جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج19 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


58 سورة المجادلة - 14 - 22

أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ تَوَلّوْا قَوْماً غَضِب اللّهُ عَلَيهِم مّا هُم مِّنكُمْ وَ لا مِنهُمْ وَ يحْلِفُونَ عَلى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدّ اللّهُ لهَُمْ عَذَاباً شدِيداً إِنّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتخَذُوا أَيْمَنهُمْ جُنّةً فَصدّوا عَن سبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ (16) لّن تُغْنىَ عَنهُمْ أَمْوَلهُُمْ وَ لا أَوْلَدُهُم مِّنَ اللّهِ شيْئاً أُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يحْلِفُونَ لَكمْ وَ يحْسبُونَ أَنهُمْ عَلى شىْءٍ أَلا إِنهُمْ هُمُ الْكَذِبُونَ (18) استَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشيْطنُ فَأَنساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُولَئك حِزْب الشيْطنِ أَلا إِنّ حِزْب الشيْطنِ هُمُ الخَْسِرُونَ (19) إِنّ الّذِينَ يحَادّونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ أُولَئك فى الأَذَلِّينَ (20) كتَب اللّهُ لأَغْلِبنّ أَنَا وَ رُسلى إِنّ اللّهَ قَوِىّ عَزِيزٌ (21) لا تجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ لَوْ كانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتهُمْ أُولَئك كتَب فى قُلُوبهِمُ الايمَنَ وَ أَيّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا رَضىَ اللّهُ عَنهُمْ وَ رَضوا عَنْهُ أُولَئك حِزْب اللّهِ أَلا إِنّ حِزْب اللّهِ هُمُ المُْفْلِحُونَ (22)

بيان

تذكر الآيات قوما من المنافقين يتولون اليهود و يوادونهم و هم يحادون الله و رسوله و تذمهم على ذلك و تهددهم بالعذاب و الشقوة تهديدا شديدا، و تقطع بالآخرة أن الإيمان بالله و اليوم الآخر يمنع عن موادة من يحاد الله و رسوله كائنا من كان، و تمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله و تعدهم إيمانا مستقرا و روحا من الله و جنة و رضوانا.

قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم" إلخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى: "من لعنه الله و غضب عليه و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت": المائدة: 60.

و قوله: "ما هم منكم و لا منهم" ضمير "هم" للمنافقين و ضمير "منهم" لليهود، و المعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر و الإيمان ليسوا منكم و لا من اليهود، قال تعالى: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء": النساء: 143.

و هذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم و أما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: "و من يتولهم منكم فإنه منهم": المائدة: 51، فلا منافاة بين قوله: "ما هم منكم و لا منهم" و قوله: "فإنه منهم".

و احتمل بعضهم أن ضمير "هم" للقوم و هم اليهود و ضمير "منهم" للموصول و هم المنافقون، و المعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم و أنتم مؤمنون و لا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، و فيه نوع من الذم، و هو بعيد.

و قوله: "و يحلفون على الكذب و هم يعلمون" أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم و هم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم.

قوله تعالى: "أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون" الإعداد التهيئة، و قوله: "إنهم ساء" إلخ، تعليل للإعداد، و في قوله: "كانوا يعملون" دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه.

و المعنى: هيأ الله لهم عذابا شديدا لاستمرارهم على عملهم السيىء.

قوله تعالى: "اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين" الأيمان جمع يمين و هو الحلف، و الجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، و المهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال و الإخزاء.

و المعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة و الظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم و غيرهم عن سبيل الله و هو الإسلام فلهم - لأجل ذلك - عذاب مذل مخز.

قوله تعالى: "لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الأموال و الأولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم و لا أولادهم شيئا فليؤمنوا به و ليعبدوه.



قوله تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء" إلخ، ظرف لما تقدم من قوله: "أعد الله لهم عذابا شديدا" أو لقوله: "أولئك أصحاب النار" و قوله: "فيحلفون له كما يحلفون لكم" أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا.

و قد قدمنا في تفسير قوله تعالى: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين": الأنعام: 23 أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الأمور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالأيمان الكاذبة و كما يعيشون يموتون و كما يموتون يبعثون.

و من هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، و الخروج من النار و خصامهم في النار و غير ذلك مما يقصه القرآن الكريم، و هم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شيء من ذلك و اليوم يوم جزاء لا يوم عمل.

و أما قوله: "و يحسبون أنهم على شيء" أي مستقرون على شيء يصلح أن يستقر عليه و يتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق و المنع عن ظهور كذبهم بمثل الإنكار و الحلف الكاذب.

فيمكن أن يكون قيدا لقوله: "كما يحلفون لكم" فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا و أنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم و يرضيكم، و يكون قوله: "ألا إنهم هم الكاذبون" قضاء منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغى إلى ما يهذون به و لا يعتنى بما يحلفون به.

و يمكن أن يكون قيدا لقوله: "فيحلفون له" فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفا، و يكون قوله: "ألا إنهم هم الكاذبون" حكما منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقا.

قوله تعالى: "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون" الاستحواذ الاستيلاء و الغلبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين" تعليل لكونهم هم الخاسرين أي إنما كانوا خاسرين لأنهم يحادون الله و رسوله بالمخالفة و المعاندة و المحادون لله و رسوله في جملة الأذلين من خلق الله تعالى.

قيل: إنما كانوا في الأذلين لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر و إذ كانت العزة لله جميعا فلا يبقى لمن حاده إلا الذلة محضا.

قوله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز" الكتابة هي القضاء منه تعالى.

و ظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجة و من حيث التأييد الغيبي و من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله.

أما من حيث الحجة فإن الإنسان مفطور على صلاحية إدراك الحق و الخضوع له فلو بين له الحق من السبيل التي يألفها لم يلبث دون أن يعقله و إذا عقله اعترفت له فطرته و خضعت له طويته و إن لم يخضع له عملا اتباعا لهوى أو أي مانع يمنعه عن ذلك.

و أما الغلبة من حيث التأييد الغيبي و القضاء للحق على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب التي أنزلها الله تعالى على مكذبي الأمم الماضين كقوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و على آل فرعون و غيرهم ممن يشير تعالى إليهم بقوله: "ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون": المؤمنون: 44، و على ذلك جرت السنة الإلهية و قد أجمل ذكرها في قوله: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون: يونس: 47.



و أما الغلبة من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله فإن إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع و الذب عن الحق و المقاومة تجاه الباطل مطلقا و هو يرى أنه إن قتل فاز و إن قتل فاز فثباته على الدفاع غير مقيد بقيد و لا محدود بحد و هذا بخلاف من يدافع لا عن الحق بما هو حق بل عن شيء من المقاصد الدنيوية فإنه إنما يدافع لأجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولى منهزما فهو إنما يدافع على شرط و إلى حد و هو سلامة النفس و عدم الإشراف على الهلكة و من الضروري أن العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيدة بقيد المحدودة بحد و من الشاهد عليه غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أدت إليه من الفتح و الظفر في عين أنها كانت سجالا لكن لم تنته إلا إلى تقدم المسلمين و غلبتهم.

و لم تقف الفتوحات الإسلامية و لا تفرقت جموع المسلمين أيادي سبإ إلا بفساد نياتهم و تبديل سيرة التقوى و الإخلاص لله و بسط الدين الحق من بسط السلطة و توسعة المملكة "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" 1 و قد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم و أمنهم من عدوهم أن يخشوه إذ قال: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون".

و يكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين: "و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين": آل عمران: 139.

قوله تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" إلخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الإيمان الصادق بالله و اليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة و المعاندة من الكفار و لو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة و البنوة و الأخوة و سائر أقسام القرابة فبين الإيمان و موادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك.

و قد بان أن قوله: "و لو كانوا آباءهم" إلخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقا و قد خصت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته و عدم تغيره.

و قوله: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" الإشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، و الكتابة الإثبات بحيث لا يتغير و لا يزول و الضمير لله و فيه نص على أنهم مؤمنون حقا.

و قوله: "و أيدهم بروح منه" التأييد التقوية، و ضمير الفاعل في "أيدهم" لله تعالى و كذا ضمير منه و من ابتدائية، و المعنى: و قواهم الله بروح من عنده تعالى، و قيل: الضمير للإيمان، و المعنى: و قواهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم، و لا بأس به.

و قيل: المراد بالروح جبرائيل، و قيل: القرآن، و قيل: المراد بها الحجة و البرهان، و هذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.

ثم الروح - على ما يتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة التي تترشح منها القدرة و الشعور فإبقاء قوله: "و أيدهم بروح منه" على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن و الكافر روحا أخرى تفيض عليهم حياة أخرى و تصاحبها قدرة و شعور جديدان، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122، و قوله: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة": النحل: 97.

و ما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها و هو القدرة و الشعور المتفرع عليهما الأعمال الصالحة، و هما المعبر عنهما في آية الأنعام المذكورة آنفا بالنور و نظيرها قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد: 28.



و هذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الإنسان الأبدية وراء الحياة المشتركة بين المؤمن و الكافر التي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاص و هو روح الإيمان التي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن و الكافر.

و على هذا فلا موجب لما ذكروا أن المراد بالروح نور القلب و هو نور العلم الذي يحصل به الطمأنينة و أن تسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية أو من الاستعارة لأنه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب - و العلم حياة القلب كما أن الجهل موته - يشبه الروح المفيض للحياة.

انتهي.

و قوله: "و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" وعد جميل و وصف لحياتهم الآخرة الطيبة.

و قوله: "رضي الله عنهم و رضوا عنه" استئناف يعلل قوله: "و يدخلهم جنات" إلخ، و رضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لإخلاصهم الإيمان له و رضاهم عنه و ابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيبة و الجنة.

و قوله: "أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون" تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنهم حزبه تعالى كما أن أولئك المنافقين الموالين لأعداء الله حزب الشيطان و هؤلاء مفلحون كما أن أولئك خاسرون.

و في قوله: "ألا إن حزب الله" وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي" روي أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحن الله علينا الروم و فارس فقال المنافقون: أ تظنون أن فارس و الروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل الله هذه الآية.

أقول: الظاهر أنه من قبيل تطبيق الآية على القصة و نظائره كثيرة، و لذا ورد: في قوله تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر" إنه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، و في بعضها: أنه نزل في أبي بكر سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصكه أبو بكر صكة سقط على الأرض فنزلت الآية. و في عبد الرحمن بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلما قدم قرأ عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من حوله من المسلمين الآية.

و هذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتصال الظاهر.

و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوثق عرى الإيمان الحب في الله و البغض في الله.

و في الكافي، بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من مؤمن إلا و لقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس و أذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: "و أيدهم بروح منه".

أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح و يعمل به، قال تعالى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره": النحل: 2.

و فيه، بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان. قال: هو قوله: "و أيدهم بروح منه" ذلك الذي يفارقه.

و فيه، بإسناده إلى محمد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: إن الله تبارك و تعالى أيد المؤمن بروح تحضره في كل وقت يحسن فيه و يتقي و تغيب عنه في كل وقت يذنب فيه و يعتدي فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه و تسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا و تربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرءا هم بخير فعمله أو هم بشر فارتدع عنه. ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله و العمل له.

أقول: قد تبين مما تقدم في ذيل الآية أن هذه الروح من مراتب الروح الإنساني ينالها المؤمن عند ما يستكمل الإيمان فليست مفارقة له كما أن الروح النباتية و الحيوانية و الإنسانية المشتركة بين المؤمن و الكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنها تبتدىء هيئة حسنة في النفس ربما زالت لعروض هيئة سيئة تضادها ثم ترجع إذا زالت الموانع المضادة حتى إذا استقرت و رسخت و تصورت النفس بها ثبتت و لم تتغير.

و بذلك يظهر أن المراد بقوله (عليه السلام): بروح تحضره، و قوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيأة العارضة القابلة للزوال، و بقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيأة على طريق الاستعارة، و كذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية السابقة: فارقه روح الإيمان.

59 سورة الحشر - 1 - 10

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سبّحَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (1) هُوَ الّذِى أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مِن دِيَرِهِمْ لأَوّلِ الحَْشرِ مَا ظنَنتُمْ أَن يخْرُجُوا وَ ظنّوا أَنّهُم مّانِعَتُهُمْ حُصونهُم مِّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْث لَمْ يحْتَسِبُوا وَ قَذَف فى قُلُوبهِمُ الرّعْب يخْرِبُونَ بُيُوتهُم بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبرُوا يَأُولى الأَبْصرِ (2) وَ لَوْ لا أَن كَتَب اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذّبهُمْ فى الدّنْيَا وَ لهَُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَاب النّارِ (3) ذَلِك بِأَنهُمْ شاقّوا اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ مَن يُشاقِّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكتُمُوهَا قَائمَةً عَلى أُصولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيُخْزِى الْفَسِقِينَ (5) وَ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلى رَسولِهِ مِنهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لَكِنّ اللّهَ يُسلِّط رُسلَهُ عَلى مَن يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (6) مّا أَفَاءَ اللّهُ عَلى رَسولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللّهِ وَ لِلرّسولِ وَ لِذِى الْقُرْبى وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينِ وَ ابْنِ السبِيلِ كىْ لا يَكُونَ دُولَةَ بَينَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَ مَا ءَاتَاكُمُ الرّسولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَ أَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ رِضوَناً وَ يَنصرُونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ أُولَئك هُمُ الصدِقُونَ (8) وَ الّذِينَ تَبَوّءُو الدّارَ وَ الايمَنَ مِن قَبْلِهِمْ يحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَ لا يجِدُونَ فى صدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بهِمْ خَصاصةٌ وَ مَن يُوقَ شحّ نَفْسِهِ فَأُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لاخْوَنِنَا الّذِينَ سبَقُونَا بِالايمَنِ وَ لا تجْعَلْ فى قُلُوبِنَا غِلاّ لِّلّذِينَ ءَامَنُوا رَبّنَا إِنّك رَءُوفٌ رّحِيمٌ (10)

بيان

تشير السورة إلى قصة إجلاء بني النضير من اليهود لما نقضوا العهد بينهم و بين المسلمين، و إلى وعد المنافقين لهم بالنصر و الملازمة ثم غدرهم و ما يلحق بذلك من حكم فيئهم.

و من غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها يأمر الله سبحانه عباده فيها بالاستعداد للقائه من طريق المراقبة و المحاسبة، و يذكر عظمة قوله و جلالة قدره بوصف عظمة قائله عز من قائل بما له من الأسماء الحسنى و الصفات العليا.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض و هو العزيز الحكيم" افتتاح مطابق لما في مختتم السورة من قوله: "يسبح له ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم".

و إنما افتتح بالتنزيه لما وقع في السورة من الإشارة إلى خيانة اليهود و نقضهم العهد ثم وعد المنافقين لهم بالنصر غدرا كمثل الذين كانوا من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم، و بالنظر إلى ما أذاقهم الله من وبال كيدهم، و كون ذلك على ما يقتضيه الحكمة و المصلحة ذيل الآية بقوله: "و هو العزيز الحكيم".

قوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" تأييد لما ذكر في الآية السابقة من تنزهه تعالى و عزته و حكمته، و المراد بإخراج الذين كفروا من أهل الكتاب إجلاء بني النضير حي من أحياء اليهود كانوا يسكنون خارج المدينة و كان بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد أن لا يكونوا له و لا عليه ثم نقضوا العهد فأجلاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ستأتي قصتهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و الحشر إخراج الجماعة بإزعاج، و "لأول الحشر" من إضافة الصفة إلى الموصوف، و اللام بمعنى في كقوله: "أقم الصلاة لدلوك الشمس": إسراء: 78.

و المعنى: الله الذي أخرج بني النضير من اليهود من ديارهم في أول إخراجهم من جزيرة العرب.

ثم أشار تعالى إلى أهمية إخراجهم بقوله: "ما ظننتم أن يخرجوا" لما كنتم تشاهدون فيهم من القوة و الشدة و المنعة "و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله" فلن يغلبهم الله و هم متحصنون فيها و عد حصونهم بحسب ظنهم مانعة من الله لا من المسلمين لما أن إخراجهم منها منسوب في الآية السابقة إليه تعالى و كذا إلقاء الرعب في قلوبهم في ذيل الآية، و في الكلام دلالة على أنه كانت لهم حصون متعددة.

ثم ذكر فساد ظنهم و خبطهم في مزعمتهم بقوله: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" و المراد به نفوذ إرادته تعالى فيهم لا من طريق احتسبوه و هو طريق الحصون و الأبواب بل من طريق باطنهم و هو طريق القلوب "و قذف في قلوبهم الرعب" و الرعب الخوف الذي يملأ القلب "يخربون بيوتهم بأيديهم" لئلا تقع في أيدي المؤمنين بعد خروجهم و هذه من قوة سلطانه تعالى عليهم حيث أجرى ما أراده بأيدي أنفسهم "و أيدي المؤمنين" حيث أمرهم بذلك و وفقهم لامتثال أمره و إنفاذ إرادته "فاعتبروا" و خذوا بالعظة "يا أولي الأبصار" بما تشاهدون من صنع الله العزيز الحكيم بهم قبال مشاقتهم له و لرسوله.



و قيل: كانوا يخربون البيوت ليهربوا و يخربها المؤمنون ليصلوا.

و قيل: المراد بتخريب البيوت اختلال نظام حياتهم فقد خربوا بيوتهم بأيديهم حيث نقضوا الموادعة، و بأيدي المؤمنين حيث بعثوهم على قتالهم.

و فيه أن ظاهر قوله: "يخربون بيوتهم" إلخ أنه بيان لقوله: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" إلخ، من حيث أثره فهو متأخر عن نقض الموادعة.

قوله تعالى: "و لو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار" الجلاء ترك الوطن و كتابة الجلاء عليهم قضاؤه في حقهم، و المراد بعذابهم في الدنيا عذاب الاستئصال أو القتل و السبي.

و المعنى: و لو لا أن قضى الله عليهم الخروج من ديارهم و ترك وطنهم لعذبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال أو القتل و السبي كما فعل ببني قريظة و لهم في الآخرة عذاب النار.

قوله تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب" المشاقة المخالفة بالعناد، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من إخراجهم و استحقاقهم العذاب لو لم يكتب عليهم الجلاء، و في تخصيص مشاقتهم بالله في قوله: "و من يشاق الله" بعد تعميمه لله و رسوله في قوله: "شاقوا الله و رسوله" تلويح إلى أن مشاقة الرسول مشاقة الله و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله و ليخزي الفاسقين" ذكر الراغب أن اللينة النخلة الناعمة من دون اختصاص منه بنوع منها دون نوع، رووا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقطع نخيلهم فلما قطع بعضها نادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال النخيل تقطع فنزلت الآية فأجيب عن قولهم بأن ما قطعوا من نخلة أو تركوها قائمة على أصولها فبإذن الله و لله في حكمه هذا غايات حقة و حكم بالغة منها إخزاء الفاسقين و هم بنو النضير.

فقوله: "و ليخزي الفاسقين" اللام فيه للتعليل و هو معطوف على محذوف و التقدير: القطع و الترك بإذن الله ليفعل كذا و كذا و ليخزي الفاسقين فهو كقوله: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75.

قوله تعالى: "و ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكن الله يسلط رسله على من يشاء" إلخ، الإفاءة الإرجاع من الفيء بمعنى الرجوع، و ضمير "منهم" لبني النضير و المراد من أموالهم.

و إيجاف الدابة تسييرها بإزعاج و إسراع و الخيل الفرس، و الركاب الإبل و "من خيل و لا ركاب" مفعول "فما أوجفتم" و من زائدة للاستغراق.

و المعنى: و الذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير - خصه به و ملكه وحده إياه - فلم تسيروا عليه فرسا و لا إبلا بالركوب حتى يكون لكم فيه حق بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، و لكن الله يسلط رسله على من يشاء و الله على كل شيء قدير و قد سلط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء.



قوله تعالى: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل" إلخ، ظاهره أنه بيان لموارد مصرف الفيء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيء لفيء أهل القرى أعم من بني النضير و غيرهم.

و قوله: "فلله و للرسول" أي منه ما يختص بالله و المراد به صرفه و إنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول و منه ما يأخذه الرسول لنفسه و لا يصغى إلى قول من قال: إن ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرد التبرك.

و قوله: "و لذي القربى" إلخ، المراد بذي القربى قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا معنى لحمله على قرابة عامة المؤمنين و هو ظاهر، و المراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به السياق و إنما أفرد و قدم على "المساكين" مع شموله له اعتناء بأمر اليتامى.

و قد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذي القربى أهل البيت و اليتامى و المساكين و ابن السبيل منهم.

و قوله: "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم" أي إنما حكمنا في الفيء بما حكمنا كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم و الدولة ما يتداول بين الناس و يدور يدا بيد.

و قوله: "و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا" أي ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه كما أعطى منه المهاجرين و نفرا من الأنصار، و ما نهاكم عنه و منعكم فانتهوا و لا تطلبوا، و فيه إشعار بأنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسم الفيء بينهم جميعا فأرجعه إلى نبيه و جعل موارد مصرفه ما ذكره في الآية و جعل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفقه فيها على ما يرى.

و الآية مع الغض عن السياق عامة تشمل كل ما آتاه النبي من حكم فأمر به أو نهى عنه.

و قوله: "و اتقوا الله إن الله شديد العقاب" تحذير لهم عن مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأكيدا لقوله: "و ما آتاكم الرسول" إلخ.

قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا" إلخ، قيل: إن قوله: "للفقراء" بدل من قوله: "ذي القربى" و ما بعده و ذكر الله لمجرد التبرك فيكون الفيء مختصا بالرسول و الفقراء من المهاجرين، و قد وردت الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم فيء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط منه الأنصار شيئا إلا رجلين من فقرائهم أو ثلاثة.

و قيل: إنه بدل من اليتامى و المساكين و ابن السبيل فيكون ذوو السهام هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذا القربى غنيهم و فقيرهم و الفقراء من المهاجرين يتاماهم و مساكينهم و أبناء السبيل منهم، و لعل هذا مراد من قال: إن قوله: "للفقراء المهاجرين" بيان المساكين في الآية السابقة.

و الأنسب لما تقدم نقله عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن يكون قوله: "للفقراء المهاجرين" إلخ، بيان مصداق لصرف سبيل الله الذي أشير إليه بقوله: "فلله" لا بأن يكون الفقراء المهاجرون أحد السهماء في الفيء بل بأن يكون صرفه فيهم و إعطاؤهم إياه صرفا له في سبيل الله.



و محصل المعنى على هذا: أن الله سبحانه أفاء الفيء و أرجعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فله أن يتصرف فيه كيف يشاء ثم دله على موارد صرفه و هي سبيل الله و الرسول و ذو القربى و يتاماهم و مساكينهم و ابن السبيل منهم ثم أشار إلى مصداق الصرف في السبيل أو بعض مصاديقه و هم الفقراء المهاجرون إلخ، ينفق منه الرسول لهم على ما يرى.

و على هذا ينبغي أن يحمل ما ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم فيء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط الأنصار شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم: أبا دجانة سماك بن خرشة و سهل بن حنيف و الحارث بن الصمة فقد صرف فيهم بما أنه صرف في سبيل الله لا بما أنهم سهماء في الفيء.

و كيف كان فقوله: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم" المراد بهم من هاجر من المسلمين من مكة إلى المدينة قبل الفتح و هم الذين أخرجهم كفار مكة بالاضطرار إلى الخروج فتركوا ديارهم و أموالهم و هاجروا إلى مدينة الرسول.

و قوله: "يبتغون فضلا من الله و رضوانا" الفضل الرزق أي يطلبون من الله رزقا في الدنيا و رضوانا في الآخرة.

و قوله: "و ينصرون الله و رسوله" أي ينصرونه و رسوله بأموالهم و أنفسهم، و قوله: "أولئك هم الصادقون" تصديق لصدقهم في أمرهم و هم على هذه الصفات.

قوله تعالى: "و الذين تبوؤا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم" إلخ، قيل: إنه استئناف مسوق لمدح الأنصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفيء، "و الذين تبوؤا" - و المراد بهم الأنصار - مبتدأ خبره "يحبون" إلخ، و المراد بتبوي الدار و هو تعميرها بناء مجتمع ديني يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، و الإيمان معطوف على "الدار" و تبوي الإيمان و تعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات و القربات من غير حجر و منع كما كان بمكة.

و احتمل أن يعطف "الإيمان" على تبوؤا و قد حذف الفعل العامل فيه، و التقدير: و آثروا الإيمان.

و قيل: إن قوله: "و الذين تبوؤا" إلخ، معطوف على قوله: "المهاجرين" و على هذا يشارك الأنصار المهاجرين في الفيء، و الإشكال عليه بأن المروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمه بين المهاجرين و لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأن الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لو لم يجز إعطاؤه للأنصار لم يجز لا - للثلاثة و لا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أن الأمر لما كان راجعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجح أن يقسمه بينهم على تلك الوتيرة.

و الأنسب لما تقدم من كون "للفقراء" إلخ، بيانا لمصاديق سهم السبيل هو عطف "و الذين تبوؤا" إلخ، و كذا قوله الآتي: "و الذين جاءوا من بعدهم" على قوله: "المهاجرين" إلخ، دون الاستئناف.

بل ما ورد من إعطائه (صلى الله عليه وآله وسلم) للثلاثة يؤيد هذا الوجه بعينه إذ لو كان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الأنصار و لا لثلاثة منهم، و لو كان للفقراء من الأنصار كالمهاجرين فيه سهم - و ظاهر الآية أن جمعا منهم كانوا فقراء بهم خصاصة و التاريخ يؤيده - لأعطى غير الثلاثة من فقراء الأنصار كما أعطى فقراء المهاجرين و استوعبهم.

فقوله: "و الذين تبوؤا الدار و الإيمان من قبلهم" ضمير "من قبلهم" للمهاجرين و المراد من قبل مجيئهم و هجرتهم إلى المدينة.



و قوله: "يحبون من هاجر إليهم" أي يحبون من هاجر إليهم لأجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الإيمان و مجتمع المسلمين.

و قوله: "و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" ضميرا "يجدون" و "صدورهم" للأنصار، و ضمير "أوتوا" للمهاجرين، و المراد بالحاجة ما يحتاج إليه و من تبعيضية و قيل: بيانية و المعنى: لا يخطر ببالهم شيء مما أعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من تقسيم الفيء بين المهاجرين دونهم و لا يحسدون.

و قيل: المراد بالحاجة ما يؤدي إليه الحاجة و هو الغيظ.

و قوله: "و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة" إيثار الشيء اختياره و تقديمه على غيره، و الخصاصة الفقر و الحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه و عبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة انتهى.

و المعنى: و يقدمون المهاجرين على أنفسهم و لو كان بهم فقر و حاجة، و هذه الخصيصة أغزر و أبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الإضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر و الحاجة.

و قوله: "و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" قال الراغب: الشح بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى.

و "يوق" فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، و المعنى: و من يحفظ - أي يحفظه الله - من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أو من وقوع مال في يد غيره فأولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: "و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" استئناف أو عطف نظير ما تقدم في قوله: "و الذين تبوؤا الدار و الإيمان يحبون" و على الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله: "يقولون ربنا" إلخ.

و المراد بمجيئهم بعد المهاجرين و الأنصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح و قيل: المراد أنهم خلفوهم.

و قولهم: "ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" دعاء لأنفسهم و السابقين من المؤمنين بالمغفرة، و في تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: "بعضكم من بعض": النساء: 25، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم و يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم.

و لذلك عقبوه بقولهم: "و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم" فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا و الغل العداوة.

و في قوله: "للذين آمنوا" تعميم لعامة المؤمنين منهم و ممن سبقهم و تلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الإيمان.

بحث روائي



في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب - من ديارهم" الآية، قال: سبب ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بني النضير و قريظة و قينقاع، و كان بينهم و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد و مدة فنقضوا عهدهم. و كان سبب ذلك بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، و كان بينهم كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال: مرحبا يا أبا القاسم و أهلا و قام كأنه يصنع له الطعام و حدث نفسه أن يقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و قال لمحمد بن مسلمة الأنصاري: اذهب إلى بني النضير فأخبرهم إن الله عز و جل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر فإما أن تخرجوا من بلدنا و إما أن تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك. فبعث إليهم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا و تقيموا و تنابذوا محمدا الحرب فإني أنصركم أنا و قومي و حلفائي فإن خرجتم خرجت معكم و إن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا و أصلحوا بينهم حصونهم و تهيئوا للقتال و بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع. فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كبر و كبر أصحابه و قال لأمير المؤمنين: تقدم على بني النضير فأخذ أمير المؤمنين الراية و تقدم، و جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحاط بحصنهم و غدر بهم عبد الله بن أبي. و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم و خربوا ما يليه، و كان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمد إن الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذه و إن كان لنا فلا تقطعه. فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياما ثم قالوا: نخرج و لنا ما حملت الإبل، فقال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئا، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه. فخرجوا على ذلك و وقع منهم قوم إلى فدك و وادي القرى و خرج قوم منهم إلى الشام. فأنزل الله فيهم "هو الذي أخرج الذين كفروا إلى قوله فإن الله شديد العقاب" و أنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها - فبإذن الله إلى قوله ربنا إنك رءوف رحيم". و أنزل الله عليه في عبد الله بن أبي و أصحابه "أ لم تر إلى الذين نافقوا إلى قوله ثم لا ينصرون".

و في المجمع، عن ابن عباس: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم و أن يخرجهم من أرضهم و أوطانهم و أن يسيرهم إلى أذرعات بالشام و جعل لكل ثلاثة منهم بعيرا و سقاء. فخرجوا إلى أذرعات بالشام و أريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق و آل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر و لحقت طائفة منهم بالحيرة.

و فيه، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى بني النضير و أمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.

و فيه، عن محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد، و كان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب، و كان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر.

و فيه، عن ابن عباس: نزل قوله تعالى: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" الآية في أموال كفار أهل القرى و هم قريظة و بنو النضير و هما بالمدينة، و فدك و هي من المدينة على ثلاثة أميال، و خيبر و قرى عرينة و ينبع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد و أخبر أنها كلها له فقال أناس: فهلا قسمها فنزلت الآية.

و فيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم و تشاركونهم في هذه الغنيمة، و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم و لم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقال الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا و أموالنا و نؤثرهم بالغنيمة و لا نشاركهم فيها فنزلت: "و يؤثرون على أنفسهم" الآية.

أقول: و روي في إيثارهم و نزول الآية فيه قصص أخرى، و الظاهر أن ذلك من قبيل تطبيق الآية على القصة، و قد روي المعاني السابقة في الدر المنثور بطرق كثيرة مختلفة.

و في التوحيد، عن علي (عليه السلام): و قد سئل عما اشتبه على السائل من الآيات قال في قوله تعالى: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" يعني أرسل عليهم عذابا.

و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه" الآية قال الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل و الأنفال مثل ذلك و هو بمنزلته.

و في المجمع، روى المنهال بن عمر عن علي بن الحسين (عليهما السلام): قلت: قوله: "و لذي القربى و اليتامى - و المساكين و ابن السبيل" قال: هم قربانا و مساكيننا و أبناء سبيلنا.

أقول: و روي هذا المعنى في التهذيب، عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، و قال في المجمع، بعد نقل الرواية السابقة: و قال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة و كذلك المساكين و أبناء السبيل و قد روي ذلك أيضا عنهم (عليهم السلام).

و في الكافي، بإسناده عن زرارة أنه سمع أبا جعفر و أبا عبد الله (عليه السلام) يقولان: إن الله عز و جل فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا 1 هذه الآية "ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا".



أقول: و الروايات عنهم (عليهم السلام) في هذا المعنى كثيرة و المراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات إمضاؤه تعالى ما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم و افتراض طاعته في ذلك، و ولايته أمر الناس و أما التفويض بمعنى سلبه تعالى ذلك عن نفسه و تقليده (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فمستحيل.

و فيه، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: الإيمان بعضه من بعض و هو دار و كذلك الإسلام دار و الكفر دار.

و في المحاسن، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلا الحب. أ لا ترى إلى قول الله: "إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله - و يغفر لكم ذنوبكم" أ و لا ترون إلى قول الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "حبب إليكم الإيمان و زينة في قلوبكم" و قال: "يحبون من هاجر إليهم" و قال: الدين هو الحب و الحب هو الدين.

و في المجمع، و في الحديث: لا يجتمع الشح و الإيمان في قلب رجل مسلم، و لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف رجل مسلم.

و في الفقيه، روى الفضل بن أبي قرة السمندي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أ تدري من الشحيح؟ قلت: هو البخيل. قال: الشح أشد من البخل إن البخيل يبخل بما في يده و الشحيح يشح بما في أيدي الناس و على ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل و الحرام، و لا يقنع بما رزقه الله عز و جل.

59 سورة الحشر - 11 - 17

أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لاخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَئنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصرَنّكمْ وَ اللّهُ يَشهَدُ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ (11) لَئنْ أُخْرِجُوا لا يخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئن قُوتِلُوا لا يَنصرُونهُمْ وَ لَئن نّصرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأَدْبَرَ ثُمّ لا يُنصرُونَ (12) لأَنتُمْ أَشدّ رَهْبَةً فى صدُورِهِم مِّنَ اللّهِ ذَلِك بِأَنهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَتِلُونَكمْ جَمِيعاً إِلا فى قُرًى محَصنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسهُم بَيْنَهُمْ شدِيدٌ تحْسبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شتى ذَلِك بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشيْطنِ إِذْ قَالَ لِلانسنِ اكفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنى بَرِىءٌ مِّنك إِنى أَخَاف اللّهَ رَب الْعَلَمِينَ (16) فَكانَ عَقِبَتهُمَا أَنهُمَا فى النّارِ خَلِدَيْنِ فِيهَا وَ ذَلِك جَزؤُا الظلِمِينَ (17)

بيان

إشارة إلى حال المنافقين و وعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا و الخروج معهم إن أخرجوا و تكذيبهم فيما وعدوا.

قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب" إلخ، الإخوان كالأخوة جمع أخ و الأخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب و يتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة و نحو ذلك، و يكثر استعمال الأخوة في المشتركين في النسبة إلى أب و استعمال الإخوان في المشتركين في اعتقاد و نحوه على ما قيل.

و الاستفهام في الآية للتعجيب، و المراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي و أصحابه، و المراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج و القتال بعد قوم آخر كذلك و ليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع.

و قوله: "لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم" مقول قول المنافقين، و اللام في "لئن أخرجتم" للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم و لا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، و إن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم.

و قوله: "و الله يشهد إنهم لكاذبون" تكذيب لوعد المنافقين، و تصريح بأنهم لا يفون بوعدهم.

قوله تعالى: "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم" تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الإجمالي بقوله: "و الله يشهد إنهم لكاذبون" و قد كرر فيه لام القسم، و المعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، و أقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم.

قوله تعالى: "و لئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون" إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - و لن يقع أبدا - لا يدوم و لا ينفعهم بل يولون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد.

قوله تعالى: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله" إلخ، ضمائر الجمع للمنافقين، و الرهبة الخشية، و الآية في مقام التعليل لقوله: "و لئن نصروهم ليولن الأدبار" أي ذلك لأنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم و لا يثبتون لكم.

و علل ذلك بقوله: "ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" و الإشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لأنهم قوم لا يفهمون حق الفهم و لو فقهوا حقيقة الأمر بأن لهم أن الأمر إلى الله تعالى و ليس لغيره من الأمر شيء سواء في ذلك المسلمون و غيرهم، و لا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى و قوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز و جل.

قوله تعالى: "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر" بيان لأثر رهبتهم و جبنهم جميعا و المعنى: لا يقاتلكم بنو النضير و المنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.

و قوله: "بأسهم بينهم شديد" أي هم فيما بينهم شديد البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم و شاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب.

و قوله: "تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى" أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة و اتحاد و الحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة و ذلك أقوى عامل في الخزي و الخذلان.

ذلك بأنهم قوم لا يعقلون و لو عقلوا لاتحدوا و وحدوا الكلمة.

قوله تعالى: "كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم" الوبال العاقبة السيئة و قوله: "قريبا" قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب.

و قوله: "كمثل" إلخ، خبر مبتدإ محذوف و التقدير "مثلهم كمثل" إلخ، و المعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد و وعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب و هم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أذرعات و قد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم و يمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم و قيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر و ما تقدم أنسب للسياق.

و المثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.

قوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" إلخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة.

و ظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان و الإنسان الجنس و الإشارة إلى غرور الشيطان للإنسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له و تسويل الإعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة و الأماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة و عاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره و خيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان و لم يف بما وعده و قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.

و بالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعدهم النصر ثم الغدر بهم و خلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوة الإنسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة.

و قيل: المراد بالتمثيل الإشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر و سيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و قيل: المثل السابق المذكور في قوله: "كمثل الذين من قبلهم قريبا" مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - و المراد بالإنسان في هذا المثل أبو جهل و بقول الشيطان له اكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب": الأنفال: 48.

و على هذا الوجه فقول الشيطان: "إني أخاف الله رب العالمين" قول جدي لأنه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر و أما على الوجهين الأولين فهو نوع من الاستهزاء و الإخزاء.

قوله تعالى: "فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين" الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان و الإنسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الإنسان و إضلاله و الإنسان في اغتراره به و ضلاله، و إشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير و غدرهم بهم و عاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب و إصرارهم على المشاقة و المخالفة، و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي



في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس: أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي بن سلول و وديعة بن مالك و سويد و داعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا و تمنعوا فإنا لا نسلمكم و إن قوتلتم قاتلنا معكم، و إن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا و قذف الله الرعب في قلوبهم. فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجليهم و يكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر و منهم من سار إلى الشام.

أقول: و الرواية تخالف ما في عدة من الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الإبل من الأموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يخرجوا بأنفسهم و أهليهم من غير أن يحملوا شيئا فخرجوا كذلك و جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل ثلاثة منهم بعيرا و سقاء.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: "أ لم تر إلى الذين نافقوا" قال: عبد الله بن أبي بن سلول و رفاعة بن تابوت و عبد الله بن نبتل و أوس بن قيظي. و "إخوانهم" بنو النضير.

أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتى بها الراهب فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده. فأتاه الشيطان فوسوس له و زين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها و دفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم و ألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه. فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، و أنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج و اسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر" الآية.

أقول: و القصة مشهورة رويت مختصرة و مفصلة في روايات كثيرة.

59 سورة الحشر - 18 - 24

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ لْتَنظرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَت لِغَدٍ وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَ لا تَكُونُوا كالّذِينَ نَسوا اللّهَ فَأَنساهُمْ أَنفُسهُمْ أُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ (19) لا يَستَوِى أَصحَب النّارِ وَ أَصحَب الْجَنّةِ أَصحَب الْجَنّةِ هُمُ الْفَائزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلى جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَشِعاً مّتَصدِّعاً مِّنْ خَشيَةِ اللّهِ وَ تِلْك الأَمْثَلُ نَضرِبهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ (21) هُوَ اللّهُ الّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلِمُ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ (22) هُوَ اللّهُ الّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِك الْقُدّوس السلَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكبرُ سبْحَنَ اللّهِ عَمّا يُشرِكونَ (23) هُوَ اللّهُ الْخَلِقُ الْبَارِئُ الْمُصوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحُسنى يُسبِّحُ لَهُ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (24)

بيان

الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود و نقضهم العهد و ذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم و أخراهم، و تحريض المنافقين لهم على مشاقة الله و رسوله و هو الذي أهلكهم، و حقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم و نسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم و صلاح عاجلهم و آجلهم فتاهوا و هلكوا.

فعلى من آمن بالله و رسوله و اليوم الآخر أن يذكر ربه و لا ينساه و ينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه.

و هذا هو الذي يرومه قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد" الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه و لا ينسوه و ينظروا في أعمالهم التي على صلاحها و طلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة و يوبخوها و يزجروها على ما اقترفت من سيئة و يستغفروا.

و ذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته و كبريائه من أسمائه الحسنى و صفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية و لا كمال للإنسان فوقه.

و ذلك أن الإنسان عبد محض و مملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، و كمال الشيء محوضته في نفسه و آثاره فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال و أن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع و الخشوع و الذلة و الاستكانة و الفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة و العزة و الغنى و أن تجري أعماله و أفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شيء من هذه المراحل الذات و الصفات و الأفعال.

و لا يتم له النظر إلى ذاته و صفاته و أفعاله بنظرة التبعية المحضة و المملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شيء شهيد و بكل شيء محيط و هو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه.

و عندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب": الرعد: 28، و يعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، و يظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته و جهات نقصه من خضوع و خشوع و ذلة و فقر و حاجة.

و يتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور و استمرار الذكر، قال تعالى: "و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون": الأعراف: 206 و قال: "فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون": حم السجدة: 38.

و إلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله و معرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص و الحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن" إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد" إلى آخر الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله و بأمر آخر و هو النظر في الأعمال التي قدموها ليوم الحساب أ هي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها و يتدارك بالتوبة و الإنابة و هو محاسبة النفس.

أما التقوى و قد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات و المحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات و فعل المحرمات.

و أما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الإصلاحي ثانيا من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله و رفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل و الصنع.

فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه و لا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الأعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أ صالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله و يستغفروه.

و هذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل و عدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الإيمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم و إلى ذلك يلوح لفظ الآية "و لتنظر نفس".

فقوله: "و لتنظر نفس ما قدمت لغد" خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الإيمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا و استغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة و إصلاح أمور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة و علقه بنفس ما منكرة فقال: "و لتنظر نفس" و في هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب و تقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم.

و قوله: "ما قدمت لغد" استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد و بيان للنظر، و يمكن أن تكون "ما" موصولة و هي و صلتها متعلقا بالنظر.

و المراد بغد يوم القيامة و هو يوم حساب الأعمال و إنما عبر عنه بغد للإشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: "إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا": المعارج: 7.

و المعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به و ينهاكم عنه، و لتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل و لتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أ هو عمل صالح أو طالح و هل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود.

و قوله: "و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" أمر بالتقوى ثانيا و "إن الله خبير" إلخ، تعليل له و تعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالأعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة و النظر فيها من حيث إصلاحها و إخلاصها لله سبحانه و حفظها عما يفسدها، و أما قوله في صدر الآية: "اتقوا الله" فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات و تجنب المعاصي.

و من هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، و الثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها و إخلاصها.

و ظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب و الثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد و مثله ما قيل: إن الأولى في أداء الواجبات و الثانية في ترك المحرمات، و مثله ما قيل: إن الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.



قوله تعالى: "و لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم" إلخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه و يتوسع فيه مطلق على مطلق الإعراض عن الشيء بعدم ترتيب الأثر عليه قال تعالى: "و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين": الجاثية: 34.

و الآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب و الجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم و لا تنسوه.

ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة و الفقر و الحاجة فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود و يخيل إليه أن له لنفسه حياة و قدرة و علما و سائر ما يتراءى له من الكمال و نظراؤه في الاستقلال سائر الأسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه و تتأثر عنه.

و عند ذلك يعتمد على نفسه و كان عليه أن يعتمد على ربه و يرجو و يخاف الأسباب الظاهرية و كان عليه أن يرجو و يخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه و كان عليه أن يطمئن إلى ربه.

و بالجملة ينسى ربه و الرجوع إليه و يعرض عنه بالإقبال إلى غيره، و يتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه من كمالات الوجود و إليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الأسباب الكونية و ليس هذا هو الإنسان بل الإنسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله و هكذا، و ما له من الكمال كالوجود و العلم و القدرة و العزة و الغنى و هكذا فلربه و إلى ربه انتهاؤه و نظراؤه في ذلك سائر الأسباب الكونية.

و الحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لأن انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ و آكد، و لم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: و لا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير و أقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير و بني قينقاع و من حاله حالهم في مشاقة الله و رسوله.

فقال: "و لا تكونوا كالذين نسوا الله" ثم فرع عليه قوله: "فأنساهم أنفسهم" تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: "أولئك هم الفاسقون" فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية.

و الآية و إن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله و مراقبته.

فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الأولى تأمر بمحاسبة النفس و الثانية تأمر بالذكر و المراقبة.

قوله تعالى: "لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون" قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة انتهى.

و السياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله و بأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون.

و الآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما و هما الذاكرون لله و الناسون له لا بد للإنسان أن يلحق بأحدهما و ليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان و لا يبالي الإنسان بأيهما لحق؟ بل هناك راجح و مرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح و الرجحان لقبيل الذاكرين لأنهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.

قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" إلخ، في المجمع،: التصدع التفرق بعد التلاؤم و مثله التفطر انتهى.

و الكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل و الدليل عليه قوله في ذيل الآية: "و تلك الأمثال نضربها للناس" إلخ.

و المراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف و أصول الشرائع و العبر و المواعظ و الوعد و الوعيد و هو كلام الله العظيم، و المعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته - مع ما فيه من الغلظة و القسوة و كبر الجسم و قوة المقاومة قبال النوازل - متأثرا متفرقا من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالإنسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تلي عليه، و ما أعجب حال أهل المشاقة و العناد لا تلين قلوبهم له و لا يخشعون و لا يخشون.

و الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: "من خشية الله" للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع و يتصدع الجبل بنزول القرآن لأنه كلام الله عز اسمه.

و قوله: "و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جار سار في موارد أخرى كثيرة.

فقوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" إلخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته و جلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى و بما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي و يتحققوا بما فيه من الحق الصريح و يهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم و سعادتهم وراءها، و من ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة و المحاسبة.

قوله تعالى: "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة هو الرحمن الرحيم" هذه الآية و الآيتان بعدها و إن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى و الإشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن و تنزهه بشهادة ما في السماوات و الأرض لكنها بانضمامها إلى ما مر من الأمر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك.

و بانضمامها إلى الآية السابقة و ما فيها من قوله: "من خشية الله" تفيد تعليل خشوع الجبل و تصدعه من خشية الله كأنه قيل: و كيف لا و هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة، إلى آخر الآيات.

و قوله: "هو الله الذي لا إله إلا هو" يفيد الموصول و الصلة معنى اسم من أسمائه و هو وحدانيته تعالى في ألوهيته و معبوديته، و قد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى: "و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو": البقرة: 163.

و قوله: "عالم الغيب و الشهادة" الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك و الغيب خلافها و هما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شيء شهادة بالنسبة إلى شيء و غيبا بالنسبة إلى آخر و يدور الأمر مدار نوع من الإحاطة بالشيء حسا أو خيالا أو عقلا أو وجودا و هو الشهادة و عدمها و هو الغيب، و كل ما فرص من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب و الشهادة و غيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده و عدم إحاطته إلا ما علمه تعالى كما قال: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول": الجن: 27، و أما هو تعالى فغيب على الإطلاق لا سبيل إلى الإحاطة به لشيء أصلا كما قال: "و لا يحيطون به علما".

و قوله: "هو الرحمن الرحيم" قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة.



قوله تعالى: "هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر" إلخ، الملك هو المالك لتدبير أمر الناس و الحكم فيهم، و القدوس مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و السلام من يلاقيك بالسلام و العافية من غير شر و ضر، و المؤمن الذي يعطي الأمن، و المهيمن الفائق المسيطر على الشيء.

و العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، و الجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته و يجبر على ما يشاء، و المتكبر الذي تلبس بالكبرياء و ظهر بها.

و قوله: "سبحان الله عما يشركون" ثناء عليه تعالى كما في قوله: "و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه": البقرة: 116.

قوله تعالى: "هو الله الخالق البارىء المصور" إلى آخر الآية، الخالق هو الموجد للأشياء عن تقدير، و البارىء المنشىء للأشياء ممتازا بعضها من بعض، و المصور المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض، و الأسماء الثلاثة تتضمن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة و بينها ترتب فالتصوير فرع البرء و البرء فرع الخلق و هو ظاهر.

و إنما صدر الآيتين السابقتين بقوله: "الذي لا إله إلا هو" فوصف به "الله" و عقبه بالأسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: "هو الله الخالق" إلخ.

لأن الأسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين و هي أحد عشر اسما من لوازم الربوبية و مالكية التدبير التي تتفرع عليها الألوهية و المعبودية بالحق و هي على نحو الأصالة و الاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الألوهية و استحقاق المعبودية به تعالى.

فالأسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الألوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لأنه عالم الغيب و الشهادة هو الرحمن الرحيم، و لذا أيضا ذيل هذه الأسماء بقوله ثناء عليه: "سبحان الله عما يشركون" ردا على القول بالشركاء كما يقوله المشركون.

و أما قوله: "هو الله الخالق البارىء المصور" فالمذكور فيه من الأسماء يفيد معنى الخلق و الإيجاد و اختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الألوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق و الإيجاد به تعالى و هم مع ذلك يدعون من دونه أربابا و آلهة و يثبتون له شركاء.

و أما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعا فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به و يجري عليه جميع الأسماء و في التكرار مزيد تأكيد و تثبيت للمطلوب.

و قوله: "له الأسماء الحسنى" إشارة إلى بقية الأسماء الحسنى عن آخرها لكون الأسماء جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.

و قوله: "يسبح له ما في السماوات و الأرض" أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات و الأرض و قد تقدم توضيح معنى الجملة مرارا.

ثم ختم الآيات بقوله: "و هو العزيز الحكيم" أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه و دعا إليه معصية العاصين و لا مشاقة المعاندين و لا يضيع عنده طاعة المطيعين و أجر المحسنين.

و العناية إلى ختم الكلام بالاسمين و الإشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز و ذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الأسماء.

و قد وصف القرآن أيضا بالعزة و الحكمة كما قال: "و إنه لكتاب عزيز": حم السجدة: 41، و قال: "و القرآن الحكيم": يس: 2.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: "عالم الغيب و الشهادة": عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

أقول: و هو تفسير ببعض المصاديق، و قد أوردنا أحاديث عنهم (عليهم السلام) في معنى اسم الجلالة و الاسمين الرحمن الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: لم يزل حيا بلا حياة و ملكا قادرا قبل أن ينشىء شيئا و ملكا جبارا بعد إنشائه للكون.

أقول: قوله: لم يزل حيا بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، و قوله: لم يزل ملكا قادرا قبل أن ينشىء شيئا إرجاع للملك و هو من صفات الفعل إلى القدرة و هي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الإيجاد.

و في الكافي، بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "سبحان الله" ما يعني به؟ قال: تنزيه.

و في نهج البلاغة،: و الخالق لا بمعنى حركة و نصب.

أقول: و قد أوردنا عدة من الروايات في الأسماء الحسنى و إحصائها في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب.

و في النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوا قبل أن توزنوا و تجهزوا للغرض الأكبر.

و في الكافي، بإسناده إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا ازداد لله شكرا و إن عمل سيئا استغفر الله و تاب إليه.

أقول: و فيما يقرب من هذا المعنى روايات أخر، و قد أوردنا روايات عنهم (عليهم السلام) في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى: "فاذكروني أذكركم" الآية: البقرة: 152، و قوله: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا": الأحزاب: 21، فليراجعها من شاء.

60 سورة الممتحنة - 1 - 9

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوِّى وَ عَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيهِم بِالْمَوَدّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يخْرِجُونَ الرّسولَ وَ إِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَداً فى سبِيلى وَ ابْتِغَاءَ مَرْضاتى تُسِرّونَ إِلَيهِم بِالْمَوَدّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنتُمْ وَ مَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضلّ سوَاءَ السبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَ يَبْسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيهُمْ وَ أَلْسِنَتهُم بِالسوءِ وَ وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكمْ وَ لا أَوْلَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَت لَكُمْ أُسوَةٌ حَسنَةٌ فى إِبْرَهِيمَ وَ الّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمهِمْ إِنّا بُرَءؤُا مِنكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَهِيمَ لأَبِيهِ لأَستَغْفِرَنّ لَك وَ مَا أَمْلِك لَك مِنَ اللّهِ مِن شىْءٍ رّبّنَا عَلَيْك تَوَكلْنَا وَ إِلَيْك أَنَبْنَا وَ إِلَيْك الْمَصِيرُ (4) رَبّنَا لا تجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنَا رَبّنَا إِنّك أَنت الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكمْ فِيهِمْ أُسوَةٌ حَسنَةٌ لِّمَن كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الاَخِرَ وَ مَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنىّ الحَْمِيدُ (6) عَسى اللّهُ أَن يجْعَلَ بَيْنَكمْ وَ بَينَ الّذِينَ عَادَيْتُم مِّنهُم مّوَدّةً وَ اللّهُ قَدِيرٌ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (7) لا يَنْهَاشُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فى الدِّينِ وَ لَمْ يخْرِجُوكم مِّن دِيَرِكُمْ أَن تَبرّوهُمْ وَ تُقْسِطوا إِلَيهِمْ إِنّ اللّهَ يحِب الْمُقْسِطِينَ (8) إِنّمَا يَنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَتَلُوكُمْ فى الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكم مِّن دِيَرِكُمْ وَ ظهَرُوا عَلى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَ مَن يَتَوَلهُّمْ فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ (9)

بيان

تذكر السورة موالاة المؤمنين لأعداء الله من الكفار و موادتهم و تشدد النهي عن ذلك تفتتح به و تختتم و فيها شيء من أحكام النساء المهاجرات و بيعة المؤمنات، و كونها مدنية ظاهر.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" إلخ، سياق الآيات يدل على أن بعض المؤمنين من المهاجرين كانوا يسرون الموادة إلى المشركين بمكة ليحموا بذلك من بقي من أرحامهم و أولادهم بمكة بعد خروجهم أنفسهم منها بالمهاجرة إلى المدينة فنزلت الآيات و نهاهم الله عن ذلك، و يتأيد بهذا ما ورد أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أسر كتابا إلى المشركين بمكة يخبرهم فيه بعزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخروج إليها لفتحها، فعل ذلك ليكون يدا له عليهم يقي بها من كان بمكة من أرحامه و أولاده فأخبر الله بذلك نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزلت، و ستوافيك قصته في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء" العدو معروف و يطلق على الواحد و الكثير و المراد في الآية هو الكثير بقرينة قوله: أولياء و إليهم و غير ذلك، و هم المشركون بمكة، و كونهم عدوه من جهة اتخاذهم له شركاء يعبدونهم و لا يعبدون الله و يردون دعوته و يكذبون رسوله، و كونهم أعداء للمؤمنين لإيمانهم بالله و تفديتهم أموالهم و أنفسهم في سبيله فمن يعادي الله يعاديهم.

و ذكر عداوتهم للمؤمنين مع كفاية ذكر عداوتهم لله في سوق النهي لتأكيد التحذير و المنع كأنه قيل: من كان عدوا لله فهو عدو لكم فلا تتخذوه وليا.

و قوله: "تلقون إليهم بالمودة" بالمودة مفعول "تلقون" و الباء زائدة كما في قوله: "و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة": البقرة: 195، و المراد بإلقاء المودة إظهارها أو إيصالها، و الجملة صفة أو حال من فاعل "لا تتخذوا".

و قوله: "و قد كفروا بما جاءكم من الحق" هو الدين الحق الذي يصفه كتاب الله و يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجملة حالية.

و قوله: "يخرجون الرسول و إياكم أن تؤمنوا بالله ربكم" الجملة حالية و المراد بإخراج الرسول و إخراجهم اضطرارهم الرسول و المؤمنين إلى الخروج من مكة و المهاجرة إلى المدينة، و "أن تؤمنوا بالله ربكم" بتقدير اللام متعلق بيخرجون، و المعنى: يجبرون الرسول و إياكم على المهاجرة من مكة لإيمانكم بالله ربكم.

و توصيف الله بقوله: "ربكم" للإشارة إلى أنهم يؤاخذونهم على أمر حق مفروض ليس بجرم فإن إيمان الإنسان بربه مفروض عليه و ليس من الجرم في شيء.

و قوله: "إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي و ابتغاء مرضاتي" متعلق بقوله: "لا تتخذوا" و جزاء الشرط محذوف يدل عليه المتعلق، و "جهادا" مصدر مفعول له، و "ابتغاء" بمعنى الطلب و "المرضاة" مصدر كالرضا، و المعنى: لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء إن كنتم هاجرتم للمجاهدة في سبيلي و لطلب رضاي.



و تقييد النهي عن ولائهم و اشتراطه بخروجهم للجهاد و ابتغائهم مرضاته من باب اشتراط الحكم بأمر محقق الوقوع تأكيدا له و إيذانا بالملازمة بين الشرط و الحكم كقول الوالد لولده: إن كنت ولدي فلا تفعل كذا.

و قوله: "تسرون إليهم بالمودة و أنا أعلم بما أخفيتم و ما أعلنتم" أسررت إليه حديثا أي أفضيت إليه في خفية فمعنى "تسرون إليهم بالمودة" تطلعونهم على ما تسرون من مودتهم - على ما قاله الراغب - و الإعلان خلاف الإخفاء، و "أنا أعلم" إلخ، حال من فاعل "تسرون" و "أعلم" اسم تفضيل، و احتمل بعضهم أن يكون فعل المتكلم وحده من المضارع متعديا بالباء لأن العلم ربما يتعدى بها.

و جملة: "تسرون إليهم" إلخ، استئناف بيانية كأنه قيل بعد استماع النهي السابق: ما ذا فعلنا فأجيب: تطلعونهم سرا على مودتكم لهم و أنا أعلم بما أخفيتم و ما أظهرتم أي أنا أعلم بقولكم و فعلكم علما يستوي بالنسبة إليه إخفاؤكم و إظهاركم.

و منه يعلم أن قوله: "بما أخفيتم و ما أعلنتم" معا يفيدان معنى واحدا و هو استواء الإخفاء و الإعلان عنده تعالى لإحاطته بما ظهر و ما بطن فلا يرد أن ذكر "ما أخفيتم" يغني عن ذكر "ما أعلنتم" لأن العالم بما خفي عالم بما ظهر بطريق أولى.

و قوله: "و من يفعل ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" الإشارة بذلك إلى إسرار المودة إليهم و هو الموالاة، و "سواء السبيل" من إضافة الصفة إلى الموصوف أي السبيل السوي و الطريق المستقيم و هو مفعول "ضل" أو منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد ضل عن سواء السبيل، و السبيل سبيل الله تعالى.

قوله تعالى: "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء" إلخ، قال الراغب: الثقف - بالفتح فالسكون - الحذق في إدراك الشيء و فعله.

قال: و يقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك و إن لم يكن معه ثقافة.

انتهي.

و فسره غيره بالظفر و لعله بمعونة مناسبة المقام، و المعنيان متقاربان.

و الآية مسوقة لبيان أنه لا ينفعهم الإسرار بالمودة للمشركين في جلب محبتهم و رفع عداوتهم شيئا و أن المشركين على الرغم من إلقاء المودة إليهم أن يدركوهم و يظفروا بهم يكونوا لهم أعداء من دون أن يتغير ما في قلوبهم من العداوة.

و قوله: "و يبسطوا إليكم أيديهم و ألسنتهم بالسوء و ودوا لو تكفرون" بمنزلة عطف التفسير لقوله: "يكونوا لكم أعداء" و بسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل و السبي و سائر أنحاء التعذيب و بسط الألسن بالسوء كناية عن السب و الشتم.

و الظاهر أن قوله: "و ودوا لو تكفرون" عطف على الجزاء و الماضي بمعنى المستقبل كما يقتضيه الشرط و الجزاء، و المعنى: أنهم يبسطون إليكم الأيدي و الألسن بالسوء و يودون بذلك لو تكفرون كما كانوا يفتنون المؤمنين بمكة و يعذبونهم يودون بذلك أن يرتدوا عن دينهم.

و الله أعلم.

قوله تعالى: "لن تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم يوم القيامة" دفع لما ربما يمكن أن يتوهم عذرا لإلقاء المودة إليهم إن في ذلك صيانة لأرحامهم و أولادهم الذين تركوهم بمكة بين المشركين من أذاهم.

و الجواب أن أمامكم يوما تجازون فيه على معصيتكم و طالح عملكم و منه موالاة الكفار و لا ينفعكم اليوم أرحامكم و لا أولادكم الذين قدمتم صيانتهم من أذى الكفار على صيانة أنفسكم من عذاب الله بترك موالاة الكفار.



و قوله: "يفصل بينكم" أي يفصل الله يوم القيامة بينكم بتقطع الأسباب الدنيوية كما قال تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ": المؤمنون: 101، و ذلك أن القرابة و هي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة إنما تؤثر آثارها من الرحمة و المودة و الألفة و المعاونة و المعاضدة و العصبية و الخدمة و غير ذلك من الآثار في ظرف الحياة الاجتماعية التي تسوق الإنسان إليه حاجته إليها بالطبع بحسب الآراء و العقائد الاعتبارية التي أوجدها فيه فهمه الاجتماعي، و لا خبر عن هذه الآراء في الخارج عن ظرف الحياة الاجتماعية.

و إذا برزت الحقائق و ارتفع الحجاب و انكشف الغطاء يوم القيامة ضلت عن الإنسان هذه الآراء و المزاعم و انقطعت روابط الاستقلال بين الأسباب و مسبباتها كما قال تعالى: "لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون": الأنعام: 94، و قال: "و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب": البقرة: 166.

فيومئذ تتقطع رابطة الأنساب و لا ينتفع ذو قرابة من قرابته شيئا فلا ينبغي للإنسان أن يخون الله و رسوله بموالاة أعداء الدين لأجل أرحامه و أولاده فليسوا يغنونه عن الله يومئذ.

و قيل: المراد أنه يفرق الله بينكم يوم القيامة بما فيه من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: "يوم يفر المرء من أخيه و أمه و أبيه و صاحبته و بنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه": عبس: 37، و الوجه السابق أنسب للمقام.

و قيل: المراد أنه يميز بعضكم يومئذ من بعض فيدخل أهل الإيمان و الطاعة الجنة، و أهل الكفر و المعصية النار و لا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار.

و فيه أنه و كان لا بأس به في نفسه لكنه غير مناسب للمقام إذ لا دلالة في المقام على كفر أرحامهم و أولادهم.

و قيل: المراد بالفصل فصل القضاء و المعنى: أن الله يقضي بينكم يوم القيامة.

و فيه ما في سابقه من عدم المناسبة للمورد فإن فصل القضاء إنما يناسب الاختلاف كما في قوله تعالى: "إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون": السجدة: 20، و لا ارتباط في الآية بذلك.

و قوله: "و الله بما تعملون بصير" متمم لقوله: "لن تنفعكم" كالمؤكد له و المعنى: لن تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم يوم القيامة في رفع تبعة هذه الخيانة و أمثالها و الله بما تعملون بصير لا يخفى عليه ما هي هذه الخيانة فيؤاخذكم عليها لا محالة.

قوله تعالى: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه" إلى آخر الآيتين، و الخطاب للمؤمنين، و الأسوة الاتباع و الاقتداء، و في قوله: "و الذين معه" بظاهره دلالة على أنه كان معه من آمن به غير زوجته و لوط.

و قوله: "إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم و مما تعبدون من دون الله" أي إنا بريئون منكم و من أصنامكم بيان لما فيه الأسطورة و الاقتداء.

و قوله: "كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" بيان لمعنى البراءة بأثرها و هو الكفر بهم و عداوتهم ما داموا مشركين حتى يوحدوا الله سبحانه.

و المراد بالكفر بهم الكفر بشركهم بدليل قوله: "حتى تؤمنوا بالله وحده"، و الكفر بشركهم مخالفتهم فيه عملا كما أن العداوة بينونة و مخالفة قلبا.

فقد فسروا براءتهم منهم بأمور ثلاثة: مخالفتهم لشركهم عملا، و العداوة و البغضاء بينهم قلبا، و استمرار ذلك ما داموا على شركهم إلا أن يؤمنوا بالله وحده.

و قوله: "إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك و ما أملك لك من الله من شيء"، استثناء مما تدل عليه الجمل المتقدمة أن إبراهيم و الذين معه تبرءوا من قومهم المشركين قولا مطلقا.



و قطعوا أي رابطة تربطهم بالقوم و تصل بينهم إلا ما قال إبراهيم لأبيه: "لأستغفرن لك" إلخ.

و لم يكن قوله: "لأستغفرن لك" توليا منه بل وعدا وعده إياه رجاء أن يتوب عن الشرك و يؤمن بالله وحده كما يدل عليه قوله تعالى: "و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه": التوبة: 114، حيث يفيد أنه (عليه السلام) إنما وعده لأنه لم يتبين له بعد أنه عدو لله راسخ في عداوته ثابت في شركه فكان يرجو أن يرجع عن شركه و يطمع في أن يتوب و يؤمن فلما تبين له رسوخ عداوته و يئس من إيمانه تبرأ منه.

على أن قوله تعالى في قصة محاجته أباه في سورة مريم: "قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله": مريم: 48، يتضمن وعده أباه بالاستغفار و إخباره بالاعتزال و لو كان وعده الاستغفار توليا منه لأبيه لكان من الحري أن يقول: و اعتزل القوم، لا أن يقول: و أعتزلكم فيدخل أباه فيمن يعتزلهم و ليس الاعتزال إلا التبري.

فالاستثناء استثناء متصل من أنهم لم يكلموا قومهم إلا بالتبري و المحصل من المعنى: أنهم إنما ألقوا إليهم القول بالتبري إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك فلم يكن تبريا و لا توليا بل وعدا وعده أباه رجاء أن يؤمن بالله.

و هاهنا شيء و هو أن مؤدى آية التوبة "فلما تبين له أنه عدو لله تبرء منه" أن تبريه الجازم إنما كان بعد الوعد و بعد تبين عداوته لله، و قوله تعالى في الآية التي نحن فيها: "إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم" إخبار عن تبريهم الجازم القاطع فيكون ما وقع في الاستثناء من قول إبراهيم لأبيه وعدا واقعا قبل تبريه الجازم و من غير جنس المستثنى منه فيكون الاستثناء منقطعا لا متصلا.

و على تقدير كون الاستثناء منقطعا يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه" بما أنه مقيد بقوله: "إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم"، و المعنى: قد كان لكم اقتداء حسن بتبري إبراهيم و الذين معه من قومهم إلا أن إبراهيم قال لأبيه كذا و كذا وعدا.

و أما على تقدير كون الاستثناء متصلا فالوجه ما تقدم، و أما كون المستثنى منه هو قوله: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم"، و المعنى: لكم في إبراهيم أسوة في جميع خصاله إلا في قوله لأبيه: "لأستغفرن لك" فلا أسوة فيه.

ففيه أن قوله: "لكم أسوة حسنة في إبراهيم" إلخ، غير مسوق لإيجاب التأسي بإبراهيم (عليه السلام) في جميع خصاله حتى يكون الوعد بالاستغفار أو نفس الاستغفار - و ذلك من خصاله - مستثنى منها بل إنما سيق لإيجاب التأسي به في تبريه من قومه المشركين، و الوعد بالاستغفار رجاء للتوبة و الإيمان ليس من التبري و إن كان ليس توليا أيضا.



و قوله: "و ما أملك لك من الله من شيء" تتمة قول إبراهيم (عليه السلام)، و هو بيان لحقيقة الأمر من أن سؤاله المغفرة و طلبها من الله ليس من نوع الطلب الذي يملك فيه الطالب من المطلوب منه ما يطلبه، و إنما هو سؤال يدعو إليه فقر العبودية و ذلتها قبال غنى الربوبية و عزتها فله تعالى أن يقبل بوجهه الكريم فيستجيب و يرحم، و له أن يعرض و يمسك الرحمة فإنه لا يملك أحد منه تعالى شيئا و هو المالك لكل شيء، قال تعالى: "قل فمن يملك من الله شيئا": المائدة: 17.

و بالجملة قوله: "ما أملك" إلخ، نوع اعتراف بالعجز استدراكا لما يستشعر من قوله: "لأستغفرن لك" من شائبة إثبات القدرة لنفسه نظير قول شعيب (عليه السلام): "و ما توفيقي إلا بالله" استدراكا لما يشعر به قوله لقومه: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت": هود: 88، من إثبات القوة و الاستطاعة لنفسه بالأصالة و الاستقلال.

و قوله: "ربنا عليك توكلنا و إليك أنبنا و إليك المصير" إلخ، من تمام القول المنقول عن إبراهيم و الذين معه المندوب إلى التأسي بهم فيه، و هو دعاء منهم لربهم و ابتهال إليه إثر ما تبرءوا من قومهم ذاك التبري العنيف ليحفظهم من تبعاته و يغفر لهم فلا يخيبهم في إيمانهم.

و قد افتتحوا دعاءهم بتقدمة يذكرون فيها حالهم فيما هم فيه من التبري من أعداء الله فقالوا: "ربنا عليك توكلنا و إليك أنبنا" يعنون به أنا كنا في موقف من الحياة تتمكن فيه أنفسنا و ندبر فيه أمورنا أما أنفسنا فأنبنا و رجعنا بها إليك و هو الإنابة، و أما أمورنا التي كان علينا تدبيرها فتركناها لك و جعلنا مشيتك مكان مشيتنا فأنت وكيلنا فيها تدبرها بما تشاء و كيف تشاء و هو التوكل.

ثم قالوا: "و إليك المصير" يعنون به أن مصير كل شيء من فعل أو فاعل فعل إليك فقد جرينا في توكلنا عليك و إنابتنا إليك مجرى ما عليه حقيقة الأمر من مصير كل شيء إليك حيث هاجرنا بأنفسنا إليك و تركنا تدبير أمورنا لك.

و قوله: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا و اغفر لنا ربنا" متن دعائهم يسألونه تعالى أن يعيذهم من تبعة تبريهم من الكفار و يغفر لهم.

و الفتنة ما يمتحن به، و المراد بجعلهم فتنة للذين كفروا تسليط الكفار عليهم ليمتحنهم فيخرجوا ما في وسعهم من الفساد فيؤذوهم بأنواع الأذى أن آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم و تبرءوا منهم و مما يعبدون.

و قد كرروا نداءه تعالى - ربنا - في دعائهم مرة بعد مرة لإثارة الرحمة الإلهية.

و قوله: "إنك أنت العزيز الحكيم" أي غالب غير مغلوب متقن لأفعاله لا يعجز أن يستجيب دعاءهم فيحفظهم من كيد أعدائه و يعلم بأي طريق يحفظ.

و للمفسرين في تفسير الآيتين أنظار مختلفة أخرى أغمضنا عن إيرادها رعاية للاختصار من أرادها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: "لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر" إلخ، تكرار حديث الأسوة لتأكيد الإيجاب و لبيان أن هذه الأسوة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر، و أيضا أنهم كما يتأسى بهم في تبريهم من الكفار كذلك يتأسى بهم في دعائهم و ابتهالهم.

و الظاهر أن المراد برجائه تعالى رجاء ثوابه بالإيمان به و برجاء اليوم الآخر رجاء ما وعد الله و أعد للمؤمنين من الثواب، و هو كناية عن الإيمان.

و قوله: "و من يتول فإن الله هو الغني الحميد" استغناء منه تعالى عن امتثالهم لأمره بتبريهم من الكفار و أنهم هم المنتفعون بذلك و الله سبحانه غني في ذاته عنهم و عن طاعتهم حميد فيما يأمرهم و ينهاهم إذ ليس في ذلك إلا صلاح حالهم و سعادة حياتهم.



قوله تعالى: "عسى الله أن يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم مودة و الله قدير و الله غفور رحيم" ضمير "منهم" للكفار الذين أمروا بمعاداتهم و هم كفار مكة، و المراد بجعل المودة بين المؤمنين و بينهم جعلها بتوفيقهم للإسلام كما وقع ذلك لما فتح الله لهم مكة، و ليس المراد به نسخ حكم المعاداة و التبري.

و المعنى: مرجو من الله أن يجعل بينكم معشر المؤمنين و بين الذين عاديتم من الكفار و هم كفار مكة مودة بتوفيقهم للإسلام فتنقلب المعاداة مودة و الله قدير و الله غفور لذنوب عباده رحيم بهم إذا تابوا و أسلموا فعلى المؤمنين أن يرجوا من الله أن يبدل معاداتهم مودة بقدرته و مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم" إلخ، في هذه الآية و التي تتلوها توضيح للنهي الوارد في أول السورة، و المراد بالذين لم يقاتلوا المؤمنين في الدين و لم يخرجوهم غير أهل مكة ممن لم يقاتلوهم و لم يخرجوهم من ديارهم من المشركين من أهل المعاهدة، و البر و الإحسان، و الأقساط المعاملة بالعدل، و "أن تبروهم" بدل من "الذين" إلخ، و قوله: "إن الله يحب المقسطين" تعليل لقوله: "لا ينهاكم الله" إلخ.

و المعنى: لا ينهاكم الله بقوله: "لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء" عن أن تحسنوا و تعاملوا بالعدل الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم لأن ذلك منكم أقساط و الله يحب المقسطين.

قيل: إن الآية منسوخة بقوله: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم": التوبة: 5، و فيه أن الآية التي نحن فيها لا تشمل بإطلاقها إلا أهل الذمة و أهل المعاهدة و أما أهل الحرب فلا، و آية التوبة إنما تشمل أهل الحرب من المشركين دون أهل المعاهدة فكيف تنسخ ما لا يزاحمها في الدلالة.

قوله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم" إلخ، المراد بالذين قاتلوكم إلخ، مشركوا مكة، و المظاهرة على الإخراج المعاونة و المعاضدة عليه، و قوله: "إن تولوهم" بدل من "الذين قاتلوكم" إلخ.

و قوله: "و من يتولهم فأولئك هم الظالمون" قصر إفراد أي المتولون لمشركي مكة و من ظاهرهم على المسلمين هم الظالمون المتمردون عن النهي دون مطلق المتولين للكفار أو تأكيد للنهي عن توليهم.

بحث روائي



في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء" الآية: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، و لفظ الآية عام و معناها خاص و كان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم و هاجر إلى المدينة و كان عياله بمكة، و كانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصاروا إلى عيال حاطب و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب و يسألوه عن خبر محمد هل يريد أن يغزو مكة؟. فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب إليهم حاطب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد ذلك، و دفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية فوضعته في قرونها و مرت فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخبره بذلك. فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين و الزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شيء ففتشاها فلم يجدا معها شيئا فقال الزبير: ما نرى معها شيئا فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الله ما كذبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبرئيل، و لا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه و الله لتظهرن الكتاب أو لأردن رأسك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: تنحيا عني حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين و جاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: و الله يا رسول الله ما نافقت و لا غيرت و لا بدلت، و إني أشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله حقا و لكن أهلي و عيالي كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم، فأنزل الله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء إلى قوله و الله بما تعملون بصير".

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الحميدي و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و أبو عوانة و ابن حبان و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي و أبو نعيم معا في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا و الزبير و المقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها و أتوني به. فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها. فأتينا به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا من قريش و لم أكن من أنفسها و كان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم و أموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي و ما فعلت ذلك كفرا و لا ارتدادا عن ديني فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صدق. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال: إنه شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و نزلت فيه "يا أيها الذين آمنوا - لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء - تلقون إليهم بالمودة":. أقول: و هذا المعنى مروي في عدة من الروايات عن نفر من الصحابة كأنس و جابر و عمر و ابن عباس و جمع من التابعين كحسن و غيره.

و الرواية من حيث متنها لا تخلو من بحث: أما أولا: فلأن ظاهرها بل صريحها أن حاطب بن أبي بلتعة كان يستحق بصنعة ما صنع القتل أو جزاء دون ذلك، و إنما صرف عنه ذلك كونه بدريا فالبدري لا يؤاخذ بما أتى به من معصية كما يصرح به قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر في هذه الرواية: "أنه شهد بدرا" و في رواية الحسن: أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر.

و يعارضه ما في قصة الإفك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزلت براءة عائشة حد مسطح بن أثاثة و كان من الآفكين، و كان مسطح بن أثاثة هذا من السابقين الأولين من المهاجرين و ممن شهد بدرا كما في صحيحي البخاري و مسلم و حده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما نطقت به الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آيات الإفك.

و أما ثانيا: فلأن ما يشتمل عليه من خطابه تعالى لأهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الدال على كون كل ما أتوا به من ذنب مغفورا لهم لا يتم بالبداهة إلا بارتفاع عامة التكاليف الدينية عنهم من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه، و لا معنى لتعلق التكليف المولوي بأمر مع إلغاء تبعة مخالفته و تسوية الفعل و الترك بالنسبة إلى المكلف كما يدل عليه قوله: "اعملوا ما شئتم" على بداهة ظهوره في الإباحة العامة.



و لازم ذلك: أولا: شمول المغفرة من المعاصي لما يحكم بداهة العقل على عدم شمول العفو له لو لا التوبة كعبادة الأصنام و الرد على الله و رسوله و تكذيب النبي و الافتراء على الله و رسوله و الاستهزاء بالدين و أحكامه الثابتة بالضرورة، فإن الآيات المتعرضة لها الناهية عنها تأبى شمول المغفرة لها من غير توبة، و مثلها قتل النفس المحترمة ظلما و الفساد في الأرض و إهلاك الحرث و النسل، و استباحة الدماء و الأعراض و الأموال.

و من المعلوم أن المحذور إمكان تعلق المغفرة بأمثال هذه المعاصي و الذنوب لا فعلية تعلقها بها فلا يدفع بأن الله سبحانه يحفظ هذا المكلف المغفور له من اقتراف أمثال هذه المعاصي و الذنوب و إن كان غفر له لو اقترف.

و ثانيا: أن يخصص قوله: اعملوا ما شئتم عمومات جميع الأحكام الشرعية من عبادات و معاملات من حيث المتعلق فلا يعم شيء منها البدريين و لا يتعلق بهم، و لو كان كذلك لكان معروفا عند الصحابة مسلما لهم أن هؤلاء العصابة محررون من كل تكليف ديني مطلقون من قيد وظائف العبودية و كان البدريون أنفسهم أحق برعاية معنى التحرير فيما بينهم أنفسهم على ما له من الأهمية، و لا شاهد يشهد بذلك في المروي من أخبارهم و المحفوظ من آثارهم بل المستفاد من سيرهم و خاصة في خلال الفتن الواقعة بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلاف ذلك بما لا يسع لأحد إنكاره.

على أن تحرير قوم ذوي عدد من الناس و إطلاقهم من قيد التكليف لهم أن يفعلوا ما يشاءون و أن لا يبالوا بمخالفة الله و رسوله و إن عظمت ما عظمت يناقض مصلحة الدعوة الدينية و فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بث المعارف الإلهية التي جاء بها الرسول بالرواية عنه إذ لا يبقى للناس بهم وثوق فيما يقولون و يروون من حكم الله و رسوله أن لا ضير عليهم و لو أتوا بكل كذب افتراء أو اقترفوا كل منكر و فحشاء و الناس يعلمون منهم ذلك.

و يجري ذلك في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو سيد أهل بدر و قد أرسله الله شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا فكيف تطمئن القلوب إلى دعوة من يجوز تلبسه بكل كذب و افتراء و منكر و فحشاء؟ و أنى تسلم النفوس له الاتصاف بتلك الصفات الكريمة التي مدحه الله بها؟ بل كيف يجوز في حكمته تعالى أن يقلد الشهادة و الدعوة من لا يؤمن في حال أو مقال، و يعده سراجا منيرا و هو تعالى قد أباح له أن يحيي الباطل كما ينير الحق و أذن له في أن يضل الناس و قد بعثه ليهديهم و الآيات المتعرضة لعصمة الأنبياء و حفظ الوحي تأبى ذلك كله.

على أن ذلك يفسد استقامة الخطاب في كثير من الآيات التي فيها عتاب الصحابة و المؤمنين على بعض تخلفاتهم كالآيات النازلة في وقعة أحد و الأحزاب و حنين و غيرها المعاتبة لهم على انهزامهم و فرارهم من الزحف و قد أوعد الله عليه النار.

و من أوضح الآيات في ذلك آيات الإفك و في أهل الإفك مسطح بن أثاثة البدري و فيها قوله تعالى: "لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم" و لم يستثن أحدا منهم، و قوله: "و هو عند الله عظيم" و قوله: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين".

و من أوضح الآيات في عدم ملاءمة معناها للرواية نفس هذه الآيات التي تذكر الرواية سبب نزولها: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" الآيات و فيها مثل قوله تعالى: "و من يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل" و قوله: "و من يتولهم فأولئك هم الظالمون".



فمن المعلوم أن الآيات إنما وجهت الخطاب و العتاب إلى عامة الذين آمنوا و تنسب إلقاء المودة و إسرار مودة الكفار إلى المؤمنين بما أن بعضهم و هو حاطب بن أبي بلتعة اتخذ الكفار أولياء و خان الإسلام و المسلمين فنسبت الآيات فعل البعض إلى الكل و وجهت العتاب و التهديد إلى الجميع.

فلو كان حاطب و هو بدري محرر مرفوع عنه القلم مخاطبا بمثل قوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك لا إثم عليه فيما يفعل و لا ضلال في حقه و لا يتصف بظلم و لا يتعلق به عتاب و لا تهديد فأي وجه لنسبة فعل البعض بما له من الصفات غير المرضية إلى الكل و لا صفة غير مرضية لفعل هذا البعض على الفرض.

فيئول الأمر إلى فرض أن يأتي البعض بفعل مأذون له فيه لا عتاب عليه و لا لوم يعتريه و يعاتب الكل و يهددوا عليه و بعبارة أخرى أن يؤذن لفاعل في معصية ثم يعاتب عليها غيره و لا صنع له فيها و يجل كلامه تعالى عن مثل ذلك.

و فيه، أخرج البخاري و ابن المنذر و النحاس و البيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة و هي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أ أصلها؟ فأنزل الله "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" فقال: نعم صلي.

و فيه، أخرج أبو داود في تاريخه و ابن المنذر عن قتادة: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" نسختها "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم".

أقول: قد عرفت الكلام فيه.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله و تبغض في الله و تعطي في الله و تمنع في الله جل و عز.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل من لم يحب على الدين و لم يبغض على الدين فلا دين له.

60 سورة الممتحنة - 10 - 13

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكمُ الْمُؤْمِنَت مُهَجِرَتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَنهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنّ إِلى الْكُفّارِ لا هُنّ حِلّ لهُّمْ وَ لا هُمْ يحِلّونَ لهَُنّ وَ ءَاتُوهُم مّا أَنفَقُوا وَ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصمِ الْكَوَافِرِ وَ سئَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَ لْيَسئَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِن فَاتَكمْ شىْءٌ مِّنْ أَزْوَجِكُمْ إِلى الْكُفّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَئَاتُوا الّذِينَ ذَهَبَت أَزْوَجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَ اتّقُوا اللّهَ الّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَأَيهَا النّبىّ إِذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَت يُبَايِعْنَك عَلى أَن لا يُشرِكْنَ بِاللّهِ شيْئاً وَ لا يَسرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلَدَهُنّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتَنٍ يَفْترِينَهُ بَينَ أَيْدِيهِنّ وَ أَرْجُلِهِنّ وَ لا يَعْصِينَك فى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنّ وَ استَغْفِرْ لهَُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (12) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَوَلّوْا قَوْماً غَضِب اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئسوا مِنَ الاَخِرَةِ كَمَا يَئس الْكُفّارُ مِنْ أَصحَبِ الْقُبُورِ (13)

بيان

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" الآية، سياق الآية يعطي أنها نزلت بعد صلح الحديبية، و كان في العهد المكتوب بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين أهل مكة أنه إن لحق من أهل مكة رجل بالمسلمين ردوه إليهم و إن لحق من المسلمين رجل بأهل مكة لم يردوه إليهم ثم إن بعض نساء المشركين أسلمت و هاجرت إلى المدينة فجاء زوجها يستردها فسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يردها إليه فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الذي شرطوه في العهد رد الرجل دون النساء و لم يردها إليهم و أعطاه ما أنفق عليها من المهر و هو الذي تدل عليه الآية مع ما يناسب ذلك من أحكامهن.

فقوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات" سماهن مؤمنات قبل امتحانهن و العلم بإيمانهن لتظاهرهن بذلك.

و قوله: "فامتحنوهن" أي اختبروا إيمانهن بما يظهر به ذلك من شهادة و حلف يفيد العلم و الوثوق، و في قوله: "الله أعلم بإيمانهن" إشارة إلى أنه يجزي في ذلك العلم العادي و الوثوق دون اليقين بحقيقة الإيمان الذي هو تعالى أعلم به علما لا يتخلف عنه معلومه.

و قوله: "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" ذكرهم بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب للحكم و انقطاع علقة الزوجية بين المؤمنة و الكافر.

و قوله: "لا هن حل لهم و لا هم يحلون لهن" مجموع الجملتين كناية عن انقطاع علقة الزوجية، و ليس من توجيه الحرمة إليهن و إليهم في شيء.

و قوله: "و آتوهم ما أنفقوا" أي أعطوا الزوج الكافر ما أنفق عليها من المهر.

و قوله: "و لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن" رفع المانع من نكاح المؤمنات المهاجرات إذا أوتين أجورهن و الأجر المهر.

و قوله: "و لا تمسكوا بعصم الكوافر" العصم جمع عصمة و هي النكاح الدائم يعصم المرأة و يحصنها، و إمساك العصمة إبقاء الرجل - بعد ما أسلم - زوجته الكافرة على زوجيتها فعليه بعد ما أسلم أن يخلي عن سبيل زوجته الكافرة سواء كانت مشركة أو كتابية.

و قد تقدم في تفسير قوله: "و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن": البقرة: 221، و قوله: "و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم": المائدة: 5، أن لا نسخ بين الآيتين و بين الآية التي نحن فيها.

و قوله: "و اسألوا ما أنفقتم و ليسألوا ما أنفقوا" ضمير الجمع في "و اسألوا" للمؤمنين و في "ليسألوا" للكفار أي إن لحقت امرأة منكم بالكفار فاسألوهم ما أنفقتم لها من مهر و لهم أن يسألوا مهر من لحقت بكم من نسائهم.

ثم تمم الآية بالإشارة إلى أن ما تضمنته الآية حكم الله الذي شرع لهم فقال: "ذلكم حكم الله يحكم بينكم و الله عليم حكيم".

قوله تعالى: "و إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فأتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا" إلخ، قال الراغب: الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: "و إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار".

انتهي.



و فسر المعاقبة و العقاب بمعنى الوصول و الانتهاء إلى عقبى الشيء، و المراد عاقبتم من الكفار أي أصبتم منهم غنيمة و هي عقبى الغزو، و قيل: عاقب بمعنى عقب، و قيل: عاقب مأخوذ من العقبة بمعنى النوبة.

و الأقرب أن يكون المراد بالشيء المهر و "من" في "من أزواجكم" لابتداء الغاية و "إلى الكفار" متعلق بقوله: "فاتكم" و المراد بالذين ذهبت أزواجهم، بعض المؤمنين و إليهم يعود ضمير "أنفقوا".

و المعنى: و إن ذهب و انفلت منكم إلى الكفار مهر من أزواجكم بلحوقهن بهم و عدم ردهم ما أنفقتم من المهر إليكم فأصبتم منهم بالغزو غنيمة فأعطوا المؤمنين الذين ذهبت أزواجهم إليهم مما أصبتم من الغنيمة مثل ما أنفقوا من المهر.

و فسرت الآية بوجوه أخرى بعيدة عن الفهم أغمضنا عنها.

و قوله: "و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" أمر بالتقوى، و توصيفه تعالى بالموصول و الصلة لتعليل الحكم فإن من مقتضى الإيمان بالله تقواه.

قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك" إلخ، تتضمن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد شرطت عليهن في "على أن لا يشركن" إلخ، أمورا منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال و النساء كالتحرز من الشرك و من معصية الرسول في معروف و منها ما هو أمس بهن من حيث إن تدبير المنزل بحسب الطبع إليهن و هن السبيل إلى حفظ عفة البيت و الحصول على الأنسال و طهارة مواليدهم، و هي التجنب من السرقة و الزنا و قتل الأولاد و إلحاق غير أولاد أزواجهن بهم، و إن كانت هذه الأمور بوجه من المشتركات.

فقوله: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك" شرط جوابه قوله: "فبايعهن و استغفر لهن الله".

و قوله: "على أن لا يشركن بالله شيئا" أي من الأصنام و الأوثان و الأرباب، و هذا شرط لا غنى عنه لإنسان في حال.

و قوله: "و لا يسرقن" أي لا من أزواجهن و لا من غيرهم و خاصة من أزواجهن كما يفيده السياق، و قوله: "و لا يزنين" أي باتخاذ الأخدان و غير ذلك و قوله: "و لا يقتلن أولادهن" بالوأد و غيره و إسقاط الأجنة.

و قوله: "و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن" و ذلك بأن يحملن من الزنا ثم يضعنه و ينسبنه إلى أزواجهن فإلحاقهن الولد كذلك بأزواجهن و نسبته إليهم كذبا بهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن لأن الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها و رجليها، و لا يغني عن هذا الشرط شرط الاجتناب عن الزنا لأنهما متغايران و كل مستقل بالنهي و التحريم.

و قوله: "و لا يعصينك في معروف" نسب المعصية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الله مع أنها تنتهي إليه تعالى لأن المراد أن لا يتخلفن بالمعصية عن السنة التي يستنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ينفذها في المجتمع الإسلامي فيكون ما سنه هو المعروف عند المسلمين و في المجتمع الإسلامي.

و من هنا يظهر أن المعصية في المعروف أعم من ترك المعروف كترك الصلاة و الزكاة و فعل المنكر كتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى.

و في قوله: "إن الله غفور رحيم" بيان لمقتضى المغفرة و تقوية للرجاء.



قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم" إلخ، المراد بهم اليهود المغضوب عليهم و قد تكرر في كلامه تعالى فيهم "و باءو بغضب من الله": البقرة:: 61، و يشهد بذلك ذيل الآية فإن الظاهر أن المراد بالقوم غير الكفار.

و قوله: "يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور" المراد بالآخرة ثوابها، و المراد بالكفار الكافرون بالله المنكرون للبعث، و قيل: المراد مشركوا مكة و اللام للعهد، و "من" في "من أصحاب القبور" لابتداء الغاية.

و الجملة بيان لشقائهم الخالد و هلاكهم المؤبد ليحذر المؤمنون من موالاتهم و موادتهم و الاختلاط بهم و المعنى: قد يئس اليهود من ثواب الآخرة كما يئس منكرو البعث من الموتى المدفونين في القبور.

و قيل: المراد بالكفار الذين يدفنون الموتى و يوارونهم في الأرض - من الكفر بمعنى الستر -.

و قيل: المراد بهم كفار الموتى و "من" بيانية و المعنى: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار المدفونون في القبور منه لقوله: "إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله": البقرة: 161.


بحث روائي

في المجمع، عن ابن عباس: صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديبية مشركي مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده عليهم، و من أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو لهم و لم يردوه عليه و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم و قال مقاتل: هو صيفي بن الراهب في طلبها و كان كافرا فقال: يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا و هذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن". قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، و لا رغبة عن أرض إلى أرض، و لا التماس دنيا، و ما خرجت إلا حبا لله و لرسوله فاستحلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما خرجت بغضا لزوجها، و لا عشقا لرجل منا، و ما خرجت إلا رغبة في الإسلام فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك فأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجها مهرها و ما أنفق عليها و لم يردها عليه فتزوجها عمر بن الخطاب. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرد من جاءه من الرجال و يحبس من جاءه من النساء إذا امتحن و يعطي أزواجهن مهورهن. قال: قال الزهري: و لما نزلت هذه الآية و فيها قوله: "و لا تمسكوا بعصم الكوافر" طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قرنية بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان و هما على شركهما بمكة، و الأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حذاقة بن غانم رجل من قومها و هما على شركهما. و كانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، و كان طلحة قد هاجر و هي بمكة عند قومها كافرة ثم تزوجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية و كانت ممن فرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نساء الكفار فحبسها و زوجها خالدا. و أمية بنت بشر كانت عند الثابت بن الدحداحة ففرت منه و هو يومئذ كافر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهل بن حنيف فولدت عبد الله بن سهل. قال: قال الشعبي: و كانت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت و لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة و أقام أبو العاص مشركا بمكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردها عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: و قال الجبائي: لم يدخل في شرط صلح الحديبية إلا رد الرجال دون النساء و لم يجز للنساء ذكر، و إن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء أخواها إلى المدينة فسألا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ردها عليهما فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء فلم يردها عليهما.

أقول: و هذه المعاني مروية في روايات أخرى من طرق أهل السنة أورد كثيرا منها السيوطي في الدر المنثور، و روى امتحان المهاجرات كما تقدم ثم عدم ردهن على الكفار و إعطاءهم المهر القمي في تفسيره.

و فيه، و قال الزهري: فكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، و فاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت و ارتدت، و بروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، و عبدة بنت عبد العزى بن فضلة و زوجها عمرو بن عبد ود، و هند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، و كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر فأعطاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهور نسائهم من الغنيمة.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب قلت: جعلت فداك و أين تحريمه؟ قال: قوله: "و لا تمسكوا بعصم الكوافر".

أقول: و الرواية مبنية على عموم الإمساك بالعصم للنكاح الدائم إحداثا و إبقاء.

و فيه، بإسناده أيضا إلى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): عن قول الله تعالى: "و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" فقال: هذه منسوخة بقوله: "و لا تمسكوا بعصم الكوافر".

أقول: و لعل المراد بنسخ آية الإمساك بالعصم لآية حلية محصنات أهل الكتاب اختصاص آية الممتحنة بالنكاح الدائم و تخصص آية المائدة بالنسبة إلى النكاح الدائم بها، و اختصاص ما تدل عليه من الحلية بالنكاح المنقطع، و ليس المراد به النسخ المصطلح كيف؟ و آية الممتحنة سابقة نزولا على آية المائدة و لا وجه لنسخ السابق للاحق.

على أن آية المائدة مسوقة سوق الامتنان، و ما هذا شأنه يأبى النسخ.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب": و روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه منسوخ بقوله: "و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" و بقوله: "و لا تمسكوا بعصم الكوافر".

أقول: و يضعف الرواية - مضافا إلى ضعف راويها - أن قوله: "و لا تنكحوا المشركات" إلخ، إنما يشمل المشركات من الوثنيين، و قوله: "و المحصنات" إلخ، يفيد حلية نكاح أهل الكتاب فلا تدافع بين الآيتين حتى تنسخ إحداهما الأخرى، و قد تقدم آنفا الكلام في نسخ آية الممتحنة لقوله: "و المحصنات" إلخ، و قد تقدم في تفسير قوله: "و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم": المائدة: 5، ما ينفع في هذا المقام.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): "و إن فاتكم شيء من أزواجكم" فلحقن بالكفار من أهل عهدكم فاسألوهم صداقها، و إن لحقن بكم من نسائهم شيء فأعطوهم صداقها ذلكم حكم الله يحكم بينكم.

أقول: ظاهره تفسير "شيء" بالمرأة.

و في الكافي، بإسناده عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله عز و جل: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك" إلى آخر الآية. قالت هند: أما الولد فقد ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا، و قالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام و كانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمن خدا، و لا تخمشن وجها، و لا تنتفن شعرا، و لا تشققن جيبا، و لا تسودن ثوبا، و لا تدعين بويل، فبايعهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا. فقالت: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء.

أقول: و الروايات مستفيضة في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنة.

و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "و لا يعصينك في معروف" قال: هو ما فرض الله عليهن من الصلاة و الزكاة و ما أمرهن به من خير.

أقول: و الرواية تشهد بأن ما ورد في الروايات من تفسير المعروف بمثل قوله: لا تلطمن خدا إلخ، و في بعضها أن لا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

61 سورة الصف - 1 - 9

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سبّحَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (1) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كبرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنّ اللّهَ يحِب الّذِينَ يُقَتِلُونَ فى سبِيلِهِ صفّا كَأَنّهُم بُنْيَنٌ مّرْصوصٌ (4) وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنى وَ قَد تّعْلَمُونَ أَنى رَسولُ اللّهِ إِلَيْكمْ فَلَمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ (5) وَ إِذْ قَالَ عِيسى ابْنُ مَرْيمَ يَبَنى إِسرءِيلَ إِنى رَسولُ اللّهِ إِلَيْكم مّصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَى مِنَ التّوْرَاةِ وَ مُبَشرَا بِرَسولٍ يَأْتى مِن بَعْدِى اسمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ (6) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ الْكَذِب وَ هُوَ يُدْعَى إِلى الاسلَمِ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَ لَوْ كرِهَ الْكَفِرُونَ (8) هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسولَهُ بِالهُْدَى وَ دِينِ الحَْقِّ لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشرِكُونَ (9)

بيان

السورة ترغب المؤمنين و تحرضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله و يقاتلوا أعداء دينه، و تنبئهم أن هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفار من أهل الكتاب أن يطفئوه بأفواههم و الله متمه و لو كره الكافرون، و مظهره على الدين كله و لو كره المشركون.

و أن هذا النبي الذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى و دين الحق، و بشر به عيسى بن مريم (عليهما السلام) بني إسرائيل.

فعلى المؤمنين أن يشدوا العزم على طاعته و امتثال ما يأمرهم به من الجهاد و نصرة الله في دينه حتى يسعدهم الله في آخرتهم و ينصرهم و يفتح لهم في دنياهم و يؤيدهم على أعدائهم.

و عليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون و لا ينكصوا فيما يعدون فإن ذلك يستوجب مقتا من الله تعالى و إيذاء الرسول و فيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسى (عليه السلام) لما آذوه و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض و هو العزيز الحكيم" تقدم تفسيره، و افتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون و إنذارهم بمقت الله و إزاغته قلوب الفاسقين.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون" "لم" مخفف لما، و "ما" استفهامية، و اللام للتعليل، و الكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون و لا يصغى إلى قول بعض المفسرين: أن المراد بالذين آمنوا هم المنافقون و التوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم.

و ذلك لوفور الآيات المتضمنة لتوبيخهم و معاتبتهم و خاصة في الآيات النازلة في الغزوات و ما يلحق بها كأحد و الأحزاب و حنين و صلح الحديبية و تبوك و الإنفاق في سبيل الله و غير ذلك، و الصالحون من هؤلاء المؤمنين إنما صلحوا نفسا و جلوا قدرا بالتربية الإلهية التي تتضمنها أمثال هذه التوبيخات و العتابات المتوجهة إليهم تدريجا و لم يتصفوا بذلك من عند أنفسهم.

و مورد التوبيخ و إن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلف الفعل عن القول و خلف الوعد و نقض العهد و هو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن و هو النفاق لكن سياق الآيات و فيها قوله: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا" و ما سيأتي من قوله: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة" إلخ، و غير ذلك يفيد أن متعلق التوبيخ كان هو تخلف بعضهم عما وعده من الثبات في القتال و عدم الانهزام و الفرار أو تثاقلهم أو تخلفهم عن الخروج أو عدم الإنفاق في تجهز أنفسهم أو تجهيز غيرهم.



قوله تعالى: "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" المقت البغض الشديد، و الآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الإنسان أن يقول ما لا يفعله لأنه من النفاق، و أن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأول من النفاق و الثاني من ضعف الإرادة و وهن العزم و هو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانية فإن الله بنى سعادة النفس الإنسانية على فعل الخير و اكتساب الحسنة من طريق الاختيار و مفتاحه العزم و الإرادة، و لا تأثير إلا للراسخ من العزم و الإرادة، و تخلف الفعل عن القول معلول وهن العزم و ضعف الإرادة و لا يرجى للإنسان مع ذلك خير و لا سعادة.

قوله تعالى: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص" الصف جعل الأشياء على خط مستو كالناس و الأشجار.

كذا قاله الراغب، و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل و لذا لم يجمع، و هو حال من ضمير الفاعل في "يقاتلون"، و المعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافين.

و البنيان هو البناء، و المرصوص من الرصاص، و المراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

و الآية تعلل خصوص المورد - و هو أن يعدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا - بالالتزام كما أن الآية السابقة تعلل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، و ذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم و لا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا معركة القتال.

قوله تعالى: "و إذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم" إلخ، في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسى (عليه السلام) و لجاجهم حتى آل إلى إزاغة الله قلوبهم.

و في ذلك نهي التزامي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيئول أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب و قد قال تعالى: "إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا": الأحزاب: 57.

و الآية بما فيها من النهي الالتزامي في معنى قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا و كان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا": الأحزاب: 70.

و سياق الآيتين و ذكر تبرئة موسى (عليه السلام) يدل على أن المراد بإيذائه بما برأه الله منه ليس معصيتهم لأوامره و خروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنهم وقعوا فيه (عليه السلام) و قالوا فيه ما فيه عار و شين فتأذى فبرأه الله مما قالوا و نسبوا إليه، و قوله في الآية التالية: "اتقوا الله و قولوا قولا سديدا" يؤيد هذا الذي ذكرناه.

و يؤيد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول أو فعل في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي - إلى أن قال - و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب - إلى أن قال - و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما": الأحزاب: 53.

فتحصل أن في قوله: "و إذ قال موسى لقومه" إلخ، تلويحا إلى النهي عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول أو فعل على علم بذلك كما أن في ذيل الآية تخويفا و إنذارا أنه فسق ربما أدى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبس به.

و قوله: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين" الزيغ الميل عن الاستقامة و لازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل.



و إزاغته تعالى إمساك رحمته و قطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين" حيث علل الإزاغة بعدم الهداية، و هي إزاغة على سبيل المجازاة و تثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26، و ليس بإزاغة بدئية و إضلال ابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: "أزاغ الله قلوبهم" الإزاغة عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الإيمان، و أيضا كون المراد به الإزاغة عن الإيمان يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد صاروا كفارا فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الإيمان.

وجه الفساد أن قوله: لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحدا عن الإيمان ممنوع بإطلاقه فإن الملاك فيه لزوم الظلم و إنما يلزم فيما كان من الإزاغة و الإضلال ابتدائيا و أما ما كان على سبيل المجازاة و حقيقته إمساك الرحمة و قطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه و إعراضه عن الرحمة و الهداية فلا دليل على منعه لا عقلا و لا نقلا.

و أما قوله: إن الكلام يخرج بذلك عن الفائدة فيدفعه أن الذي ينسب من الزيغ إلى العبد و يحصل معه الكفر تحقق ما له بالفسق و الذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد و الطبع عليه به فزيغ العبد عن الإيمان بسبب فسقه و حصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ و الكفر في قلبه على سبيل المجازاة.

قوله تعالى: "و إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" تقدم في صدر الكلام أن هذه الآية و التي قبلها و الآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره الكافرون من أهل الكتاب، و ما جاء به من الدين نور ساطع من عند الله يريد المشركون ليطفئوه بأفواههم و الله متم نوره و لو كره المشركون.

فعلى المؤمنين أن لا يؤذوه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم، و أن ينصروه و يجاهدوا في سبيل ربهم لإحياء دينه و نشر كلمته.

و من ذلك يعلم أن قوله: "و إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل" إلخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا مبشرا به من قبل أرسله الله بالهدى و دين الحق و دينه نوره تعالى يهتدي به الناس.

و الذي حكاه تعالى عن عيسى بن مريم (عليهما السلام) أعني قوله: "يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" ملخص دعوته و قد آذن بأصل دعوته بقوله: "إني رسول الله إليكم" فأشار إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله: "مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول" إلخ.



فقوله: "مصدقا لما بين يدي من التوراة" بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة و لا تناقض شريعتها بل تصدقها و لم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا و النسخ بيان انتهاء أمد الحكم و ليس بإبطال، و لذا جمع (عليه السلام) بين تصديق التوراة و نسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله: "و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم": آل عمران: 50، و لم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: "قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله و أطيعون": الزخرف: 63.

و قوله: "و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته (عليه السلام) و قد أشار إلى الشطر الأول بقوله: "مصدقا لما بين يدي من التوراة".

و من المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر و يفرحه و لا يكون إلا بشيء من الخير يوافيه و يعود إليه، و الخير المترقب من بعثة النبي و دعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم و عقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، و البشرى بالنبي بعد النبي و بالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة و استقرارها و الدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور و تقضي الأزمنة و اختلاف الأيام و الليالي - إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة و الشرائع المعدلة لأعمال المجتمع و أشمل لسعادة الإنسان في دنياه و عقباه.

و بهذا البيان يظهر أن معنى قوله (عليه السلام): "و مبشرا برسول يأتي من بعدي" إلخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أرقى و أكمل مما تضمنته التوراة و بعث به عيسى (عليه السلام) و هو (عليه السلام) متوسط رابط بين الدعوتين.

و يعود معنى كلامه: "إني رسول الله إليكم مصدقا" إلخ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة و منهاجها - و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم - و هي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.

و هو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة و خاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتنى عليه كل حكم و يعود إليه كل من المعارف الحقيقية و قد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.

و كذا الشرائع و القوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق و جل من أعمال الإنسان الفردية و الاجتماعية إلا عدلته و حدت حدوده و قررته على أساس التوحيد و وجهته إلى غرض السعادة.

و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم": الأعراف: 157، و آيات أخرى يصف القرآن.

و الآية أعني قوله: "و مبشرا برسول يأتي من بعدي" و إن كانت مصرحة بالبشارة لكنها لا تدل على كونها مذكورة في كتابه (عليه السلام) غير أن آية الأعراف المنقولة آنفا: "يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل" و كذا قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل" الآية: الفتح: 29، يدلان على ذلك.

و قوله: "اسمه أحمد" دلالة السياق على تعبير عيسى (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحمد و على كونه اسما له يعرف به عند الناس كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها.

و يدل عليه قول حسان: صلى الإله و من يحف بعرشه.

و الطيبون على المبارك أحمد.



و من أشعار أبي طالب قوله: و قالوا لأحمد أنت امرؤ.

خلوف اللسان ضعيف السبب.

ألا إن أحمد قد جاءهم.

بحق و لم يأتهم بالكذب.

و قوله مخاطبا للعباس و حمزة و جعفر و علي يوصيهم بنصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت.

في نصر أحمد دون الناس أتراسا.

و من شعره فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد سماه باسمه الآخر محمد: أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا.

نبيا كموسى خط في أول الكتب.

و يستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك.

و يؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و فيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام و غيره و قد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة به (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذكره في التوراة و الإنجيل فتلقوه بالقبول و لم يكذبوه و لا أظهروا فيه شيئا من الشك و الترديد.

و أما خلو الأناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن - و هو آية معجزة باقية - في غنى عن تصديقها، و قد تقدم البحث عن سندها و اعتبارها في الجزء الثالث من الكتاب.

و قوله: "فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين" ضمير "جاء" لأحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير "هم" لبني إسرائيل أو لهم و لغيرهم، و المراد بالبينات البشارة و معجزة القرآن و سائر آيات النبوة.

و المعنى: فلما جاء أحمد المبشر به بني إسرائيل أو أتاهم و غيرهم بالآيات البينة التي منها بشارة عيسى (عليه السلام) قالوا هذا سحر مبين، و قرىء هذا ساحر مبين.

و قيل: ضمير "جاء" لعيسى (عليه السلام)، و السياق لا يلائمه.

قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله الكذب و هو يدعى إلى الإسلام" إلخ، الاستفهام للإنكار و هو رد لقولهم: "هذا سحر مبين" فإن معناه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس برسول و أن ما بلغه من دين الله ليس منه تعالى.

و المراد بالإسلام الدين الذي يدعو إليه رسول الله بما أنه تسليم لله فيما يريده و يأمر به من اعتقاد و عمل، و لا ريب أن مقتضى ربوبيته و ألوهيته تعالى تسليم عباده له تسليما مطلقا فلا ريب أن الدين الذي هو الإسلام لله دينه الحق الذي يجب أن يدان به فدعوى أنه باطل ليس من الله افتراء على الله.

و من هنا يظهر أن قوله: "و هو يدعى إلى الإسلام" يتضمن الحجة على كون قولهم: "هذا سحر مبين" افتراء على الله.

و الافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلما و ينهى عنه الشرع و يعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممن افترى على الله الكذب.

و المعنى: و لا أظلم ممن افترى على الله الكذب - بنفي نسبة دين الله إليه - و الحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي لا يتضمن إلا التسليم لله فيما أراد و لا ريب أنه من الله، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" إلخ، إطفاء النور إبطاله و إذهاب شروقه، و إطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.



و قد وقعت الآية في سورة التوبة و فيها: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم" قال الراغب: قال تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله" "يريدون ليطفئوا نور الله" و الفرق بين الموضعين أن في قوله: "يريدون أن يطفئوا" يقصدون إطفاء نور الله، و في قوله: "ليطفئوا" يقصدون أمرا يتوصلون به إلى إطفاء نور الله.

انتهى و محصله أن متعلق الإرادة في قوله: "يريدون أن يطفئوا نور الله" نفس الإطفاء، و في قوله: "يريدون ليطفئوا نور الله" السبب الموصل إلى الإطفاء و هو النفخ بالأفواه و الإطفاء غرض و غاية.

و الآية و ما يتلوها كالشارح لمعنى ما تقدم في الآية السابقة من ظلمهم برمي الدعوة بالسحر و عدم هدايته تعالى لهم بما أنهم ظالمون، و المحصل أنهم يريدون إطفاء نور الله بنفخة أفواههم لكن الله لا يهديهم إلى مقصدهم بل يتم نوره و يظهر دينه على الدين كله.

فقوله: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" أي بالنفخ بالأفواه كما يطفأ الشمعة بالنفخة كناية عن أنهم زعموا أن نور الله و هو دينه نور ضعيف كنور الشمعة يطفأ بأدنى نفخة فرموه بالسحر و انقطاع نسبته إلى الله.

و قد اخطئوا في مزعمتهم فهو نور الله الذي لا يطفأ و قد شاء أن يتمه و لو كره الكافرون و الله بالغ أمره، و هو قوله: "و الله متم نوره و لو كره الكافرون".

قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون" الإضافة في "دين الحق" بيانية كما قيل، و الظاهر أنها في الأصل إضافة لامية بعناية لطيفة هي أن لكل من الحق و الباطل دينا يقتضيه و يختص به، و قد ارتضى الله تعالى الدين الذي للحق - و هو الحق تعالى - فأرسل رسوله.

و إظهار شيء على غيره نصرته و تغليبه عليه، و المراد بالدين كله كل سبيل مسلوك غير سبيل الله الذي هو الإسلام و الآية في مقام تعليل قوله في الآية السابقة: "و الله متم نوره"، و المعنى: و الله متم نوره لأنه هو الذي أرسل رسوله بنوره الذي هو الهدى و دين الحق ليجعله غالبا على جميع الأديان و لو كره المشركون من أهل الأوثان.

و يستفاد من الآيتين أن دين الحق نور الله في الأرض كما يستفاد ذلك من قوله: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" الآية: النور: 35، و قد تقدم في تفسير الآية.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا - كأنهم بنيان مرصوص" قال: يصطفون كالبنيان الذي لا يزول.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و إذ قال موسى لقومه - يا قوم لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم" روي في قصة قارون أنه دس إليه امرأة و زعم أنه زنى بها، و رموه بقتل هارون.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و مبشرا برسول - يأتي من بعدي اسمه أحمد" الآية قال: و سأل بعض اليهود لعنهم الله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم سميت أحمد و محمدا و بشيرا و نذيرا؟ فقال: أما محمد فإني في الأرض محمود، و أما أحمد فإني في السماء أحمد مني في الأرض، و أما البشير فأبشر من أطاع الله بالجنة، و أما النذير فأنذر من عصى الله بالنار.



و في الدر المنثور، في الآية أخرج ابن مردويه عن العرياض بن سارية سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إني عبد الله في أم الكتاب و خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم تأويل ذلك، أنا دعوة إبراهيم، و بشارة عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام.

و في العيون، بإسناده إلى صفوان بن يحيى صاحب السابري قال: سألني أبو قرة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك، قال: أدخله علي فلما دخل عليه قبل بساطه و قال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا. ثم قال: أصلحك الله ما تقول في فرقة ادعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهودا من غيرهم؟ قال: لا شيء لهم. قال: فإنا نحن ادعينا أن عيسى روح الله و كلمته فوافقنا على ذلك المسلمون، و ادعى المسلمون أن محمدا نبي فلم نتابعهم عليه، و ما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه. فقال أبو الحسن (عليه السلام) ما اسمك؟ قال: يوحنا، قال: يا يوحنا إنا آمنا بعيسى روح الله و كلمته الذي كان يؤمن بمحمد و يبشر به و يقر على نفسه أنه عبد مربوب فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله و كلمته ليس هو الذي آمن بمحمد و بشر به و لا هو الذي أقر لله بالعبودية فنحن منه براء فأين اجتمعنا؟ فقام و قال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس.

أقول: كأنه يريد بقوله: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس، أن دخوله (عليه السلام) لم يفده فائدة حيث لم ينجح ما أتى به من الحجة.

و في كمال الدين، بإسناده إلى يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس مائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبي و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (عليه السلام)، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال: و لا يكون إلا و فيها عالم.

أقول: المراد بالعالم الإمام الذي هو الحجة، و هناك روايات واردة في قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم"، و قوله: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق" تذكر أن النور و الهدى و دين الحق ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و هي من الجري و التطبيق أو من البطن و ليست بمفسرة، و عد الفصل بين المسيح و بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس مائة عام يخالف ما عليه مشهور التاريخ لكن المحققين ذكروا أن في التاريخ الميلاد اختلالا و قد مرت إشارة ما إلى ذلك في الجزء الثالث من الكتاب.

61 سورة الصف - 10 - 14

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلّكمْ عَلى تجَرَةٍ تُنجِيكم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ تجَهِدُونَ فى سبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَلِكمْ وَ أَنفُسِكُمْ ذَلِكمْ خَيرٌ لّكمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ وَ يُدْخِلْكمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ وَ مَسكِنَ طيِّبَةً فى جَنّتِ عَدْنٍ ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرَى تحِبّونهَا نَصرٌ مِّنَ اللّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصارَ اللّهِ كَمَا قَالَ عِيسى ابْنُ مَرْيمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصارِى إِلى اللّهِ قَالَ الحَْوَارِيّونَ نحْنُ أَنصارُ اللّهِ فَئَامَنَت طائفَةٌ مِّن بَنى إِسرءِيلَ وَ كَفَرَت طائفَةٌ فَأَيّدْنَا الّذِينَ ءَامَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصبَحُوا ظهِرِينَ (14)

بيان

دعوة للمؤمنين إلى الإيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيل الله و وعد جميل بالمغفرة و الجنة في الآخرة و بالنصر و الفتح في الدنيا، و دعوة لهم إلى أن يثبتوا على نصرهم لله و وعد جميل بالتأييد.

و المعنيان هما الغرض الأقصى في السورة و الآيات السابقة كالتوطئة و التمهيد بالنسبة إليهما.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" الاستفهام للعرض و هو في معنى الأمر.

و التجارة - على ما ذكره الراغب - التصرف في رأس المال طلبا للربح، و لا يوجد في كلام العرب تاء بعده جيم إلا هذه اللفظة.

فقد أخذ الإيمان و الجهاد في الآية تجارة رأس مالها النفس و ربحها النجاة من عذاب أليم، و الآية في معنى قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون - إلى أن قال - فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به": التوبة: 111.

و قد فخم تعالى أمر هذه التجارة حيث قال: "على تجارة" أي تجارة جليلة القدر عظيمة الشأن، و جعل الربح الحاصل منها النجاة من عذاب أليم لا يقدر قدره.

و مصداق هذه النجاة الموعودة المغفرة و الجنة، و لذا بدل ثانيا النجاة من العذاب من قوله: "يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات" إلخ، و أما النصر و الفتح الموعودان فهما خارجان عن النجاة الموعودة، و لذا فصلهما عن المغفرة و الجنة فقال: "و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب" فلا تغفل.

قوله تعالى: "تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم" إلخ، استئناف بياني يفسر التجارة المعروضة عليهم كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ فقيل: "تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون" إلخ، و قد أخذ الإيمان بالرسول مع الإيمان بالله للدلالة على وجوب طاعته فيما أمر به و إلا فالإيمان لا يعد إيمانا بالله إلا مع الإيمان برسالة الرسول قال تعالى: "إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله - إلى أن قال - أولئك هم الكافرون حقا": النساء: 151.

و قوله: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد خير لكم إن كنتم من أهل العلم و أما الجهلة فلا يعتد بأعمالهم.

و قيل: المراد تعلمون خيرية ذلك إن كنتم من أهل العلم و الفقه.

قوله تعالى: "يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار" إلخ، جواب للشرط المقدر المفهوم من الآية السابقة أي إن تؤمنوا بالله و رسوله و تجاهدوا في سبيله يغفر لكم، إلخ.

و قد أطلقت الذنوب المتعلقة بها المغفرة فالمغفور جميع الذنوب و الاعتبار يساعده إذ هذه المغفرة مقدمة الدخول في جنة الخلد و لا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب على حاله، و لعله للإشارة إلى هذه النكتة عقبها بقوله: "و مساكن طيبة في جنات عدن" أي جنات ثبات و استقرار فكونها محل ثبات و موضع قرار يلوح أن المغفرة تتعلق بجميع الذنوب.

مضافا إلى ما فيه من مقابلة النفس المبذولة و هي متاع قليل معجل بجنات عدن التي هي خالدة فتطيب بذلك نفس المؤمن و تقوى إرادته لبذل النفس و تضحيتها و اختيار البقاء على الفناء.

ثم زاد في تأكيد ذلك بقوله: "ذلك الفوز العظيم".

قوله تعالى: "و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب" إلخ، عطف على قوله: "يغفر لكم" إلخ، و "أخرى" وصف قائم مقام الموصوف و هو خبر لمبتدء محذوف، و قوله: "نصر من الله و فتح قريب" بيان لأخرى، و التقدير و لكم نعمة أو خصلة أخرى تحبونها و هي نصر من الله و فتح قريب عاجل.

و قوله: "و بشر المؤمنين" معطوف على الأمر المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل: "قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم" إلخ، و بشر المؤمنين.

و تحاذي هذه البشرى ما في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة - إلى أن قال - فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به": التوبة: 111، و به يظهر أن الذي أمر أن يبشروا به مجموع ما يؤتيهم الله من الأجر في الآخرة و الدنيا لا خصوص النصر و الفتح.

هذا كله ما يعطيه السياق في معنى الآية و إعراب أجزائها، و قد ذكر فيها أمور أخرى لا يساعد عليها السياق تلك المساعدة أغمضنا عن ذكرها، و احتمل أن يكون قوله: "و بشر" إلخ استئنافا.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله" إلخ، أي اتسموا بهذه السمة و دوموا و اثبتوا عليها فالآية في معنى الترقي بالنسبة إلى قوله السابق: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" و مآل المعنى: اتجروا بأنفسكم و أموالكم فانصروا الله بالإيمان و الجهاد في سبيله و دوموا و اثبتوا على نصره.

و المراد بنصرتهم لله أن ينصروا نبيه في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة كما قال: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني": يوسف: 108.

و الدليل على هذا المعنى تنظيره تعالى قوله: "كونوا أنصار الله" بقوله بعده: "كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" فكون الحواريين أنصار الله معناه كونهم أنصارا لعيسى بن مريم (عليهما السلام) في سلوكه سبيل الله و توجهه إلى الله و هو التوحيد و إخلاص العبادة لله سبحانه فمحاذاة قولهم: "نحن أنصار الله" لقوله: "من أنصاري إلى الله" و مطابقته له تقتضي اتحاد معنى الكلمتين بحسب المراد فكون هؤلاء المخاطبين بقوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله" أنصارا لله معناه كونهم أنصارا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الحق بالجهاد، و هو الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعته فيما يأمر و ينهى عن قول جازم و عمل صادق - كما هو مؤدى سياق آيات السورة.

و قوله: "فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" إشارة إلى ما جرى عليه و انتهى إليه أمر استنصار عيسى و تلبية الحواريين حيث تفرق الناس إلى طائفة مؤمنة و أخرى كافرة فأيد الله المؤمنين على عدوهم و هم الكفار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.

و فيه تلويح إلى أن أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجري فيهم ما جرى في أمة عيسى (عليه السلام) تؤمن منهم طائفة و تكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره - و قد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاما لأمره و إعزازا له - أيدهم الله على عدوهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى و المؤمنون به.

و قد أشار تعالى إلى هذه القصة في آخر قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران حيث قال: "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله": آل عمران: 52، إلى تمام ست آيات، و بالتدبر فيها يتضح معنى الآية المبحوث عنها.


بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" فقالوا: لو نعلم ما هي لنبذلن فيه الأموال و الأنفس و الأولاد، فقال الله: "تؤمنون بالله و رسوله - و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم إلى قوله ذلك الفوز العظيم.

أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.

و فيه،: في قوله تعالى: "و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب" يعني في الدنيا بفتح القائم (عليه السلام)، و أيضا قال: فتح مكة.

في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و لم يخل أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه و متعلم على سبيل نجاة أولئك هم الأقلون عددا، و قد بين الله ذلك من أمم الأنبياء، و جعلهم مثلا لمن تأخر مثل قوله في حواريي عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل: "من أنصاري إلى الله - قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله - و اشهد بأنا مسلمون" يعني مسلمون لأهل الفضل فضلهم و لا يستكبرون عن أمر ربهم فما أجابه منهم إلا الحواريون.

أقول: الرواية و إن وردت في تفسير آية آل عمران لكنها مفيدة فيما نحن فيه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للنفر الذين لاقوه بالعقبة: أخرجوا إلى اثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم.
<<        الفهرس        >>