جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج19 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


54 سورة القمر - 9 - 42

كَذّبَت قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُوا عَبْدَنَا وَ قَالُوا مجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبّهُ أَنى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَب السمَاءِ بمَاءٍ مّنهَمِرٍ (11) وَ فَجّرْنَا الأَرْض عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْنَهُ عَلى ذَاتِ أَلْوَحٍ وَ دُسرٍ (13) تجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَد تّرَكْنَهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ (15) فَكَيْف كانَ عَذَابى وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ (17) كَذّبَت عَادٌ فَكَيْف كانَ عَذَابى وَ نُذُرِ (18) إِنّا أَرْسلْنَا عَلَيهِمْ رِيحاً صرْصراً فى يَوْمِ نحْسٍ مّستَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النّاس كَأَنهُمْ أَعْجَازُ نخْلٍ مّنقَعِرٍ (20) فَكَيْف كانَ عَذَابى وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ (22) كَذّبَت ثَمُودُ بِالنّذُرِ (23) فَقَالُوا أَ بَشراً مِّنّا وَحِداً نّتّبِعُهُ إِنّا إِذاً لّفِى ضلَلٍ وَ سعُرٍ (24) أَ ءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ (25) سيَعْلَمُونَ غَداً مّنِ الْكَذّاب الأَشِرُ (26) إِنّا مُرْسِلُوا النّاقَةِ فِتْنَةً لّهُمْ فَارْتَقِبهُمْ وَ اصطبرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنّ الْمَاءَ قِسمَةُ بَيْنهُمْ كلّ شِرْبٍ محْتَضرٌ (28) فَنَادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعَاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْف كانَ عَذَابى وَ نُذُرِ (30) إِنّا أَرْسلْنَا عَلَيهِمْ صيْحَةً وَحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ المُْحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ (32) كَذّبَت قَوْمُ لُوطِ بِالنّذُرِ (33) إِنّا أَرْسلْنَا عَلَيهِمْ حَاصِباً إِلا ءَالَ لُوطٍ نجّيْنَهُم بِسحَرٍ (34) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِك نجْزِى مَن شكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنذَرَهُم بَطشتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنّذُرِ (36) وَ لَقَدْ رَوَدُوهُ عَن ضيْفِهِ فَطمَسنَا أَعْيُنهُمْ فَذُوقُوا عَذَابى وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صبّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مّستَقِرّ (38) فَذُوقُوا عَذَابى وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جَاءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النّذُرُ (41) كَذّبُوا بِئَايَتِنَا كلِّهَا فَأَخَذْنَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مّقْتَدِرٍ (42)

بيان

إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الأمم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون فذكرهم بأنبائهم و أعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم و ما آل إليه تكذيبهم بآيات الله و رسله من أليم العذاب و هائل العقاب تقريرا لقوله: "و لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر".

و لتوكيد التقرير و تمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم: "فكيف كان عذابي و نذر" ثم ثناه بذكر الغرض من الإنذار و التخويف فقال: "و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".

قوله تعالى: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا و قالوا مجنون و ازدجر" التكذيب الأول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، و قوله: "فكذبوا عبدنا" إلخ، تفسيره كما في قوله: "و نادى نوح ربه فقال" إلخ،: هود: 45.

و قيل: المراد بالتكذيب الأول التكذيب المطلق و هو تكذيبهم بالرسل و بالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء: "كذبت قوم نوح المرسلين": الشعراء: 105، و المعنى: كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح، و هو وجه حسن.

و قيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الإشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب، و هو معنى بعيد.

و مثله قول بعضهم: إن المراد بالتكذيب الأول قصده و بالثاني فعله.

و قوله: "فكذبوا عبدنا" في التعبير عن نوح (عليه السلام) بقوله: "عبدنا" في مثل المقام تجليل لمقامه و تعظيم لأمره و إشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لأنه عبد لا يملك شيئا و ما له فهو لله.

و قوله: "و قالوا مجنون و ازدجر" المراد بالازدجار زجر الجن له أثر الجنون، و المعنى: و لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون و ازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر و ليس كلامه من الوحي السماوي في شيء.

و قيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، و المعنى: و ازدجره القوم عن الدعوة و التبليغ بأنواع الإيذاء و التخويف، و لعل المعنى الأول أظهر.

قوله تعالى: "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر" الانتصار الانتقام، و قوله: "أني مغلوب" أي بالقهر و التحكم دون الحجة، و هذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، و تفصيل دعائه مذكور في سورة نوح و تفصيل حججه في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" قال في المجمع،: الهمر صب الدمع و الماء بشدة، و الانهمار الانصباب، انتهى.

و فتح أبواب السماء و هي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء و جريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون.

قوله تعالى: "و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" قال في المجمع،: التفجير تشقيق الأرض عن الماء، و العيون جمع عين الماء و هو ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان.

انتهي.

و المعنى: جعلنا الأرض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا.



و قوله: "فالتقى الماء على أمر قد قدر" أي فالتقى الماءان ماء السماء و ماء الأرض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة و لا زيادة و لا عجل و لا مهل.

فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء و ماء الأرض و لذلك لم يثن، و المراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان.

قوله تعالى: "و حملناه على ذات ألواح و دسر" المراد بذات الألواح و الدسر السفينة، و الألواح جمع لوح و هو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة، و الدسر جمع دسار و دسر و هو المسمار الذي تشد بها الألواح في السفينة، و قيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.

قوله تعالى: "تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر" أي تجري السفينة على الماء المحيط بالأرض بأنواع من مراقبتنا و حفظنا و حراستنا، و قيل: المراد تجري بأعين أوليائنا و من وكلناه بها من الملائكة.

و قوله: "جزاء لمن كان كفر" أي جريان السفينة كذلك و فيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به و هو نوح (عليه السلام) كفر به و بدعوته قومه، فالآية في معنى قوله: "و نجيناه و أهله من الكرب العظيم - إلى أن قال - إنا كذلك نجزي المحسنين": الصافات: 80.

قوله تعالى: "و لقد تركناها آية فهل من مدكر" ضمير "تركناها" للسفينة على ما يفيده السياق و اللام للقسم، و المعنى: أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا و الذين معه، و جعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى و أن دعوة أنبيائه حق، و أن أخذه أليم شديد؟ و لازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها، و قد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة، انتهى.

و قد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الأبحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط و هو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع.

و قيل: ضمير "تركناها" لما مر من القصة بما أنها فعله.

قوله تعالى: "فكيف كان عذابي و نذر" النذر جمع نذير بمعنى الإنذار، و قيل: مصدر بمعنى الإنذار.

و الظاهر أن "كان" ناقصة و اسمها "عذابي" و خبرها "فكيف"، و يمكن أن تكون تامة فاعلها قوله: "عذابي" و قوله: "فكيف" حالا منه.

و كيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب و صدق الإنذار.

قوله تعالى: "و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" التيسير التسهيل و تيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي و الخاصي و الأفهام البسيطة و المتعمقة كل على مقدار فهمه.

و يمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية و مقاصده المرتفعة عن أفق الأفهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الأفهام كما يستفاد من قوله تعالى: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4.



و المراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله، قال في المفردات،: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره و تارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول، و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب و ذكر باللسان و كل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر.

انتهي.

و معنى الآية: و أقسم لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به، فيذكر الله تعالى و شئونه، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله و يدين بما يدعو إليه من الدين الحق؟.

فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الإنذار و شدة العذاب الذي أنذر به.

قوله تعالى: "كذبت عاد فكيف كان عذابي و نذر" شروع في قصة أخرى من القصص التي فيها الإزدجار و لم يعطف على ما قبلها - و مثلها القصص الآتية - لأن كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر و الردع و العظة لو اتعظوا بها.

و قوله: "فكيف كان عذابي و نذر" مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله: "إنا أرسلنا" إلخ، و ليس مسوقا للتهويل و تسجيل شدة العذاب و صدق الإنذار كسابقه و إلا لتكرر قوله بعد: "فكيف كان" إلخ، كذا قيل و هو وجه حسن.

قوله تعالى: "إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر" بيان لما استفهم عنه في قوله: "فكيف كان عذابي و نذر" و الصرصر - على ما في المجمع، - الريح الشديدة الهبوب، و النحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، و مستمر صفة لنحس، و معنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة و الشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم و لا نجاة.

و المراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه: "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات": حم السجدة 16، و في موضع آخر: "سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما": الحاقة: 7.

و فسر بعضهم النحس بالبرد.

قوله تعالى: "تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر" فاعل "تنزع" ضمير راجع إلى الريح أي تنزع الريح الناس من الأرض، و أعجاز النخل أسافله، و المنقعر المقلوع من أصله، و المعنى ظاهر، و في الآية إشعار ببسطة القوم أجساما.

قوله تعالى: "فكيف كان عذابي - إلى قوله - مدكر" تقدم تفسير الآيتين.

كلام في سعادة الأيام و نحوستها و الطيرة و الفأل في فصول

1 - في سعادة الأيام و نحوستها:

نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر و لا يكون الأعمال أو نوع خاص من الأعمال فيه مباركة لعاملها، و سعادته خلافه.

و لا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة و لا نحوسته و طبيعة الزمان المقدارية متشابهة الأجزاء و الأبعاض، و لا إحاطة لنا بالعلل و الأسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث و كينونة الأعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل و أسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، و لذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لأثره حتى يعلم أن الأثر أثره و هو غير معلوم في المقام.

و لما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة و النحوسة كما لم يكن سبيل إلى الإثبات و إن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة.

هذا بحسب النظر العقلي.



و أما بحسب النظر الشرعي ففي الكتاب ذكر من النحوسة و ما يقابلها، قال تعالى: "إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر": القمر: 19، و قال: "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات": حم السجدة: 16، لكن لا يظهر من سياق القصة و دلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة و الشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا و هو سبع ليال و ثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الأسابيع و هو ظاهر و إلا كان جميع الزمان نحسا، و لا بدوران الشهور و السنين.

و قال تعالى: "و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة": الدخان: 3، و المراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله: "ليلة القدر خير من ألف شهر": القدر: 3، و ظاهر أن مباركة هذه الليلة و سعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لأمور عظام من الإفاضات الباطنية الإلهية و أفاعيل معنوية كإبرام القضاء و نزول الملائكة و الروح و كونها سلاما، قال تعالى: "فيها يفرق كل أمر حكيم": الدخان: 4، و قال: "تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر": القدر: 5.

و يئول معنى مباركتها و سعادتها إلى فضل العبادة و النسك فيها و غزارة ثوابها و قرب العناية الإلهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة و الكبرياء.

و أما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد و النحس من أيام الأسبوع و من أيام الشهور العربية و من أيام شهور الفرس و من أيام الشهور الرومية، و هي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث أكثرها ضعاف من مراسيل و مرفوعات و إن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث إسنادها.

أما الروايات العادة للأيام النحسة كيوم الأربعاء و الأربعاء لا تدور و سبعة أيام من كل شهر عربي و يومين من كل شهر رومي و نحو ذلك، ففي كثير منها و خاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الأسبوع و أيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شهادة الحسين (عليه السلام) و إلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار و نزول العذاب بأمة كذا و خلق النار و غير ذلك.

و معلوم أن في عدها نحسة مشئومة و تجنب اقتراب الأمور المطلوبة و طلب الحوائج التي يلتذ الإنسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى و تقوية للروح الدينية و في عدم الاعتناء و الاهتمام بها و الاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق و هتكا لحرمة الدين و إزراء لأوليائه فتئول نحوسة هذه الأيام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل و أسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الأيام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتني بأمرها.



و أيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شيء من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الأيام كما عن مجالس ابن الشيخ، بإسناده عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري (عليه السلام) في حديث: قلت: يا سيدي في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس و المخاوف فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة و سباسب البيداء الغائرة بين سباع و ذئاب و أعادي الجن و الإنس لآمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عز و جل و أخلص في الولاء لأئمتك الطاهرين و توجه حيث شئت و اقصد ما شئت. الحديث. ثم أمره (عليه السلام) بشيء من القرآن و الدعاء أن يقرأه و يدفع به النحوسة و الشأمة و يقصد ما شاء.

و في الخصال، بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال: رأيت أبا إبراهيم (عليه السلام) يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال: أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي و احتجم.

و في الخصال، أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة و عوفي من كل عاهة و قضى الله له حاجته. و كتب إليه مرة أخرى يسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من احتجم في يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة، و وقي من كل عاهة، و لم تخضر محاجمه.

و في معناها ما في تحف العقول،: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) و قد نكبت إصبعي و تلقاني راكب و صدم كتفي، و دخلت في زحمه فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك. فقال (عليه السلام) لي: يا حسن هذا و أنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟. قال الحسن: فأثاب إلى عقلي و تبينت خطئي فقلت: يا مولاي أستغفر الله. فقال: يا حسن ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبدا، و هي توبتي يا بن رسول الله. قال: ما ينفعكم و لكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. أ ما علمت يا حسن أن الله هو المثيب و المعاقب و المجازي بالأعمال عاجلا و آجلا؟ قلت: بلى يا مولاي. قال: لا تعد و لا تجعل للأيام صنعا في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي.

و الروايات السابقة - و لها نظائر في معناها - يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الأيام النحسات هو تطير عامة الناس بها و للتطير تأثير نفساني كما سيأتي، و هذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الإنسان على ذلك، و بالالتجاء إلى الله سبحانه و الاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.

و حمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الأيام على التقية، و ليس بذاك البعيد فإن التشاؤم و التفاؤل بالأزمنة و الأمكنة و الأوضاع و الأحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شيء كثير عند الأمم و الطوائف المختلفة على تشتتهم و تفرقهم منذ القديم إلى يومنا و كان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الأول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسع لأحد أن يردها كما في كتاب المسلسلات، بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الأربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي عليا يقول: سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن آخر الأربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.



و أما الروايات الدالة على الأيام السعيدة من الأسبوع و غيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الإشارة في الأخبار الدالة على نحوستها من الوجه الأول فإن في هذه الأخبار تعليل بركة ما عده من الأيام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعثته و كما ورد: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا فقال: اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم سبتها و خميسها، و ما ورد: أن الله ألان الحديد لداود (عليه السلام) يوم الثلاثاء، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخرج للسفر يوم الجمعة، و أن الأحد من أسماء الله تعالى.

فتبين مما تقدم على طوله أن الأخبار الواردة في سعادة الأيام و نحوستها لا تدل على أزيد من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا و قبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، و أما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة و اختصاصه بخواص تكوينية عن علل و أسباب طبيعية تكوينية فلا، و ما كان من الأخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أو لا اعتماد عليه.

2 - في سعادة الكواكب و نحوستها

و تأثير الأوضاع السماوية في الحوادث الأرضية سعادة و نحوسة.

الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الأيام و نحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شيء من ذلك كسعادة الشمس و المشتري و قران السعدين و نحوسة المريخ و قران النحسين و القمر في العقرب.

نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الأرضية ارتباطا بالأوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت و السيارات، و غيرهم يرى ذلك بين الحوادث و بين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت و أوردوا لأوضاعها المختلفة خواص و آثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره.

و القوم بين قائل بأن الأجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية، و قائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية، أو هي معدات لفعله تعالى و هو الفاعل للحوادث أو أن الكواكب و أوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية و لا إعداد، أو أنه لا شيء من هذه الارتباطات بينها و بين الحوادث حتى على نحو العلامية و إنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي، كذا.

و شيء من هذه الأحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق و ربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص و الحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الأوضاع السماوية و الحوادث الأرضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يصدق ذلك كذلك.

و على هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا و أما أصل ارتباط الحوادث و الأوضاع السماوية و الأرضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.

و أما القول بكون الكواكب أو الأوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.



و أما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا و نحسا و تصديقا و تكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام: منها: ما يدل بظاهره على تسليم السعادة و النحوسة فيها كما في الرسالة الذهبية، عن الرضا (عليه السلام): اعلم أن جماعهن و القمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل و خير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر.

و في البحار، عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج و القمر في العقرب لم ير الحسنى الخبر، و في كتاب النجوم، لابن طاووس عن علي (عليه السلام): يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر و إذا كان القمر في العقرب.

و يمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الأمر بالصدقة لدفع النحوسة كما في نوادر الراوندي، بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث: إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، و إذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، و يمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي و الحادثة الأرضية بنحو الاقتضاء.

و منها: ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث و النهي الشديد عن الاعتقاد بها و الاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة،: المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار.

و يظهر من أخبار أخر تصدقها و تجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها و البناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم.

و منها: ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع و كثيره لا يدرك كما في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها و هو يعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني، و إن كانت لا تضر بديني فو الله إني لأشتهيها و أشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك و قليله لا ينتفع به.

الخبر.

و في البحار، عن كتاب النجوم لابن طاووس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم حق هي؟ قال لي: نعم فقلت له: و في الأرض من يعلمها؟ قال: نعم و في الأرض من يعلمها،: و في عدة من الروايات: ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند و أهل بيت من العرب: و في بعضها: من قريش.

و هذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الأوضاع و الأحكام ارتباطا ما في الجملة.

نعم ورد في بعض هذه الروايات: أن الله أنزل المشتري على الأرض في صورة رجل فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له انظر أين المشتري؟ فقال: ما أراه في الفلك و ما أدري أين هو؟ فنحاه و أخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ و قال: انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات و ورث علمه أهله فالعلم هناك.

الخبر، و هو أشبه بالموضوع.

3 - في التفاؤل و التطير


و هما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير و ترقبه و هو التفاؤل أو على الشر و هو التطير و كثيرا ما يؤثران و يقع ما يترقب منهما من خير أو شر و خاصة في الشر و ذلك تأثير نفساني.



و قد فرق الإسلام بين التفاؤل و التطير فأمر بالتفاؤل و نهى عن التطير، و في ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا.

أما التفاؤل ففيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تفاءلوا بالخير تجدوه، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه.

و أما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الأنبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لأنبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون، و أجاب عن ذلك أنبياؤهم بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا و لا الباطل حقا، و أن الأمر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير و الشر و السعادة و الشقاء قال تعالى: "قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم": يس: 19، أي ما يجر إليكم الشر هو معكم لا معنا، و قال: "قالوا اطيرنا بك و بمن معك قال طائركم عند الله": النمل: 47، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا و من معي فليس لنا من الأمر شيء.

و قد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة و في دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل و الدعاء، و هي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية ففي الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، و إن شددتها تشددت، و إن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا.

و دلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة، و مثله الحديث المروي من طرق أهل السنة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة و الحسد و الظن. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقق.

و في معناه ما في الكافي، عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كفارة الطيرة التوكل.

الخبر و ذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشيء أثر حتى يتضرر به، و في معناه ما ورد من طرق أهل السنة على ما في نهاية ابن الأثير،: الطيرة شرك و ما منا إلا و لكن الله يذهبه بالتوكل.



و في المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، و الكلب الناشر لذنبه، و الذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل و هو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، و الظبي السانح عن يمين إلى شمال، و البومة الصارخة، و المرأة الشمطاء تلقى فرجها، و الأتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك. و يلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الأمور المعدودة عند العامة مشئومة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر و غير ذلك و قد وردت في النهي عن التطير بها و التوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة، و في النبوي المروي من طرق الفريقين: لا عدوى، و لا طيرة، و لا هامة، و لا شؤم، و لا صفر، و لا رضاع بعد فصال، و لا تعرب بعد هجرة، و لا صمت يوما إلى الليل، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك، و لا يتم بعد إدراك.

قوله تعالى: "كذبت ثمود بالنذر" النذر إما مصدر كما قيل و المعنى: كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح (عليه السلام)، و إما جمع نذير بمعنى المنذر، و المعنى: كذبت ثمود بالأنبياء لأن تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لأن رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله: "كذبت ثمود المرسلين": الشعراء: 141، و إما جمع نذير بمعنى الإنذار و مرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.

قوله تعالى: "فقالوا أ بشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال و سعر" تفريع على التكذيب و السعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، و احتمل أن يكون بمعنى الجنون و هو أنسب للسياق، و الظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي، و المعنى: كذبوا به فقالوا: أ بشرا من نوعنا و هو شخص واحد لا عدة له و لا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب و جنون.

فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة و القوة و هم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك و العظماء و قد كان صالح (عليه السلام) يدعوهم إلى طاعة نفسه و رفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله: "فاتقوا الله و أطيعون و لا تطيعوا أمر المسرفين": الشعراء: 151.

و لو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى: أ بشرا هو واحد منا أي هو مثلنا و من نوعنا نتبعه؟ و كانت الآية التالية مفسرة لها.

قوله تعالى: "أ ألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر" الاستفهام كسابقه للإنكار و المعنى: أ أنزل الوحي عليه و اختص به من بيننا و لا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبدا، و التعبير بالإلقاء دون الإنزال و نحوه للإشعار بالعجلة كما قيل.

و من المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم و هو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقا و جاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء: "ما أنت إلا بشر مثلنا": الشعراء: 154.

و قوله: "بل هو كذاب أشر" أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق.

قوله تعالى: "سيعلمون غدا من الكذاب الأشر" حكاية قوله سبحانه لصالح (عليه السلام) كالآيتين بعدها.

و المراد بالغد العاقبة من قولهم: إن مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الأشر صالح أو هم؟.

قوله تعالى: "إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم و اصطبر" في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب و المفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لأنا فاعلون كذا و كذا، و الفتنة الامتحان و الابتلاء، و المعنى: أنا مرسلون - على طريق الإعجاز - الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم و اصبر على أذاهم.



قوله تعالى: "و نبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر" ضمير الجمع الأول للقوم و الثاني للقوم و الناقة على سبيل التغليب، و القسمة بمعنى المقسوم، و الشرب النصيب من شرب الماء، و المعنى: و خبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم و بين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم و الناقة عند شربها قال تعالى: "قال هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم": الشعراء: 155.

قوله تعالى: "فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر" المراد بصاحبهم عاقر الناقة، و التعاطي التناول و المعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها و قتلها.

قوله تعالى: "فكيف كان عذابي و نذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر" المحتظر صاحب الحظيرة و هي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، و هشيم المحتظر الشجر اليابس و نحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و لقد يسرنا" إلخ تقدم تفسيره.

قوله تعالى: "كذبت قوم لوط بالنذر" تقدم تفسيره في نظيره.

قوله تعالى: "إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر" الحاصب الريح التي تأتي بالحجارة و الحصباء، و المراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود.

و قال في مجمع البيان،: سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال: رأيت زيدا سحرا من الأسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر - بالفتح - و أتيته سحر - من غير تنوين -

انتهي.

و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر" "نعمة" مفعول له من "نجيناهم" أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لأنهم كانوا شاكرين لنا و جزاء الشكر لنا النجاة.

قوله تعالى: "و لقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر" ضمير الفاعل في "أنذرهم" للوط (عليه السلام)، و البطشة الأخذة الشديدة بالعذاب، و التماري الإصرار على الجدال و إلقاء الشك، و النذر الإنذار، و المعنى: أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره و تخويفه.

قوله تعالى: "و لقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي و نذر" مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه و هم الملائكة، و طمس أعينهم محوها، و قوله: "فذوقوا عذابي و نذر" التفات إلى خطابهم تشديدا و تقريعا، و النذر مصدر أريد به ما يتعلق به الإنذار و هو العذاب، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و لقد صبحهم بكرة عذاب مستقر" قال في مجمع البيان،: و قوله: "بكرة" ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة و غدوة لم تصرفهما فبكرة هنا - و قد نون - نكرة، و المراد باستقرار العذاب حلوله بهم و عدم تخلفه عنهم.

قوله تعالى: "فذوقوا عذابي - إلى قوله - من مدكر" تقدم تفسيره.

قوله تعالى: "و لقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر" المراد بالنذر الإنذار، و قوله: "كذبوا بآياتنا" مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل: "و لقد جاء آل فرعون النذر" قيل: فما فعلوا؟ فأجيب بقوله: "كذبوا بآياتنا"، و فرع عليه قوله: "فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر".

بحث روائي

في روح المعاني،: في قوله تعالى: "و لقد يسرنا القرآن للذكر": أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لو لا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى:. قال: و أخرج الديلمي مرفوعا عن أنس مثله.

ثم قال: و لعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية.

أقول: و ليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الذي قدمناه في تفسير الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" قال: صب بلا قطر "و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء" قال: ماء السماء و ماء الأرض "على أمر قد قدر و حملناه" يعني نوحا "على ذات ألواح و دسر" قال: الألواح السفينة و الدسر المسامير.

و فيه،: في قوله تعالى: "فنادوا صاحبهم" قال: قدار الذي عقر الناقة، و قوله: "كهشيم" قال: الحشيش و النبات.

و في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قصة قوم لوط قال: فكابروه يعني لوطا حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال: يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل: "فطمسنا أعينهم".

54 سورة القمر - 43 - 55

أَكُفّارُكمْ خَيرٌ مِّنْ أُولَئكمْ أَمْ لَكم بَرَاءَةٌ فى الزّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نحْنُ جَمِيعٌ مّنتَصِرٌ (44) سيهْزَمُ الجَْمْعُ وَ يُوَلّونَ الدّبُرَ (45) بَلِ الساعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ الساعَةُ أَدْهَى وَ أَمَرّ (46) إِنّ الْمُجْرِمِينَ فى ضلَلٍ وَ سعُرٍ (47) يَوْمَ يُسحَبُونَ فى النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَس سقَرَ (48) إِنّا كلّ شىْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ (49) وَ مَا أَمْرُنَا إِلا وَحِدَةٌ كلَمْح بِالْبَصرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مّدّكرٍ (51) وَ كلّ شىْءٍ فَعَلُوهُ فى الزّبُرِ (52) وَ كلّ صغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مّستَطرٌ (53) إِنّ المُْتّقِينَ فى جَنّتٍ وَ نهَرٍ (54) فى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ (55)

بيان

الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر و هي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كفاركم ليسوا خيرا من أولئك الأمم الطاغية الجبارة و قد أهلكهم الله على أذل وجه و أهونه و لا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، و لا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب.

ثم تنعطف إلى ما مر من نبأ الساعة بأنها موعدهم الصعب أن أجرموا و كذبوا و الساعة أدهى و أمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ و عند ذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: "أ كفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر" الظاهر أنه خطاب لقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسلم و كافر على ما تشعر به الإضافة في "كفاركم" و الخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا و زخارف حياتها كالمال و البنين أو من جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء و الشجاعة و الشفقة على الضعفاء، و الإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.

و يمكن أن يكون خطاب "أ كفاركم" لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيهم كفار و هم هم.

و قوله: "أم لكم براءة في الزبر" ظاهره أيضا عموم الخطاب، و الزبر جمع زبور و هو الكتاب، و قد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، و المعنى: بل أ لكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب و المؤاخذة و إن كفرتم و أجرمتم و اقترفتم ما شئتم من الذنوب.

قوله تعالى: "أم يقولون نحن جميع منتصر" الجميع المجموع و المراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة و العمل، و الانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة: "ما لكم لا تناصرون": الصافات: 25، و المعنى: بل أ يقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.

قوله تعالى: "سيهزم الجمع و يولون الدبر" اللام في "الجمع" للعهد الذكري و في "الدبر" للجنس، و تولي الدبر الإدبار، و المعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجحون به و يولون الأدبار و يفرون.

و في الآية إخبار عن مغلوبية و انهزام لجمعهم، و دلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، و قد وقع ذلك في غزاة بدر، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: "بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر" "أدهى" اسم تفضيل من الدهاء و هو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و "أمر" اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، و في الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام و العذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة و قد أشير إلى نبئها في أول الأنباء الزاجرة، و الكلام يفيد الترقي.

و المعنى: و ليس الانهزام و العذاب الدنيوي مقام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبئها هي موعدهم و الساعة أدهى من كل داهية و أمر من كل مر.

قوله تعالى: "إن المجرمين في ضلال و سعر" جمع سعير و هي النار المسعرة و في الآية تعليل لما قبلها من قوله: "و الساعة أدهى و أمر"، و المعنى: إنما كانت الساعة أدهى و أمر لهم لأنهم مجرمون و المجرمون في ضلال عن موطن السعادة و هو الجنة و نيران مسعرة.

قوله تعالى: "يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر" السحب جر الإنسان على وجهه، و "يوم" ظرف لقوله: "في ضلال و سعر"، و "سقر" من أسماء جهنم و مسها هو إصابتها لهم بحرها و عذابها.

و المعنى: كونهم في ضلال و سعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها و عذابها.

قوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" "كل شيء" منصوب بفعل مقدر يدل عليه "خلقناه" و التقدير خلقنا كل شيء خلقناه، و "بقدر" متعلق بقوله: "خلقناه" و الباء للمصاحبة، و المعنى: أنا خلقنا كل شيء مصاحبا لقدر.

و قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه و الحد و الهندسة التي لا يتجاوزه في شيء من جانبي الزيادة و النقيصة، قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21، فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطاه.

و الآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل: لما ذا جوزي المجرمون بالضلال و السعر يوم القيامة و أذيقوا مس سقر؟ فأجيب بقوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" و محصله أن لكل شيء قدرا و من القدر في الإنسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، و قدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا و الآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة و دخل الجنة و جاور ربه، و من ردها و أجرم فهو في ضلال و سعر.

و من الخطإ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ و معنى الجواب: أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار؟ و معنى الجواب: أن الله يدخلهم النار و ذلك مصادرة بينة.

و ذلك لأن بين فعلنا و بين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين و الأصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي و الوجود العيني، و هي الحاكمة علينا في إرادتنا و أفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع و الري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الأكل يفيد الشبع و الشرب يفيد الري و هو الجواب لو سئلنا عن الفعل.

و بالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية و الضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، و أما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، و الأصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": الأنبياء: 23، و قال: "إن الله يفعل ما يشاء": الحج: 18، و قال: "الحق من ربك": آل عمران: 60.

فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، و لا بمعنى السؤال عن الأصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الأصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.



نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه: أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الأسباب و المسببات كما في قوله تعالى: "و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون": المائدة: 82، و قال: "و ضربت عليهم الذلة و المسكنة - إلى أن قال - ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون": البقرة: 61.

الثاني: تعليل فعله تعالى بشيء من أسمائه و صفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: "إن الله غفور رحيم" "و هو العزيز الحكيم" "و هو اللطيف الخبير" إلى غير ذلك و هو شائع في القرآن الكريم، و إذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته و اسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: "و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم و هو السميع العليم": العنكبوت: 60، يعلل قضاء حاجة الدواب و الإنسان إلى الرزق المسئول بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي أنه خلق كل شيء و الحال أن مسائلهم مسموعة له و أحوالهم معلومة عنده و هما صفتا فعله العام، و قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم": البقرة: 37، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة و الرحمة.

الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام و مرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله: "إن المجرمين في ضلال و سعر - إلى أن قال - إنا كل شيء خلقناه بقدر" فإن القدر و هو كون الشيء محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شيء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام و بيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الإنسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب و دخل النار يوم القيامة، و كقوله: "و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا": مريم: 71، يعلل الورود بالقضاء و هو فعل له عام و الورود خاص بالنسبة إليه.

فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة و العلة علة للإثبات لا للثبوت، و ليس من المصادرة في شيء.

قوله تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" قال في المجمع،: اللمح النظر بالعجلة و هو خطف البصر.

انتهي.

و المراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه الأمر التكويني بإرادة وجود الشيء، قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس: 82 فهو كلمة كن و لعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل: "إلا واحدة".

و الذي يفيده السياق أن المراد بكون الأمر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه و تحقق متعلقه إلى تعدد و تكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن و مهل حتى يحتاج إلى الأمر ثانيا و ثالثا.

و تشبيه الأمر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لإفادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لإفادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان و لو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى و هو إيجاده و إرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان و لا مكان و لا حركة كيف لا؟ و نفس الزمان و المكان و الحركة إنما تحققت بأمره تعالى.

و الآية و إن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الأشياء و أن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر و إن كان من حيث إنه وجود لشيء كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا.

إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة و أن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة و تجديد الخلق بالبعث و النشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر".

فيكون مفاد الآية الأولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة و لا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهية لأنه من القدر، و مفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الإرادة و تحقق متعلقها لا مئونة فيه عليه سبحانه لأنه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.

قوله تعالى: "و لقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر" الأشياع جمع شيعة و المراد - كما قيل - الأشباه و الأمثال في الكفر و تكذيب الأنبياء من الأمم الماضية.

و المراد بالآية و الآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.

و محصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا و عذاب الساعة مجرد خبر أخبرناكم به و لا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الأمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم و هو عذابهم في الدنيا و سيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها و نجازيهم بما عملوا.

قوله تعالى: "و كل شيء فعلوه في الزبر و كل صغير و كبير مستطر" الزبر كتب الأعمال و تفسيره باللوح المحفوظ سخيف، و المراد بالصغير و الكبير صغير الأعمال و كبيرها على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: "إن المتقين في جنات و نهر" أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف و نهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، و قيل: النهر بمعنى السعة.

قوله تعالى: "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، و ليس من إشباع كسر لام الملك، و المقتدر القادر العظيم القدرة و هو الله سبحانه.

و المراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم و عملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما و يمكن أن يراد به كون مقامهم و ما لهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، و قرب لا بعد معه، و نعمة لا نقمة معها، و سرور لا غم معه، و بقاء لا فناء معه.

و يمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير و وعد جميل للمتقين، و على هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين و المجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب و الضلال و قرر ذلك بأنه من القدر و لن يتخلف، و وعد المتقون بالثواب و الحضور عند ربهم المليك المقتدر و قرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.

بحث روائي

في كمال الدين، بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرقى أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر. و قال: إن القدرية مجوس هذه الأمة و هم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه و فيهم نزلت هذه الآية: "يوم يسحبون في النار على وجوههم - ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر".

أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر و هم المعتزلة القائلون بالتفويض، و قوله: إنهم مجوس هذه الأمة ذلك لقولهم: إن خالق الأفعال الاختيارية هو الإنسان و الله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير و خالق الشر.

و قوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، و ذلك أنهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.



و قوله: و فيهم نزلت هذه الآية، إلخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول و موردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، و في نزول الآيات فيهم روايات أخرى مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و من طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس و ابن عمر و محمد بن كعب و غيرهم.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لكل أمة مجوسا و إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.

الخبر.

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) و لفظه: لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.

و فيه، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): النهر الفضاء و السعة ليس بنهر جار.

و فيه، أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا دجانة أ ما علمت أن من أحبنا و ابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا "في مقعد صدق عند مليك مقتدر".

و في روح المعاني،: في قوله: "في مقعد صدق" الآية،: و قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.

كلام في القدر

القدر و هو هندسة الشيء و حد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21، و ظاهره أن القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، و أما نفس الخزائن و هي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الإنزال و الإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: "و أنزلنا الحديد": الحديد: 25، و قوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج": الزمر: 6.

و يؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض و الطول و سائر الحدود و الخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن، عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتدأ الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.

و روي هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا (عليه السلام) في خبر مفصل و فيه: فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء.

الخبر

و من هنا يظهر أن المراد بكل شيء في قوله: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان: 3، و قوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر": القمر: 49، و قوله: "و كل شيء عنده بمقدار": الرعد: 8، و قوله: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق و التركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله و هي تحديد أصل الوجود بالإمكان و الحاجة و هذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: "و كان الله بكل شيء محيطا": النساء: 126.

و مرتبة تخص عالمنا المشهود و هي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها و آثار وجودها و خصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود و الآثار بأمور خارجة من العلل و الشرائط فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل و خارج تعين لها من العرض و الطول و الشكل و الهيئة و سائر الأحوال و الأفعال ما يناسبها.

فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها، قال تعالى: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء، و في معناه قوله في الإنسان: "من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره": عبس: 20، و يشير بقوله: "ثم السبيل يسره" إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية أفعاله الاختيارية.

و هذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41، فربما قدر و لم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل و الشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت": الرعد: 39، و قال: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها": البقرة: 106، و ربما قدر و تبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله و شرائطه و ارتفاع موانعه.

و إلى ذلك يشير قوله (عليه السلام) في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له، و قريب منه ما في عدة من أخبار القضاء و القدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف و أما القضاء فلا يرد.

و عن علي (عليه السلام) بطرق مختلفة كما في التوحيد، بإسناده عن ابن نباتة: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.

و أما النوع الأول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه و حاجته فحسب فالقدر و القضاء فيه واحد و لا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.

و البحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الأمور التي لها علل مركبة من فاعل و مادة و شرائط و معدات و موانع فإن لكل منها تأثيرا في الشيء بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشيء فيأخذ لنفسه هيئة قالبة و خصوصيته و هذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، و هذه هي القضاء الذي لا مرد له، و قد تقدم في تفسير أول سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.

55 سورة الرحمن - 1 - 30

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الرّحْمَنُ (1) عَلّمَ الْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ الانسنَ (3) عَلّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشمْس وَ الْقَمَرُ بحُسبَانٍ (5) وَ النّجْمُ وَ الشجَرُ يَسجُدَانِ (6) وَ السمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطغَوْا فى الْمِيزَانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسطِ وَ لا تخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَ الأَرْض وَضعَهَا لِلأَنَامِ (10) فِيهَا فَكِهَةٌ وَ النّخْلُ ذَات الأَكْمَامِ (11) وَ الحَْب ذُو الْعَصفِ وَ الرّيحَانُ (12) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الانسنَ مِن صلْصلٍ كالْفَخّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانّ مِن مّارِجٍ مِّن نّارٍ (15) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَب المَْشرِقَينِ وَ رَب المَْغْرِبَينِ (17) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يخْرُجُ مِنهُمَا اللّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجَانُ (22) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَ لَهُ الجَْوَارِ المُْنشئَات فى الْبَحْرِ كالأَعْلَمِ (24) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كلّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ (26) وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الجَْلَلِ وَ الاكْرَامِ (27) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسئَلُهُ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ كلّ يَوْمٍ هُوَ فى شأْنٍ (29) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

بيان

تتضمن السورة الإشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء و أرض و بر و بحر و إنس و جن و نظم أجزائه نظما ينتفع به الثقلان الإنس و الجن في حياتهما و ينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، و نشأة أخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء و النعمة من النقمة.

و بذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها و آخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الأجزاء مرتبط الأبعاض قويم الأركان يصلح بعضه ببعض و يتم شطر منه بشطر.

فما فيه من عين و أثر، من نعمه تعالى و آلائه، و لذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاما مشوبا بعتاب بقوله: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فقد كررت الآية في السورة إحدى و ثلاثين مرة.

و لذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن و الكافر و الدنيا و الآخرة و اختتمت بالثناء عليه بقوله: "تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام".

و السورة يحتمل كونها مكية أو مدنية و إن كان سياقها بالسياق المكي أشبه و هي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه، و في المجمع، عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لكل شيء عروس و عروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره،: و رواه في الدر المنثور، عن البيهقي عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "الرحمن علم القرآن" الرحمن كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم و لذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن و الكافر من نعم الدنيا و ما يناله المؤمن من نعم الآخرة، و لعمومه ناسب أن يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية و الأخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الإنس و الجن.

ذكروا أن الرحمن من الأسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم و الراحم.

و قوله: "علم القرآن" شروع في عد النعم الإلهية، و لما كان القرآن أعظم النعم قدرا و شأنا و أرفعها مكانا - لأنه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم و يتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل و نهاية ما يسأله سائل - قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الإنس و الجن اللذين نزل القرآن لأجل تعليمهما.

و حذف مفعول "علم" الأول و هو الإنسان أو الإنس و الجن و التقدير علم الإنسان القرآن أو علم الإنس و الجن القرآن، و هذا الاحتمال الثاني و إن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لأن السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالإنس و لو لا شمول التعليم في قوله: "علم القرآن" لهم لم يتم ذلك.

و قيل: المفعول المحذوف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جبرئيل و الأنسب للسياق ما تقدم.



قوله تعالى: "خلق الإنسان علمه البيان" ذكر خلق الإنسان و سيذكر خصوصية خلقه بقوله: "خلق الإنسان من صلصال كالفخار"، و الإنسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات و التأمل فيما خط له من طريق الكمال في ظاهره و باطنه و دنياه و آخرته، قال تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات": التين: 6.

و قوله: "علمه البيان" البيان الكشف عن الشيء و المراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، و هو من أعجب النعم و تعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت ما باستخدام الرئة و قصبتها و الحلقوم و لا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.

بل يجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع و إدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود و إن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره و لا سبيل للحس إليها يحضرها جميعا لسامعه و يمثلها لحسه كأنه يشخصها له بأعيانها.

و لا يتم للإنسان اجتماعه المدني و لا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام و فتحه بذلك باب التفهيم و التفهم، و لو لا ذلك لكان هو و الحيوان العجم سواء في جمود الحياة و ركودها.

و من أقوى الدليل على أن اهتداء الإنسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الأمم و الطوائف في الخصائص الروحية و الأخلاق النفسانية و بحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها، قال تعالى: "و من آياته خلق السماوات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم": الروم: 22.

و ليس المراد بقوله: "علمه البيان" أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الإنسان بالوحي إلى نبي من الأنبياء أو بالإلهام فإن الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم و التفهم بالإشارات و الأصوات و هو التكلم و النطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك.

على أن فعله تعالى هو التكوين و الإيجاد و الرابطة بين اللفظ و معناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الإنسان و فطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقي اللفظ إلى سامعه فكأنما يلقى إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الأشكال المخصوصة علائم للألفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام، و هو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى.

و بالجملة البيان من أعظم النعم و الآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الإنسان موقفه الإنساني و تهديه إلى كل خير.

هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، و لهم في معناهما أقوال: فقيل: الإنسان هو آدم (عليه السلام) و البيان الأسماء التي علمه الله إياها، و قيل: الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و البيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، و قيل: البيان الخير و الشر علمهما الإنسان، و قيل: سبيل الهدى و سبيل الضلال إلى غير ذلك و هي أقوال بعيدة عن الفهم.



قوله تعالى: "الشمس و القمر بحسبان" الحسبان مصدر بمعنى الحساب، و الشمس مبتدأ و القمر معطوف عليه، و بحسبان خبره، و الجملة خبر بعد خبر لقوله: "الرحمن" و التقدير الشمس و القمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.

قوله تعالى: "و النجم و الشجر يسجدان" قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات و يطلع من الأرض و لا ساق له، و الشجر ما له ساق من النبات، و هو معنى حسن يؤيده الجمع و القرن بين النجم و الشجر و إن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس و القمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.

و سجود النجم و الشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء و النمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، و أدق منه أنهما يضربان في التراب بأصولهما و أعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها و هذا السقوط على الأرض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما - و هو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك - سجود منهما له تعالى.

و الكلام في إعراب قوله: "و النجم و الشجر يسجدان" و هو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله: "الشمس و القمر بحسبان" و التقدير و النجم و الشجر يسجدان له.

قال في الكشاف،: فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن يعني قوله: "الشمس و القمر - إلى قوله - يسجدان"؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه و السجود له لا لغيره.

و قال في وجه إخلاء الآيات السابقة - خلق الإنسان علمه البيان الشمس و القمر بحسبان - عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الأول واردة على سنن التعديد ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمن و آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.

ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يحب وصله للتناسب و التقارب بالعاطف فقيل: "و النجم و الشجر يسجدان و السماء رفعها" إلخ، انتهى.

قوله تعالى: "و السماء رفعها و وضع الميزان" المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها و إن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى: "أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما": الأنبياء: 30، و الرفع على أي حال رفع حسي.

و إن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام و مصادر الأمر الإلهي و الوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي و المعنوي.

و قوله: "و وضع الميزان" المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشيء أعم من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا و من مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال، قال تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط": الحديد: 25.

فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل و الصدق من الكذب و العدل من الظلم و الفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.

و قيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.

و قيل: المراد الميزان الذي يوزن به الأثقال و المعنى الأول أوسع و أشمل.



قوله تعالى: "ألا تطغوا في الميزان و أقيموا الوزن بالقسط و لا تخسروا الميزان" الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف و هو ميزان الأثقال، فقوله: "ألا تطغوا" إلخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضا ميزان الأثقال، و هو بيان وضع الميزان، و المعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الأثقال و لا تطغوا فيه.

و على تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي، و المعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا الأثقال بالقسط و لا تطغوا فيه.

و على أي حال الظاهر أن "إن" في قوله: "أن لا تطغوا" تفسيرية، و "لا تطغوا" نهي عن الطغيان في الميزان و "أقيموا الوزن بالقسط" أمر معطوف عليه، و القسط العدل و "لا تخسروا الميزان" نهي آخر مبين لقوله: "لا تطغوا إلخ، و مؤكد له.

و الإخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.

و أما جعل "أن" ناصبة و "لا تطغوا" نفيا، و التقدير: لئلا تطغوا، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الإنشاء على الإخبار في قوله: "و أقيموا الوزن" إلخ.

قوله تعالى: "و الأرض وضعها للأنام" الأنام الناس، و قيل: الإنس و الجن، و قيل: كل ما يدب على الأرض، و في التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.

قوله تعالى: "فيها فاكهة و النخل ذات الأكمام" المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، و الأكمام جمع كم بضم الكاف و كسرها وعاء التمر و هو الطلع، و أما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.

قوله تعالى: "و الحب ذو العصف و الريحان" معطوف على قوله: "فاكهة" أي و فيها الحب و الريحان، و الحب ما يقتات به كالحنطة و الشعير و الأرز، و العصف ما هو كالغلاف للحب و هو قشره، و فسر بورق الزرع مطلقا و بورق الزرع اليابس، و الريحان النبات الطيب الرائحة.

قوله تعالى: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.

و الخطاب في الآية لعامة الثقلين: الجن و الإنس و يدل على ذلك توجيه الخطاب إليهما صريحا فيما سيأتي من قوله: "سنفرغ لكم أيها الثقلان" و قوله: "يا معشر الجن و الإنس" إلخ، و قوله: "يرسل عليكما شواظ" إلخ، فلا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب في الآية للذكر و الأنثى من بني آدم، و لا إلى قول من قال: إنه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين و يفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.

و توجيه الخطاب إلى عالمي الجن و الإنس هو المصحح لعد ما سنذكره من شدائد يوم القيامة و عقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه و نعمه تعالى، فإن سوق المسيئين و أهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم و مجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل و إن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم و هم المجرمون و هذا نظير ما نجده في السنن و القوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي و الفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع و بقاؤه و ليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل و الأجر الحسن كذلك.

فما في النار من عذاب و عقاب لأهلها و ما في الجنة من كرامة و ثواب آلاء و نعم على معشر الجن و الإنس كما أن الشمس و القمر و السماء المرفوعة و الأرض الموضوعة و النجم و الشجر و غيرها آلاء و نعم على أهل الدنيا.



و يظهر من الآية أن للجن تنعما في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للإنس و إلا لم يصح إشراكهم مع الإنس في التوبيخ.

قوله تعالى: "خلق الإنسان من صلصال كالفخار" الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطىء، و الفخار الخزف.

و المراد بالإنسان نوعه و المراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، و قيل: المراد بالإنسان آدم (عليه السلام).

قوله تعالى: "و خلق الجان من مارج من نار" المارج هو اللهب الخالص من النار، و قيل: اللهب المختلط بسواد، و الكلام في الجان كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجن، و عدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، و قيل: المراد بالجان أبو الجن.

قوله تعالى: "رب المشرقين و رب المغربين" المراد بالمشرقين مشرق الصيف و مشرق الشتاء، و بذلك تحصل الفصول الأربعة و تنتظم الأرزاق، و قيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس و القمر و بالمغربين مغرباهما.

قوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان" المرج الخلط و المرج الإرسال، يقال: مرجه أي خلطه و مرجه أي أرسله و المعنى الأول أظهر، و الظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات و الملح الأجاج، قال تعالى: "و ما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج و من كل تأكلون لحما طريا و تستخرجون حلية تلبسونها": فاطر: 12.

و أمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة، و غير المحيطة و البحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون و الأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، و لا يزالان يلتقيان، و بينهما حاجز و هو نفس المخازن الأرضية و المجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه و يبدله بحرا مالحا و تبطل بذلك الحياة، و يحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء و غيره.

و لا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض و تدخرها المخازن الأرضية و البحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات و الملح الأجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة و الملوحة فيختل نظام الحياة و البقاء.

قوله تعالى: "يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان" أي من البحرين العذب و المالح جميعا و ذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الإنسان، و قد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى: "و ما يستوي البحران" الآية،: فاطر: 12.

قوله تعالى: "و له الجوار المنشئات في البحر كالأعلام" الجواري جمع جارية و هي السفينة، و المنشئات اسم مفعول من الإنشاء و هو إحداث الشيء و تربيته، و الأعلام جمع علم بفتحتين و هو الجبل.



و عد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأن الأسباب العاملة في إنشائها من خشب و حديد و سائر أجزائها التي تتركب منها و الإنسان الذي يركبها و شعوره و فكره و إرادته كل ذلك مخلوق له و مملوك فما ينتجه عملها من ملكه.

فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها و المنافع المترتبة عليها و سبيل الانتفاع بمنافعها الجمة.

قوله تعالى: "كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام" ضمير "عليها" للأرض أي كل ذي شعور و عقل على الأرض سيفنى و فيه تسجيل الزوال و الدثور على الثقلين.

و إنما أتى باللفظ الدال على أولي العقل - كل من عليها - و لم يقل: كل ما عليها كذلك لأن الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه و آلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا و الآخرة.

و ظهور قوله: "فإن" في الاستقبال كما يستفاد أيضا من السياق يعطي أن قوله: "كل من عليها فان" يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا و ارتفاع حكمها بفناء من عليها و هم الثقلان و طلوع النشأة الأخرى عليهم، و كلاهما أعني فناء من عليها و طلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم و الآلاء لأن الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة و الانتقال من المقدمة إلى الغرض و الغاية نعمة.

و بذلك يندفع قول من قال: أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم و يعد من الآلاء.

و محصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى و ليس هو الفناء المطلق.

و قوله: "و يبقى وجه ربك" وجه الشيء ما يستقبل به غيره و يقصده به غيره، و هو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه و بين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق و تدبير كالعلم و القدرة و السمع و البصر و الرحمة و المغفرة و الرزق و قد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه و صفاته تعالى وسائط بينه و بين خلقه.

و قوله: "ذو الجلال و الإكرام" في الجلال شيء من معنى الاعتلاء و الترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع و المنع كالعلو و التعالي و العظمة و الكبرياء و التكبر و الإحاطة و العزة و الغلبة.

و يبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء و الحسن الذي يجذب الغير و يولهه كالعلم و القدرة و الحياة و الرحمة و الجود و الجمال و الحسن و نحوها و تسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال و تسمى الأسماء أيضا على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.

فذو الجلال و الإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال و أسماء الجلال جميعا.

و المسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة: "تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام" لكن أجرى في هذه الآية - و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام - على الوجه، و هو إما لكونه وصفا مقطوعا عن الوصفية للمدح، و التقدير هو ذو الجلال و الإكرام، و إما لأن المراد بالوجه كما تقدم هو صفته الكريمة و اسمه المقدس و إجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات.

و معنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشيء غيره و هو الاسم - و من المعلوم أن بقاء الاسم 1 فرع بقاء المسمى -: و يبقى ربك عز اسمه بما له من الجلال و الإكرام من غير أن يؤثر فناؤهم فيه أثرا أو يغير منه شيئا.



و على تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره و مصداقه كل ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصودا بنحو للمتوجه إليه كأنبيائه و أوليائه و دينه و ثوابه و قربه و سائر ما هو من هذا القبيل فالمعنى: و يبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى و هو من صقعه و ناحيته كأنواع الجزاء و الثواب و القرب منه، قال تعالى: "ما عندكم ينفد و ما عند الله باق": النحل: 96.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه": القصص: 88 من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام.

قوله تعالى: "يسأله من في السماوات و الأرض كل يوم هو في شأن" سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلقوا الوجودات به متمسكون بذيل غناه و جوده، قال تعالى: "أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني": فاطر: 15، و قال في هذا المعنى من السؤال: "و آتاكم من كل ما سألتموه": إبراهيم: 34.

و قوله: "كل يوم هو في شأن" تنكير "شأن" للدلالة على التفرق و الاختلاف فالمعنى: كل يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه و لاحقه من الشأن فلا يتكرر فعل من أفعاله مرتين و لا يماثل شأن من شئونه شأنا آخر من جميع الجهات و إنما يفعل على غير مثال سابق و هو الإبداع، قال تعالى: "بديع السماوات و الأرض": البقرة: 117.

و معنى ظرفية اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الأشياء فهو سبحانه في كل زمان و ليس في زمان و في كل مكان و ليس في مكان و مع كل شيء و لا يداني شيئا.

بحث روائي

في الكافي، روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الجن كانوا أحسن جوابا منكم لما قرأت عليهم "فبأي آلاء ربكما تكذبان" قالوا: لا و لا بشيء من آلاء ربنا نكذب:. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع و صححه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في العيون، بإسناده عن الرضا (عليه السلام): فيما سأل الشامي عليا (عليه السلام) و فيه: سأله عن اسم أبي الجن فقال: شؤمان و هو الذي خلق من مارج من نار.

و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: و أما قوله: "رب المشرقين و رب المغربين" فإن مشرق الشتاء على حدة و مشرق الصيف على حدة. أ ما تعرف ذلك من قرب الشمس و بعدها؟: أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "مرج البحرين يلتقيان" قال: علي و فاطمة "بينهما برزخ لا يبغيان" قال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان" قال: الحسن و الحسين:. أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، و رواه في مجمع البيان، عن سلمان الفارسي و سعيد بن جبير و سفيان الثوري.

و هو من البطن.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "كل من عليها فان" قال من على وجه الأرض "و يبقى وجه ربك" قال: دين ربك، و قال علي بن الحسين (عليهما السلام): نحن الوجه الذي يؤتى الله منه.

و في مناقب ابن شهرآشوب،: قوله: "و يبقى وجه ربك" قال الصادق (عليه السلام): نحن وجه الله.

أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد تقدم ما يوجه به تفسير الوجه بالدين و بالإمام.

و في الكافي، في خطبة لعلي (عليه السلام): الحمد لله الذي لا يموت و لا ينقضي عجائبه لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن.

و في تفسير القمي،: في الآية قال: يحيي و يميت و يزيد و ينقص.

و في المجمع، عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "كل يوم هو في شأن" قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين:. أقول: و رواه عنه في الدر المنثور، و روي ما في معناه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: يغفر ذنبا و يفرج كربا.

55 سورة الرحمن - 31 - 78

سنَفْرُغُ لَكُمْ أَيّهَ الثّقَلانِ (31) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَمَعْشرَ الجِْنِّ وَ الانسِ إِنِ استَطعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسلْطنٍ (33) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسلُ عَلَيْكُمَا شوَاظٌ مِّن نّارٍ وَ نحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشقّتِ السمَاءُ فَكانَت وَرْدَةً كالدِّهَانِ (37) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئذٍ لا يُسئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَ لا جَانّ (39) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَف الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَصى وَ الأَقْدَامِ (41) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنّمُ الّتى يُكَذِّب بهَا المُْجْرِمُونَ (43) يَطوفُونَ بَيْنهَا وَ بَينَ حَمِيمٍ ءَانٍ (44) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَ لِمَنْ خَاف مَقَامَ رَبِّهِ جَنّتَانِ (46) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تجْرِيَانِ (50) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كلِّ فَكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتّكِئِينَ عَلى فُرُشِ بَطائنهَا مِنْ إِستَبرَقٍ وَ جَنى الْجَنّتَينِ دَانٍ (54) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنّ قَصِرَت الطرْفِ لَمْ يَطمِثهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانّ (56) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنهُنّ الْيَاقُوت وَ الْمَرْجَانُ (58) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الاحْسنِ إِلا الاحْسنُ (60) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَ مِن دُونهِمَا جَنّتَانِ (62) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامّتَانِ (64) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضاخَتَانِ (66) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَكِهَةٌ وَ نخْلٌ وَ رُمّانٌ (68) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنّ خَيرَتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مّقْصورَتٌ فى الخِْيَامِ (72) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطمِثهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانّ (74) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضرٍ وَ عَبْقَرِىٍ حِسانٍ (76) فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَرَك اسمُ رَبِّك ذِى الجَْلَلِ وَ الاكْرَامِ (78)

بيان

هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية و هي نشأة الرجوع إلى الله و جزاء الأعمال و يعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف النشأة الأولى و يعد آلاء الله فيها عليهم.

قوله تعالى: "سنفرغ لكم أيه الثقلان" يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بأمور ثم تركها و قصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماما به.

فمعنى "سنفرغ لكم" سنطوي بساط النشأة الأولى و نشتغل بكم، و تبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم و حسابهم و مجازاتهم بأعمالهم خيرا أو شرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.

و لا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة و كونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة و سعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.

و الثقلان الجن و الإنس، و إرجاع ضمير الجمع في "لكم" و "إن استطعتم" و غيرهما إليهما لكونهما جمعا ذا أفراد.

قوله تعالى: "يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا" إلخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة و هو خطاب تعجيزي.

و المراد بالاستطاعة القدرة، و بالنفوذ من الأقطار الفرار، و الأقطار جمع قطر و هو الناحية.

و المعنى: يا معشر الجن و الإنس - و قدم الجن لأنهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات و الأرض و الخروج من ملك الله و التخلص من مؤاخذته ففروا و انفذوا.

و قوله: "لا تنفذون إلا بسلطان" أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك و ليس لكم و السلطان القدرة الوجودية، و السلطان البرهان أو مطلق الحجة، و السلطان الملك.

و قيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات و الأرض من أقطارهما، و قد عرفت أن السياق لا يلائمه.

قوله تعالى: "يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران" الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الذي لا دخان فيه، و يقرب منه ما في المجمع، أنه اللهب الأخضر المنقطع من النار، و النحاس الدخان و قال الراغب: هو اللهب بلا دخان و المعنى ظاهر.

و قوله: "فلا تنتصران" أي لا تتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء و التخلص عن العناء لسقوط تأثير الأسباب و لا عاصم اليوم من الله.

قوله تعالى: "فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان" أي كانت حمراء كالدهان و هو الأديم الأحمر.

قوله تعالى: "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان" الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب و الجزاء تصف حال المجرمين و الخائفين مقام ربهم و ما ينتهي إليه.

ثم الآية تصف سرعة الحساب و قد قال تعالى: "و الله سريع الحساب": النور: 39.



و المراد بيومئذ يوم القيامة، و السؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، و لا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: "و قفوهم إنهم مسئولون": الصافات: 24، و قوله: "فو ربك لنسألنهم أجمعين": الحجر: 92، لأن اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، و يختم على الأفواه في بعضها و تكلم الأعضاء، و يعرف بالسيماء في بعضها.

قوله تعالى: "يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى و الأقدام" في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم؟ فأجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم إلخ، و لذا فصلت الجملة و لم يعطف، و المراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.

و قوله: "فيؤخذ بالنواصي و الأقدام" الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، و النواصي جمع ناصية و هي شعر مقدم الرأس، و الأقدام جمع قدم، و قوله: "بالنواصي" نائب فاعل يؤخذ.

و المعنى: - لا يسأل أحد عن ذنبه - يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام من المجرمين فيلقون في النار.

قوله تعالى: "هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون - إلى قوله - آن" مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، و قال الطبرسي: و يمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي و الأقدام قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم.

انتهي.

و الحميم الماء الحار، و الآني الذي انتهت حرارته و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و لمن خاف مقام ربه جنتان" شروع في وصف حال السعداء من الخائفين مقام ربهم، و المقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى فاعله، و المراد قيامه تعالى عليه بعمله و هو إحاطته تعالى و علمه بما عمله و حفظه له و جزاؤه عليه قال تعالى: "أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت": الرعد: 33.

و يمكن أن يكون المقام اسم مكان و الإضافة لامية و المراد به مقامه و موقفه تعالى من عبده و هو أنه تعالى ربه الذي يدبر أمره و من تدبير أمره أنه دعاه بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح و قضى أن يجازيه على ما عمل خيرا أو شرا هذا و هو محيط به و هو معه سميع بما يقول بصير بما يعمل لطيف خبير.

و الخوف من الله تعالى ربما كان خوفا من عقابه تعالى على الكفر به و معصيته، و لازمه أن يكون عبادة من يعبده خوفا بهذا المعنى يراد بها التخلص من العقاب لا لوجه الله محضا و هو عبادة العبيد يعبدون مواليهم خوفا من السياسة كما أن عبادة من يعبده طمعا في الثواب غايتها الفوز بما تشتهيه النفس دون وجهه الكريم و هي عبادة التجار كما في الروايات و قد تقدم شطر منها.

و الخوف المذكور في الآية - و لمن خاف مقام ربه - ظاهره غير هذا الخوف فإن هذا خوف من العقاب و هو غير الخوف من قيامه تعالى على عبده بما عمل أو الخوف من مقامه تعالى من عبده فهو تأثر خاص ممن ليس له إلا الصغار و الحقارة تجاه ساحة العظمة و الكبرياء، و ظهور أثر المذلة و الهوان و الاندكاك قبال العزة و الجبروت المطلقين.

و عبادته تعالى خوفا منه بهذا المعنى من الخوف خضوع له تعالى لأنه الله ذو الجلال و الإكرام لا لخوف من عقابه و لا طمعا في ثوابه بل فيه إخلاص العمل لوجهه الكريم، و هذا المعنى من الخوف هو الذي وصف الله به المكرمين من ملائكته و هم معصومون آمنون من عقاب المخالفة و تبعة المعصية قال تعالى: "يخافون ربهم من فوقهم": النحل: 50.



فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: "و لمن خاف" أهل الإخلاص الخاضعون لجلاله تعالى العابدون له لأنه الله عز اسمه لا خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه، و لا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: "و كنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - و السابقون السابقون أولئك المقربون": الواقعة: 11.

و قوله: "جنتان" قيل: إحداهما منزله و محل زيارة أحبابه له و الأخرى منزل أزواجه و خدمه، و قيل: بستانان بستان داخل قصره و بستان خارجه، و قيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه، و قيل: جنة لعقيدته و جنة لعمله، و قيل: جنة لفعل الطاعات و جنة لترك المعاصي، و قيل: جنة جسمانية و جنة روحانية و هذه الأقوال - كما ترى - لا دليل على شيء منها.

و قيل: جنة يثاب بها و جنة يتفضل بها عليه، و يمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق: 35، على ما مر في تفسيره.

قوله تعالى: "ذواتا أفنان" ذواتا تثنية ذات، و "أفنان" إما جمع فن بمعنى النوع و المعنى: ذواتا أنواع من الثمار و نحوها، و إما جمع فنن بمعنى الغصن الرطب اللين و المعنى: ذواتا أغصان لينة أشجارهما.

قوله تعالى: "فيهما عينان تجريان" و قد أبهمت العينان و فيه دلالة على فخامة أمرهما.

قوله تعالى: "فيهما من كل فاكهة زوجان" أي صنفان قيل: صنف معروف لهم شاهدوه في الدنيا و صنف غير معروف لم يروه في الدنيا، و قيل: غير ذلك، و لا دلالة في الكلام على شيء من ذلك.

قوله تعالى: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" إلخ، الفرش جمع فراش، و البطائن جمع بطانة و هي داخل الشيء و جوفه مقابل الظهائر جمع ظهارة، و الإستبرق الحرير الغليظ قال في المجمع،: ذكر البطانة و لم يذكر الظهارة لأن البطانة تدل على أن لها ظهارة و البطانة دون الظهارة فدل على أن الظهارة فوق الإستبرق، انتهى.

و قوله: "و جنى الجنتين دان" الجنى الثمر المجتنى و "دان" اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب أي ما يجتنى من ثمار الجنتين قريب.

قوله تعالى: "فيهن قاصرات الطرف" إلى آخر الآية ضمير "فيهن" للفرش و جوز أن يرجع إلى الجنان فإنها جنان لكل واحد من أولياء الله منها جنتان، و الطرف جفن العين، و المراد بقصور الطرف اكتفاؤهن بأزواجهن فلا يردن غيرهم.

و قوله: "لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان" الطمث الافتضاض و النكاح بالتدمية، و المعنى: لم يمسسهن بالنكاح إنس و لا جان قبل أزواجهن.

قوله تعالى: "كأنهن الياقوت و المرجان" أي في صفاء اللون و البهاء و التلالؤ.

قوله تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" استفهام إنكاري في مقام التعليل لما ذكر من إحسانه تعالى عليهم بالجنتين و ما فيهما من أنواع النعم و الآلاء فيفيد أنه تعالى يحسن إليهم هذا الإحسان جزاء لإحسانهم بالخوف من مقام ربهم.

و تفيد الآية أن ما أوتوه من الجنة و نعيمها جزاء لأعمالهم و أما ما يستفاد من بعض الآيات أنهم يعطون فضلا وراء جزاء أعمالهم فلا تعرض في هذه الآيات لذلك إلا أن يقال: الإحسان إنما يتم إذا كان يربو على ما أحسن به المحسن إليه فإطلاق الإحسان في قوله: "إلا الإحسان" يفيد الزيادة.

قوله تعالى: "و من دونهما جنتان" ضمير التثنية للجنتين الموصوفتين في الآيات السابقة و معنى.



"من دونهما" أي أنزل درجة و أحط فضلا و شرفا منهما و إن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما و آلائهما، و قد تقدم أن الجنتين السابقتين لأهل الإخلاص الخائفين مقام ربهم فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله سبحانه خوفا من النار أو طمعا في الجنة و هم أصحاب اليمين.

و قيل: معنى "من دونهما" بالقرب منهما، و يستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضا لأهل الجنتين المذكورتين قبلا بل ادعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين و الصفات المذكورة فيهما أمدح.

و أنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى لمن خاف مقام ربه و ما يستفاد من كلامه تعالى أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الإخلاص و أصحاب اليمين تعرف قوة الوجه السابق.

قوله تعالى: "مدهامتان" الادهيمام من الدهمة اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد و هو ابتهاج الشجرة.

قوله تعالى: "فيهما عينان نضاختان" أي فوارتان تخرجان من منبعهما بالدفع.

قوله تعالى: "فيهما فاكهة و نخل و رمان" المراد بالفاكهة و الرمان شجرتهما بقرينة النخل.

قوله تعالى: "فيهن خيرات حسان" ضمير "فيهن" للجنان باعتبار أنها جنتان من هاتين الجنتين، و قيل: مرجع الضمير الجنات الأربع المذكورة في الآيات، و قيل: الضمير للفاكهة و النخل و الرمان.

و أكثر ما يستعمل الخير في المعاني كما أن أكثر استعمال الحسن في الصور، و على هذا فمعنى خيرات حسان أنهن حسان في أخلاقهن حسان في وجوههن.

قوله تعالى: "حور مقصورات في الخيام" الخيام جمع خيمة و هي الفسطاط، و كونهن مقصورات في الخيام أنهن مصونات غير مبتذلات لا نصيب لغير أزواجهن فيهن.

قوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان" تقدم معناه.

قوله تعالى: "متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان" في الصحاح،: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المجالس.

انتهي.

و قيل: هي الوسائد، و قيل: غير ذلك، و الخضر جمع أخضر صفة لرفرف، و العبقري قيل: الزرابي، و قيل: الطنافس، و قيل: الثياب الموشاة، و قيل: الديباج.

قوله تعالى: "تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام" ثناء جميل له تعالى بما امتلأت النشأتان الدنيا و الآخرة بنعمه و آلائه و بركاته النازلة من عنده برحمته الواسعة، و بذلك يظهر أن المراد باسمه المتبارك هو الرحمن المفتتحة به السورة، و التبارك كثرة الخيرات و البركات الصادرة.

فقوله: "تبارك اسم ربك" تبارك الله المسمى بالرحمن بما أفاض هذه الآلاء.

و قوله: "ذي الجلال و الإكرام" إشارة إلى تسميه بأسمائه الحسنى و اتصافه بما يدل عليه من المعاني الوصفية و نعوت الجلال و الجمال، و لصفات الفاعل ظهور في أفعاله و أثر فيها يرتبط به الفعل بفاعله فهو تعالى خلق الخلق و نظم النظام لأنه بديع خالق مبدىء فأتقن الفعل لأنه عليم حكيم و جازى أهل الطاعة بالخير لأنه ودود شكور غفور رحيم و أهل الفسق بالشر لأنه منتقم شديد العقاب.

فتوصيف الرب - الذي أثنى على سعة رحمته - بذي الجلال و الإكرام للإشارة إلى أن لأسمائه الحسنى و صفاته العليا دخلا في نزول البركات و الخيرات من عنده، و أن نعمه و آلاءه عليها طابع أسمائه الحسنى و صفاته العليا تبارك و تعالى.

بحث روائي



في المجمع،: و قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار ثم ينادون: "يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم إلى قوله يرسل عليكما شواظ من نار":. أقول: و روي هذا المعنى عن مسعدة بن صدقة عن كليب عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و لمن خاف مقام ربه جنتان" قال: من علم أن الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و ابن منيع و الحكيم في نوادر الأصول و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية "و لمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: "أ و إن زنى و إن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثانية "و لمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: و إن زنى و إن سرق؟ فقال: نعم و إن رغم أنف أبي الدرداء.

أقول: الرواية لا تخلو من شيء فإن الخوف من مقامه تعالى لا يجامع هذه الكبائر الموبقة، و قد روي عن أبي الدرداء نفسه ما يدفع هذه الرواية ففي الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء: في قوله: "و لمن خاف مقام ربه جنتان" قال: قيل: يا أبا الدرداء و إن زنى و إن سرق؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن و لم يسرق.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "قاصرات الطرف" قال: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "قاصرات الطرف" قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "كأنهن الياقوت و المرجان" في الحديث أن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير.

أقول: و هذا المعنى وارد في عدة روايات.

و في تفسير العياشي، بإسناده عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجلة. قلت: و ما هي؟ قال: قول الله عز و جل: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" جرى في الكافر و المؤمن و البر و الفاجر، و من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، و ليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربى فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء.

و في المجمع،: في قوله: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان": جاءت الرواية من أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة؟ و في تفسير القمي،: في الآية قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالمعرفة إلا الجنة.

أقول: الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد أسندها في التوحيد إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: أن الله عز و جل قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة.



و أسندها في العلل، إلى الحسن بن علي (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اللفظ: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة؟: و روي الرواية بألفاظها المختلفة في الدر المنثور، بطرق مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: أنعمت عليه، إشارة إلى أن إحسان العبد بالحقيقة إحسان من الله إليه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و من دونهما جنتان": عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت له: إن الناس يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة فيقولون لنا فيكونون مع أولياء الله في الجنة؟ فقال يا علي إن الله يقول: "و من دونهما جنتان" ما يكونون مع أولياء الله.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "و لمن خاف مقام ربه جنتان" و قوله: "و من دونهما جنتان" قال: جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من ورق لأصحاب اليمين.

أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في تفسير الآيتين.

و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أيوب قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله: "مدهامتان" قال: خضراوان.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "نضاختان" قال: تفوران.

و فيه،: في قوله: "فيهن خيرات حسان" قال: جوار نابتات على شط الكوثر كلما أخذت منها نبتت مكانها أخرى.

و في المجمع،: في قوله: "خيرات حسان" أي نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه:. روته أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا و هن أجمل من الحور العين.

و في روضة الكافي، بإسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "فيهن خيرات حسان" قال: هن صوالح المؤمنات العارفات.

أقول: و في انطباق الآية بالنظر إلى سياقها على مورد الروايتين إبهام.
<<        الفهرس        >>