما في معناه في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله عز و جل: "قل لا أسألكم عليه أجرا - إلا المودة في القربى" يعني في أهل بيته. قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إنا قد آوينا و نصرنا فخذ طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك فأنزل الله عز و جل "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" أي في أهل بيته. ثم قال: أ لا ترى أن الرجل يكون له صديق و في نفس ذلك الرجل شيء على أهل بيته فلا يسلم صدره فأراد الله عز و جل أن لا يكون في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء على أمته ففرض الله عليهم المودة في القربى فإن أخذوا أخذوا مفروضا، و إن تركوا تركوا مفروضا. قال: فانصرفوا من عنده و بعضهم يقول: عرضنا عليه أموالنا فقال: لا. قاتلوا عن أهل بيتي من بعدي، و قال طائفة: ما قال هذا رسول الله و جحدوه و قالوا كما حكى الله عز و جل: "أم يقولون افترى على الله كذبا" فقال عز و جل: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" قال: لو افتريت "و يمح الله الباطل" يعني يبطله "و يحق الحق بكلماته" يعني بالأئمة و القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) "إنه عليم بذات الصدور":. أقول: و روى قصة الأنصار السيوطي في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه من طريق ابن جبير و ضعفه.

42 سورة الشورى - 27 - 50

وَلَوْ بَسط اللّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فى الأَرْضِ وَ لَكِن يُنزِّلُ بِقَدَرٍ مّا يَشاءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الّذِى يُنزِّلُ الْغَيْث مِن بَعْدِ مَا قَنَطوا وَ يَنشرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلىّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ ءَايَتِهِ خَلْقُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَث فِيهِمَا مِن دَابّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَ مَا أَصبَكم مِّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسبَت أَيْدِيكمْ وَ يَعْفُوا عَن كَثِيرٍ (30) وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فى الأَرْضِ وَ مَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ ءَايَتِهِ الجَْوَارِ فى الْبَحْرِ كالأَعْلَمِ (32) إِن يَشأْ يُسكِنِ الرِّيحَ فَيَظلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلى ظهْرِهِ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّكلِّ صبّارٍ شكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسبُوا وَ يَعْف عَن كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الّذِينَ يجَدِلُونَ فى ءَايَتِنَا مَا لهَُم مِّن محِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شىْءٍ فَمَتَعُ الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ مَا عِندَ اللّهِ خَيرٌ وَ أَبْقَى لِلّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَلى رَبهِمْ يَتَوَكلُونَ (36) وَ الّذِينَ يجْتَنِبُونَ كَبَئرَ الاثمِ وَ الْفَوَحِش وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الّذِينَ استَجَابُوا لِرَبهِمْ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ أَمْرُهُمْ شورَى بَيْنهُمْ وَ مِمّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَ الّذِينَ إِذَا أَصابهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَ جَزؤُا سيِّئَةٍ سيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَ أَصلَحَ فَأَجْرُهُ عَلى اللّهِ إِنّهُ لا يحِب الظلِمِينَ (40) وَ لَمَنِ انتَصرَ بَعْدَ ظلْمِهِ فَأُولَئك مَا عَلَيهِم مِّن سبِيلٍ (41) إِنّمَا السبِيلُ عَلى الّذِينَ يَظلِمُونَ النّاس وَ يَبْغُونَ فى الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ أُولَئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَن صبرَ وَ غَفَرَ إِنّ ذَلِك لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43) وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَ تَرَى الظلِمِينَ لَمّا رَأَوُا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِّن سبِيلٍ (44) وَ تَرَاهُمْ يُعْرَضونَ عَلَيْهَا خَشِعِينَ مِنَ الذّلِّ يَنظرُونَ مِن طرْفٍ خَفِىٍّ وَ قَالَ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّ الخَْسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا إِنّ الظلِمِينَ فى عَذَابٍ مّقِيمٍ (45) وَ مَا كانَ لهَُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصرُونَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن سبِيلٍ (46) استَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا لَكُم مِّن مّلْجَإٍ يَوْمَئذٍ وَ مَا لَكُم مِّن نّكيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضوا فَمَا أَرْسلْنَك عَلَيهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْك إِلا الْبَلَغُ وَ إِنّا إِذَا أَذَقْنَا الانسنَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بهَا وَ إِن تُصِبهُمْ سيِّئَةُ بِمَا قَدّمَت أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الانسنَ كَفُورٌ (48) لِّلّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يخْلُقُ مَا يَشاءُ يهَب لِمَن يَشاءُ إِنَثاً وَ يَهَب لِمَن يَشاءُ الذّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَ إِنَثاً وَ يجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيماً إِنّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

1809 18

بيان

صدر الآيات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله: "الله لطيف بعباده يرزق من يشاء" و قد سبقه قوله: "له مقاليد السماوات و الأرض يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر" و قد تقدمت الإشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين و بهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة و انعطف عليه انعطافا بعد انعطاف.

ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات و الأرض و بث الدواب فيهما و السفائن الجواري في البحر و إيتاء الأولاد الذكور و الإناث أو إحداهما لمن يشاء و جعل من يشاء عقيما.

ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا و هو متاعها الفاني بفنائها و منه ما يخص المؤمنين في الآخرة و هو خير و أبقى، و ينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين و حسن عاقبتهم و إلى وصف ما يلقاه الظالمون و هم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة و عذاب الآخرة.

و وراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام و الإنذار و التخويف و الدعوة إلى الحق و حقائق المعارف شيء كثير.

قوله تعالى: "و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض و لكن ينزل بقدر ما يشاء أنه بعباده خبير بصير" القدر مقابل البسط معناه التضييق و منه قوله السابق: "يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر" و القدر بفتح الدال و سكونها كمية الشيء و هندسته و منه قوله: "و لكن ينزل بقدر ما يشاء" أو جعل الشيء على كمية معينة و منه قوله: "فقدرنا فنعم القادرون": المرسلات: 23.

و البغي الظلم، و قوله: "بعباده" من وضع الظاهر موضع الضمير، و النكتة فيه الإشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم و ذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له، و كذا قوله السابق: "لعباده" لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق و ذلك أنهم عباده و رزق العبد على مولاه.

و معنى الآية: و لو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في الأرض - لما أن من طبع سعة المال الأشر و البطر و الاستكبار و الطغيان كما قال تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى": العلق: 7 - و لكن ينزل ما يشاء من الرزق بقدر و كمية معينة أنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد و ما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك.

ففي قوله: "و لكن ينزل بقدر ما يشاء" بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، و لا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين و نماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة و هي سنة الابتلاء و الامتحان، قال تعالى: "إنما أموالكم و أولادكم فتنة": التغابن: 15، و سنة أخرى هي سنة المكر و الاستدراج، قال تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يشعرون و أملي لهم إن كيدي متين": الأعراف: 183.



فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال: "و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم": آل عمران: 154 أو يغير النعمة و يكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الرعد: 11.

و كما أن إيتاء المال و البنين و سائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقة و الشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها و من حيث الابتلاء بها و التلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم.

فلو نزلت المعارف و الأحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة و الشمول لجميع شئون الحياة الإنسانية - لشقت على الناس و لم يؤمن بها إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا و على مكث و هيأ بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى: "و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث": إسراء: 106.

و كذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لو لم يضرب عليها بالحجاب و بينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها و دفعته أفهامهم إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل على قدر فهمه و سعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها": الرعد: 17.

و كذلك الأحكام و التكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا منها و لم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه التكاليف المتنوعة بينهم.

فالرزق بالمعارف و الشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس مقدر على حسب صلاح حالهم.

قوله تعالى: "و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا و ينشر رحمته و هو الولي الحميد" القنوط اليأس، و الغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعا في وقته، و المطر قد يكون نافعا و قد يكون ضارا في وقته و غير وقته.

انتهي.

و نشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات و إخراج الثمار التي يكون سببها المطر.

و في الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالأرزاق، و يتلوها في هذا المعنى آيات، و تذييل الآية بالاسمين: الولي الحميد و هما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل.

قوله تعالى: "و من آياته خلق السماوات و الأرض و ما بث فيهما من دابة" إلخ، البث التفريق، و يقال: بث الريح التراب إذا أثاره، و الدابة كل ما يدب على الأرض فيعم الحيوانات جميعا، و المعنى ظاهر.

و ظاهر الآية أن في السماوات خلقا من الدواب كالأرض، و قول بعضهم: إن ما في السموات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود.

و قوله: "و هو على جمعهم إذا يشاء قدير" إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة و قد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق، و لا دلالة في قوله: "على جمعهم" حيث أتى بضمير أولي العقل على كون ما في السماوات من الدواب أولي عقل كالإنسان لقوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون": الأنعام: 38.



و القدير من أسمائه تعالى الحسنى و هو الذي أركزت فيه القدرة و ثبتت، قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، و إذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، و محال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى و إن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال: قادر على كذا، و متى قيل: هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد، و لهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا و يصح أن يوصف بالعجز من وجه و الله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه.

و القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه و لا ناقصا عنه و لذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: "إنه على ما يشاء قدير"، و المقتدر يقاربه نحو "عند مليك مقتدر" لكن قد يوصف به البشر، و إذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير و إذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف و المكتسب للقدرة، انتهى.

و هو حسن غير أن في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة و العلم و القدرة لها معان إيجابية هي عين الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت و العلم بمعنى انتفاء الجهل و القدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون و لازمه خلو الذات عن صفات الكمال.

فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، و لازم هذا المعنى الإيجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى.

قوله تعالى: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير" المصيبة النائبة تصيب الإنسان كأنها تقصده، و المراد بما كسبت أيديكم المعاصي و السيئات، و قوله: "و يعفوا عن كثير" أي عن كثير مما كسبت أيديكم و هي السيئات.

و الخطاب في الآية اجتماعي موجه إلى المجتمع غير منحل إلى خطابات جزئية و لازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط و الغلاء و الوباء و الزلازل و غير ذلك.

فيكون المراد أن المصائب و النوائب التي تصيب مجتمعكم و يصابون بها إنما تصيبكم بسبب معاصيكم و الله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها.

فالآية في معنى قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون": الروم: 41، و قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا": الأعراف: 96، و قوله: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الرعد: 11، و غير ذلك من الآيات الدالة على أن بين أعمال الإنسان و بين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى المجتمع الإنساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد و العمل لنزلت عليه الخيرات و فتحت عليه البركات و لو أفسدوا أفسد عليهم.

هذا ما تقتضيه هذه السنة الإلهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أو سنة الاستدراج و الإملاء فينقلب الأمر، قال تعالى: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مس آباءنا السراء و الضراء فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون": الأعراف: 95.

و يمكن أن يكون الخطاب في الآية عاما منحلا إلى خطابات الأفراد فيكون ما يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه و ما يتعلق به مستندا إلى معصية أتى بها و سيئة عملها و يعفو الله عن كثير منها.



و كيف كان فالخطاب في الآية لعامة الناس من المؤمن و الكافر و هو الذي يفيده السياق و تؤيده الآية التالية هذا أولا، و المراد بما كسبته الأيدي المعاصي و السيئات دون مطلق الأعمال، و هذا ثانيا، و المصائب التي تصيب إنما هي آثار الأعمال في الدنيا لما بين الأعمال و بينها من الارتباط و التداعي دون جزاء الأعمال و هذا ثالثا.

و بما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الآية بالمصائب النازلة على الأنبياء (عليهم السلام) و هم معصومون لا معصية لهم، المصائب النازلة على الأطفال و المجانين و هم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الآية بمصائب الأنبياء و مصائب الأطفال و المجانين.

وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله: "فبما كسبت أيديكم" دليل على أن الخطاب في الآية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين و غير المكلفين من رأس فعدم شمول الآية لهم من باب التخصص دون التخصيص.

و ثانيا ما قيل: إن مقتضى الآية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون عليها بإصابة المصائب و ما يعفى عنها.

وجه الاندفاع أن الآية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي و كون المعاصي ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الإنسان و لا يخطىء و منها ما يعفى عنه فلا يصيب لأسباب صارفة و حكم مانعة كصلة الرحم و الصدقة و دعاء المؤمن و التوبة و غير ذلك مما وردت به الأخبار، و أما جزاء الأعمال فالآية غير ناظرة إليه كما تقدم.

على أن الخطاب في الآية يعم المؤمن و الكافر كما تقدمت الإشارة إليه، و لا معنى لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن و عدمها في الكافر.

و بعد هذا كله فالوجه الأول هو الأوجه.

قوله تعالى: "و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير"، معنى الآية ظاهر و هي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا تصيبكم المصائب لذنوبكم و ليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم المصائب و لا نصير ينصركم و يعينكم على دفعها.

قوله تعالى: "و من آياته الجوار في البحر كالأعلام"، الجواري جمع جارية و هي السفينة، و الأعلام جمع علم و هو العلامة و يسمى به الجبل و شبهت السفائن بالجبال لعظمها و ارتفاعها و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره" إلخ، ضمير "يشأ" لله تعالى، و ظل بمعنى صار، و "رواكد" جمع راكدة و هي الثابتة في محلها و المعنى: إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت على ظهر البحر.

و قوله: "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" أصل الصبر الحبس و أصل الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، و المعنى: أن فيما ذكر من أمر الجواري من كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس و أمتعتهم من ساحل إلى ساحل لآيات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه و اشتغل بالتفكر في نعمه و التفكر في النعمة من الشكر.

و قيل: المراد بكل صبار شكور المؤمن لأن المؤمن لا يخلو من أن يكون في الضراء أو في السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين و إن كان في السراء كان من الشاكرين.



قوله تعالى: "أو يوبقهن بما كسبوا و يعف عن كثير" الإيباق الإهلاك، و ضمير التأنيث للجواري و ضمير التذكير للناس، و يوبقهن و يعف معطوفان على "يسكن"، و المعنى: إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات و يعف عن كثير منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الإهلاك و إن عفا عن كثير منها.

و قيل: المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف، و "يوبقهن" بالعطف على "يسكن" في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم، و المعنى: إن يشأ يسكن الريح إلخ، و إن يشأ يرسلها فيهلكهم بالإغراق و ينج كثير منهم بالعفو، و المحصل: إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم و ينج ناسا بالعفو عنهم و لا يخفى وجه التكلف فيه.

و قيل: إن "يعف" عطف على قوله: "يسكن الريح" إلى قوله: "بما كسبوا" و لذا عطف بالواو لا بأو، و المعنى: إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف و إن يشأ يعف عن كثير.

و هو في التكلف كسابقه.

قوله تعالى: "و يعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص" قيل: هو غاية معطوفة على أخرى محذوفة، و التقدير نحو من قولنا: ليظهر به قدرته و يعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر و لا مخلص، و هذا كثير الورود في القرآن الكريم غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للأم الغاية كقوله: "و ليعلم الله الذين آمنوا": آل عمران: 140.

و قوله: "و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75.

و جوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير إن نحو إن جئتني أكرمك و أعطيك كذا و كذا بنصب أعطيك، و المسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما ذكروه فيه.

قوله تعالى: "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" إلخ، تفصيل لما تقدم ذكره من الرزق و تقسيم له إلى ما عند الناس من رزق الدنيا الشامل للمؤمن و الكافر و ما عند الله من رزق الآخرة المختص بالمؤمنين، و فيه تخلص إلى ذكر صفات المؤمنين و ذكر بعض ما يلقاه الظالمون يوم القيامة.

فقوله: "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" الخطاب للناس على ما يفيده السياق دون المشركين خاصة، و المراد بما أوتيتم من شيء جميع ما أعطيه للناس و رزقوه من النعيم، و إضافة المتاع إلى الحياة للإشارة إلى انقطاعه و عدم ثباته و دوامه، و المعنى: فكل شيء أعطيتموه مما عندكم متاع تتمتعون به في أيام قلائل.

و قوله: "و ما عند الله خير و أبقى للذين آمنوا و على ربهم يتوكلون" المراد بما عند الله ما ادخره الله ثوابا ليثيب به المؤمنين، و اللام في "للذين آمنوا" للملك و الظرف لغو، و قيل اللام متعلق بقوله: "أبقى" و الأول أظهر، و كون ما عند الله خيرا لكونه خالصا من الألم و الكدر و كونه أبقى لكونه أدوم غير منقطع الآخر.

قوله تعالى: "و الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و إذا ما غضبوا هم يغفرون" عطف على قوله: "الذين آمنوا" و الآية و آيتان بعدها تعد صفات المؤمنين الحسنة و قول بعضهم إنه كلام مستأنف لا يساعد عليه السياق.

و كبائر الإثم المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة و قد عد تعالى منها شرب الخمر و الميسر، قال تعالى: "قل فيهما إثم كبير": البقرة: 219، و الفواحش جمع فاحشة و هي المعصية الشنيعة النكراء و قد عد تعالى منها الزنا و اللواط قال: "و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة": إسراء: 32، و قال حاكيا عن لوط: "أ تأتون الفاحشة و أنتم تبصرون": النمل: 54.



و قوله: "يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش" و هو في سورة مكية إشارة إلى إجمال ما سيفصل من تشريع تحريم كبائر المعاصي و الفواحش.

و في قوله: "و إذا ما غضبوا هم يغفرون" إشارة إلى العفو عند الغضب و هو من أخص صفات المؤمنين و لذا عبر عنه بما عبر و لم يقل: و يغفرون إذا غضبوا ففي الكلام جهات من التأكيد و ليس قصرا للمغفرة عند الغضب فيهم.

قوله تعالى: "و الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة" إلخ، الاستجابة هي الإجابة و استجابتهم لربهم إجابتهم لما يكلفهم به من الأعمال الصالحة - على ما يفيده السياق - و ذكر إقامة الصلاة بعدها من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشرفه.

على أن الظاهر أن الآيات مكية و لم يشرع يومئذ أمثال الزكاة و الخمس و الصوم و الجهاد، و في قوله: "و الذين استجابوا لربهم" من الإشارة إلى الإجمال الأعمال الصالحة المشرعة نظير ما تقدم في قوله: "و الذين يجتنبون" إلخ، و نظير الكلام جار في الآيات التالية.

و قوله: "و أمرهم شورى بينهم" قال الراغب: و التشاور و المشاورة و المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه و استخرجته منه، قال تعالى: "و شاورهم في الأمر" و الشورى الأمر الذي يتشاور فيه، قال تعالى: "و أمرهم شورى بينهم" انتهى.

فالمعنى: الأمر الذي يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، و يظهر من بعضهم أنه مصدر، و المعنى: و شأنهم المشاورة بينهم.

و كيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد و إصابة الواقع يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول فالآية قريبة المعنى من قول الله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه": الزمر: 18.

و قوله: "و مما رزقناهم ينفقون" إشارة إلى بذل المال لمرضاة الله.

قوله تعالى: "و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" قال الراغب: الانتصار و الاستنصار طلب النصرة.

انتهي.

فالمعنى: الذين إذا أصاب الظلم بعضهم طلب النصرة من الآخرين و إذا كانوا متفقين على الحق كنفس واحدة فكان الظلم أصاب جميعهم فطلبوا المقاومة قباله و أعدوا عليه النصرة.

و عن بعضهم أن الانتصار بمعنى التناصر نظير اختصم و تخاصم و استبق و تسابق و المعنى عليه ظاهر.

و كيف كان فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم فلا ينافي المغفرة عند الغضب المذكورة في جملة صفاتهم فإن المقاومة دون الظلم و سد بابه عن المجتمع لمن استطاعه و الانتصار و التناصر لأجله من الواجبات الفطرية، قال تعالى: "و إن استنصروكم في الدين فعليكم النصر": الأنفال: 72، و قال: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله": الحجرات: 9.

قوله تعالى: "و جزاء سيئة سيئة مثلها" إلى آخر الآية بيان لما جعل للمنتصر في انتصاره و هو أن يقابل الباغي بما يماثل فعله و ليس بظلم و بغي.

قيل: و سمي الثانية و هي ما يأتي بها المنتصر سيئة لأنها في مقابلة الأولى كما قال تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم": البقرة: 194، و قال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى و جزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به ففيه رعاية لحقيقة معنى اللفظ و إشارة إلى أن مجازاة السيئة بمثلها إنما تحمد بشرط المماثلة من غير زيادة.



و قوله: "فمن عفا و أصلح فأجره على الله" وعد جميل على العفو و الإصلاح، و الظاهر أن المراد بالإصلاح إصلاحه أمره فيما بينه و بين ربه، و قيل: المراد إصلاحه ما بينه و بين ظالمه بالعفو و الإغضاء.

و قوله: "إنه لا يحب الظالمين" قيل: فيه بيان أنه تعالى لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبه إياه و لكن ليعرض المظلوم بذلك لجزيل الثواب، و لحبه تعالى الإحسان و الفضل.

و قيل: المراد أنه لا يحب الظالم في قصاص و غيره بتعديه عما هو له إلى ما ليس هو له.

و الوجهان و إن كانا حسنين في نفسهما لكن سياق الآية لا يساعد عليهما و خاصة مع حيلولة قوله: "فمن عفا و أصلح فأجره على الله" بين التعليل و المعلل.

و يمكن أيضا أن يكون قوله: "إنه لا يحب الظالمين" تعليلا لأصل كون جزاء السيئة سيئة من غير نظر إلى المماثلة و المساواة.

قوله تعالى: "و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله - من عزم الأمور" ضمير "ظلمه" راجع إلى المظلوم.

و الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.

الآيات الثلاث تبيين و رفع لبس من قوله في الآية السابقة: "فمن عفا و أصلح فأجره على الله" فمن الجائز أن يتوهم المظلوم أن في ذلك إلغاء لحق انتصاره فبين سبحانه بقوله أولا: "و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" أن لا سبيل على المظلومين و لا مجوز لإبطال حقهم في الشرع الإلهي، و إرجاع ضمير الإفراد إلى الموصول أولا باعتبار لفظه، و ضمير الجمع ثانيا باعتبار معناه.

و بين بقوله ثانيا: "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق" إن السبيل كله على الظالمين في الانتقام منهم للمظلومين، و أكد ذلك ذيلا بقوله: "أولئك لهم عذاب أليم".

و بين بقوله ثالثا: "و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور" إن الدعوة إلى الصبر و العفو ليست إبطالا لحق الانتصار و إنما هي إرشاد إلى فضيلة هي من أعظم الفضائل فإن في المغفرة الصبر الذي هو من عزم الأمور، و قد أكد الكلام بلام القسم أولا و باللام في خبر إن ثانيا لإفادة العناية بمضمونه.

قوله تعالى: "و من يضلل الله فما له من ولي من بعده" إلخ، لما ذكر المؤمنين بأوصافهم و أن لهم عند الله رزقهم المدخر لهم و فيه سعادة عقباهم التي هداهم الله إليها التفت إلى غيرهم و هم الظالمون الآيسون من تلك الهداية الموصلة إلى السعادة المحرومون من هذا الرزق الكريم فبين أن الله سبحانه أضلهم لكفرهم و تكذيبهم فلا ينتهون إلى ما عنده من الرزق و لا يسعدهم به و ليس لهم من دونه من ولي حتى يتولى أمرهم و يرزقهم ما حرمهم الله من الرزق، فهم صفر الأكف يتمنون عند مشاهدة العذاب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيكونوا أمثال المؤمنين.

فقوله: "و من يضلل الله" إلخ، من قبيل وضع السبب و هو إضلال الله لهم و عدم ولي آخر يتولى أمرهم فيهديهم و يرزقهم موضع المسبب و هو الهداية و الرزق.

و قوله: "و ترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل" إشارة إلى تمنيهم الرجوع إلى الدنيا بعد اليأس عن السعادة و مشاهدة العذاب.



و "ترى" خطاب عام وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه راء و معناه و ترى و يرى كل من هو راء، و فيه إشارة إلى أنهم يتمنون ذلك على رءوس الأشهاد، و المرد هو الرد.

قوله تعالى: "و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي" ضمير "عليها" للنار للدلالة المقام عليها و خفي الطرف ضعيفه و إنما ينظر من طرف خفي.

إلى المكاره المهولة من ابتلي بها فهو لا يريد أن ينصرف فيغفل عنها و لا يجترىء أن يمتلىء بها بصره كالمبصور ينظر إلى السيف، و الباقي ظاهر.

و قوله: "و قال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة" أي إن الخاسرين كل الخسران و بحقيقته هم الذين خسروا أنفهسم بحرمانها عن النجاة و أهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة.

و قيل أهلوهم أزواجهم من الحور و خدمهم في الجنة لو آمنوا و لا يخلو من وجه نظرا إلى آيات وراثة الجنة.

و هذا القول المنسوب إلى المؤمنين إنما يقولونه يوم القيامة - و التعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع - لا في الدنيا كما يظهر من بعضهم فليس لاستناده تعالى إلى مقالة المؤمنين في الدنيا وجه في مثل المقام، و ليس القائلون به جميع المؤمنين كائنين من كانوا و إنما هم الكاملون منهم المأذون لهم في الكلام الناطقون بالصواب محضا كأصحاب الأعراف و شهداء الأعمال قال تعالى: "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه": هود: 105.

و قال: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا": النبأ: 38.

فلا يصغى إلى ما قيل: إن القول المذكور إنما نسب إلى المؤمنين للدلالة على ابتهاجهم بما رزقوا يومئذ من الكرامة و نجوا من الخسران و إلا فالقول قول كل من يتأتى منه القول من أهل الجمع كما أن الرؤية المذكورة قبله رؤية كل من تتأتى منه الرؤية.

و قوله: "ألا إن الظالمين في عذاب مقيم" تسجيل عليهم بالعذاب و أنه دائم غير منقطع، و جوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين.

قوله تعالى: "و ما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله" إلخ، هذا التعبير أعني قوله: "و ما كان لهم" إلخ، دون أن يقال: و ما لهم من ولي كما قيل أولا للدلالة على ظهور بطلان دعواهم ولاية أوليائهم في الدنيا و أن ذلك كان باطلا من أول الأمر.

و قوله: "و من يضلل الله فما له من سبيل" صالح لتعليل صدر الآية و هو كالنتيجة لجميع ما تقدم من الكلام في حال الظالمين في عقباهم، و نوع انعطاف إلى ما سبق من حديث تشريع الشريعة و السبيل بالوحي.

فهو كناية عن أنه لا سبيل إلى السعادة إلا سبيل الله الذي شرعه لعباده من طريق الوحي و الرسالة فمن أضله عن سبيله لكفره و تكذيبه بسبيله فلا سبيل له يهتدي به إلى سعادة العقبى و التخلص من العذاب و الهلاك.

قوله تعالى: "استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ و ما لكم من نكير" دعوة و إنذار بيوم القيامة المذكور في الآيات السابقة على ما يعطيه السياق، و قول بعضهم: إن المراد باليوم يوم الموت غير وجيه.



و في قوله: "لا مرد له من الله" "لا" لنفي الجنس و "مرد" اسمه و "له" خبره و "من الله" حال من "مرد" و المعنى، يوم لا رد له من قبل الله أي أنه مقضي محتوم لا يرده الله البتة فهو في معنى ما تكرر في كلامه تعالى من وصف يوم القيامة بأنه لا ريب فيه.

و قد ذكروا للجملة أعني قوله: "يوم لا مرد له من الله" وجوها أخر من الإعراب لا جدوى في نقلها.

و قوله: "ما لكم من ملجإ يومئذ و ما لكم من نكير" الملجأ الملاذ الذي يلتجأ إليه و النكير - كما قيل - مصدر بمعنى الإنكار، و المعنى: ما لكم من ملاذ تلتجئون إليه من الله و ما لكم من إنكار لما صدر منكم لظهور الأمر من كل جهة.

قوله تعالى: "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ" عدول من خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإعلام أن ما حمله من الأمر إنما هو التبليغ لا أزيد من ذلك فقد أرسل مبلغا لدين الله إن عليه إلا البلاغ و لم يرسل حفيظا عليهم مسئولا عن إيمانهم و طاعتهم حتى يمنعهم عن الإعراض و يتعب نفسه لإقبالهم عليه.

قوله تعالى: "و إنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور" الفرح بالرحمة كناية عن الاشتغال بالنعمة و نسيان المنعم، و المراد بالسيئة المصيبة التي تسوء الإنسان إذا أصابته، و قوله: "فإن الإنسان كفور" من وضع الظاهر موضع الضمير، و النكتة فيه تسجيل الذم و اللوم عليه بذكره باسمه.

و في الآية استشعار بإعراضهم و توبيخهم بعنوان الإنسان المشتغل بالدنيا فإنه بطبعه حليف الغفلة إن ذكر بنعمة يؤتاها صرفه الفرح بها عن ذكر الله، و إن ذكر بسيئة تصيبه بما قدمت يداه شغله الكفران عن ذكر ربه فهو في غفلة عن ذكر ربه في نعمة كانت أو في نقمة فكاد أن لا تنجح فيه دعوة و لا تنفع فيه موعظة.

قوله تعالى: "لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء" إلى آخر الآيتين، للآيتين نوع اتصال بما تقدم من حديث الرزق لما أن الأولاد المذكورين فيهما من قبيل الرزق.

و قيل: إنهما متصلتان بالآية السابقة حيث ذكر فيها إذاقة الرحمة و إصابة السيئة و إن الإنسان يفرح بالرحمة و يكفر في السيئة فذكر تعالى في هاتين الآيتين أن ملك السماوات و الأرض لله سبحانه يخلق ما يشاء فليس لمن يذوق رحمته أن يفرح بها و يشتغل به و لا لمن أصابته السيئة أن يكفر و يعترض بل له الخلق و الأمر فعلى المرحوم أن يشكر و على المصاب أن يرجع إليه.

و يبعده أنه تعالى لم ينسب السيئة في الآية السابقة إلى نفسه بل إلى تقديم أيديهم فلا يناسبه نسبة القسمين جميعا في هذه الآية إلى مشيته و دعوتهم إلى التسليم لها.

و كيف كان فقوله: "لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء" فيه قصر الملك و السلطنة فيه تعالى على جميع العالم و أن الخلق منوط بمشيته من غير أن يكون هناك أمر يوجب عليه المشية أو يضطره على الخلق.

و قوله: "يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور" الإناث جمع أنثى و الذكور و الذكران جمعا ذكر، و ظاهر التقابل أن المراد هبة الإناث فقط لمن يشاء و هبة الذكور فقط لمن يشاء و لذلك كررت المشية، قيل: وجه تعريف الذكور أنهم المطلوبون لهم المعهودون في أذهانهم و خاصة العرب.



و قوله: "أو يزوجهم ذكرانا و إناثا" أي يجمع بينهم حال كونهم ذكرانا و إناثا معا فالتزويج في اللغة الجمع، و قوله: "و يجعل من يشاء عقيما" أي لا يلد و لا يولد له، و لما كان هذا أيضا قسما برأسه قيده بالمشية كالقسمين الأولين، و أما قسم الجمع بين الذكران و الإناث فإنه بالحقيقة جمع بين القسمين الأولين فاكتفى بما ذكر من المشية فيهما.

و قوله: "إنه عليم قدير" تعليل لما تقدم أي أنه عليم لا يزيد ما يزيد لجهل قدير لا ينقص ما ينقص عن عجز.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي عن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة: "و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض" و ذلك أنهم قالوا: لو أن لنا فتمنوا الدنيا.

أقول: و الآية على هذا مدنية لكن الرواية أشبه بالتطبيق منها بسبب النزول.

و في تفسير القمي،: قوله: "و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض": قال الصادق (عليه السلام): لو فعل لفعلوا و لكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض و استعبدهم بذلك و لو جعلهم أغنياء لبغوا "و لكن ينزل بقدر ما يشاء" مما يعلم أنه يصلحهم في دينهم و دنياهم "إنه بعباده خبير بصير".

و في المجمع، روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن الله جل ذكره: أن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم و لو صححته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة و لو أسقمته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى و لو أفقرته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر و لو أغنيته لأفسده، و ذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم.

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إني سمعته يقول: إني أحدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه. ثم أقبل علينا فقال: ما عاقب الله عبدا مؤمنا في هذه الدنيا إلا كان الله أحكم و أجود و أمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة. ثم قال: و قد يبتلي الله عز و جل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله ثم تلا هذه الآية: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم - و يعفوا عن كثير" و حثا بيده ثلاث مرات.

و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أما أنه ليس من عرق يضرب و لا نكبة و لا صداع و لا مرض إلا بذنب و ذلك قول الله عز و جل في كتابه: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير" قال: ثم قال: و ما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به.

أقول: و روي هذا المعنى بطريق آخر عن مسمع عنه (عليه السلام)، و روي مثله في الدر المنثور، عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: لما نزلت هذه الآية "و ما أصابكم من مصيبة - فبما كسبت أيديكم" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الذي نفسي بيده ما من خدش عود و لا اختلاج عرق و لا نكبة حجر و لا عثرة قدم إلا بذنب، و ما يعفو الله عنه أكثر.

و في الكافي، أيضا بإسناده عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز و جل: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" أ رأيت ما أصاب عليا و أهل بيته (عليهم السلام) من بعده أ هو بما كسبت أيديهم و هم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتوب إلى الله و يستغفر في كل يوم و ليلة مائة مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها.



و في المجمع، روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير آية في كتاب الله هذه الآية. يا على ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلا بذنب، و ما عفا إله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فحوى الرواية أن قوله تعالى: "و ما أصابكم" الآية خاص بالمؤمنين و الخطاب لهم و أن مفاده غفران ذنوبهم كافة فلا يعاقبون عليها في برزخ و لا قيامة لأن الآية تقصر الذنوب في مأخوذ به بإصابة المصيبة و معفو عنه و مفاد الرواية نفي المؤاخذة بعد المؤاخذة و نفي المؤاخذة بعد العفو.

فيشكل الأمر أولا: من جهة ما عرفت أن الآية في سياق يفيد عموم الخطاب للمؤمن و الكافر.

و ثانيا: من جهة معارضة الرواية لما ورد في أخبار متكاثرة لعلها تبلغ حد التواتر المعنوي من أن من المؤمنين من يعذب في قبره أو في الآخرة.

و ثالثا: من جهة مخالفة الرواية لظواهر ما دلت من الآيات على أن موطن جزاء الأعمال هي الدار الآخرة كقوله تعالى: "و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون": النحل: 61، و غيره من الآيات الدالة على أن كل مظلمة و معصية مأخوذ بها و أن موطن الأخذ هو ما بعد الموت و في القيامة إلا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة أو نحو ذلك.

على أن الآية أعني قوله: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير" - كما تقدمت الإشارة إليه - غير ظاهرة في كون أصابة المصيبة جزاء للعمل و لا في كون العفو بمعنى إبطال الجزاء و إنما هو الأثر الدنيوي للسيئة يصيب مرة و يمحى أخرى.

فالحري أن تحمل الرواية - لو قبلت - على الأخذ بحسن الظن بالله سبحانه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و أمرهم شورى بينهم": و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز و جل: "يهب لمن يشاء إناثا" يعني ليس معهن ذكور "و يهب لمن يشاء الذكور" يعني ليس معهم أنثى "أو يزوجهم ذكرانا و إناثا" أي يهب لمن يشاء ذكرانا و إناثا جميعا يجمع له البنين و البنات أي يهبهم جميعا لواحد.

و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عمد إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت و مالك من هبة الله لأبيك أنت سهم من كنانته "يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور - أو يزوجهم ذكرانا و إناثا و يجعل من يشاء عقيما" جازت عتاقة أبيك يتناول والدك من مالك و بدنك و ليس لك أن تتناول من ماله و لا من بدنه شيئا إلا بإذنه.

أقول: و هذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) في جواب مسائل محمد بن سنان في العلل و مروي من طرق أهل السنة عن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

<<        الفهرس        >>