جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج18 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


47 سورة محمد - 33 - 38

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرّسولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمَلَكمْ (33) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ صدّوا عَن سبِيلِ اللّهِ ثمّ مَاتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لهَُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلى السلْمِ وَ أَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَ اللّهُ مَعَكُمْ وَ لَن يَترَكمْ أَعْمَلَكُمْ (35) إِنّمَا الحَْيَوةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِن تُؤْمِنُوا وَ تَتّقُوا يُؤْتِكمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسئَلْكُمْ أَمْوَلَكُمْ (36) إِن يَسئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكمْ تَبْخَلُوا وَ يخْرِجْ أَضغَنَكمْ (37) هَأَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فى سبِيلِ اللّهِ فَمِنكم مّن يَبْخَلُ وَ مَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَ اللّهُ الْغَنىّ وَ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَ إِن تَتَوَلّوْا يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونُوا أَمْثَلَكم (38)

بيان

لما وصف حال الكفار و أضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض و تثاقلهم في أمر القتال و حال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين و يميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله و يكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، و في الآيات موعظة لهم بالترغيب و الترهيب و التطميع و التخويف، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم" الآية و إن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها: "و لا تبطلوا أعمالكم" على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال، و كذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق و خاصة ما في ظاهر قوله: "إن الذين كفروا" إلخ، من التعليل و ما في قوله: "فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم" إلخ، من التفريع، و بالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب و شرع من الحكم و إيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، و فيما يصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، و على تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى.

فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع و أنزل من حكم القتال، و من طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه و فيما أمر به منه و من مقدماته بما له من الولاية فيه و بإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون و أهل الردة.

و قيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنهم على الله و رسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: "يمنون عليك أن أسلموا"، و قيل:.

إبطالها بالرياء و السمعة، و قيل: بالعجب، و قيل: بالكفر و النفاق، و قيل: المراد إبطال الصدقات بالمن و الأذى كما قال: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى": البقرة: 264، و قيل: إبطالها بالمعاصي، و قيل: بخصوص الكبائر.

و يرد على هذه الأقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته و تسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإشارة إليه، و أما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر.

قوله تعالى: "إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم" ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله و رسوله و أبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله و كراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر و الصد و لا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبدا.

و المراد بالصد عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.

قوله تعالى: "فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون و الله معكم و لن يتركم أعمالكم" تفريع على ما تقدم، و قوله: "فلا تهنوا" من الوهن بمعنى الضعف و الفتور، و قوله: "و تدعوا إلى السلم" معطوف على "تهنوا" واقع في حيز النهي أي و لا تدعوا إلى السلم، و السلم - بفتح السين - الصلح، و قوله: "و أنتم الأعلون" جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، و قوله: "و أنتم الأعلون" جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك و الحال أنكم الغالبون، و المراد بالعلو الغلبة و هي استعارة مشهورة.

و قوله: "و الله معكم" معطوف على "و أنتم الأعلون" يبين سبب علوهم و يعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى: "و هو معكم أينما كنتم": الحديد: 4.

و قوله: "و لن يتركم أعمالكم" قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه و منه الحديث فكأنه وتر أهله و ماله، و أصله القطع و منه الترة القطع بالقتل و منه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره.

انتهي.

فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، و قيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، و قيل: لن يظلمكم، و المعاني متقاربة.

و معنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله و رسوله و إبطال أعمالكم هذه السبيل و كان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا و لا تفتروا في أمر القتال و لا تدعوا المشركين إلى الصلح و ترك القتال و الحال أنكم أنتم الغالبون و الله ناصركم عليهم و لن ينقصكم شيئا من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.

و في الآية وعد المؤمنين بالغلبة و الظفر إن أطاعوا الله و رسوله فهي كقوله: "و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين": آل عمران: 139.

قوله تعالى: "إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و لا يسألكم أموالكم" ترغيب لهم في الآخرة و تزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها و هي أنها لعب و لهو - و قد مر معنى كونها لعبا و لهوا -.

و قوله: "و إن تؤمنوا" إلخ، أي أن تؤمنوا و تتقوا بطاعته و طاعة رسوله يؤتكم أجوركم و لا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم و ظاهر السياق أن المراد بالأموال جميع أموالهم و يؤيده أيضا الآية التالية.

قوله تعالى: "إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا و يخرج أضغانكم" الإحفاء الإجهاد و تحميل المشقة، و المراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الإعطاء، و الأضغان الأحقاد.

و المعنى: أن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الإعطاء لحبكم لها و يخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.

قوله تعالى: "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل" إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا و يشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - و هو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.

و قوله: "و من يبخل فإنما يبخل عن نفسه" أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم و آخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، و إليه يشير قوله بعده: "و الله الغني و أنتم الفقراء" و القصران للقلب أي الله هو الغني دونكم و أنتم الفقراء دون الله.

و قوله: "و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" قيل: عطف على قوله: "و إن تؤمنوا و تتقوا" و المعنى: إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و إن تتلوا و تعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للإيمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون و يتقون و ينفقون في سبيل الله.

بحث روائي



في ثواب الأعمال، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها، و ذلك أن الله عز و جل يقول: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله - و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم".

و في تفسير القمي،: "و إن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها" قال: هي منسوخة بقوله: "فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم - و أنتم الأعلون و الله معكم".

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية: "و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم - ثم لا يكونوا أمثالكم" فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منكب سلمان ثم قال: هذا و قومه، و الذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس.

أقول: و روي بطرق أخر عن أبي هريرة: مثله. و كذا عن ابن مردويه عن جابر: مثله.

و في المجمع، و روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "إن تتولوا" يا معشر العرب "يستبدل قوما غيركم" يعني الموالي.

و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قد و الله أبدل خيرا منهم الموالي.

48 سورة الفتح - 1 - 7

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إِنّا فَتَحْنَا لَك فَتْحاً مّبِيناً (1) لِّيَغْفِرَ لَك اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِك وَ مَا تَأَخّرَ وَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك وَ يهْدِيَك صِرَطاً مّستَقِيماً (2) وَ يَنصرَك اللّهُ نَصراً عَزِيزاً (3) هُوَ الّذِى أَنزَلَ السكِينَةَ فى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيزْدَادُوا إِيمَناً مّعَ إِيمَنهِمْ وَ للّهِ جُنُودُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَ يُكفِّرَ عَنْهُمْ سيِّئَاتهِمْ وَ كانَ ذَلِك عِندَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّب الْمُنَفِقِينَ وَ الْمُنَفِقَتِ وَ الْمُشرِكِينَ وَ الْمُشرِكَتِ الظانِّينَ بِاللّهِ ظنّ السوْءِ عَلَيهِمْ دَائرَةُ السوْءِ وَ غَضِب اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَ ساءَت مَصِيراً (6) وَ للّهِ جُنُودُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)

بيان

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية الواقعة في السنة السادسة من الهجرة و ما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الأعراب و صد المشركين، و بيعة الشجرة على ما تفصله الآثار و سيجيء شطر منها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فغرض السورة بيان ما امتن الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، و على المؤمنين ممن معه، و مدحهم البالغ، و الوعد الجميل للذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات، و السورة مدنية.

قوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" كلام واقع موقع الامتنان، و تأكيد الجملة بإن و نسبة الفتح إلى نون العظمة و توصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي يمتن به.

و المراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفتح في صلح الحديبية.

و ذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين، و مدحهم و الرضا عن بيعتهم و وعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة و آجلة و في الآخرة بالجنة و ذم المخلفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يخرجوا معه، و ذم المشركين في صدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من معه، و ذم المنافقين، و تصديقه تعالى رؤيا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: "فعلم ما لم تعلموا و جعل من دون ذلك فتحا قريبا" - و كاد يكون صريحا - كل ذلك معان مرتبطة بخروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة للحج و انتهاء ذلك إلى صلح الحديبية.

و أما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فظاهر بالتدبر في لحن آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي و المؤمنين إلى هذه البغية خروجا على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى: "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا" و المشركون من صناديد قريش و من يتبعهم على ما لهم من الشوكة و القوة و العداوة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين لم يتوسط بينهم منذ سنين إلا السيف و لم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر و أحد و الأحزاب، و لم يخرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شرذمة قليلون - ألف و أربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين و هم في عقر دارهم.

لكن الله سبحانه قلب الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين على المشركين فرضوا بما لم يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، و على تأمين كل من القبيلين أتباع الآخر و من لحق به، و على أن يرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة عامة هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد و الكعبة ثلاثة أيام.

و هذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان من أمس الأسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح و فتح مكة، و فتح في أوائل سنة سبع خيبر و ما والاه و قوي به المسلمون و اتسع الإسلام اتساعا بينا و كثر جمعهم و انتشر صيتهم و أشغلوا بلادا كثيرة، و خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفا، و قد كان خرج إلى حديبية في ألف و أربعمائة على ما تفصله الآثار.

و قيل: المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله: "إنا فتحنا لك" إنا قضينا لك فتح مكة، و فيه أن القرائن لا تساعده.

و قيل: المراد به فتح خيبر، و معناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة - أنا قضينا لك فتح خيبر، و حال هذا القول أيضا كسابقه.

و قيل: المراد به الفتح المعنوي و هو الظفر على الأعداء بالحجج البينة و المعجزات الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل و ظهر الإسلام على الدين كله، و هذا الوجه و إن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما و ينصرك الله نصرا عزيزا" اللام في قوله: "ليغفر" للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك و ما تأخر، و من المعلوم أن لا رابطة بين الفتح و بين مغفرة الذنب و لا معنى معقولا لتعليله بالمغفرة.

و قول بعضهم فرارا عن الإشكال: أن اللام المكسورة في "ليغفر" لام القسم و الأصل ليغفرن حذفت نون التوكيد و بقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

و كذا قول بعض آخر فرارا عن الإشكال: "أن العلة هو مجموع المغفرة و ما عطف عليه من إتمام النعمة و الهداية و النصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح" كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح و لا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها و لا مع العلل و في ضمنها.

و بالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف و هو مخالفة التكليف المولوي، و لا المراد بالمغفرة معناها المعروف و هو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، و المغفرة هي الستر على الشيء، و أما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب و المغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولوي المستتبع للعقاب و ترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين.

و قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة و نهضته على الكفر و الوثنية فيما تقدم على الهجرة و إدامته ذلك و ما وقع له من الحروب و المغازي مع الكفار و المشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا تبعة سيئة عند الكفار و المشركين و ما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة و مقدرة، و ما كانوا لينسوا زهوق ملتهم و انهدام سنتهم و طريقتهم، و لا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه و إمحاء اسمه و إعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الفتح و هو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم و أخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الذنب و آمنه منهم.



فالمراد بالذنب - و الله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفار و المشركين و هو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: "و لهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون": الشعراء: 14، و ما تقدم من ذنبه هو ما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة، و ما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، و مغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم و هدم بنيتهم، و يؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: "و يتم نعمته عليك - إلى أن قال - و ينصرك الله نصرا عزيزا".

و للمفسرين في الآية مذاهب مختلفة أخر: فمن ذلك: أن المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صدر عنه من المعصية، و المراد بما تقدم منه.

و ما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة و بعدها، و قيل: ما صدر قبل الفتح و ما صدر بعده.

و فيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الأنبياء (عليهم السلام) و هو خلاف ما يقطع به الكتاب و السنة و العقل من عصمتهم (عليهم السلام) و قد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب و غيره.

على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه و ما تأخر مغفرة ما وقع من معصيته و ما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الإشكال بأن مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له.

و فيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عامة، و يدفعه نص كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى: "إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين": الزمر: 2، و قوله: "و أمرت لأن أكون أول المسلمين": الزمر: 12، إلى غير ذلك من الآيات التي تأبى بسياقها التخصيص.

على أن من الذنوب و المعاصي مثل الشرك بالله و افتراء الكذب على الله و الاستهزاء بآيات الله و الإفساد في الأرض و هتك المحارم، و إطلاق مغفرة الذنوب يشملها و لا معنى لأن يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق و يصلح به الأرض فإذا فتح له و نصره و أظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره و هدم ما بناه و إفساد ما أصلحه بمغفرة كل مخالفة و معصية منه و العفو عن كل ما تقوله و افتراه على الله، و فعله تبليغ كقوله، و قد قال تعالى: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين": الحاقة: 46.

و من ذلك: قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم و حواء (عليهما السلام) ببركته (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.

و فيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.

و من ذلك: أن الكلام في معنى التقدير و إن كان في سياق التحقيق و المعنى: ليغفر لك الله قديم ذنبك و حديثه لو كان لك ذنب.

و فيه أنه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

و من ذلك: أن القول خارج مخرج التعظيم و حسن الخطاب و المعنى: غفر الله لك كما في قوله تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم": التوبة: 43.

و فيه أن العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء.

كما قيل.

و من ذلك: أن المراد بالذنب في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الأولى و هو مخالفة الأوامر الإرشادية دون التمرد عن امتثال التكاليف المولوية، و الأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

و من ذلك: ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه و ما تأخر مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته و ما تأخر منها بشفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا ضير في إضافة ذنوب أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه للاتصال و السبب بينه و بين أمته.

و هذا الوجه و الوجه السابق عليه سليمان عن عامة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله إن الذنب مصدر، و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول، و المراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك من مكة و صدهم لك عن المسجد الحرام، و يكون معنى المغفرة على هذا الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فتدخلها فيما بعد.

و هذا الوجه قريب المأخذ مما قدمنا من الوجه، و لا بأس به لو لم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

و في قوله: "ليغفر لك الله" إلخ، بعد قوله: "إنا فتحنا لك" التفات من التكلم إلى الغيبة و لعل الوجه فيه أن محصل السورة امتنانه تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين بما رزق من الفتح و إنزال السكينة و النصر و سائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة و يذكر تعالى فيها باسمه و ينسب إليه النصر بما يعبده نبيه و المؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون و إنما يعبدون آلهة من دونه طمعا في نصرهم و لا ينصرونهم.

و أما سياق التكلم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الأولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها و يجري الكلام في قوله تعالى الآتي: "إنا أرسلناك شاهدا" الآية.

و قوله: "و يتم نعمته عليك" قيل: أي يتمها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك و إعلاء أمرك و تمكين دينك، و في الآخرة برفع درجتك، و قيل: أي يتمها عليك بفتح خيبر و مكة و الطائف.

و قوله: "و يهديك صراطا مستقيما" قيل: أي و يثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة، و قيل: أي و يهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام و إجراء الحدود.

و قوله: "و ينصرك الله نصرا عزيزا" قيل: النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل جبار عنيد و عات مريد، و قد فعل بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إذ جعل دينه أعز الأديان و سلطانه أعظم السلطان، و قيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه و نصره تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك كما يظهر بقياس حاله في أول بعثته إلى حاله في آخر أيام دعوته.

و التدبر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدم من معنى قوله: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر" يعطي أن يكون المراد بقوله: "و يتم نعمته عليك" هو تمهيده تعالى له (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمام الكلمة و تصفيته الجو لنصره نصرا عزيزا بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.

و بقوله: "و يهديك صراطا مستقيما" هدايته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تصفية الجو له إلى الطريق الموصل إلى الغاية الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر و بسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى انتهى إلى فتح مكة و الطائف.

و بقوله: "و ينصرك الله نصرا عزيزا" نصره له (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك النصر الظاهر الباهر الذي قلما يوجد - أو لا يوجد - له نظير إذ فتح له مكة و الطائف و انبسط الإسلام في أرض الجزيرة و انقلع الشرك و ذل اليهود و خضع له نصارى الجزيرة و المجوس القاطنون بها، و أكمل تعالى للناس دينهم و أتم عليهم نعمته و رضي لهم الإسلام دينا.



قوله تعالى: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" إلخ، الظاهر أن المراد بالسكينة سكون النفس و ثباتها و اطمئنانها إلى ما آمنت به، و لذا علل إنزالها فيها بقوله: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" و قد تقدم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى: "أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم": البقرة: 248 في الجزء الثاني من الكتاب و ذكرنا هناك أنها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى: "و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22.

و قيل: السكينة هي الرحمة، و قيل: العقل، و قيل: الوقار و العصمة لله و لرسوله، و قيل: الميل إلى ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل: ملك يسكن قلب المؤمن، و قيل: شيء له رأس كرأس الهرة، و هذه الأقاويل لا دليل على شيء منها.

و المراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيرا ما يعبر في القرآن عن الخلق و الإيجاد بالإنزال كقوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج": الزمر: 6، و قوله: "و أنزلنا الحديد": الحديد: 25، و قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21.

و إنما عبر عن الخلق و الإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علو مبدئه.

و قيل: المراد بالإنزال الإسكان و الإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حط رحله فيه و أنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

و هو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، و لعل الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة "في" إذ قال: "أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" لكنه عناية كلامية لوحظ فيها تعلق السكينة بالقلوب تعلق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلقها تعلق الوقوع عليها من علو في قوله الآتي: "فأنزل السكينة عليهم" الآية و قوله: "فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين" الآية.

و المراد بزيادة الإيمان اشتداده فإن الإيمان بشيء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتب عليه آثاره العملية، و من المعلوم أن كلا من العلم و الالتزام المذكورين مما يشتد و يضعف فالإيمان الذي هو العلم المتلبس بالالتزام يشتد و يضعف.

فمعنى الآية: الله الذي أوجد الثبات و الاطمئنان الذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتد به الإيمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل مما كان قبله.

كلام في الإيمان و ازدياده

الإيمان بالشيء ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى": سورة محمد: 25، و قوله: "إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى": سورة محمد: 32، و قوله: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم": النمل: 14، و قوله: "و أضله الله على علم": الجاثية: 23، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد و الكفر و الجحود و الضلال مع العلم.

فمجرد العلم بالشيء و الجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان و اتصاف من حصل له به، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه و عقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية و لو في الجملة، فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه و هو عبوديته و عبادته وحده كان مؤمنا و لو علم به و لم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما و ليس بمؤمن.

و من هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الإيمان هو مجرد العلم و التصديق و ذلك لما مر أن العلم ربما يجامع الكفر.

و من هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل: إن الإيمان هو العمل، و ذلك لأن العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل و ربما كان ممن ظهر له الحق ظهورا علميا و لا إيمان له على أي حال.

و إذ كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية، و كل من العلم و الالتزام مما يزداد و ينقص و يشتد و يضعف كان الإيمان المؤلف منهما قابلا للزيادة و النقيصة و الشدة و الضعف فاختلاف المراتب و تفاوت الدرجات من الضروريات التي لا يشك فيها قط.

هذا ما ذهب إليه الأكثر و هو الحق و يدل عليه من النقل قوله تعالى: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" و غيره من الآيات، و ما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على أن الإيمان ذو مراتب.

و ذهب جمع منهم أبو حنيفة و إمام الحرمين و غيرهما إلى أن الإيمان لا يزيد و لا ينقص، و احتجوا عليه بأن الإيمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم و القطع و هو مما لا يتصور فيه الزيادة و النقصان فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه الطاعات أو ضم إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا.

و أولوا ما دل من الآيات على قبوله الزيادة و النقصان بأن الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة يزيد و ينقص كوقوعه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا على التوالي من غير فترة متخللة و في غيره بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلا أو بفترات قليلة.

و أيضا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، و شرائع الدين لما كانت تنزل تدريجا و المؤمنون يؤمنون بما ينزل منها و كان يزيد عدد الأحكام حينا بعد حين كان إيمانهم أيضا يزيد تدريجا، و بالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عددا.

و هو بين الضعف، أما الحجة ففيها أولا: أن قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام كما تقدم بيانه اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

و ثانيا: أن قولهم: إن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة و النقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب و بناؤه على كون الإيمان عرضا و بقاء الأعراض على نحو تجدد الأمثال لا ينفعهم شيئا فإن من الإيمان ما لا تحركه العواصف و منه ما يزول بأدنى سبب يعترض و أوهن شبهة تطرأ، و هذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال و قلة الفترات و كثرتها بل لا بد من استناده إلى قوة الإيمان و ضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا.

مضافا إلى بطلان تجدد الأمثال على ما بين في محله.

و قولهم: إن المصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ضم إليه المعاصي لم يتغير حاله أصلا ممنوع فقوة الإيمان بمزاولة الطاعات و ضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي الارتياب فيه، و قوة الأثر و ضعفه كاشفة عن قوة مبدإ الأثر و ضعفه، قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه": فاطر: 10، و قال: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون": الروم: 10.

و أما ما ذكروه من التأويل فأول التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان و هو الذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمنا و كافرا حقيقة و هذا مما لا يساعده و لا يشعر به شيء من كلامه تعالى.

و أما قوله تعالى: "و لا يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون": يوسف: 106، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان مما يزيد و ينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإن مدلوله أنهم مؤمنون في حال أنهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض و شرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، و هذا معنى قبول الإيمان للزيادة و النقصان.



و ثاني التأويلين يفيد أن الزيادة في الإيمان و كثرته إنما هي بكثرة ما تعلق به و هو الأحكام و الشرائع المنزلة من عند الله فهي صفة للإيمان بحال متعلقه و السبب في اتصافه بها هو متعلقه، و لو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة و إنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

و حمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره و هو النور المشرق منه على القلب.

و فيه أن زيادة الأثر و قوته فرع زيادة المؤثر و قوته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

و ذكر بعضهم أن الإيمان الذي هو مدخول مع في قوله: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" الإيمان الفطري و الإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلالي، و المعنى: ليزدادوا إيمانا استدلاليا على إيمانهم الفطري.

و فيه أنه دعوى من غير دليل يدل عليه.

على أن الإيمان الفطري أيضا استدلالي فمتعلق العلم و الإيمان على أي حال أمر نظري لا بديهي.

و قال بعضهم كالإمام الرازي: إن النزاع في قبول الإيمان للزيادة و النقص و عدم قبوله نزاع لفظي فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان و هو التصديق ذلك و هو كذلك لعدم قبوله الزيادة و النقصان، و مراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان و هو الأعمال للزيادة و النقصان و هو كذلك بلا شك.

و فيه أولا: أن فيه خلطا بين التصديق و الإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام و ليس مجرد التصديق فقط كما تقدم بيانه.

و ثانيا: أن نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، و يرون أن كلا من العلم و الالتزام المؤلف منهما الإيمان يقبل القوة و الضعف.

و ثالثا: أن إدخال الأعمال في محل النزاع غير صحيح لأن النزاع في شيء غير النزاع في أثره الذي به كماله و لا نزاع لأحد في أن الأعمال و الطاعات تقبل العد و تقل و تكثر بحسب تكرر الواحد.

و قوله: "و لله جنود السماوات و الأرض" الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله و لذا أطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، و السياق يشهد أن المراد بجنود السماوات و الأرض الأسباب الموجودة في العالم مما يرى و لا يرى من الخلق فهي وسائط متخللة بينه تعالى و بين ما يريده من شيء تطيعه و لا تعصاه.

و إيراد الجملة أعني قوله: "و لله جنود" إلخ، بعد قوله: "هو الذي أنزل السكينة" إلخ، للدلالة على أن له جميع الأسباب و العلل التي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء و لا يغلبه شيء في ذلك، و قد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

و قوله: "و كان الله عزيزا حكيما" أي منيعا جانبه لا يغلبه شيء متقنا في فعله لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته و الجملة بيان تعليلي لقوله: "و لله جنود" إلخ، كما أنه بيان تعليلي لقوله: "هو الذي أنزل السكينة" إلخ، كأنه قيل: أنزل السكينة لكذا و له ذلك لأن له جميع الجنود و الأسباب لأنه العزيز على الإطلاق و الحكيم على الإطلاق.

قوله تعالى: "ليدخل المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله: "أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" على المعنى كما أن قوله: "ليزدادوا إيمانا" تعليل له بحسب اللفظ كأنه قيل: خص المؤمنين بإنزال السكينة و حرم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم و حقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنة و يعذب أولئك فيكون قوله: "ليدخل" بدلا أو عطف بيان من قوله.

"ليزدادوا" إلخ.

و في متعلق لام "ليدخل" إلخ، أقوال أخر كالقول بتعلقها بقوله: "فتحنا" أو قوله: "يزدادوا" أو بجميع ما تقدم إلى غير ذلك مما لا جدوى لإيراده.

و ضم المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهم اختصاص الجنة و تكفير السيئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، و الجهاد و الفتح واقعان على أيديهم فصرح باسم المؤمنات لدفع التوهم كما قيل.

و ضمير "خالدين" و "يكفر عنهم سيئاتهم" للمؤمنين و المؤمنات جميعا على التغليب.

و قوله: "و كان ذلك عند الله فوزا عظيما" بيان لكون ذلك سعادة حقيقية لا ريب فيها لكونه عند الله كذلك و هو يقول الحق.

قوله تعالى: "و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات" إلى آخر الآية معطوف على قوله: "يدخل" بالمعنى الذي تقدم، و تقديم المنافقين و المنافقات على المشركين و المشركات في الآية لكونهم أضر على المسلمين من أهل الشرك و لأن عذاب أهل النفاق أشد قال تعالى: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار".

و قوله: "الظانين بالله ظن السوء" السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح و السوء بالضم اسم مصدر، و ظن السوء هو ظنهم أن الله لا ينصر رسوله و قيل: المراد بظن السوء ما يعم ذلك و سائر ظنونهم السيئة من الشرك و الكفر.

و قوله: "عليهم دائرة السوء" دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضروا بدائرة السوء التي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك و العذاب.

و قوله: "و غضب الله عليهم و لعنهم و أعد لهم جهنم" معطوف على قوله: "عليهم دائرة" إلخ، و قوله: "و ساءت مصيرا" بيان مساءة مصيرهم، كما أن قوله: "و كان ذلك عند الله فوزا عظيما" بيان لحسن مصير أهل الإيمان.

قوله تعالى: "و لله جنود السماوات و الأرض" تقدم معناه، و الظاهر أنه بيان تعليلي للآيتين أعني قوله: "ليدخل المؤمنين و المؤمنات" - إلى قوله - و أعد لهم جهنم" على حذو ما كان مثله فيما تقدم بيانا تعليليا لقوله: "أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" إلخ.

و قيل: إن مضمونه متعلق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنهم في قبضة قدرته فينتقم منهم، و الوجه الأول أظهر.

بحث روائي



في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا": حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب نزول هذه الآية و هذا الفتح العظيم أن الله جل و عز أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلق مع المحلقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا. فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة و ستين بدنة و أحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة و قد ساق من ساق منهم الهدي معرات مجللات. فلما بلغ قريشا بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يعارضه على الجبال فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم لأنهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجيء الآن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصلاة الخوف في قوله عز و جل: "فإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية. قال: فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديبية، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستنفر الأعراب في طريقه فلم يتبعه أحد و يقولون: أ يطمع محمد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، أنه لا يرجع محمد و أصحابه إلى المدينة أبدا. الحديث.

و في المجمع،: قال ابن عباس: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يريد مكة فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر و بركت الناقة فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال: ما هذا لها عادة و لكن حبسها حابس الفيل. و دعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة و يحل من عمرته و ينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم و إني أخاف قريشا لشدة عداوتي إياها و لكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فقال: صدقت. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب و إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمين أن عثمان قد قتل. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نبرح حتى نناجز القوم، و دعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الشجرة و استند إليها و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين و لا يفروا. قال عبد الله بن مغفل: كنت قائما على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم و بيدي غصن من السمرة أذب عنه و هو يبايع الناس فلم يبايعهم على الموت و إنما بايعهم على أن لا يفروا.



و روى الزهري و عروة بن الزبير و المسور بن مخرمة قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا جموعا و هم قاتلوك أو مقاتلوك و صادوك عن البيت فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): روحوا فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين. فسار حتى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما خلأت القصواء و لكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: و الله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا فشكوا إليه العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة و كانوا عيبة نصح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي و معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادوك عن البيت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا لم نجىء لقتال أحد و إنا جئنا معتمرين، و إن قريشا قد نهكتهم الحرب و أضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة و يخلو بيني و بين الناس، و إن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا و إلا فقد جموا و إن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل و أنه يقول: كذا و كذا فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها و دعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد أ رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ و إن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها و أرى أشابا من الناس خلقاء أن يفروا و يدعوك فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات أ نحن نفر عنه و ندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما و الذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: و جعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كلما كلمه أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه السيف و عليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب يده بنعل السيف و قال: أخر يدك عن لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر أ و لست أسعى في غدرتك. قال: و كان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم و أخذ أموالهم. ثم جاء فأسلم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الإسلام فقد قبلنا، و أما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابتدروا أمره، و إذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدون إليه النظر تعظيما له. قال: فرجع عروة إلى أصحابه و قال: أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي و الله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدون إليه النظر تعظيما له، و أنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا فلان و هو من قوم يعظمون البدن فابعثوها فبعثت له و استقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا مكرز و هو رجل فاجر فجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا و بينك كتابا. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ و لكن اكتب باسمك اللهم فقال المسلمون: و الله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لرسول الله و إن كذبتموني ثم قال لعلي امح رسول الله فقال: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمحاه. ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله و سهيل بن عمرو و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس و يكف بعضهم عن بعض و على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله و من قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه و ماله، و إن بيننا عيبة مكفوفة، و أنه لا إسلال و لا إغلال، و أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل فيه، و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهده دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد و عهده، و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): على أن تخلو بيننا و بين البيت فنطوف فقال سهيل: و الله ما تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة و لكن ذلك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل و إن كان على دينك إلا رددته إلينا و من جاءنا ممن معك لم نرده عليك فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين و قد جاء مسلما؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من جاءهم منا فأبعده الله، و من جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا. فقال سهيل: و على أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا و لا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب و سلاح الراكب، و على أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله لا تقدمه علينا فقال: نحن نسوق و أنتم تردون. فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده و قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا لم نقض بالكتاب بعد. قال: و الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه، قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين أرد إلى المشركين و قد جئت مسلما أ لا ترون ما قد لقيت؟ و كان قد عذب عذابا شديدا. فقال عمر بن الخطاب: و الله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: أ لست نبي الله؟ فقال: بلى. قلت: أ لسنا على الحق و عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري قلت: أ و لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف حقا؟ قال: بلى أ فأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه و تطوف به فنحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات" الآية. قال محمد بن إسحاق بن يسار: و حدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب: أن كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصلح كان علي بن أبي طالب فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو" فجعل علي يتلكأ و يأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله فقال رسول الله: فإن لك مثلها تعطيها و أنت مضطهد، فكتب ما قالوا. ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلا يأكلان من تمر لهم قال أبو بصير لأحد الرجلين: و إني لأرى سيفك جيدا جدا فاستله فقال: أجل إنه لجيد و جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد و فر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قتل و الله صاحبي و إني لمقتول. قال: فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك و رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر. و انفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تناشده الله و الرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فأتوه.

و في تفسير القمي، في حديث طويل أوردنا صدره في أول البحث قال: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه بعد ما كتب الكتاب: انحروا بدنكم و احلقوا رءوسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و شكا ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت و احلق فنحر رسول الله و حلق فنحر القوم على حيث يقين و شك و ارتياب:. أقول: و هو مروي في روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة. و هذا الذي رواه الطبرسي مأخوذ مع تلخيص ما عما رواه البخاري و أبو داود و النسائي عن مروان و المسور:.

و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت و صد هدينا و عكف رسول الله بالحديبية و رد رجلين من المسلمين خرجا. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بئس الكلام. هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم و يسألوكم القضية و يرغبون إليكم في الإياب و قد كرهوا منكم ما كرهوا، و قد أظفركم الله عليهم و ردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح. أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم في أخراكم؟ أ نسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا؟. قال المسلمون: صدق الله و رسوله هو أعظم الفتوح و الله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه و لأنت أعلم بالله و بالأمور منا فأنزل الله سورة الفتح.

أقول: و الأحاديث في قصة الحديبية كثيرة و ما أوردناه طرف منها.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله في كتابه: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر" قال: ما كان له ذنب و لا هم بذنب و لكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفر لها.

و في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، إلى أن قال قال: فأخبرني عن قول الله عز و جل: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر". قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستين صنما فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا أ جعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب، و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فلما فتح الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة قال: يا محمد إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر عند مشركي مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم و ما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، و خرج بعضهم عن مكة، و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

و في تفسير العياشي، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، و الحديث لا يخلو من شيء لأنه مبنى على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.

و في الكافي، بإسناده إلى جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" قال: الإيمان قال عز من قائل: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم".

أقول: "ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله تعالى في الآية: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" تفسيرا للسكينة، و في معنى الرواية روايات أخر.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئا إلا به. قلت: و ما هو؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظا. قال: قلت: أ لا تخبرني عن الإيمان أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كله و القول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه واضح نوره ثابتة حجته يشهد له به الكتاب و يدعوه إليه. قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتى أفهمه قال: الإيمان حالات و درجات و صفات و منازل فمنه التام المنتهي تمامه و منه الناقص المبين نقصانه و منه الراجح الزائد رجحانه. قلت: إن الإيمان ليتم و ينقص و يزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذلك؟ قال: لأن الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم و قسمه عليها و فرقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمن لقي الله عز و جل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز و جل عليها لقي الله مستكملا لإيمانه و هو من أهل الجنة، و من خان في شيء منها أو تعدى ما أمر الله عز و جل فيها لقي الله عز و جل ناقص الإيمان. قلت: و قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز و جل: "و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول - أيكم زادته هذه إيمانا - فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا و هم يستبشرون - و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم" و قال: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق - إنهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدى". و لو كان كله واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، و بالنقصان دخل المفرطون النار.

48 سورة الفتح - 8 - 10

إِنّ ا أَرْسلْنَك شهِداً وَ مُبَشراً وَ نَذِيراً (8) لِّتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسبِّحُوهُ بُكرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَك إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَث فَإِنّمَا يَنكُث عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

بيان

فصل ثان من آيات السورة يعرف سبحانه فيه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) تعريف إكبار و إعظام بأنه أرسله شاهدا و مبشرا و نذيرا طاعته طاعة الله و بيعته بيعة الله، و قد كان الفصل الأول امتنانا منه تعالى على نبيه بالفتح و المغفرة و إتمام النعمة و الهداية و النصر و على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم و إدخال الجنة و وعيد المشركين و المنافقين بالغضب و اللعن و النار.

قوله تعالى: "إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا" المراد بشهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته على الأعمال من إيمان و كفر و عمل صالح أو طالح، و قد تكرر في كلامه تعالى ذكر شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تقدم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، و هي شهادة حمل في الدنيا، و أداء في الآخرة.

و كونه مبشرا تبشيره لمن آمن و اتقى بالقرب من الله و جزيل ثوابه، و كونه نذيرا إنذاره و تخويفه لمن كفر و تولى بأليم عذابه.

قوله تعالى: "لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا" القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بياء الغيبة في الجميع و قراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.

و كيف كان فاللام في "لتؤمنوا" للتعليل أي أرسلناك كذا و كذا لتؤمنوا بالله و رسوله.

و التعزير - على ما قيل - النصر و التوقير التعظيم كما قال تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقارا": نوح: 13، و الظاهر أن الضمائر في "تعزروه و توقروه و تسبحوه" جميعا لله تعالى و المعنى: إنا أرسلناك كذا و كذا ليؤمنوا بالله و رسوله و ينصروه تعالى بأيديهم و ألسنتهم و يعظموه و يسبحوه - و هو الصلاة - بكرة و أصيلا أي غداة و عشيا.

و قيل: الضميران في "تعزروه و توقروه" للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير "تسبحوه" لله تعالى و يوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتسقة.

قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم" إلى آخر الآية.

البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: و بايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له

انتهي.

و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، و بذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة، و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلا ليعمل به ما يشاء.

فقوله: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" تنزيل بيعته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة بيعته تعالى بدعوى أنها هي فما يواجهونه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلا الله سبحانه لأن طاعته طاعة الله ثم قرره زيادة تقرير و تأكيد بقوله: "يد الله فوق أيديهم" حيث جعل يده (صلى الله عليه وآله وسلم) يد الله كما جعل رميه (صلى الله عليه وآله وسلم) رمى نفسه في قوله: "و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى": الأنفال: 17.

و في نسبة ما له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله": النساء: 80، و قوله: "فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون": الأنعام: 33، و قوله: "ليس لك من الأمر شيء": آل عمران: 128.

و قوله: "فمن نكث فإنما ينكث على نفسه" النكث نقض العهد و البيعة، و الجملة تفريع على قوله: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" و المعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله و لا يتضرر بذلك إلا نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلا نفسه لأن الله غني عن العالمين.

و قوله: "و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما" وعد جميل على حفظ العهد و الإيفاء به.

و الآية لا تخلو من إيماء إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.

و للمفسرين في قوله: "يد الله فوق أيديهم" أقوال أخر.

فقيل: إنه من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية جيء به لتأكيد ما تقدمه و تقرير أن مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كمبايعة الله من غير تفاوت فخيل أنه سبحانه كأحد المبايعين من الناس فأثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مكان يد الرسول و فيه أنه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيل على وجه هو منزه عنه.

و قيل: المراد باليد القوة و النصرة أي قوة الله و نصرته فوق قوتهم و نصرتهم أي ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.

و فيه أن المقام مقام إعظام بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن مبايعتهم له مبايعة لله، و الوثوق بالله و نصرته و إن كان حسنا في كل حال لكنه أجنبي عن المقام.

و قيل: المراد باليد العطية و النعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، و قيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه التي أوردوها و لا طائل تحتها.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن عدي و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية "و تعزروه" قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: لتنصروه.

و في العيون، بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: أن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال: يا أبا الصلت إن الله تعالى فضل نبيه محمدا على جميع خلقه من النبيين و الملائكة، و جعل طاعته طاعته، و مبايعته مبايعته، و زيارته في الدنيا و الآخرة زيارته، فقال عز و جل: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" و قال: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله - يد الله فوق أيديهم" و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. و درجته في الجنة أعلى الدرجات، و من زاره في درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك و تعالى.

و في إرشاد المفيد، في حديث بيعة الرضا (عليه السلام) قال: و جلس المأمون و وضع للرضا (عليه السلام) وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضا (عليه السلام) في الحضرة و عليه عمامة و سيف. ثم أمر ابنه العباس بن المأمون أن يبايع له في أول الناس فرفع الرضا (عليه السلام) يده فتلقى بها وجهه و ببطنها وجوههم فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة فقال الرضا (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا كان يبايع فبايعه الناس و يده فوق أيديهم.

48 سورة الفتح - 11 - 17

سيَقُولُ لَك الْمُخَلّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شغَلَتْنَا أَمْوَلُنَا وَ أَهْلُونَا فَاستَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مّا لَيْس فى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِك لَكُم مِّنَ اللّهِ شيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضراّ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا (11) بَلْ ظنَنتُمْ أَن لّن يَنقَلِب الرّسولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذَلِك فى قُلُوبِكُمْ وَ ظنَنتُمْ ظنّ السوْءِ وَ كنتُمْ قَوْمَا بُوراً (12) وَ مَن لّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَ رَسولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سعِيراً (13) وَ للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً (14) سيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إِذَا انطلَقْتُمْ إِلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كلَمَ اللّهِ قُل لّن تَتّبِعُونَا كذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسيَقُولُونَ بَلْ تحْسدُونَنَا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ ستُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولى بَأْسٍ شدِيدٍ تُقَتِلُونهُمْ أَوْ يُسلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسناً وَ إِن تَتَوَلّوْا كَمَا تَوَلّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لّيْس عَلى الأَعْمَى حَرَجٌ وَ لا عَلى الأَعْرَج حَرَجٌ وَ لا عَلى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَن يُطِع اللّهَ وَ رَسولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنهَرُ وَ مَن يَتَوَلّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17)

بيان

فصل ثالث من الآيات متعرض لحال الأعراب الذين قعدوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الحديبية و لم ينفروا إذا استنفرهم و هم على ما قيل أعراب حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل فتخلفوا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يصاحبوه قائلين: إن محمدا و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلا ذريعا، و إنهم لن يرجعوا من هذه السفرة و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهليهم أبدا.

فأخبر الله سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات أنهم سيلقونك و يعتلون في قعودهم باشتغالهم بالأموال و الأهلين و يسألونك أن تستغفر الله لهم، و كذبهم الله فيما قالوا و ذكر أن السبب في قعودهم غير ذلك و هو ظنهم السوء، و أخبر أنهم سيسألونك اللحوق و ليس لهم ذلك غير أنهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم الأجر الجزيل و إن تولوا فأليم العذاب.

قوله تعالى: "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا" إلى آخر الآية، قال في المجمع،: المخلف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، و هو مشتق من الخلف و ضده المقدم.

انتهي.

و الأعراب - و على ما قالوا - الجماعة من عرب البادية و لا يطلق على عرب الحاضرة، و هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه.

و قوله: "سيقول لك المخلفون من الأعراب" إخبار عما سيأتي من قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في اللفظ دلالة ما على نزول الآيات في رجوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة و لما يردها.

و قوله: "شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا" أي كان الشاغل المانع لنا عن صحابتك و الخروج معك هو أموالنا و أهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلفنا عنك، و في سؤال الاستغفار دليل على أنهم كانوا يرون التخلف ذنبا فتعلقهم بأنه شغلتهم الأموال و الأهلون ليس اعتذارا للتبري عن الذنب بل ذكرا للسبب الموقع في الذنب.

و قوله: "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم" تكذيب لهم في جميع ما أخبروا به و سألوه فلا أن الشاغل لهم هو شغل الأموال و الأهلين، و لا أنهم يهتمون باستغفاره (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما سألوه ليكون ذلك جنة يصرفون بها العتاب و التوبيخ عن أنفسهم.



و قوله: "قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا" جواب حلي عما اعتذروا به من شغل الأموال و الأهلين محصله أن الله سبحانه له الخلق و الأمر و هو المالك المدبر لكل شيء لا رب سواه فلا ضر و لا نفع إلا بإرادته و مشيته فلا يملك أحد منه تعالى شيئا حتى يقهره على ترك الضر أو فعل الخير إن أراد الضر أو على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، و إذا كان كذلك فانصرافكم عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصرة للدين و اشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال و الأهلين لا يغني من الله شيئا لا يدفع الضر إن أراد الله بكم ضرا و لا يعين على جلب الخير و لا يعجله إن أراد بكم خيرا.

فقوله: "قل فمن يملك لكم" إلخ، جواب عن تعللهم بالشغل على تقدير تسليم صدقهم فيه، ملخصه أن تعلقكم في دفع الضر و جلب الخير بظاهر الأسباب و منها تدبيركم و القعود بذلك عن مشروع ديني لا يغنيكم شيئا في ضر أو نفع بل الأمر تابع لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

و التمسك بالأسباب و عدم إلغائها و إن كان مشروعا مأمورا به لكنه فيما لا يعارض ما هو أهم منها كالدفاع عن الحق و إن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللهم إلا إذا تعقب خطرا قطعيا لا أثر معه للدفاع و السعي.

و قوله: "بل كان الله بما تعملون خبيرا" تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في قولهم: "شغلتنا أموالنا و أهلونا".

قوله تعالى: "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و زين ذلك في قلوبكم" إلخ، بيان لما يشير إليه قوله: "بل كان الله بما تعملون خبيرا" من كذبهم في اعتذارهم، و المعنى: ما تخلفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال و الأهلين بل ظننتم أن الرسول و المؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبدا و أن الخارجين سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع و البأس الشديد و الشوكة و القدرة و لذلك تخلفتم.

و قوله: "و زين ذلك في قلوبكم" أي زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظن المزين و هو أن تتخلفوا و لا تخرجوا حذرا من أن تهلكوا و تبيدوا.

و قوله: "و ظننتم ظن السوء و كنتم قوما بورا" البور - على ما قيل - مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك أريد به معنى الفاعل أي كنتم قوما فاسدين أو هالكين.

قيل: المراد بظن السوء ظنهم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و لا يبعد أن يكون المراد به ظنهم أن الله لا ينصر رسوله و لا يظهر دينه كما مر في قوله في الآية السادسة من السورة: "الظانين بالله ظن السوء" بل هو أظهر.

قوله تعالى: "و من لم يؤمن بالله و رسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا" الجمع في هذه الآيات بين الإيمان بالله و رسوله للدلالة على أن الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله، و في الآية لحن تهديد.

و قوله: "فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا" كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه على المشتق، و المعنى: أعتدنا و هيأنا لهم لكفرهم سعيرا أي نارا مسعرة مشتعلة، و تنكير سعيرا للتهويل.

قوله تعالى: "و لله ملك السماوات و الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و كان الله غفورا رحيما" معنى الآية ظاهر و فيها تأييد لما تقدم، و في تذييل الملك المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب و حث على الاستغفار و الاسترحام.



قوله تعالى: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم" إلى آخر الآية إخبار عن أن المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح و يصيبون مغانم و يسألهم المخلفون أن يتركوهم يتبعونهم طمعا في الغنيمة، و تلك غزوة خيبر اجتاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون إليه ففتحوه و أخذوا الغنائم و خصها الله تعالى بمن كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الحديبية لم يشرك معهم غيرهم.

و المعنى: أنكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلفون: اتركونا نتبعكم.

و قوله: "يريدون أن يبدلوا كلام الله" قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبية أن يخصهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجيء من قوله: "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه الآية، و يشير إليه في هذه الآية بقوله: "إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها".

و قوله: "قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل" أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمنعهم عن اتباعهم استنادا إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتباع.

و قوله: "فسيقولون بل تحسدوننا" أي سيقول المخلفون بعد ما منعوا عما سألوه من الاتباع: "بل تحسدوننا" و قوله: "بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا" جواب عن قولهم: "بل تحسدوننا" لم يوجه الخطاب إليهم أنفسهم لأن المدعي أنهم لا يفقهون الحديث و لذلك وجه الخطاب بالجواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: "بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا".

و ذلك أن قولهم: "بل تحسدوننا" إضراب عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بأمر الله: "لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل" فمعنى قولهم: إن منعنا من الاتباع ليس عن أمر من قبل الله بل إنما تمنعنا أنت و من معك من المؤمنين أهل الحديبية أن نشارككم في الغنائم و تريدون أن تختص بكم.

و هذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل و تمييز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المعصوم الذي لا يرد و لا يصدر في شأن إلا بأمر من الله اللهم إلا أن يكون من بساطة العقل و بلادة الفهم فهذا القول الذي واجهوا به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم مدعون للإيمان و الإسلام أدل دليل على ضعف تعقلهم و قلة فقههم.

و من هنا يظهر أن المراد بعدم فقههم إلا قليلا بساطة عقلهم و ضعف فقههم للقول لا أنهم يفقهون بعض القول و لا يفقهون بعضه و هو الكثير و لا أن بعضهم يفقه القول و جلهم لا يفقهونه كما فسره به بعضهم.

قوله تعالى: "قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" إلخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن، و قيل: ثقيف، و قيل: هوازن و ثقيف، و قيل: هم الروم في غزاة مؤتة و تبوك، و قيل: هم أهل الردة قاتلهم أبو بكر بعد الرحلة، و قيل: هم الفارس، و قيل: أعراب الفارس و أكرادهم.

و ظاهر قوله: "ستدعون" أنهم بعض الأقوام الذين قاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فتح خيبر من هوازن و ثقيف و الروم في مؤتة، و قوله تعالى سابقا: "قل لن تتبعونا" ناظر إلى نفي اتباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.

و قوله: "تقاتلونهم أو يسلمون" استئناف يدل على التنويع أي إما تقاتلون أو يسلمون أي إنهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إما أن يقاتلوا أو يسلموا.



و لا يصح أخذ "تقاتلونهم" صفة لقوم لأنهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال قوم يقاتلونهم، و كذا لا يصح أخذ حالا من نائب فاعل "ستدعون" لأنهم يدعون إلى قتال القوم لا أنهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.

ثم تمم سبحانه الكلام بالوعد و الوعيد على الطاعة و المعصية فقال: "فإن تطيعوا" أي بالخروج إليهم "يؤتكم الله أجرا حسنا و إن تتولوا" أي بالمعصية و عدم الخروج "كما توليتم من قبل" و لم تخرجوا في سفره الحديبية "يعذبكم عذابا أليما" أي في الدنيا كما هو ظاهر المقام أو في الدنيا و الآخرة معا.

قوله تعالى: "ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج" رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الذين يشق عليهم الجهاد برفع لازمه و هو الحرج.

ثم تمم الآية أيضا بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال: "و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار و من يتول يعذبه عذابا أليما".

48 سورة الفتح - 18 - 28

لّقَدْ رَضىَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَك تحْت الشجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فى قُلُوبهِمْ فَأَنزَلَ السكِينَةَ عَلَيهِمْ وَ أَثَبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونهَا وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كثِيرَةً تَأْخُذُونهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَ كَف أَيْدِى النّاسِ عَنكُمْ وَ لِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرَطاً مّستَقِيماً (20) وَ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيهَا قَدْ أَحَاط اللّهُ بِهَا وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيراً (21) وَ لَوْ قَتَلَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوَلّوُا الأَدْبَرَ ثُمّ لا يجِدُونَ وَلِيّا وَ لا نَصِيراً (22) سنّةَ اللّهِ الّتى قَدْ خَلَت مِن قَبْلُ وَ لَن تجِدَ لِسنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً (23) وَ هُوَ الّذِى كَف أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنهُم بِبَطنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَ صدّوكمْ عَنِ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ الهَْدْى مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ محِلّهُ وَ لَوْ لا رِجَالٌ مّؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مّؤْمِنَتٌ لّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مّعَرّةُ بِغَيرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللّهُ فى رَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فى قُلُوبِهِمُ الحَْمِيّةَ حَمِيّةَ الجَْهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سكينَتَهُ عَلى رَسولِهِ وَ عَلى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كلِمَةَ التّقْوَى وَ كانُوا أَحَقّ بهَا وَ أَهْلَهَا وَ كانَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيماً (26) لّقَدْ صدَقَ اللّهُ رَسولَهُ الرّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسجِدَ الْحَرَامَ إِن شاءَ اللّهُ ءَامِنِينَ محَلِّقِينَ رُءُوسكُمْ وَ مُقَصرِينَ لا تخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِك فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كلِّهِ وَ كَفَى بِاللّهِ شهِيداً (28)

بيان

فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممن كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خروجه إلى الحديبية فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة ثم يمتن عليهم بإنزال السكينة و إثابة فتح قريب و مغانم كثيرة يأخذونها.

و يخبرهم - و هو بشرى - أن المشركين لو قاتلوهم لانهزموا و ولوا الأدبار و أن الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم لا يخافون فإنه تعالى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون.

قوله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقي ما يلائمها و تقبله من غير دفع، و يقابله السخط، و إذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة و الجزاء الحسن دون الهيأة الطارئة و الصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

و الرضا - كما قيل - يستعمل متعديا إلى المفعول بنفسه و متعديا بعن و متعديا بالباء فإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، و على المعنى نحو: رضيت إمارة زيد، قال تعالى: "و رضيت لكم الإسلام دينا": المائدة: 3، و إذا عدي بعن دخل على الذات كقوله: "رضي الله عنهم و رضوا عنه": البينة: 8، و إذا عدي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى: "أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة".

و لما كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة و الجزاء، و الجزاء إنما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات و عدي بعن كما في الآية "لقد رضي الله عن المؤمنين" نوع عناية استدعى عد الرضا و هو متعلق بالعمل متعلقا بالذات و هو أخذ بيعتهم التي هي متعلقة الرضا ظرفا للرضى فلم يسع إلا أن يكون الرضا متعلقا بهم أنفسهم.

فقوله: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة.

و قد كانت البيعة يوم الحديبية تحت شجرة سمرة بها بايعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من معه من المؤمنين و قد ظهر به أن الظرف في قوله: "إذ يبايعونك" متعلق بقوله: "لقد رضي" و اللام للقسم.

قوله تعالى: "فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا و مغانم كثيرة يأخذونها و كان الله عزيزا حكيما" تفريع على قوله: "لقد رضي الله" إلخ، و المراد بما في قلوبهم حسن النية و صدقها في مبايعتهم فإن العمل إنما يكون مرضيا عند الله لا بصورته و هيئته بل بصدق النية و إخلاصها.

فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النية و إخلاصها في مبايعتهم لك.

و قيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان و صحته و حب الدين و الحرص عليه، و قيل: الهم و الأنفة من لين الجانب للمشركين و صلحهم.

و السياق لا يساعد على شيء من هذين الوجهين كما لا يخفى.



فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيتهم الصادقة المخلصة في المبايعة كما ذكر، و علمه تعالى بنيتهم الموصوفة بالصدق و الإخلاص سبب يتفرع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبب متفرع على الرضا، و لازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.

قلت: كما أن للمسبب تفرعا على السبب من حيث التحقق و الوجود كذلك للسبب - سواء كان تاما أو ناقصا - تفرع على المسبب من حيث الانكشاف و الظهور، و الرضا كما تقدم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح و ما يثيب به و يجزي صاحب العمل، و الذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم و إنزاله السكينة عليهم و إثابتهم فتحا قريبا و مغانم كثيرة يأخذونها.

فقوله: "فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة" إلخ، تفريع على قوله: "لقد رضي الله عن المؤمنين" للدلالة على حقيقة هذا الرضا و الكشف عن مجموع الأمور التي بتحققها يتحقق معنى الرضا.

ثم قوله: "فأنزل السكينة عليهم" متفرع على قوله: "فعلم ما في قلوبهم" و كذا ما عطف عليه من قوله: "و أثابهم فتحا قريبا" إلخ.

و المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق و كذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، و قيل: المراد بالفتح القريب فتح مكة، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله: "و كان الله عزيزا حكيما" أي غالبا فيما أراد متقنا لفعله غير مجازف فيه.

قوله تعالى: "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه" إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم التي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبية أعم من مغانم خيبر و غيرها فتكون الإشارة بقوله: "فعجل لكم هذه" إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة و هي مغانم خيبر نزلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.

هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، و أما على ما قيل: إن الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله: "فعجل لكم هذه" ظاهر لكن المعروف نزول السورة بتمامها في مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية بينها و بين المدينة.

و قيل: الإشارة بهذه إلى البيعة التي بايعوها تحت الشجرة و هو كما ترى.

و قوله: "و كف أيدي الناس عنكم" قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد و غطفان هموا بعد مسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب و كف أيديهم.

و قيل: المراد مالك بن عوف و عيينة بن حصين مع بني أسد و غطفان جاءوا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، و قيل: المراد بالناس أهل مكة و من والاها حيث لم يقاتلوه (صلى الله عليه وآله وسلم) و رضوا بالصلح.

و قوله: "و لتكون آية للمؤمنين" عطف على مقدر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح و الغنائم الكثيرة المعجلة و المؤجلة لمصالح كذا و كذا و لتكون آية للمؤمنين أي علامة و أمارة تدلهم على أنهم على الحق و أن ربهم صادق في وعده و نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق في إنبائه.



و قد اشتملت السورة على عدة من أنباء الغيب فيها هدى للمتقين كقوله: "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا" إلخ، و قوله: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم" إلخ، و قوله: "قل للمخلفين من الأعراب ستدعون" إلخ، و ما في هذه الآيات من وعد الفتح و المغانم، و قوله بعد: "و أخرى لم تقدروا عليها" إلخ، و قوله بعد: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا" إلخ.

و قوله: "و يهديكم صراطا مستقيما" عطف على "تكون" أي و ليهديكم صراطا مستقيما و هو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحق و بسط الدين، و قيل: هو الثقة بالله و التوكل عليه في كل ما تأتون و تذرون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.

قوله تعالى: "و أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها و كان الله على كل شيء قديرا" أي و غنائم أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة و كان الله على كل شيء قديرا.

فقوله: "أخرى" مبتدأ و "لم تقدروا عليها" صفته و قوله: "قد أحاط الله بها" خبره الثاني و خبره الأول محذوف، و تقدير الكلام: و ثمة غنائم أخرى قد أحاط الله بها.

و قيل: قوله: "أخرى" في موضع نصب بالعطف على قوله: "هذه" و التقدير: و عجل لكم غنائم أخرى، و قيل: في موضع نصب بفعل محذوف، و التقدير: و قضى غنائم أخرى، و قيل: في موضع جر بتقدير رب و التقدير: و رب غنائم أخرى و هذه وجوه لا يخلو شيء منها من وهن.

و المراد بالأخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، و قيل: المراد غنائم فارس و الروم، و قيل: المراد فتح مكة و الموصوف محذوف، و التقدير: و قرية أخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، و أول الوجوه أقربها.

قوله تعالى: "و لو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا و لا نصيرا" خبر آخر ينبئهم الله سبحانه ضعف الكفار عن قتال المؤمنين بأنفسهم و أن ليس لهم ولي يتولى أمرهم و لا نصير ينصرهم، و يتخلص في أنهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم و لا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، و هذا في نفسه بشرى للمؤمنين.

قوله تعالى: "سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا" "سنة الله" مفعول مطلق لفعل مقدر أي سن سنة الله أي هذه سنة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه و المؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم و أخلصوا نياتهم على أعدائهم من الذين كفروا و لن تجد لسنة الله تبديلا كما قال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي": المجادلة: 21.

و لم يصب المسلمون في شيء من غزواتهم إلا بما خالفوا الله و رسوله بعض المخالفة.

قوله تعالى: "و هو الذي كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم" إلخ، الظاهر أن المراد بكف أيدي كل من الطائفتين عن الأخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبية و هي بطن مكة لقربها منها و اتصالها بها حتى قيل إن بعض أراضيها من الحرم و ذلك أن كلا من الفئتين كانت أعدى عدو للأخرى و قد اهتمت قريش بجمع المجموع من أنفسهم و من الأحابيش، و بايع المؤمنون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يقاتلوا، و عزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يناجز القوم، و قد أظفر الله النبي و الذين آمنوا على الكفار حيث دخلوا أرضهم و ركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كف أيدي الكفار عن المؤمنين و أيدي المؤمنين عن الكفار بعد إظفار المؤمنين عليهم و كان الله بما يعملون بصيرا.



قوله تعالى: "هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدي معكوفا أن يبلغ محله" العكوف على أمر هو الإقامة عليه، و المعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، و منه الاعتكاف و هو الإقامة في المسجد للعبادة.

و المعنى: المشركون مشركوا مكة هم الذين كفروا و منعوكم عن المسجد الحرام و منعوا الهدي - الذي سقتموه - حال كونه محبوسا من أن يبلغ محله أي الموضع الذي ينحر أو يذبح فيه و هو مكة التي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أن هدي الحج ينحر أو يذبح في منى، و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك.

قوله تعالى: "و لو لا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم" الوطء الدوس، و المعرة المكروه، و قوله: "أن تطئوهم" بدل اشتمال من مدخول لو لا، و جواب لو لا محذوف، و التقدير: ما كف أيديكم عنهم.

و المعنى: و لو لا أن تدوسوا رجالا مؤمنين و نساء مؤمنات بمكة و أنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم و إهلاكهم مكروه لما كف الله أيديكم عنهم.

و قوله: "ليدخل الله في رحمته من يشاء" اللام متعلق بمحذوف، و التقدير: و لكن كف أيديكم عنهم ليدخل في رحمته أولئك المؤمنين و المؤمنات غير المتميزين بسلامتهم من القتل و إياكم بحفظكم من أصابه المعرة.

و قيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفار بعد الصلح.

و قوله: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" التزيل التفرق و ضمير "تزيلوا" لجميع من تقدم ذكره من المؤمنين و الكفار من أهل مكة أي لو تفرقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفار لعذبنا الذين كفروا من أهل مكة عذابا أليما لكن لم نعذبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.

قوله تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" إلى آخر الآية قال الراغب: و عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت و كثرت بالحمية فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى: "حمية الجاهلية" و عن ذلك استعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.

و الظرف في قوله: "إذ جعل" متعلق بقوله سابقا: "و صدوكم" و قيل: متعلق بقوله: "لعذبنا" و قيل: متعلق باذكر المقدر، و الجعل بمعنى الإلقاء و "الذين كفروا" فاعله و الحمية مفعوله و "حمية الجاهلية" بيان للحمية و الجاهلية وصف موضوع في موضع الموصوف و التقدير الملة الجاهلية.

و لو كان "جعل" بمعنى صير كان مفعوله الثاني مقدرا و التقدير إذ جعل الذين كفروا الحمية راسخة في قلوبهم و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: "جعل الذين كفروا" للدلالة على سبب الحكم.

و معنى الآية: هم الذين كفروا و صدوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحمية حمية الملة الجاهلية.

و قوله: "فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين" تفريع على قوله: "جعل الذين كفروا" و يفيد نوعا من المقابلة كأنه قيل: جعلوا في قلوبهم الحمية فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين فاطمأنت قلوبهم و لم يستخفهم الطيش و أظهروا السكينة و الوقار من غير أن يستفزهم الجهالة.



و قوله: "و ألزمهم كلمة التقوى" أي جعلها معهم لا تنفك عنهم، و هي على ما اختاره جمهور المفسرين كلمة التوحيد و قيل: المراد الثبات على العهد و الوفاء به و قيل: المراد بها السكينة و قيل: قولهم: بلى في عالم الذر، و هو أسخف الأقوال.

و لا يبعد أن يراد بها روح الإيمان التي تأمر بالتقوى كما قال تعالى: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22، و قد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله: "و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه": النساء: 171.

و قوله: "و كانوا أحق بها و أهلها" أما كونهم أحق بها فلتمام استعدادهم لتلقي هذه العطية الإلهية بما عملوا من الصالحات فهم أحق بها من غيرهم، و أما كونهم أهلها فلأنهم مختصون بها لا توجد في غيرهم و أهل الشيء خاصته.

و قيل: المراد و كانوا أحق بالكسينة و أهلها، و قيل: إن في الكلام تقديما و تأخيرا و الأصل و كانوا أهلها و أحق بها و هو كما ترى.

و قوله: "و كان الله بكل شيء عليما" تذييل لقوله: "و كانوا أحق بها و أهلها" أو لجميع ما تقدم، و المعنى على الوجهين ظاهر.

قوله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون" الخ، قيل: إن صدق و كذب مخففين يتعديان إلى مفعولين يقال: صدقت زيدا الحديث و كذبته الحديث، و إلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث و كذبته فيه، و مثقلين يتعديان إلى مفعول واحد يقال: صدقته في حديثه و كذبته في حديثه.

و اللام في "لقد صدق الله" للقسم، و قوله: "لتدخلن المسجد الحرام" جواب القسم.

و قوله: "بالحق" حال من الرؤيا و الباء فيه للملابسة، و التعليق بالمشية في قوله: "إن شاء الله" لتعليم العباد و المعنى: أقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا التي أراه لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شر المشركين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون المشركين.

و قوله: "فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" "ذلك" إشارة إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، و المراد بقوله: "من دون ذلك" أقرب من ذلك و المعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه و لم تعلموه، و لذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحا قريبا ليتيسر لكم الدخول كذلك.

و من هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية فهو الذي سوى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين و يسر لهم ذلك و لو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلا بالقتال و سفك الدماء و لا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية و ما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.

و من هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، و أما القول بأنه فتح مكة فأبعد.

و سياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دخولهم المسجد آمنين محلقين رءوسهم و مقصرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلما خرجوا قاصدين مكة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية و صدوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.



و محصله: أن الرؤيا حقة أراها الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد صدق تعالى في ذلك، و ستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون، لكنه تعالى أخره و قدم عليه هذا الفتح و هو صلح الحديبية ليتيسر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون إلا بهذا الطريق.

قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله" إلخ، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، و قوله: "و كفى بالله شهيدا" أي شاهدا على صدق نبوته و الوعد إن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين" الآية: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت و نحن هاهنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو مكث كذا و كذا سنة ما طاف حتى أطوف.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و مسلم و ابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبايع الناس و أنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه و نحن أربع عشرة مائة و لم نبايعه على الموت و لكن بايعناه على أن لا نفر.

أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مروي في روايات أخرى، و في بعض الروايات ألف و ثلاثمائة و في بعضها إلى ألف و ثمان مائة، و كذا كون البيعة على أن لا يفروا و في بعضها على الموت.

و فيه، أخرج أحمد عن جابر و مسلم عن أم بشر عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "فعلم ما في قلوبهم - فأنزل السكينة عليهم" قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.

أقول: و الرواية تخصص ما تقدم عليها و يدل عليه قوله تعالى فيما تقدم: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما" فاشترط في الأجر - و يلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء و عدم النكث، و قد أورد القمي هذا المعنى في تفسيره و كأنه رواية.



و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: "إذ جعل الذين كفروا" الآية: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية نرجىء الصلح الذي كان بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المشركين و لو نرى قتالا لقاتلنا. فجاء عمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أ لسنا على الحق و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ و نرجع و لما يحكم الله بيننا و بينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله و لن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر أ لسنا على الحق و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله و لن يضيعه الله أبدا فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عمر فأقرأه إياها فقال: يا رسول الله أ و فتح هو؟ قال: نعم.

و في كمال الدين، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذبنا الذين كفروا.

أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر.

و بإسناده عن جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: "و ألزمهم كلمة التقوى" قال: هو الإيمان.

و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و الدارقطني في الإفراد و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "و ألزمهم كلمة التقوى" قال: لا إله إلا الله.

أقول: و روي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن علي و سلمة بن الأكوع و أبي هريرة، و روي أيضا من طرق الشيعة كما في العلل، بإسناده عن الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علي (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث يفسر فيه "سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر" قال (صلى الله عليه وآله وسلم): و قوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلا بها، و هي كلمة التقوى يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.

و في المجمع، في قصة فتح خيبر قال: و لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ثم خرج منها غاديا إلى خيبر.

ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا منها و أشرفنا عليها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قفوا فوقف الناس فقال اللهم رب السماوات السبع و ما أظللن و رب الأرضين السبع و ما أقللن و رب الشياطين و ما أضللن إنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شر هذه القرية و شر أهلها و شر ما فيها. أقدموا بسم الله.



و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: أ لا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلا شاعرا فجعل يقول: لا هم لو لا أنت ما حجينا و لا تصدقنا و لا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتنينا و ثبت الأقدام إن لاقينا و أنزلن سكينة علينا إنا إذا صيح بنا أتينا و بالصياح عولوا علينا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال عمر و هو على جمل له وجيب: يا رسول الله لو لا أمتعتنا به، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما استغفر لرجل قط يخصه إلا استشهد. قالوا: فلما جد الحرب و تصاف القوم خرج يهودي و هو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز إليه عامر و هو يقول: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهودي في ترس عامر و كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أبكي فقلت: قالوا: إن عامرا بطل عمله، فقال: من قال ذلك؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: كذب أولئك بل أوتي من الأجر مرتين. قال: فحاصرناهم حتى أصابنا مخمصة شديدة ثم إن الله فتحها علينا، و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى اللواء عمر بن الخطاب و نهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر و أصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبنه أصحابه و يجبنهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبر فقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.

و روى البخاري و مسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن الإسكندراني عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله. قال: فبات الناس يدوكون بجملتهم أنهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم يرجون أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم. قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب... الأبيات، فبرز له علي و هو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح على يده:. أورده مسلم في صحيحه. و روى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي باب الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

و بإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر بن عبد الله: أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فاقتحموها، و أنه حرك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا:. قال: و روي من وجه آخر عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.



و بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي يلبس في الحر و الشتاء القباء المحشو الثخين و ما يبالي الحر فأتاني أصحابي فقالوا: إنا رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل رأيت؟ فقلت: و ما هو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء المحشو الثخين و ما يبالي الحر، و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين و ما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئا؟ فقلت: لا فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك فإنه يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على علي فسمر معه ثم سأله عن ذلك فقال: أ و ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى. قال: أ فما رأيت رسول الله حين دعا أبا بكر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم ثم جاء بالناس و قد هزم ثم بعث إلى عمر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثم رجع و قد هزم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله على يديه كرارا غير فرار فدعاني و أعطاني الراية ثم قال: اللهم اكفه الحر و البرد فما وجدت بعد ذلك حرا و لا بردا و هذا كله منقول من كتاب دلائل النبوة للإمام أبي بكر البيهقي.

قال الطبرسي: ثم لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفتح الحصون حصنا حصنا و يحوز الأموال حتى انتهوا إلى حصن الوطيح و السلالم و كان آخر حصون خيبر افتتح، و حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بضع عشرة ليلة.



قال ابن إسحاق: و لما افتتح القموص حصن أبي الحقيق أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفية بنت حيي بن أخطب و بأخرى معها فمر بهما بلال و هو الذي جاء بهما على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي معها صفية صاحت و صكت وجهها و حثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أعزبوا عني هذه الشيطانة، و أمر بصفية فحيزت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، و قال لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟ و كانت صفية قد رأت في المنام و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا و لطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها فأتي بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بها أثر منها فسألها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هو؟ فأخبرته. و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل فأكلمك؟ قال: نعم. فنزل و صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة و ترك الذرية لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم و يخلون بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين ما كان لهم من مال و أرض على الصفراء و البيضاء و الكراع و الخلقة و على البز إلا ثوبا على ظهر إنسان، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبرئت منكم ذمة الله و ذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيرهم و يحقن دماءهم و يخلون بينه و بين الأموال ففعل و كان ممن مشى بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة. فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعاملهم الأموال على النصف، و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، و صالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين و كانت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب. و لما اطمأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم و هي ابنة أخي مرحب شاة مصلية، و قد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم و سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها و لاك منها مضغة و انتهش منها و معه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظما فانتهش منه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنها مسمومة ثم دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيا فسيخبر و إن كان ملكا استرحت منه فتجاوز عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: و دخلت أم بشر بن البراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعوده في مرضه الذي توفي فيه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري، و كان المسلمون يرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة.

48 سورة الفتح - 29

محَمّدٌ رّسولُ اللّهِ وَ الّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ رِضوَناً سِيمَاهُمْ فى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السجُودِ ذَلِك مَثَلُهُمْ فى التّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فى الانجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شطئَهُ فَئَازَرَهُ فَاستَغْلَظ فَاستَوَى عَلى سوقِهِ يُعْجِب الزّرّاعَ لِيَغِيظ بهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ مِنهُم مّغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيمَا (29)

بيان

الآية خاتمة السورة تصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تصف الذين معه بما وصفهم به في التوراة و الإنجيل و تعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات وعدا جميلا، و للآية اتصال بما قبلها حيث أخبر فيه أنه أرسل رسوله بالهدى و دين الحق.

قوله تعالى: "محمد رسول الله" إلى آخر الآية، الظاهر أنه مبتدأ و خبر فهو كلام تام، و قيل: "محمد" خبر مبتدإ محذوف و هو ضمير عائد إلى الرسول في الآية السابقة و التقدير: هو محمد، و "رسول الله" عطف بيان أو صفة أو بدل، و قيل: "محمد" مبتدأ و "رسول الله" عطف بيان أو صفة أو بدل و "الذين معه" معطوف على المبتدإ و "أشداء على الكفار" إلخ، خبر المبتدإ.

و قوله: "و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" مبتدأ و خبر، فالكلام مسوق لتوصيف الذين معه و الشدة و الرحمة المذكورتان من نعوتهم.

و تعقيب قوله: "أشداء على الكفار" بقوله: "رحماء بينهم" لدفع ما يمكن أن يتوهم أن كونهم أشداء على الكفار يستوجب بعض الشدة فيما بينهم فدفع ذلك بقوله: "رحماء بينهم" و أفادت الجملتان أن سيرتهم مع الكفار الشدة و مع المؤمنين فيما بينهم الرحمة.

و قوله: "تراهم ركعا سجدا" الركع و السجد جمعا راكع و ساجد، و المراد بكونهم ركعا سجدا إقامتهم للصلاة، و "تراهم" يفيد الاستمرار، و المحصل: أنهم مستمرون على الصلاة، و الجملة خبر بعد خبر للذين معه.

و قوله: "يبتغون فضلا من الله و رضوانا" الابتغاء الطلب، و الفضل العطية و هو الثواب، و الرضوان أبلغ من الرضا.

و الجملة إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الركوع و السجود كان الأنسب أن تكون حالا من ضمير المفعول في "تراهم" و إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الحياة مطلقا كما هو الظاهر كانت خبرا بعد خبر للذين معه.

و قوله: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" السيما العلامة و "سيماهم في وجوههم" مبتدأ و خبر و "من أثر السجود" حال من الضمير المستكن في الخبر أو بيان للسيما أي إن سجودهم لله تذللا و تخشعا أثر في وجوههم أثرا و هو سيما الخشوع لله يعرفهم به من رآهم، و يقرب من هذا المعنى ما عن الصادق (عليه السلام) أنه السهر في الصلاة.

و قيل: المراد أثر التراب في جباههم لأنهم كانوا إنما يسجدون على التراب لا على الأثواب.

و قيل: المراد سيماهم يوم القيامة فيكون موضع سجودهم يومئذ مشرقا مستنيرا.

و قوله: "ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل" المثل هو الصفة أي الذي وصفناهم به من أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم إلخ، وصفهم الذي وصفناهم به في الكتابين التوراة و الإنجيل.

فقوله: "و مثلهم في الإنجيل" معطوف على قوله: "مثلهم في التوراة" و قيل: إن قوله: "و مثلهم في الإنجيل" إلخ، استئناف منقطع عما قبله، و هو مبتدأ خبره قوله: "كزرع أخرج شطأه" إلخ، فيكون وصفهم في التوراة هو أنهم أشداء على الكفار - إلى قوله -: "من أثر السجود"، و وصفهم في الإنجيل هو أنهم كزرع أخرج شطأه إلخ.

و قوله: "كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع" شطء النبات أفراخه التي تتولد منه و تنبت حوله، و الإيزار الإعانة، و الاستغلاظ الأخذ في الغلظة، و السوق جمع ساق، و الزراع جمع زارع.

و المعنى: هم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت و غلظت و قام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

و فيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة و العدة و القوة يوما فيوما و لذلك عقبه بقوله: "ليغيظ بهم الكفار".

و قوله: "وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما" ضمير "منهم" للذين معه، و "من" للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم و يفيد الكلام اشتراط المغفرة و الأجر العظيم بالإيمان حدوثا و بقاء و عمل الصالحات فلو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: "و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم": التوبة: 101، أو آمن أولا ثم أشرك و كفر كما في قوله: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى - إلى أن قال - و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم": سورة محمد: 30.

أو آمن و لم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك و آية التبين في نبأ الفاسق و أمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة و الأجر العظيم.

و نظير هذا الاشتراط ما تقدم في قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما" و يؤيده أيضا ما فهمه ابن عباس من قوله تعالى: "فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم" حيث فسره بقوله: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء، و قد تقدمت الرواية.

و نظير الآية أيضا في الاشتراط قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى أن قال - و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون": النور: 55.

و قيل: إن "من" في الآية بيانية لا تبعيضية فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه.

و هو مدفوع - كما قيل - بأن "من" البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في كلامهم، و الاستشهاد لذلك بقوله تعالى: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم" مبني على إرجاع ضمير "تزيلوا" إلى المؤمنين و ضمير "منهم" للذين كفروا، و قد تقدم في تفسير الآية أن الضميرين جميعا راجعان إلى مجموع المؤمنين و الكافرين من أهل مكة فتكون "من" تبعيضية لا بيانية.

و بعد ذلك كله لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من غير اشتراط بالإيمان و العمل الصالح و كانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا و أصلحوا أو فسقوا - لزمته لزوما بينا لغوية جميع التكاليف الدينية في حقهم و ارتفاعها عنهم و هذا مما يدفعه الكتاب و السنة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه و إن لم يتعرض له في اللفظ، و قد قال تعالى في أنبيائه: "و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون": الأنعام: 88، فأثبته في أنبيائه و هم معصومون فكيف فيمن هو دونهم.

فإن قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة و الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح اشتراط عقلي كما ذكر و لا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله: "وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم" يشهد باتصافهم بالإيمان و عمل الصالحات و أنهم واجدون للشرط.

و خاصة بالنظر إلى تأخير "منهم" عن قوله: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات" حيث يدل على أن عمل الصالحات لا ينفك عنهم بخلاف قوله في آية النور: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم": النور: 55، كما ذكره بعضهم، و يؤيده أيضا قوله في مدحهم "تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا" حيث يدل على الاستمرار.

قلنا: أما تأخير "منهم" في الآية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفك عنهم بل لأن موضوع الحكم هو مجموع "الذين آمنوا و عملوا الصالحات" و لا يترتب على مجرد الإيمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة و الأجر ثم قوله: "منهم" متعلق بمجموع الموضوع فمن حقه أن يذكر بعد تمام الموضوع و هو "الذين آمنوا و عملوا الصالحات"، و أما تقدم الضمير في قوله: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم" فلانة مسوق سوق البشرى للمؤمنين و الأنسب لها التسريع في خطاب من بشر بها لينشط بذلك و ينبسط لتلقي البشرى.

و أما دلالة قوله: "تراهم ركعا سجدا" إلخ، على الاستمرار فإنما يدل عليه في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، و أما في المستقبل فلا و مصب إشكال لغوية الأحكام إنما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلق التكليف بل تؤكده بخلاف تعلق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنه لا يجامع بقاء التكليف المولوي على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف و هو مقطوع البطلان.

على أن ارتفاع التكاليف يستلزم ارتفاع المعصية و يرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك يستلزم عدمها.

49 سورة الحجرات - 1 - 10

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَىِ اللّهِ وَ رَسولِهِ وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصوَتَكُمْ فَوْقَ صوْتِ النّبىِّ وَ لا تجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكمْ لِبَعْضٍ أَن تحْبَط أَعْمَلُكُمْ وَ أَنتُمْ لا تَشعُرُونَ (2) إِنّ الّذِينَ يَغُضونَ أَصوَتَهُمْ عِندَ رَسولِ اللّهِ أُولَئك الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبهُمْ لِلتّقْوَى لَهُم مّغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَك مِن وَرَاءِ الحُْجُرَتِ أَكثرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنهُمْ صبرُوا حَتى تخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكانَ خَيراً لّهُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (5) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بجَهَلَةٍ فَتُصبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نَدِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكمْ فى كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتّمْ وَ لَكِنّ اللّهَ حَبّب إِلَيْكُمُ الايمَنَ وَ زَيّنَهُ فى قُلُوبِكمْ وَ كَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسوقَ وَ الْعِصيَانَ أُولَئك هُمُ الرّشِدُونَ (7) فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَ إِن طائفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَيْنهُمَا فَإِن بَغَت إِحْدَاهُمَا عَلى الأُخْرَى فَقَتِلُوا الّتى تَبْغِى حَتى تَفِىءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَيْنهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطوا إِنّ اللّهَ يحِب الْمُقْسِطِينَ (9) إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيْكمْ وَ اتّقُوا اللّهَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (10)

بيان

تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد و يستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه و مع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، و منها ما يتعلق بالإنسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، و منها ما يتعلق بتفاضل الأفراد و هو من أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني و يهدي الإنسان إلى الحياة السعيدة و العيش الطيب الهنيء و يتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية و غيرها و تختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان و الإسلام و امتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان.

و السورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى" الآية و سيجيء.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله و اتقوا الله إن الله سميع عليم" بين يدي الشيء أمامه و هو استعمال شائع مجازي أو استعاري و إضافته إلى الله و رسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى و بين رسوله و هو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه و برسوله بإذنه كما قال تعالى: "إن الحكم إلا لله": يوسف: 40، و قال: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله": النساء: 64.

و من الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" و تذييله بقوله: "و اتقوا الله إن الله سميع عليم" الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله و رسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله و رسوله و هو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية و العملية.

و بذلك يظهر أن المراد بقوله: "لا تقدموا" تقديم شيء ما من الحكم قبال حكم الله و رسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله و رسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر به من الله و رسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: "إن الله سميع عليم" يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل و دون الأعم الشامل للقول و الفعل و إلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول و بالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: "و الله بما تعملون بصير": الحديد: 4، فمحصل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله و لرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله و رسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله و رسوله و لتكن عليكم سمة الاتباع و الاقتفاء.

لكن بالنظر إلى أن كل فعل و ترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه و كذلك العزم و الإرادة إلى فعل أو ترك يدخل الأفعال و التروك و كذا إرادتها و العزم عليها في حكم الاتباع، و يفيد النهي عن التقديم بين يدي الله و رسوله النهي عن المبادرة و الإقدام إلى قول لم يسمع من الله و رسوله، و إلى فعل أو ترك أو عزم و إرادة بالنسبة إلى شيء منهما قبل تلقي الحكم من الله و رسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء: 27.



و هذا الاتباع المندوب إليه بقوله: "لا تقدموا بين يدي الله و رسوله" هو الدخول في ولاية الله و الوقوف في موقف العبودية و السير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: "و ما تشاءون إلا أن يشاء الله": الإنسان: 30، و قال: "و الله ولي المؤمنين": آل عمران: 68، و قال: "و الله ولي المتقين": الجاثية: 19.

و للقوم في قوله تعالى: "لا تقدموا بين يدي الله و رسوله" وجوه منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم و معنى "لا تقدموا بين يدي الله و رسوله" لا تعجلوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله و لا تقطعوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله، و ربما قيل: إن التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالإعراض عن متعلقاته كقوله: "يحيي و يميت": الحديد: 2، فيئول المعنى إلى مجرد كون شيء قدام شيء فيرجع إلى معنى التقدم.

و اللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشية و الجلسة، و التقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها و غير ذلك.

و منها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي إذا كنتم في مجلسه و سئل عن شيء فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا.

و منها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به.

و منها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم و أفعالكم على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فعله و لا تمكنوا أحدا يمشي أمامه.

و الظاهر أن تفسير "لا تقدموا بين يدي الله و رسوله" بالنهي عن التقديم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد و كرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أن السبقة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه.

و لعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شيء من هذه الوجوه.

و قوله: "و اتقوا الله إن الله سميع عليم" أمر بالتقوى في موقف الاتباع و العبودية و لا ظرف للإنسان إلا ظرف العبودية و لذلك أطلق التقوى.

و في قوله: "إن الله سميع عليم" تعليل للنهي و التقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم و لا في سركم لأن الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم و باطنكم و علانيتكم و سركم.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلخ، و ذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته و تكليمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرفع من صوته و أجهر لأن في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به و هو الكفر، و إما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه و هو خلاف التعظيم و التوقير المأمور به.

و قوله: "و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب و الوقاحة.

و قوله: "أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون" أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، و هو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته و الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإن فيهما الحبط، و قد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.



و جوز بعضهم كون "أن تحبط" إلخ، تعليلا للمنهي عنه و هو الرفع و الجهر، و المعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهي عنه، و الفرق بين تعليله للنهي و تعليله للمنهي عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الأول و الفعل المعلل منهي عنه على الثاني، و فيه تكلف ظاهر.

و ظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.

و قد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان،: و قال أصحابنا: أن المعنى في قوله: "أن تحبط أعمالكم" إنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و توقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب و فاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية.

و لأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل و هم يعلقونه بالمستحق على العمل و ذلك خلاف الظاهر.

انتهي.

و فيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الأعمال أيضا متعلق في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، و كونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.

و قد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث أدائهما أحيانا إلى إيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إيذاؤه كفر و الكفر محبط للعمل.

قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقا و معلوم أن ملاكه التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق.

فورد النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة و حسما للمادة.

ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر و هو المؤذي له عليه الصلاة و السلام و إلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، و لا دليل يميز أحد القسمين من الآخر و لو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل و هو البالغ حد الأذى.

و إلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى: "أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون" و إلا فلو كان رفع الصوت و الجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد الأذى أو لم يبلغا لم يكن موقع لقوله تعالى: "و أنتم لا تشعرون" إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الأذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالإحباط محقق على أي تقدير فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي.

انتهى ملخصا.



و فيه أن ظهور قوله: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" في النهي النفسي دون النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي الشرعي عنه كالافتراء و الإفك، و كان الذين يأتون بهما المؤمنين كما صدر النهي بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" و هم و إن أمكن أن يسامحوا في بعض السيئات بحسبانه هينا لكنهم لا يرضون ببطلان إيمانهم و أعمالهم الصالحة من أصله.

فنبه سبحانه بقوله: "أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون" على أنكم لا تشعرون بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئا منهما أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون.

فقوله: "و أنتم لا تشعرون" ناظر إلى حالهم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، و أما بعد صدور البيان الإلهي فهم شاعرون بالإحباط.

فالآية من وجه نظيره قوله تعالى في آيات الإفك: "و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم": النور: 15، و قوله في آيات القيامة: "و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون": الزمر: 47.

قوله تعالى: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" إلخ، غض الصوت خلاف رفعه، و معنى الامتحان الابتلاء و الاختبار و إنما يكون لتحصيل العلم بحال الشيء المجهول قبل ذلك، و إذ يستحيل ذلك في حقه تعالى فالمراد به هنا التمرين و التعويد - كما قيل - أو حمل المحنة و المشقة على القلب ليعتاد بالتقوى.

و الآية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد توصيفهم بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى و الذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، و فيه تأكيد و تقوية لمضمون الآية السابقة و تشويق للانتهاء بما فيها من النهي.

و في التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الأمر شيء فما له فلمرسله، و تعظيمه و توقيره تعظيم لمرسله و توقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم و تكبير لله سبحانه، و المداومة و الاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: "يغضون" المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى و امتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.

و قوله: "لهم مغفرة و أجر عظيم" وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، و العاقبة للتقوى.

قوله تعالى: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون" سياق الآية يؤدي أنه واقع و أنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب و واجب التعظيم و التوقير فذمهم الله سبحانه حيث وصف أكثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.

قوله تعالى: "و لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم و الله غفور رحيم" أي و لو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الأدب و رعاية التعظيم و التوقير لمقام الرسالة، و كان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله و رحمته لأنه غفور رحيم.

فقوله: "و الله غفور رحيم" كالناظر إلى ما ذكر من الصبر و يمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون و المعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة و سوء الأدب معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل و فهم منهم بل عن قصور في ذلك و الله غفور رحيم.



قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" إلخ، الفاسق - كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، و النبأ الخبر العظيم الشأن، و التبين و الاستبانة و الإبانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد و هي تتعدى و لا تتعدى فإذا تعدت كانت بمعنى الإيضاح و الإظهار يقال: تبينت الأمر و استبنته و أبنته أي أوضحته و أظهرته، و إذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح و الظهور يقال: أبان الأمر و استبان و تبين أي اتضح و ظهر.

و معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره بالبحث و الفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم.

و قد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر و هو من الأصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الإنسانية، و أمر بالتبين في خبر الفاسق و هو في معنى النهي عن العمل بخبره، و حقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته و هذا أيضا كالإمضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به و عدم ترتيب الأثر على خبره.

بيان ذلك: أن حياة الإنسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير و الشر و النافع و الضار و الرأي الذي يأخذ به فيه، و لا يتيسر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه و مشهد، و ما غاب عنه مما تتعلق به حياته و معاشه أكثر مما يحضره و أكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة و النظر، و لا طريق إليه إلا السمع و هو الخبر.

فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملا و معاملة مضمونة معاملة العلم الحاصل للإنسان من طريق المشاهدة و النظر في الجملة مما يتوقف عليه حياة الإنسان الاجتماعية توقفا ابتدائيا، و عليه بناء العقلاء و مدار العمل.

فالخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجة معتبرة من غير توقف فيها فإن لم يكن متواترا و لا محفوفا بما يفيد قطعية مضمونه و هو المسمى بخبر الواحد اصطلاحا كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه و إن لم يفده بحسب شخصه، و كل ذلك لأنهم لا يعملون إلا بما يرونه علما و هو العلم الحقيقي أو الوثوق و الظن الاطمئناني المعدود علما عادة.

إذا تمهد هذا فقوله تعالى في تعليل الأمر بالتبين في خبر الفاسق: "أن تصيبوا قوما بجهالة" إلخ، يفيد أن المأمور به هو رفع الجهالة و حصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به و ترتيب الأثر عليه ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء و نفي ما نفوه في هذا الباب، و هو إمضاء لا تأسيس.

قوله تعالى: "و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" إلخ، العنت الإثم و الهلاك، و الطوع و الطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في الائتمار لما أمر و الارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربما يعكس الأمر فيسمى جري المتبوع على ما يريده التابع و يهواه طاعة من المتبوع للتابع و منه قوله تعالى في الآية: "لو يطيعكم" حيث سمي عمل الرسول على ما يراه و يهواه المؤمنون طاعة منه لهم.



و الآية على ما يفيده السياق من تتمة الكلام في الآية السابقة تعمم ما فيها من الحكم و تؤكد ما فيها من التعليل فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبين في خبر الفاسق و تعليله بوجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، و مضمون هذه الآية تنبيه المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد و لذلك حبب إليهم الإيمان و زينة في قلوبهم و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أن فيهم رسول الله و هو مؤيد من عند الله و على بينة من ربه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون الغي فعليهم أن يطيعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يأمرهم به و يريدوا ما أراده و يختاروا ما اختاره، و لا يصروا على أن يطيعهم في آرائهم و أهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا و هلكوا.

فقوله: "و اعلموا أن فيكم رسول الله" عطف على قوله في الآية السابقة: "فتبينوا" و تقديم الخبر للدلالة على الحصر، و الإشارة إلى ما هو لازمه فإن اختصاصهم بكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم لازمه أن يتعلقوا بالرشد و يتجنبوا الغي و يرجعوا الأمور إليه و يطيعوه و يتبعوا أثره و لا يتعلقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.

فالمعنى: و لا تنسوا أن فيكم رسول الله، و هو كناية عن أنه يجب عليهم أن يرجعوا الأمور و يسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه و يأمر به من غير أن يتبعوا أهواء أنفسهم.

و قوله: "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" أي جهدتم و هلكتم، و الجملة كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لما ذا نرجع إليه و لا يرجع إلينا و لا يوافقنا؟ فأجيب بأنه "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم".

و قوله: "و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم" استدراك عما يدل عليه الجملة السابقة: "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" من أنهم مشرفون بالطبع على الهلاك و الغي فاستدرك أن الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب الإيمان و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان.

و المراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوبا عندهم و بتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلقون به و يعرضون عما يلهيهم عنه.

و قوله: "و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان" عطف على "حبب" و تكريه الكفر و ما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفر عنها نفوسهم، و الفرق بين الفسوق و العصيان - على ما قيل - إن الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، و العصيان نفس المعصية و إن شئت فقل: جميع المعاصي، و قيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة و العصيان سائر المعاصي.

و قوله: "أولئك هم الراشدون" بيان أن حب الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الإنسان بفطرته و يتنفر عن الغي الذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان و يتجنبوا الكفر و الفسوق و العصيان حتى يرشدوا و يتبعوا الرسول و لا يتبعوا أهواءهم.

و لما كان حب الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و نحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الآية السابقة، و قد وصف بذلك جماعتهم تحفظا على وحدتهم و تشويقا لمن لم يتصف بذلك منهم غير السياق و التفت عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "أولئك هم الراشدون" و الإشارة إلى من اتصف بحب الإيمان و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان، ليكون مدحا للمتصفين بذلك و تشويقا لغيرهم.



و اعلم أن في قوله: "و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" إشعارا بأن قوما من المؤمنين كانوا مصرين على قبول نبأ الفاسق الذي تشير إليه الآية السابقة، و هو الوليد بن عقبة أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلما رآهم هابهم و رجع إلى المدينة و أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم ارتدوا فعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتالهم فنزلت الآية فانصرف و في القوم بعض من يصر على أن يغزوهم.

و سيجيء القصة في البحث الروائي التالي.

قوله تعالى: "فضلا من الله و نعمة و الله عليم حكيم" تعليل لما تقدم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان و تزيينه و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان أي إن ذلك منه تعالى مجرد عطية و نعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلا جزافيا فإنه تعالى عليهم بمورد عطيته و نعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافا كما قال: "و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها و كان الله بكل شيء عليما": الفتح: 26.

قوله تعالى: "و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" إلى آخر الآية الاقتتال و التقاتل بمعنى واحد كالاستباق و التسابق، و رجوع ضمير الجمع في "اقتتلوا" إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإن كلا من الطائفتين جماعة و مجموعهما جماعة كما أن رجوع ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.

و نقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم، و في حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثنى الضمير.

و قوله: "فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" البغي الظلم و التعدي بغير حق، و الفيء الرجوع، و المراد بأمر الله ما أمر به الله، و المعنى: فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى بغير حق فقاتلوا الطائفة المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر به الله و تنقاد لحكمه.

و قوله: "فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل" أي فإن رجعت الطائفة المتعدية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحا بوضع السلاح و ترك القتال فحسب بل إصلاحا متلبسا بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدت به المتعدية من دم أو عرض أو مال أو أي حق آخر ضيعته.

و قوله: "و أقسطوا إن الله يحب المقسطين" الإقساط إعطاء كل ما يستحقه من القسط و السهم و هو العدل فعطف قوله: "و أقسطوا" على قوله: "أصلحوا بينهما بالعدل" من عطف المطلق على المقيد للتأكيد، و قوله: "إن الله يحب المقسطين" تعليل يفيد تأكيدا على تأكيد كأنه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل و أعدلوا دائما و في جميع الأمور لأن الله يحب العادلين لعدالتهم.

قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم" استئناف مؤكد لما تقدم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، و قصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الإخوة مقدمة ممهدة لتعليل ما في قوله: "فأصلحوا بين أخويكم" من حكم الصلح فيفيد أن الطائفتين المتقاتلتين لوجود الإخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح، و المصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.

و قوله: "فأصلحوا بين أخويكم" و لم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام و ألطفه حيث يفيد أن المتقاتلتين بينهما أخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح و سائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما.

و قوله: "و اتقوا الله لعلكم ترحمون" موعظة للمتقاتلتين و المصلحين جميعا.

كلام في معنى الإخوة

و اعلم أن قوله: "إنما المؤمنون إخوة" جعل تشريعي لنسبة الإخوة بين المؤمنين لها آثار شرعية و حقوق مجعولة، و قد تقدم في بعض المباحث المتقدمة أن من الأبوة و البنوة و الأخوة و سائر أنواع القرابة ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع و القوانين لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة و الإنفاق و حرمة الإزدواج و غير ذلك، و منها ما هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.

و الاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالأخوين المتولدين بين الرجل و المرأة عن نكاح مشروع، و ربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولد من زنا فإنه ليس ولدا في الإسلام و لا يلحق بمولده و إن كان ولدا طبيعيا، و كالداعي الذي هو ولد في بعض القوانين و ليس بولد طبيعي.

و اعتبار المعنى الاعتباري و إن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأسا لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبر أمر المجتمع و يحكم بينهم و فيهم كما يحكم الرأس على البدن.

لكن لما كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعا للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبت عليه جميعا و إن اقتضت بعضها كان المترتب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أن القراءة مثلا جزء من الصلاة و الجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه الكل مطلقا لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهوا و إنما تبطل الصلاة إذا تركت عمدا.

و لذلك أيضا ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة كجزئية الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته و نقيصته عمدا و سهوا بخلاف جزئية القراءة كما تقدم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتب الآثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري كالإنسان يتصرف في ماله لكن لا بما أنه إنسان بل بما أنه مالك و الأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنه أخ طبيعي يشارك الميت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك و لا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لأنه أخ في الشريعة الإسلامية.

و الإخوة من هذا القبيل فمنها أخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع و القوانين و هي اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، و منها أخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية و هي في الإسلام أخوة نسبية لها آثار في النكاح و الإرث، و أخوة رضاعية لها آثار في النكاح دون الإرث، و أخوة دينية لها آثار اجتماعية و لا أثر لها في النكاح و الإرث، و سيجيء قول الصادق (عليه السلام): المؤمن أخو المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه، و لا يظلمه و لا يغشه، و لا يعده عدة فيخلفه.

و قد خفي هذا المعنى على بعض المفسرين فأخذ إطلاق الإخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقا مجازيا من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، و الإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، و قيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للبقاء الأبدي.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا": روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ما سلت السيوف، و لا أقيمت الصفوف في صلاة و لا زحوف، و لا جهر بأذان، و لا أنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا" حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس و الخزرج. أقول: و عن ابن عباس أيضا: ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا بالمدينة، و لا "يا أيها الناس" إلا بمكة الخبر.



و توقف بعضهم في عموم ذيله، و اعلم أن هناك روايات في الدر المنثور، و تفسير القمي، في سبب نزول قوله: "لا تقدموا بين يدي الله و رسوله" الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو يعلى و البغوي في معجم الصحابة، و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، عن أنس قال: لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا - لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي إلى قوله و أنتم لا تشعرون" و كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حبط عملي أنا من أهل النار، و جلس في بيته حزينا. ففقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أجهر له بالقول حبط عملي و أنا من أهل النار، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة قتل.

أقول: قوله: "فلما كان يوم اليمامة قتل" من كلام الراوي يريد أنه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الرواية مروية بطرق مختلفة أخرى باختلاف يسير.

و فيه، أخرج البخاري في الأدب، و ابن أبي الدنيا و البيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشي من خارج بمسوح الشعر و أظن عرض الباب من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع و أحزر البيت الداخل عشرة أذرع، و أظن سمكه بين الثمان و السبع: أقول: و روي مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود.

الحديث.



و فيه، أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن منده و ابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه و أقررت به، و دعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام و أداء الزكاة فمن استجاب لي و ترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا و كذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له و بلغ الإبان الذي أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطه من الله و رسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة و ليس من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخلف و لا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن الحارث منعني الزكاة و أراد قتلي فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: و لم؟ قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة و أردت قتله. قال: لا و الذي بعث محمدا بالحق ما رأيته و لا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: منعت الزكاة و أردت قتل رسولي؟ قال: لا و الذي بعثك بالحق ما رأيته و لا رآني و ما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خشيت أن يكون كانت سخطة من الله و رسوله فنزل "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ - فتبينوا إلى قوله حكيم".

أقول: نزول الآية في قصة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنة و الشيعة و قال ابن عبد البر في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز و جل: "إن جاءكم فاسق بنبأ" نزلت في الوليد بن عقبة.

و في المحاسن، بإسناده عن زياد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث له قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلا الحب؟ أ لا ترى إلى قول الله: "إن كنتم تحبون الله فاتبعوني - يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم"؟ أ و لا ترون إلى قول الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم" قال: "يحبون من هاجر إليهم" و قال: الحب هو الدين و الدين هو الحب: أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) ما في معناه و لفظه: و هل الإيمان إلا الحب و البغض؟ ثم تلا هذه الآية: "حبب إليكم الإيمان" إلى آخر الآية:. و في المجمع، و قيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عباس و ابن زيد و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):.

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر.

و في الكافي، بإسناده عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن عينه و دليله لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشه و لا يعده عدة فيخلفه.

أقول: و في معناه روايات أخر عنه (عليه السلام) و في بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه. و في المحاسن، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمه و ذلك أن الله تبارك و تعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، و أجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه و أمه. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق و ركب حمارا و انطلق المسلمون يمشون و هي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فقال رجل من الأنصار: و الله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد و الأيدي و النعال فأنزل فيهم "و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - فأصلحوا بينهما".

أقول: و في بعض الروايات كما في المجمع، أن الذي قال ذلك لعبد الله بن أبي بن سلول هو عبد الله بن رواحة و أن التضارب وقع بين رهطه من الأوس و رهط عبد الله بن أبي من الخزرج، و في انطباق الآية بموضوعها و حكمها على هذه الروايات خفاء.

49 سورة الحجرات - 11 - 18

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسى أَن يَكُونُوا خَيراً مِّنهُمْ وَ لا نِساءٌ مِّن نِّساءٍ عَسى أَن يَكُنّ خَيراً مِّنهُنّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنفُسكمْ وَ لا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَبِ بِئْس الاسمُ الْفُسوقُ بَعْدَ الايمَنِ وَ مَن لّمْ يَتُب فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ (11) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظنِّ إِنّ بَعْض الظنِّ إِثْمٌ وَ لا تجَسسوا وَ لا يَغْتَب بّعْضكُم بَعْضاً أَ يحِب أَحَدُكمْ أَن يَأْكلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ (12) يَأَيهَا النّاس إِنّا خَلَقْنَكم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنثى وَ جَعَلْنَكمْ شعُوباً وَ قَبَائلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكرَمَكمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الأَعْرَاب ءَامَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِن قُولُوا أَسلَمْنَا وَ لَمّا يَدْخُلِ الايمَنُ فى قُلُوبِكُمْ وَ إِن تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسولَهُ لا يَلِتْكم مِّنْ أَعْمَلِكُمْ شيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (14) إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَهَدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فى سبِيلِ اللّهِ أُولَئك هُمُ الصدِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللّهَ بِدِينِكمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنّونَ عَلَيْك أَنْ أَسلَمُوا قُل لا تَمُنّوا عَلىّ إِسلَمَكم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكمْ أَنْ هَدَاشْ لِلايمَنِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (17) إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

بيان

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن" إلخ، السخرية الاستهزاء و هو ذكر ما يستحقر و يستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليدا بحيث يضحك منه بالطبع، و القوم الجماعة و هو في الأصل الرجال دون النساء لقيامهم بالأمور المهمة دونهن، و هذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء.

و قوله: "عسى أن يكونوا خيرا منهم" و "عسى أن يكن خيرا منهن" حكمة النهي.

و المستفاد من السياق أن الملاك رجاء كون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر سواء كان الساخر رجلا أو امرأة و كذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخرية القوم من القوم و سخرية النساء من النساء لمكان الغلبة عادة.

و قوله: "و لا تلمزوا أنفسكم" اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، و تعليق اللمز بقوله: "أنفسكم" للإشارة إلى أنهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله: "أنفسكم" إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله: "و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" النبز بالتحريك هو اللقب، و يختص - على ما قيل - بما يدل على ذم فالتنابز بالألقاب ذكر بعضهم بعضا بلقب السوء مما يكرهه كالفاسق و السفيه و نحو ذلك.

و المراد بالاسم في "بئس الاسم الفسوق" الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء و الجود، و على هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإن الحري بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير و لا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان كذا و يا من أمه كانت كذا.

و يمكن أن يكون المراد بالاسم السمة و العلامة و المعنى: بئست السمة أن يوسم الإنسان بعد الإيمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كان يقال لمن اقترف معصية ثم تاب: يا صاحب المعصية الفلانية، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الإنسان نفسه بالفسوق بذكر الناس بما يسوءهم من الألقاب، و على أي معنى كان ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله: "و من لم يتب فأولئك هم الظالمون" أي و من لم يتب عن هذه المعاصي التي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها و لم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فأولئك ظالمون حقا فإنهم لا يرون بها بأسا و قد عدها الله معاصي و نهى عنها.

و في الجملة أعني قوله: "و من لم يتب" إلخ، إشعار بأن هناك من كان يقترف هذه المعاصي من المؤمنين.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم" إلى آخر الآية المراد بالظن المأمور بالاجتناب عنه ظن السوء فإن ظن الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى: "لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا": النور: 12.



و المراد بالاجتناب عن الظن الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كان يظن بأخيه المؤمن سوء فيرميه به و يذكره لغيره و يرتب عليه سائر آثاره، و أما نفس الظن بما هو نوع من الإدراك النفساني فهو أمر يفاجىء النفس لا عن اختيار فلا يتعلق به النهي اللهم إلا إذا كان بعض مقدماته اختياريا.

و على هذا فكون بعض الظن إثما من حيث كون ما يترتب عليه من الأثر إثما كإهانة المظنون به و قذفه و غير ذلك من الآثار السيئة المحرمة، و المراد بكثير من الظن - و قد جيء به نكرة ليدل على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظن - هو بعض الظن الذي هو إثم فهو كثير في نفسه و بعض من مطلق الظن، و لو أريد بكثير من الظن أعم من ذلك كأن يراد ما يعلم أن فيه إثما و ما لا يعلم منه ذلك كان الأمر بالاجتناب عنه أمرا احتياطيا توقيا من الوقوع في الإثم.

و قوله: "و لا تجسسوا" التجسس بالجيم تتبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، و مثله التحسس بالحاء المهملة إلا أن التجسس بالجيم يستعمل في الشر و التحسس بالحاء يستعمل في الخير، و لذا قيل: معنى الآية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الأمور التي سترها أهلها.

و قوله: "و لا يغتب بعضكم بعضا أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه" الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، و قد فسرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة و ضيقا في الفقه، و يئول إلى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوءه لو ذكر به و لذا لم يعدوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.

و الغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحدا بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجو من الاجتماع و هو أن يخالط كل صاحبه و يمازجه في أمن و سلامة بأن يعرفه إنسانا عدلا سويا يأنس به و لا يكرهه و لا يستقذره، و أما إذا عرفه بما يكرهه و يعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك و ضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة التي تأكل جثمان من ابتلي بها عضوا بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة.

و الإنسان إنما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة لأن يخالطه و يمازج فيفيد و يستفاد منه، و غيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة و تبطل منه هذه الهوية، و فيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح و لا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدل الصلاح فسادا و يذهب الأنس و الأمن و الاعتماد و ينقلب الدواء داء.

فهي في الحقيقة إبطال هوية اجتماعية على حين غفلة من صاحبها و من حيث لا يشعر به، و لو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرز منه و توقى انهتاك ستره و هو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الإنسان و نواقصه ليتم به ما أراده من طريق الفطرة من تألف أفراد الإنسان و تجمعهم و تعاونهم و تعاضدهم، و أين الإنسان و النزاهة من كل عيب.

و إلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله: "أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه" و قد أتي بالاستفهام الإنكاري و نسب الحب المنفي إلى أحدهم و لم يقل: بعضكم و نحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعابا و شمولا و لذا أكده بقوله بعد: "فكرهتموه" فنسب الكراهة إلى الجميع و لم يقل: فكرهه.



و بالجملة محصله أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتا، و إنما كان لحم أخيه لأنه من أفراد المجتمع الإسلامي المؤلف من المؤمنين و إنما المؤمنون إخوة، و إنما كان ميتا لأنه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.

و في قوله: "فكرهتموه" و لم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم و هو ميت فكما أن هذا مكروه لكم فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا.

و اعلم أن ما في قوله: "أ يحب أحدكم أن يأكل" إلخ، من التعليل جار في التجسس أيضا كالغيبة، و إنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، و التجسس هو التوصل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتبع آثاره و لذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله: "أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا" إلخ، تعليلا لكل من الجملتين أعني "و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا".

و اعلم أن في الكلام إشعارا أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، و من القرينة عليه قوله في التعليل: "لحم أخيه" فالأخوة إنما هي بين المؤمنين.

و قوله: "و اتقوا الله إن الله تواب رحيم" ظاهره أنه عطف على قوله: "اجتنبوا كثيرا من الظن" إن كان المراد بالتقوى هو التجنب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: "إن الله تواب رحيم" أن الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.

و إن كان هو التجنب عنها و التورع فيها و إن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله: "إن الله تواب رحيم" أن الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية و التوفيق و الحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.

و ذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا": التوبة: 118، و توبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة و قبول التوبة كما في قوله: "فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه": المائدة: 39.

قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" إلخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون و هو على ما في المجمع الحي العظيم من الناس كربيعة و مضر، و القبائل جمع قبيلة و هي دون الشعب كتميم من مضر.

و قيل: الشعوب دون القبائل و سميت بها لتشعبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حي واحد، و جمعه شعوب، قال تعالى: "شعوبا و قبائل" و الشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف و تفرق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الذي تفرق أخذت في وهمك واحدا يتفرق، و إذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، و شعبت إذا فرقت.

انتهي.

و قيل: الشعوب العجم و القبائل العرب، و الظاهر أن مآله إلى أحد القولين السابقين، و سيجيء تمام الكلام فيه.



ذكر المفسرون أن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، و عليه فالمراد بقوله: "من ذكر و أنثى" آدم و حواء، و المعنى: أنا خلقناكم من أب و أم تشتركون جميعا فيهما من غير فرق بين الأبيض و الأسود و العربي و العجمي و جعلناكم شعوبا و قبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا و يتم بذلك أمرا اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الإنسانية فهذا هو الغرض من جعل الشعوب و القبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتباهوا بالآباء و الأمهات.

و قيل: المراد بالذكر و الأنثى مطلق الرجل و المرأة، و الآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض و الأسود و العرب و العجم و الغني و الفقير و المولى و العبد و الرجل و المرأة، و المعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل و امرأة فكل واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، و الاختلاف الحاصل بالشعوب و القبائل - و هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهي - ليس لكرامة و فضيلة و إنما هو لأن تتعارفوا فيتم بذلك اجتماعكم.

و اعترض عليه بأن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب و ذمه كما يدل عليه قوله: "و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا" و ترتب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر، و يمكن أن يناقش فيه أن الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي و بناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي و كما يمكن نفي التفاخر بالأنساب و ذمه استنادا إلى أن الأنساب تنتهي إلى آدم و حواء و الناس جميعا مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه و ذمه استنادا إلى أن كل إنسان مولود من إنسانين و الناس جميعا مشتركون في ذلك.

و الحق أن قوله: "و جعلناكم شعوبا و قبائل" إن كان ظاهرا في ذم التفاخر بالأنساب فأول الوجهين أوجه، و إلا فالثاني لكونه أعم و أشمل.

و قوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" استئناف مبين لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، و ذلك أنه نبههم في صدر الآية على أن الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضا لا اختلاف بينهم و لا فضل لأحدهم على غيره، و أن الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب و القبائل إنما هو للتوصل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتم ائتلاف و لا تعاون و تعاضد من غير تعرف فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتفاضلوا بأمثال البياض و السواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضا و يستخدم إنسان إنسانا و يستعلي قوم على قوم فينجر إلى ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الحرث و النسل فينقلب الدواء داء.

ثم نبه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" على ما فيه الكرامة عنده، و هي حقيقة الكرامة.

و ذلك أن الإنسان مجبول على طلب ما يتميز به من غيره و يختص به من بين أقرانه من شرف و كرامة، و عامة الناس لتعلقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف و الكرامة في مزايا الحياة المادية من مال و جمال و نسب و حسب و غير ذلك فيبذلون جل جهدهم في طلبها و اقتنائها ليتفاخروا بها و يستعلوا على غيرهم.



و هذه مزايا وهمية لا تجلب لهم شيئا من الشرف و الكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة و الشقوة، و الشرف الحقيقي هو الذي يؤدي الإنسان إلى سعادته الحقيقية و هو الحياة الطيبة الأبدية في جوار رب العزة و هذا الشرف و الكرامة هو بتقوى الله سبحانه و هي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، و تتبعها سعادة الدنيا قال تعالى: "تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة": الأنفال: 67، و قال: "و تزودوا فإن خير الزاد التقوى": البقرة: 197، و إذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عند الله أتقاهم كما قال تعالى.

و هذه البغية و الغاية التي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها و لا تدافع بين المتلبسين بها على خلاف الغايات و الكرامات التي يتخذها الناس بحسب أوهامهم غايات يتوجهون إليها و يتباهون بها كالغنى و الرئاسة و الجمال و انتشار الصيت و كذا الأنساب و غيرها.

و قوله: "إن الله عليم خبير" فيه تأكيد لمضمون الآية و تلويح إلى أن الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه و خبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة و شرفا لأنفسهم فإنها وهمية باطلة فإنها جميعا من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون": العنكبوت: 64.

و في الآية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتبعوا في غايات الحياة أمر ربهم و يختاروا ما يختاره و يهدي إليه و قد اختار لهم التقوى كما أن من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.

قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم" إلخ الآية و ما يليها إلى آخر السورة متعرضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإيمانهم، و سياق نقل قولهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بقوله: "لم تؤمنوا" يدل على أن المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم، و يؤيده قوله: "و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر": التوبة: 99.

و قوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا" أي قالوا لك آمنا و ادعوا الإيمان قل لم تؤمنوا و كذبهم في دعواهم، و قوله: "و لكن قولوا أسلمنا" استدراك مما يدل عليه سابق الكلام، و التقدير: فلا تقولوا آمنا و لكن قولوا: أسلمنا.

و قوله: "و لما يدخل الإيمان في قلوبكم" لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، و لذلك لم يكن تكرارا لنفي الإيمان المدلول عليه بقوله: "لم تؤمنوا".

و قد نفي في الآية الإيمان عنهم و أوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد و أثبت لهم الإسلام، و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام بأن الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، و الإسلام أمر قائم باللسان و الجوارح فإنه الاستسلام و الخضوع لسانا بالشهادة على التوحيد و النبوة و عملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن، و بظاهر الشهادتين تحقن الدماء و عليه تجري المناكح و المواريث.

و قوله: "و إن تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا" الليت النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، و المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، و طاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد و عمل، و طاعة رسوله تصديقه و اتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من أمور الأمة، و المراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.



و المعنى: و إن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقادا، و تطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من أجور أعمالكم شيئا، و قوله: "إن الله غفور رحيم" تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه و رسوله.

قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما عرفوا إجمالا بأنهم الذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: "لم تؤمنوا" و "لما يدخل الإيمان في قلوبكم".

فقوله: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله" فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله و رسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفا جامعا مانعا فمن اتصف بها مؤمن حقا كما أن من فقد شيئا منها ليس بمؤمن حقا.

و الإيمان بالله و رسوله عقد القلب على توحيده تعالى و حقية ما أرسل به رسوله و على صحة الرسالة و اتباع الرسول فيما يأمر به.

و قوله: "ثم لم يرتابوا" أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به و كان إيمانهم ثابتا مستقرا لا يزلزله شك، و التعبير بثم دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حينا بعد حين كأنه طري جديد دائما فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأولى و لو قيل: و لم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أولا مقارنا لعدم الارتياب مع السكوت عما بعد.

و قوله: "و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله" المجاهدة بذل الجهد و الطاقة و سبيل الله دينه، و المراد بالمجاهدة بالأموال و الأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة و تبلغه الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة و غير ذلك من الإنفاقات الواجبة، و التكاليف البدنية كالصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك.

و المعنى: و يجدون بإتيان التكاليف المالية و البدنية حال كونهم أو حال كون عملهم في دين الله و سبيله.

و قوله: "أولئك هم الصادقون" تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.

قوله تعالى: "قل أ تعلمون الله بدينكم و الله يعلم ما في السماوات و ما في الأرض و الله بكل شيء عليم" توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنا و لازمه دعوى الصدق في قولهم و الإصرار على ذلك، و قيل: لما نزلت الآية السابقة حلفت الأعراب أنهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنا، فنزل: "قل أ تعلمون الله بدينكم" الآية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" أي يمنون عليك بأن أسلموا و قد أخطئوا في منهم هذا من وجهين أحدهما أن حقيقة النعمة التي فيها المن هو الإيمان الذي هو مفتاح سعادة الدنيا و الآخرة دون الإسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء و جواز المناكح و المواريث، و ثانيهما أن ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمر الدين إلا أنه رسول مأمور بالتبليغ فلا من عليه لأحد ممن أسلم.

فلو كان هناك من لكان لهم على الله سبحانه لأن الدين دينه لكن لا من لأحد على الله لأن المنتفع بالدين في الدنيا و الآخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الإطلاق فالمن لله عليهم أن هداهم له.

و قد بدل ثانيا الإسلام من الإيمان للإشارة إلى أن المن إنما هو بالإيمان دون الإسلام الذي إنما ينفعهم في الظاهر فقط.



فقد تضمن قوله: "قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن" إلخ، الإشارة إلى خطئهم من الجهتين جميعا: إحداهما: خطئهم من جهة توجيه المن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو رسول ليس له من الأمر شيء، و إليه الإشارة بقوله: "لا تمنوا علي إسلامكم".

و ثانيهما: أن المن - لو كان هناك من - إنما هو بالإيمان دون الإسلام، و إليه الإشارة بتبديل الإسلام من الإيمان.

قوله تعالى: "إن الله يعلم غيب السماوات و الأرض و الله بصير بما تعملون" ختم للسورة و تأكيد يعلل و يؤكد به جميع ما تقدم في السورة من النواهي و الأوامر و ما بين فيها من الحقائق و ما أخبر فيها عن إيمان قوم و عدم إيمان آخرين فالآية تعلل بمضمونها جميع ذلك.

و المراد بغيب السماوات و الأرض ما فيها من الغيب أو الأعم مما فيهما و من الخارج منهما.

بحث روائي



في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - لا يسخر قوم من قوم" قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزءوا من بلال و سلمان و عمار و خباب و صهيب و ابن فهيرة و سالم مولى أبي حذيفة. و في المجمع،: نزل قوله: "لا يسخر قوم من قوم" في ثابت بن قيس بن شماس و كان في أذنه وقر و كان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس و يقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس فجلس خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الآية.: عن ابن عباس. و فيه،: و قوله: "و لا نساء من نساء" نزل في نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سخرن من أم سلمة.: عن أنس.: و ذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة و هي ثوب أبيض و سدلت طرفيها خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ما ذا تجر خلفها كأنه لسان كلب فهذه كانت سخريتهما، و قيل: إنها عيرتها بالقصر، و أشارت بيدها أنها قصيرة.: عن الحسن. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري في الأدب، و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و البغوي في معجمه، و ابن حبان و الشيرازي في الألقاب، و الطبراني و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة "و لا تنابزوا بالألقاب" قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و ليس فينا رجل إلا و له اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكره هذا الاسم فأنزل الله "و لا تنابزوا بالألقاب". و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: أن سلمان الفارسي كان مع رجلين في سفر يخدمهما و ينال من طعامهما و أن سلمان نام نوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء و قالا ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود و خباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا. فرجع سلمان فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالا: و الذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: إنكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت "أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا". و فيه، أخرج الضياء المقدسي عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في الأسفار و كان مع أبي بكر و عمر رجل يخدمهما فناما و استيقظا و لم يهيىء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقل له: إن أبا بكر و عمر يقرئانك السلام و يستأدمانك، فقال: إنهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، و الذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما.

أقول: الظاهر أن القصة الموردة في الروايتين واحدة و الرجلان المذكوران في الرواية الأولى أبو بكر و عمر و الرجل المذكور في الثانية هو سلمان، و يؤيد هذا ما عن جوامع الجامع، قال: و روي: أن أبا بكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد و كان خازن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رحله فقال: ما عندي شيء فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان و أسامة فنزلت. و في العيون، بإسناده عن محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمه قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يوما ينشد و قليلا ما كان ينشد شعرا: كلنا نأمل مدا في الأجل و المنايا هن آفات الأمل لا يغرنك أباطيل المنى و الزم القصد و دع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل حل فيه راكب ثم رحل فقلت: لمن هذا أعز الله الأمير؟ فقال: لعراقي لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية لنفسه فقال: هات اسمه و دع هذا، إن الله سبحانه يقول: "و لا تنابزوا بالألقاب" و لعل الرجل يكره هذا. و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا. و في نهج البلاغة، و قال (عليه السلام): إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثم أحسن رجل الظن برجل فقد غرر.

أقول: و الروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظن و الأولى إلى ترتيب الأثر عليه عملا.



و في الخصال، عن أسباط بن محمد بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الغيبة أشد من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه و البيهقي عن أبي سعيد و جابر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لفظه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغيبة أشد من الزنا. قالوا: يا رسول الله و كيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه. و في الكافي، بإسناده إلى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه. و فيه، بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و جعلناكم شعوبا و قبائل" قال: الشعوب العجم و القبائل العرب:. أقول: و نسبه في مجمع البيان، إلى الصادق (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلغ الشاهد الغائب. و في الكافي، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. إنما زوجه لتضع المناكح، و ليتأسوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم. و في روضة الكافي، بإسناده عن جميل بن دراج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فما الكرم؟ قال: التقوى. و في الكافي، بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: إن الإسلام قبل الإيمان و عليه يتوارثون و عليه يتناكحون و الإيمان عليه يثابون. و في الخصال، عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث: و الإسلام غير الإيمان، و كل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا": أخرج ابن جرير عن قتادة: في قوله: "قالت الأعراب آمنا" قال: نزلت في بني أسد.: أقول: و هو مروي أيضا عن مجاهد و غيره. و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه و الطبراني و البيهقي في شعب الإيمان، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان. و فيه، أخرج النسائي و البزاز و ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله أسلمنا و قاتلك العرب و لم نقاتلك فنزلت هذه الآية "يمنون عليك أن أسلموا". أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
<<        الفهرس        >>