جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج19 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


67 سورة الملك - 15 - 22

هُوَ الّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض ذَلُولاً فَامْشوا فى مَنَاكِبهَا وَ كلُوا مِن رِّزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النّشورُ (15) ءَ أَمِنتُم مّن فى السمَاءِ أَن يخْسِف بِكُمُ الأَرْض فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مّن فى السمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَستَعْلَمُونَ كَيْف نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذّب الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْف كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى الطيرِ فَوْقَهُمْ صفّتٍ وَ يَقْبِضنَ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلا الرّحْمَنُ إِنّهُ بِكلِّ شىْءِ بَصِيرٌ (19) أَمّنْ هَذَا الّذِى هُوَ جُندٌ لّكمْ يَنصرُكم مِّن دُونِ الرّحْمَنِ إِنِ الْكَفِرُونَ إِلا فى غُرُورٍ (20) أَمّنْ هَذَا الّذِى يَرْزُقُكمْ إِنْ أَمْسك رِزْقَهُ بَل لّجّوا فى عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) أَ فَمَن يَمْشى مُكِباّ عَلى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمّن يَمْشى سوِياّ عَلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (22)

بيان

في الآيات كرة بعد كرة بآيات التدبير الدالة على ربوبيته تعالى مقرونة بالإنذار و التخويف أعني قوله: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا" الآية، و قوله: "أ و لم يروا إلى الطير" الآية بعد قوله: "الذي خلق الموت و الحياة" الآية، و قوله: "الذي خلق سبع سماوات" الآية، و قوله: "و لقد زينا" الآية.

قوله تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه و إليه النشور" الذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب و يجمح و المناكب جمع منكب و هو مجتمع ما بين العضد و الكتف و استعير لسطح الأرض، قال الراغب: و استعارته للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله: "ما ترك على ظهرها من دابة" و تسمية الأرض ذلولا و جعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها و يمشي فيها باعتبار انقيادها لأنواع التصرفات الإنسانية من غير امتناع، و قد وجه كونها ذلولا ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤول جميعها إلى ما ذكرنا.

و الأمر في قوله: "و كلوا من رزقه" للإباحة و النشور و النشر إحياء الميت بعد موته و أصله من نشر الصحيفة و الثوب إذا بسطهما بعد طيهما.

و المعنى: هو الذي جعل الأرض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا على ظهورها و تمشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدره لكم بأنواع الطلب و التصرف فيها.

و قوله: "و إليه النشور" أي و يرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض و إحيائهم للحساب و الجزاء، و اختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به و الإحياء يوم القيامة فهو ربكم المدبر لأمر حياتكم الدنيا بالإقرار على الأرض و الهداية إلى مآرب الحياة، و له الحكم بالنشور للحساب و الجزاء.

و في عد الأرض ذلولا و البشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدت إليه الأبحاث العلمية أخيرا من كون الأرض كرة سيارة.

قوله تعالى: "ء أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور" إنذار و تخويف بعد إقامة الحجة و توبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبية و إهمالهم أمر الشكر على نعم ربهم بالخضوع لربوبيته و رفض ما اختلقوه من الأنداد.

و المراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون و إرجاع ضمير الإفراد إلى "من" باعتبار لفظه و خسف الأرض بقوم كذا شقها و تغييبهم في بطنها و المور على ما في المجمع التردد في الذهاب و المجيء مثل الموج.

و المعنى: ء أمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بأمور العالم أن يشقوا الأرض و يغيبوكم فيها بأمر الله فإذا الأرض تضطرب ذهابا و مجيئا بزلزالها.

و قيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه و المراد بكونه في السماء كون سلطانه و تدبيره و أمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطا بعالم من العوالم، و هذا المعنى و إن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاهر.

قوله تعالى: "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" الحاصب الريح التي تأتي بالحصاة و الحجارة، و المعنى: أ أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحا ذات حصاة و حجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى: "إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط": القمر: 34.

و قوله: "فستعلمون كيف نذير" النذير مصدر بمعنى الإنذار و الجملة متفرعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيته تعالى و أمنهم من عذابه و المعنى ظاهر.

و قيل: النذير صفة بمعنى المنذر و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو سخيف.

قوله تعالى: "و لقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير" المراد بالنكير العقوبة و تغيير النعمة أو الإنكار، و الآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله: "فستعلمون كيف نذير" من الوعيد و التهديد.

و المعنى: و لقد كذب الذين من قبلهم من الأمم الهالكة رسلي و جحدوا بربوبيتي فكيف كان عقوبتي و تغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم و استأصلتهم.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: "من قبلهم" إشعارا بسقوطهم - لجهالتهم و إهمالهم في التدبر في آيات الربوبية و عدم مخافتهم من سخط ربهم - عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "أ و لم يروا إلى الطير فوقهم صافات و يقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير" المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، و صفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران و قبضه قبض جناحه حاله، و الجمع في "صافات و يقبضن" لكون المراد بالطير استغراق الجنس.

و قوله: "ما يمسكهن إلا الرحمن" كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير و قبضه فوقهم؟ فأجيب بقوله: "ما يمسكهن إلا الرحمن".

و قرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط و إن كان مستندا إلى أسباب طبيعية كقرار الإنسان على بسيط الأرض و السمك في الماء و سائر الأمور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للإنسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الأعلى الذي ينتهي إليه حدوثه و وجوده، و لذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها و دلالتهم على وحدانيته في الربوبية.

و قد ورد في كلامه تعالى شيء كثير من هذا القبيل كإمساك السماوات بغير عمد و إمساك الأرض و حفظ السفن على الماء و اختلاف الأثمار و الألوان و الألسنة و غيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفيا في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى و أن إلى ربك المنتهى.

قال في الكشاف،: فإن قلت: لم قيل: و يقبضن و لم يقل: و قابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء و الأصل في السباحة هو مد الأطراف و بسطها و أما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات و يكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح.

انتهي.

و هو مبني على أن تكون الآية هي مجموع قوله: "صافات و يقبضن" و هو الطيران، و يمكن أن يستفاد أن الآية عدم سقوطهن و هن صافات، و آية أخرى أنهن ربما يقبضن و لا يسقطن حينما يقبضن.

و لا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الأرض ذلولا و الإنسان على مناكبها من اللطف.

قوله تعالى: "أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور" توبيخ و تقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم و لذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع.



و قوله: "أمن هذا الذي" إلخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، و فيه إشارة إلى خطئهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب و هم مملوكون لله لا يملكون لأنفسهم نفعا و ضرا و لا لغيرهم.

و إذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: "إن الكافرون إلا في غرور" أي أحاط بهم الغرور و غشيهم فخيل إليهم ما يدعون من ألوهية آلهتهم.

قوله تعالى: "أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو و نفور" أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: "بل لجوا في عتو و نفور" أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحق و نفورهم منه، و لجوا في ذلك.

قوله تعالى: "أ فمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم" إكباب الشيء على وجهه إسقاطه عليه، و قال في الكشاف،: معنى أكب دخل في الكب و صار ذا كب.

استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضا لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم و تحريمهم من تشريف الحضور و الخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، و المراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب و نفور من الحق كمن يسلك سبيلا و هو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع و انخفاض و مزالق و معاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة، و ما يقصده من الغاية و هؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة و هم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه و العمل بما عليهم أن يعملوا به و لا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر و يسلكوا سبيل الحياة و هم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.

و قد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله و المؤمن المستبصر الباحث عن الحق.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: القلب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر. فقلت: ما الأزهر، قال: فيه كهيئة السراج. فأما المطبوع فقلب المنافق، و أما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر و إن ابتلاه صبر، و أما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية "أ فمن يمشي مكبا على وجهه أهدى - أمن يمشي سويا على صراط مستقيم"، فأما القلب الذي فيه إيمان و نفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك و إن أدركه على إيمانه نجى.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن القلوب أربعة، و ساق الحديث إلى آخره إلا أن فيه: و قلب أزهر أنور.

و قوله: "فهم قوم كانوا بالطائف" المراد به الطائف الشيطاني الذي ربما يمس الإنسان قال تعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون":، الأعراف: 201، فالمعنى أنهم يعيشون مع طائف شيطاني يمسهم حينا بعد حين فإن أدركهم الأجل و الطائف معهم هلكوا و إن أدركهم و هم في حال الإيمان نجوا.

و اعلم أن هناك روايات تطبق قوله: "أ فمن يمشي مكبا على وجهه" الآية على من حاد عن ولاية علي (عليه السلام) و من يتبعه و يواليه، و هي من الجري و الله أعلم.

67 سورة الملك - 23 - 30

قُلْ هُوَ الّذِى أَنشأَكمْ وَ جَعَلَ لَكمُ السمْعَ وَ الأَبْصرَ وَ الأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الّذِى ذَرَأَكُمْ فى الأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تحْشرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (25) قُلْ إِنّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللّهِ وَ إِنّمَا أَنَا نَذِيرٌ مّبِينٌ (26) فَلَمّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَت وُجُوهُ الّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هَذَا الّذِى كُنتُم بِهِ تَدّعُونَ (27) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنىَ اللّهُ وَ مَن مّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يجِيرُ الْكَفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرّحْمَنُ ءَامَنّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكلْنَا فَستَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فى ضلَلٍ مّبِينٍ (29) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِنْ أَصبَحَ مَاؤُكمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكم بِمَاءٍ مّعِينِ (30)

بيان

آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق و التدبير مقرونة بالإنذار و التخويف، جارية على غرض السورة و هو التذكرة بالوحدانية مع الإنذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم و عنادهم للحق في قوله السابق: "بل لجوا في عتو و نفور" غير السياق بالإعراض عن خطابهم و الالتفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يتصدى خطابهم و يقرع أسماعهم آياته في الخلق و التدبير الدالة على توحده في الربوبية و إنذارهم بعذاب الله، و ذلك قوله: "قل هو الذي أنشأكم" إلخ، "قل هو الذي ذرأكم" إلخ، "قل إنما العلم" إلخ، "قل أ رأيتم إن أهلكني الله" إلخ، "قل هو الرحمن" إلخ، "قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا" إلخ.

قوله تعالى: "قل هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون" الإنشاء إحداث الشيء ابتداء و تربيته.

ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: "قليلا ما تشكرون" و قد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون و الم السجدة يدل على أن إنشاءه تعالى الإنسان و تجهيزه بجهاز الحس و الفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.

و ليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه و إحداثه من دون سابقه في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: "و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة - إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر": المؤمنون: 14، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.

و مثله قوله: "و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون": الروم: 20 انظر إلى موضع إذا الفجائية.

فقوله: "هو الذي أنشأكم" إشارة إلى خلق الإنسان.

و قوله: "و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة" إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس و الفكر، و الجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله: "و هو الذي أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون": المؤمنون: 78.

فالإنسان بخصوصية إنشائه و كونه بحيث يسمع و يبصر يمتاز من الجماد و النبات - و الاقتصار بالسمع و البصر من سائر الحواس كاللمس و الذوق و الشم لكونهما العمدة و لا يبعد أن يكون المراد بالسمع و البصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل - و بالفؤاد و هو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.

و قوله: "قليلا ما تشكرون" أي تشكرون قليلا على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة و قليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، و قيل: ما مصدرية و المعنى: قليلا شكركم.

قوله تعالى: "قل هو الذي ذرأكم في الأرض و إليه تحشرون" الذرء الخلق و المراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلقين بالأرض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الأرضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا": الكهف: 8.

و قوله: "و إليه تحشرون" إشارة إلى البعث و الجزاء و وعد جازم.

قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، و هو استعجال منهم استهزاء.

قوله تعالى: "قل إنما العلم عند الله و إنما أنا نذير مبين" جواب عن قولهم: "متى هذا الوعد" إلخ، و محصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: "لا يجليها لوقتها إلا هو": الأعراف: 187، و ليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون و أما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.

هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، و على هذا تكون اللام في العلم للعهد، و المراد العلم بوقت الحشر، و أما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة "إنما العلم عند الله" في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله و لا يحاط بشيء منه إلا بإذنه كما قال: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": البقرة: 255، و لم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع و أنذركم به و أما أنه متى يقع فلا علم لي به.

قوله تعالى: "فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا" إلخ، الزلفة القرب و المراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، و ضمير "رأوه" للوعد و قيل للعذاب و المعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة و الخسران.

و قوله: "و قيل هذا الذي كنتم به تدعون" قيل تدعون و تدعون بمعنى واحد كتدخرون و تدخرون و المعنى: و قيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه و تستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، و ظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، و قيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.

قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن أهلكني الله و من معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم" "إن" شرطية شرطها قوله: "أهلكني الله" و جزاؤها قوله: "فمن يجير" إلخ، و المعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله و من معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير و يعيد الكافرين - و هم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي و من معي و بقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله.

قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و على المؤمنين بالهلاك فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله و نرجو الخير من رحمته و أما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله؟.

قوله تعالى: "قل هو الرحمن آمنا به و عليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين" الضمير للذي يدعو إلى توحيده و هم يدعونه عليه، و المعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده و تدعونه علي و على من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شيء آمنا به و عليه توكلنا من غير أن نميل و نعتمد على شيء دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم؟.

قال في الكشاف،: فإن قيل: لم أخر مفعول "آمنا" و قدم مفعول "توكلنا"؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا و لم نكفر كما كفرتم، ثم قال: و عليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين" الغور ذهاب الماء و نضوبه في الأرض و المراد به الغائر، و المعين الظاهر الجاري من الماء، و المعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.

و هناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي (عليه السلام) و محادته، و هي من الجري و ليست بمفسرة.

68 سورة القلم - 1 - 33

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسطرُونَ (1) مَا أَنت بِنِعْمَةِ رَبِّك بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنّ لَك لأَجْراً غَيرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَستُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنّ رَبّك هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضلّ عَن سبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِع الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَ لا تُطِعْ كلّ حَلافٍ مّهِينٍ (10) هَمّازٍ مّشاءِ بِنَمِيمٍ (11) مّنّاعٍ لِّلْخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلِّ بَعْدَ ذَلِك زَنِيمٍ (13) أَن كانَ ذَا مَالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذَا تُتْلى عَلَيْهِ ءَايَتُنَا قَالَ أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (15) سنَسِمُهُ عَلى الخُْرْطومِ (16) إِنّا بَلَوْنَهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصحَب الجَْنّةِ إِذْ أَقْسمُوا لَيَصرِمُنهَا مُصبِحِينَ (17) وَ لا يَستَثْنُونَ (18) فَطاف عَلَيهَا طائفٌ مِّن رّبِّك وَ هُمْ نَائمُونَ (19) فَأَصبَحَت كالصرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكمْ إِن كُنتُمْ صرِمِينَ (22) فَانطلَقُوا وَ هُمْ يَتَخَفَتُونَ (23) أَن لا يَدْخُلَنهَا الْيَوْمَ عَلَيْكم مِّسكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قَدِرِينَ (25) فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنّا لَضالّونَ (26) بَلْ نحْنُ محْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسطهُمْ أَ لَمْ أَقُل لّكمْ لَوْ لا تُسبِّحُونَ (28) قَالُوا سبْحَنَ رَبِّنَا إِنّا كُنّا ظلِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلَوَمُونَ (30) قَالُوا يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا طغِينَ (31) عَسى رَبّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيراً مِّنهَا إِنّا إِلى رَبِّنَا رَغِبُونَ (32) كَذَلِك الْعَذَاب وَ لَعَذَاب الاَخِرَةِ أَكْبرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

بيان

السورة تعزى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثر ما رماه المشركون بالجنون و تطيب نفسه بالوعد الجميل و الشكر على خلقه العظيم و تنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم و مداهنتهم، و تأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه.

و سياق آياتها على الجملة سياق مكي، و نقل عن ابن عباس و قتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ست عشرة آية - مكي، و ما بعده إلى قوله: "لو كانوا يعلمون - سبع عشرة آية - مدني، و ما بعده إلى قوله: "يكتبون - خمس عشرة آية - مكي، و ما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني.

و لا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة "إنا بلوناهم - إلى قوله - لو كانوا يعلمون" فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.

قوله تعالى: "ن" تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.

قوله تعالى: "و القلم و ما يسطرون" القلم معروف، و السطر بالفتح فالسكون و ربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف و سطر فلان كذا كتب سطرا سطرا.

أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به و ظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم و مطلق ما يسطرون به و هو المكتوب فإن القلم و ما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار و المعاني المستكنة في الضمائر، و به يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا.

و قد امتن الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام "خلق الإنسان علمه البيان": الرحمن: 4 و قال في القلم: "علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم: العلق: 5.

فإقسامه تعالى بالقلم و ما يسطرون إقسام بالنعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار إلى غير ذلك حتى التين و الزيتون.

و قيل: "ما" في قوله: "و ما يسطرون" مصدرية و المراد به الكتابة.

و قيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله و بما يسطرون ما يسطره الحفظة و الكرام الكاتبون و احتمل أيضا أن يكون الجمع في "يسطرون" للتعظيم لا للتكثير و هو كما ترى، و احتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه و هو اللوح المحفوظ و احتمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم و هي احتمالات واهية.

قوله تعالى: "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" مقسم عليه و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الباء في "بنعمة" للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.

و السياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الإلهية اللازمة في نظام الحياة الإنسانية، و الآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة "و يقولون إنه لمجنون".



و قيل: المراد بالنعمة فصاحته (صلى الله عليه وآله وسلم) و عقله الكامل و سيرته المرضية و براءته من كل عيب و اتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي حصول الجنون فيه و ما قدمناه أقطع حجة و الآية و ما يتلوها كما ترى تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه الشريفة و تأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.

قوله تعالى: "و إن لك لأجرا غير ممنون" الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه و أضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا.

و المراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع و ليس يذهب سدى.

و ربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه و يكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منه عليه و هو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته و صفاته و أعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة و عطية و ما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله و هو المالك لما ملكه من قبل و من بعد فهو تفضل منه تعالى و لئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا و سمى ما بينه و بين عبده من مبادلة العمل و الأجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه و الرسول و من دونه فيه سواء.

قوله تعالى: "و إنك لعلى خلق عظيم" الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.

قال الراغب: و الخلق - بفتح الخاء - و الخلق - بضم الخاء - في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق - بالفتح - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق - بالضم - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: "و إنك لعلى خلق عظيم" انتهى.

و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق و الصبر على أذى الناس و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرفق و المداراة و التواضع و غير ذلك، و قد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و مما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين و هو الإسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.

قوله تعالى: "فستبصر و يبصرون بأيكم المفتون" تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة و متخلقا بالخلق و لك عظيم الأجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك و ينكشف على الأبصار و البصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.

و قيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له و لهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها.

و لكل قائل، و لا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم و دينه على دينهم، و رفع ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) و محا أثرهم في الدنيا و سيذوقون وبال أمرهم غدا و يعلمون أن الله هو الحق المبين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.



و قوله: "بأيكم المفتون" الباء زائدة للصلة، و المفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون و فقدان العقل، و المعنى: فستبصر و يبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم؟.

و قيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول و ميسور و معسور في قولهم: ليس له معقول، و خذ ميسوره، و دع معسوره، و الباء في "بأيكم" بمعنى في و المعنى: فستبصر و يبصرون في أي الفريقين الفتنة.

قوله تعالى: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين" لما أفيد بما تقدم من القول إن هناك ضلالا و اهتداء، و أشير إلى أن الرامين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون هم المفتونون الضالون و سيظهر أمرهم و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهتد و كان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين لأن السبيل سبيله و هو أعلم بمن هو في سبيله و من ليس فيه و إليه أمر الهداية.

قوله تعالى: "فلا تطع المكذبين" تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة و في المكذبين معنى العهد و المراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، و المعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.

قوله تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون" الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ود و أحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، و محصله أنهم ودوا أن تصالحهم و يصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه و عن ربه.

و بما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع "لو تدهن فيدهنون" و أن الفاء في "فيدهنون" للتفريع لا للسببية.

قوله تعالى: "و لا تطع كل حلاف مهين - إلى قوله - زنيم" الحلاف كثير الحلف، و لازم كثرة الحلف و الإقسام في كل يسير و خطير و حق و باطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، و إذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه و كفى به رذيلة.

و المهين من المهانة بمعنى الحقارة و المراد به حقارة الرأي، و قيل: هو المكثار في الشر، و قيل: هو الكذاب.

و الهماز مبالغة من الهمز و المراد به العياب و الطعان، و قيل: الطعان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.

و المشاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

و المناع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.

و المعتدي من الاعتداء و هو المجاوزة للحد ظلما.

و الأثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال و الإثم هو العمل السيىء الذي يبطيء الخير.

و العتل بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، و فسر بالفاحش السيىء الخلق، و بالجافي الشديد الخصومة بالباطل، و بالأكول المنوع للغير، و بالذي يعتل الناس و يجرهم إلى حبس أو عذاب.

و الزنيم هو الذي لا أصل له، و قيل: هو الدعي الملحق بقوم و ليس منهم، و قيل: هو المعروف باللؤم، و قيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها و إذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، و المعاني متقاربة.

فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطاعة و المداهنة، و هي جماع الرذائل.



و قوله: "عتل بعد ذلك زنيم" معناه أنه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتل زنيم قيل: و فيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.

و الظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق و لو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد و لا يطع في قول و لا يتبع في فعل.

قوله تعالى: "أن كان ذا مال و بنين" الظاهر أنه بتقدير لام التعليل و هو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا و كذا لأن كان ذا مال و بنين فبطر بذلك و كفر بنعمة الله و تلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته و يصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم و التهكم تجري مجرى قوله: "أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك".

و قيل: إنه متعلق بقوله السابق "لا تطع"، و المعنى: لا تطعه لكونه ذا مال و بنين أي لا يحملك كونه ذا مال و بنين على طاعته، و المعنى المتقدم أقرب و أوسع.

قيل: و لا يجوز تعلقه بقوله: "قال" في الشرطية التالية لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.

قوله تعالى: "إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين" الأساطير جمع أسطورة و هي القصة الخرافية، و الآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: "لا تطع".

قوله تعالى: "سنسمه على الخرطوم" الوسم و السمة وضع العلامة، و الخرطوم الأنف، و قيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه و إنما يطلق في الفيل و الخنزير تهكما، و في الآية وعيد على عداوته الشديدة لله و رسوله و ما نزله على رسوله.

و الظاهر أن الوسم على الأنف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الأنف مما يظهر فيه العزة و الذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه و حمي فلان أنفه و أرغمت أنفه و جدع أنفه.

و الظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا و إن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.

قوله تعالى: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - كالصريم البلاء الاختبار و إصابة المصيبة، و الصرم قطع الثمار من الأشجار، و الاستثناء عزل البعض من حكم الكل و أيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول و ذلك أن الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، و الطائف العذاب الذي يأتي بالليل، و الصريم الشجر المقطوع ثمره، و قيل: الليل الأسود، و قيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل و هو لا ينبت شيئا و لا يفيد فائدة.



الآيات أعني قوله: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة" إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرامين له بالجنون، و في التشبيه و التنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة و العذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون و سيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال و تكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها و على سائر الأسباب الظاهرية التي توافقهم و تشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم و يسلكوا سبيل الحق و يعبدوا ربهم حتى يأتيهم الأجل و يفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم و أن المال و البنين سدى لا ينفعهم شيئا كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم و سيندمون على صنيعهم و يرغبون إلى ربهم و لا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة و تلاوموا و رغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئا كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها و نزولها معها.

و أما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط و السنة الذي أصاب أهل مكة و قريشا إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط و تناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: "فأقبل بعضهم على بعض" إلخ، على قصة أهل مكة خفاء.

و كيف كان فالمعنى: "إنا بلوناهم" أصبناهم بالبلية "كما بلونا" و أصبنا بالبلية "أصحاب الجنة" و كانوا قوما من اليمن و جنتهم فيها و سيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي "إذ" ظرف لبلونا "أقسموا" و حلفوا "ليصرمنها" أي ليقطعن و يقطفن ثمار جنتهم "مصبحين" داخلين في الصباح و كأنهم ائتمروا و تشاوروا ليلا فعزموا على الصرم صبيحة ليلتهم "و لا يستثنون" لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتمادا على أنفسهم و اتكاء على ظاهر الأسباب.

أو المعنى: قالوا و هم لا يعزلون نصيبا من ثمارهم للفقراء و المساكين.

"فطاف عليها" على الجنة "طائف" أي بلاء يطوف عليها و يحيط بها ليلا "من" ناحية "ربك، فأصبحت" و صارت الجنة "كالصريم" و هو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنة كالليل الأسود لما اسودت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها و لا فائدة.

قوله تعالى: "فتنادوا مصبحين - إلى قوله - قادرين" التنادي نداء بعض القوم بعضا، و الإصباح الدخول في الصباح، و صارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، و المراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، و الحرث الزرع و الشجر، و الخفت الإخفاء و الكتمان، و الحرد المنع و قادرين من القدر بمعنى التقدير.

و المعنى: "فتنادوا" أي فنادى بعض القوم بعضا "مصبحين" أي و الحال أنهم داخلون في الصباح "أن اغدوا على حرثكم" تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم - فاغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا و لذا عدي بعلى و لو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف - "إن كنتم صارمين" أي قاصدين عازمين على الصرم و القطع.

"فانطلقوا" و ذهبوا إلى جنتهم "و هم يتخافتون" أي و الحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة و المكاتمة "أن لا يدخلنها" أي الجنة "اليوم عليكم مسكين" أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم "و غدوا" و بكروا إلى الجنة "على حرد" أي على منع للمساكين "قادرين" مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها و لا يساهمون المساكين بشيء منها.

قوله تعالى: "فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون" أي فلما رأوا الجنة و شاهدوها و قد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: إنا لضالون عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم و منع المساكين.

و قيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا و ما هي بها.

و قوله: "بل نحن محرومون" إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.



قوله تعالى: "قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون - إلى قوله - راغبون" أي "قال أوسطهم" أي أعدلهم طريقا و ذلك أنه ذكرهم بالحق و إن تبعهم في العمل و قيل: المراد أوسطهم سنا و ليس بشيء "أ لم أقل لكم" و قد كان قال لهم ذلك و إنما لم يذكر قبل في القصة إيجازا بالتعويل على ذكره هاهنا.

"لو لا تسبحون" المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم و على سائر الأسباب الظاهرية فأقسموا ليصرمنها مصبحين و لم يستثنوا لله مشية فعزلوه تعالى عن السببية و التأثير و نسبوا التأثير إلى أنفسهم و سائر الأسباب الظاهرية، و هو إثبات للشريك، و لو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء و أنهم إن لم يصرموا كان لمشية من الله و إن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الأمر وحده لا شريك له.

و قيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى و توبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها و يحرموا المساكين منها، و له وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.

قوله تعالى: "قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين" تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيها من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيته أمورنا لأنا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح و اعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.

و على القول الآخر توبة و اعتراف بظلمهم على أنفسهم و على المساكين.

قوله تعالى: "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي يلوم بعضهم بعضا على ما ارتكبوه من الظلم.

قوله تعالى: "قالوا يا ويلنا - إلى قوله - راغبون" الطغيان تجاوز الحد و ضمير "منها" للجنة باعتبار ثمارها و المعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا و لم نوحده، و نرجو من ربنا أن يبدلنا خيرا من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لأنا راغبون إليه معرضون عن غيره.

قوله تعالى: "كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" العذاب مبتدأ مؤخر، و كذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة و هو أن الإنسان يمتحن بالمال و البنين فيطغى مغترا بذلك فيستغني بنفسه و ينسى ربه و يشرك بالأسباب الظاهرية و بنفسه و يجترىء على المعصية و هو غافل عما يحيط به من وبال عمله و يهيىء له من العذاب كذلك حتى إذا فاجأه العذاب و برز له بأهول وجوهه و أمرها انتبه من نومة الغفلة و تذكر ما جاءه من النصح قبلا و ندم على ما فرط بالطغيان و الظلم و سأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.

و قوله: "و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" لأنه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شيء لا رجاء للتخلص منه و لو بالموت و الفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيوية.

بحث روائي

في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: و أما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز و جل: اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور. قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك، و اللوح يؤدي إلى إسرافيل و إسرافيل يؤدي إلى ميكائيل و ميكائيل يؤدي إلى جبرائيل و جبرائيل يؤدي إلى الأنبياء و الرسل. قال: ثم قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.

و فيه، بإسناده عن إبراهيم الكرخي قال: سألت جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن اللوح و القلم قال: هما ملكان.

و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ن و القلم و ما يسطرون" القلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون و كفى بالله شهيدا.

أقول: و في المعاني المتقدمة روايات أخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق": الجاثية: 29، حديث القمي عن عبد الرحيم القصير عن الصادق (عليه السلام) في اللوح و القلم و فيه: ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك و لا ينطق أبدا و هو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ن و القلم و ما يسطرون" قال: لوح من نور و قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أقول: و في معناه روايات أخر، و قوله: يجري بما هو كائن إلخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلف شيء منها عما كتب هناك و نظيره ما في رواية أبي هريرة: ثم ختم علي في القلم فلم ينطق و لا ينطق إلى يوم القيامة.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز و جل: "و إنك لعلى خلق عظيم" قال: هو الإسلام.

و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: "و إنك لعلى خلق عظيم" قال: على دين عظيم.

أقول: يريد اشتمال الدين و الإسلام على كمال الخلق و استنانه (صلى الله عليه وآله وسلم) به، و في الرواية المعروفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحاك قال: لما رأت قريش تقديم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و إعظامه له نالوا من علي و قالوا: قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى: "ن و القلم و ما يسطرون" قسم أقسم الله به "ما أنت بنعمة ربك بمجنون - و إن لك لأجرا غير ممنون - و إنك لعلى خلق عظيم يعني القرآن إلى قوله بمن ضل عن سبيله" وهم النفر الذين قالوا ما قالوا "و هو أعلم بالمهتدين" يعني علي بن أبي طالب.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن محمد بن العباس بإسناده إلى الضحاك و ساق نحوا مما مر و في آخره: و سبيله علي بن أبي طالب.

و فيه،: في قوله تعالى: "و لا تطع كل حلاف" إلخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المال ليرجع عن دينه، و قيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، و قيل: يعني الأسود بن عبد يغوث: عن مجاهد.

أقول: و في ذلك روايات في الدر المنثور و غيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.



و فيه، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يدخل الجنة جواظ و لا جعظري و لا عتل زنيم. قلت: فما الجواظ؟ قال: كل جماع مناع. قلت: فما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: فما العتل الزنيم؟ قال: كل رحيب الجوف سيء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.

و فيه، في معنى الزنيم: قيل: هو الذي لا أصل له.

و فيه، في تفسير القمي،: في قوله: "عتل بعد ذلك زنيم" قال: العتل العظيم الكفر الزنيم الدعي.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة" إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة و هي كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.



و فيه، بإسناده إلى ابن عباس: أنه قيل له إن قوما من هذه الأمة يزعمون أن العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عباس: فو الله الذي لا إله إلا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن و القلم. إنه كان شيخ و كان له جنة و كان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه فلما قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمس من البنين فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلما نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا و قال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا شيئا حتى نستغني و يكثر أموالنا ثم نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة و سخط الخامس و هو الذي قال الله: "قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون". فقال الرجل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنا و أكبرهم عقلا و أوسط القوم خير القوم، و الدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا أمة محمد أصغر الأمم و خير الأمم قوله عز و جل: "و كذلك جعلناكم أمة وسطا". قال لهم أوسطهم: اتقوا و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرحا فلما أيقن الأخ منهم أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع. فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله ليصرمن إذا أصبحوا و لم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين و لا يستثنون - فطاف عليها طائف من ربك و هم نائمون - فأصبحت كالصريم" قال: كالمحترق. فقال الرجل: يا ابن عباس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثم قال: لا ضوء له و لا نور. فلما أصبح القوم "فتنادوا مصبحين - أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين" قال: "فانطلقوا و هم يتخافتون" قال الرجل: و ما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتشاورون فيشاور بعضهم بعضا لكيلا يسمع أحد غيرهم فقالوا: "لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين - و غدوا على حرد قادرين" في أنفسهم أن يصرموها و لا يعلمون ما قد حل بهم من سطوات الله و نقمته. "فلما رأوها" و ما قد حل بهم "قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون" فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئا. "قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون - قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين - فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه "قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا - أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون" فقال الله: "كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر - لو كانوا يعلمون".

أقول: و قد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث و الذي قبله في روايات أخر و في بعض الروايات أن الجنة كانت لرجل من بني إسرائيل ثم مات و ورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.

68 سورة القلم - 34 - 52

إِنّ لِلْمُتّقِينَ عِندَ رَبهِمْ جَنّتِ النّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ المُْسلِمِينَ كالمُْجْرِمِينَ (35) مَا لَكمْ كَيْف تحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكمْ كِتَبٌ فِيهِ تَدْرُسونَ (37) إِنّ لَكمْ فِيهِ لمََا تخَيرُونَ (38) أَمْ لَكمْ أَيْمَنٌ عَلَيْنَا بَلِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ إِنّ لَكمْ لمََا تحْكُمُونَ (39) سلْهُمْ أَيّهُم بِذَلِك زَعِيمٌ (40) أَمْ لهَُمْ شرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشرَكائهِمْ إِن كانُوا صدِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشف عَن ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلى السجُودِ فَلا يَستَطِيعُونَ (42) خَشِعَةً أَبْصرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلى السجُودِ وَ هُمْ سلِمُونَ (43) فَذَرْنى وَ مَن يُكَذِّب بهَذَا الحَْدِيثِ سنَستَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْث لا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلى لهَُمْ إِنّ كَيْدِى مَتِينٌ (45) أَمْ تَسئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْب فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصبرْ لحُِكْمِ رَبِّك وَ لا تَكُن كَصاحِبِ الحُْوتِ إِذْ نَادَى وَ هُوَ مَكْظومٌ (48) لّوْ لا أَن تَدَرَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَهُ رَبّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصلِحِينَ (50) وَ إِن يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيزْلِقُونَك بِأَبْصرِهِمْ لَمّا سمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنّهُ لمََجْنُونٌ (51) وَ مَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ (52)

بيان

فيها تذييل لما تقدم من الوعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتقون في جنات النعيم، و تثبيت أنهم و المتقون لا يستوون بحجة قاطعة فليس لهم أن يرجوا كرامة من الله و هم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج و إملاء.

و فيها تأكيد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر لحكم ربه.

قوله تعالى: "إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم" بشرى و بيان لحال المتقين في الآخرة قبال ما بين من حال المكذبين فيها.

و في قوله: "عند ربهم" دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير و الرحمة بينهم و بينه سبحانه و أن لهم ذلك قبال قصرهم الربوبية فيه تعالى و إخلاصهم العبودية له.

و إضافة الجنات إلى النعيم و هو النعمة للإشارة إلى أن ما فيها من شيء نعمة لا تشوبها نقمة و لذة لا يخالطها ألم، و سيجيء إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم": التكاثر: 8، أن المراد بالنعيم الولاية.

قوله تعالى: "أ فنجعل المسلمين كالمجرمين" تحتمل الآية في بادىء النظر أن تكون مسوقة حجة على المعاد كقوله تعالى: "أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28، و قد تقدم تفسيره.

و أن تكون ردا على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث و إعادة لكنا منعمين كما في الدنيا و قد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم: "و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى": حم السجدة: 50.

ظاهر سياق الآيات التالية التي ترد عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، و هو الذي رووه أن المشركين لما سمعوا حديث البعث و المعاد قالوا: إن صح ما يقوله محمد و الذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلا أفضل من حالهم كما في الدنيا و لا أقل من أن تتساوى حالنا و حالهم.

غير أنه يرد عليه أن الآية لو سيقت لرد قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الرد و المردود أن يقال: أ فنجعل المجرمين كالمسلمين و قد عكس.

و التدبر في السياق يعطي أن الآية مسوقة لرد دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالإشارة إلى أن كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنه قيل: إن قولكم: سنتساوى نحن و المسلمون باطل فإن الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين و أنتم مجرمون.

فالآية تقيم الحجة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.

و المراد بالإسلام تسليم الأمر لله فلا يتبع إلا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الإجرام و هو اكتساب السيئة و عدم التسليم.

و الآية و ما بعدها إلى قوله: "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" في مقام الرد لحكمهم بتساوي المجرمين و المسلمين حالا يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشئه في صور استفهامات إنكارية و تردها.



و تقرير الحجة: أن كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إما أن يكون من الله تعالى موهبة و رحمة و إما أن لا يكون منه.

و الأول إما أن يدل عليه دليل العقل و لا دليل عليه كذلك و ذلك قوله: "ما لكم كيف تحكمون".

و إما أن يدل عليه النقل و ليس كذلك و هو قوله: "أم لكم كتاب" إلخ، و إما أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم و بين الله سبحانه عاهدوه و واثقوه على أن يسوي بينهما و ليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.

و إما أن لا يكون من الله فإما أن يكون حكمهم بالتساوي حكما جديا أو لا يكون فإن كان جديا فإما أن يكون التساوي الذي يحكمون به مستندا إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالا و إن لم يشأ الله ذلك و ليس كذلك و هو قوله: "سلهم أيهم بذلك زعيم" أو يكون القائم بهذا الأمر المتصدي له شركاؤهم و لا شركاء و هو قوله: "أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم" إلخ.

و إما أن يكون ذلك لأن الغيب عندهم و الأمور التي ستستقبل الناس قدرها و قضاؤها منوطان بمشيتهم تكون و تقع كيف يكتبون فكتبوا لأنفسهم المساواة مع المسلمين، و ليس كذلك و لا سبيل لهم إلى الغيب و ذلك قوله: "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" و هذه ثلاثة احتمالات.

و إن لم يكن حكمهم بالمساواة حكما جديا بل إنما تفوهوا بهذا القول تخلصا و فرارا من اتباعك على دعوتك لأنك تسألهم أجرا على رسالتك و هدايتك لهم إلى الحق فهم مثقلون من غرامته، و ليس كذلك، و هو قوله: "أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون" و هذا سابع الاحتمالات.

هذا ما يعطيه التدبر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد و قد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطولات.

فقوله: "ما لكم كيف تحكمون" مسوق للتعجب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، و هو إشارة إلى تأبي العقل عن تجويز التساوي، و محصله نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أي شيء حصل لكم من اختلال الفكر و فساد الرأي حتى حكمتم بذلك؟.

قوله تعالى: "أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون" إشارة إلى انتفاء الحجة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أن الآية السابقة كانت إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.

و المراد بالكتاب الكتاب السماوي النازل من عند الله و هو حجة، و درس الكتاب قراءته، و التخير الاختيار، و قوله: "إن لكم فيه لما تخيرون" في مقام المفعول لتدرسون و الاستفهام إنكاري.

و المعنى: بل أ لكم كتاب سماوي تقرءون فيه أن لكم في الآخرة - أو مطلقا - لما تختارونه فاخترتم السعادة و الجنة.

قوله تعالى: "أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون" إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد و يمين شفاهي لهم على الله سبحانه.

و الأيمان جمع يمين و هو القسم، و البلوغ هو الانتهاء في الكمال فالأيمان البالغة هي المؤكدة نهاية التوكيد، و قوله: "إلى يوم القيامة" على هذا ظرف مستقر متعلق بمقدر و التقدير: أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكدة نهاية التوكيد، إلخ.

و يمكن أن يكون "إلى يوم القيامة" متعلقا ببالغة و المراد ببلوغ الأيمان انطباقها على امتداد الزمان حتى ينتهي إلى يوم القيامة.



و قد فسروا الإيمان بالعهود و المواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و احتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل.

و قوله: "إن لكم لما تحكمون" جواب القسم و هو المعاهد عليه، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: بل أ لكم علينا عهود أقسمنا فيها أقساما مؤكدا إلى يوم القيامة إنا سلمنا لكم أن لكم لما تحكمون به.

قوله تعالى: "سلهم أيهم بذلك زعيم" إعراض عن خطابهم و التفات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب و لذلك أورد بقية السؤالات و هي مسائل أربع في سياق الغيبة أولها قوله: "سلهم أيهم بذلك زعيم" و الزعيم القائم بالأمر المتصدي له، و الاستفهام إنكاري.

و المعنى: سل المشركين أيهم قائم بأمر التسوية الذي يدعونه أي إذا ثبت أن الله لا يسوي بين الفريقين لعدم دليل يدل عليه فهل الذي يقوم بهذا الأمر و يتصداه هو منهم؟ فأيهم هو؟ و من الواضح بطلانه لا يتفوه به إلا مصاب في عقله.

قوله تعالى: "أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" رد لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنيا على دعواهم أن لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبية سيشفعون لهم عند الله فيجعلهم كالمسلمين و الاستفهام إنكاري يفيد نفي الشركاء.

و قوله: "فليأتوا بشركائهم" إلخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله: "أم لهم شركاء" من النفي.

و قيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، و المعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و أنت خبير بأن هذا المعنى لا يقطع الخصام.

و قيل: المراد بالشركاء الشهداء و المعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و هو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ.

على أنه مستدرك لأن هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عند الله أو وعد بعهد و يمين و قد رد كلا الاحتمالين فيما تقدم.

و قيل: المراد بالشركاء شركاء الألوهية على ما يزعمون لكن المعنى من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.

و أنت خبير بأن هذا المعنى أيضا لا يقطع الخصام.

قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون - إلى قوله - و هم سالمون" يوم ظرف متعلق بمحذوف كاذكر و نحوه، و الكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الأمر اشتدادا بالغا لما أنهم كانوا يشمرون عن سوقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو للفرار قال في الكشاف: فمعنى "يوم يكشف عن ساق" في معنى يوم يشتد الأمر و يتفاقم، و لا كشف ثم و لا ساق كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة و لا يد ثم و لا غل و إنما هو مثل في البخل انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الذين يزعمون أنهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث و حساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله و لا شفاعة و إنما يحرز الإنسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبية في الدنيا حتى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.



و هؤلاء المكذبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون و لا تتساوى حالهم و حال المسلمين فيها البتة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج و الإملاء حتى يتم لهم شقاؤهم فيردوا العذاب الأليم في الآخرة.

فقوله: "يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون" معناه اذكر يوم يشتد عليهم الأمر و يدعون إلى السجود لله خضوعا فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم و اليوم تبلى السرائر.

و قوله: "خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة" حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة و حال كونهم يغشاهم الذلة بقهر، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها.

و قوله: "و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون" المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات و العاهات التي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحق فسلبتها التمكن من إجابة الحق أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.

و المعنى: و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله و هم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن فلا يجيبون إليه.

و قيل: المراد بالسجود الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: "فذرني و من يكذب بهذا الحديث" المراد بهذا الحديث القرآن الكريم و قوله: "فذرني و من يكذب" إلخ، كناية عن أنه يكفيهم وحده و هو غير تاركهم و فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تهديد للمشركين.

قوله تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" استئناف فيه بيان كيفية أخذه تعالى لهم و تعذيبه إياهم المفهوم من قوله: "فذرني" إلخ.

و الاستدراج هو استنزالهم درجة فدرجة حتى يتم لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك و ذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة و كلما أوتوا نعمة اشتغلوا بها و فرطوا في شكرها و زادوا نسيانا له و ابتعدوا عن ذكره.

فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة و اقترابهم من ورطة الهلاك، و كونه من حيث لا يعلمون إنما هو لكونه من طريق النعمة التي يحسبونها خيرا و سعادة لا شر فيها و لا شقاء.

قوله تعالى: "و أملي لهم إن كيدي متين" الإملاء الإمهال، و الكيد ضرب من الاحتيال، و المتين القوي.

و المعنى: و أمهلهم حتى يتوسعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاءون إن كيدي قوي.

و النكتة في الالتفات الذي في "سنستدرجهم" عن التكلم وحده إلى التكلم مع الغير الدالة على العظمة و أن هناك موكلين على هذه النعم التي تصب عليهم صبا، و الالتفات في قوله: "و أملي لهم" عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده لأن الإملاء تأخير في الأجل و لم ينسب أمر الأجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى: "ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده": الأنعام: 2.

قوله تعالى: "أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون" المغرم الغرامة، و الإثقال تحميل الثقل، و الجملة معطوفة على قوله: "أم لهم شركاء" إلخ.

و المعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين - الذين يحكمون بتساوي المجرمين و المسلمين يوم القيامة - أجرا على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلصا من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولا جديا.



قوله تعالى: "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب غيب الأشياء الذي منه تنزل الأمور بقدر محدود فتستقر في منصة الظهور، و المراد بالكتابة على هذا هو التقدير و القضاء، و المراد بكون الغيب عندهم تسلطهم عليه و ملكهم له.

فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر و القضاء فهم يقضون كما شاءوا فيقضون لأنفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.

و قيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحة ما حكموا به و الكتابة على ظاهر معناه و المعنى: أم عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به و لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه و يتوارثونه و ينبغي أن يبرزوه.

و هو بعيد بل مستدرك و الاحتمالات الأخر المذكورة مغنية عنه.

و إنما أخر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتى عن قوله: "أم تسئلهم أجرا" مع أن مقتضى الظاهر أن يتقدم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات و أبعدها.

قوله تعالى: "فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت إذ نادى و هو مكظوم" صاحب الحوت يونس النبي (عليه السلام) و المكظوم من كظم الغيظ إذا تجرعه و لذا فسر بالمختنق بالغم حيث لا يجد لغيظه شفاء، و نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يكون كيونس (عليه السلام) و هو في زمن النداء مملوء بالغم نهي عن السبب المؤدي إلى نظير هذا الابتلاء و هو ضيق الصدر و الاستعجال بالعذاب.

و المعنى: فاصبر لقاء ربك أن يستدرجهم و يملىء لهم و لا تستعجل لهم العذاب لكفرهم و لا تكن كيونس فتكون مثله و هو مملوء غما أو غيظا ينادي بالتسبيح و الاعتراف بالظلم أي فاصبر و احذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، و نداؤه قوله في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" كما في سورة الأنبياء.

و قيل: اللام في "لحكم ربك" بمعنى إلى و فيه تهديد لقومه و وعيد لهم أن سيحكم الله بينه و بينهم، و الوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات السابقة.

قوله تعالى: "لو لا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم" في مقام التعليل للنهي السابق: "لا تكن كصاحب الحوت" و التدارك الإدراك و اللحوق، و فسرت النعمة بقبول التوبة، و النبذ الطرح، و العراء الأرض غير المستورة بسقف أو نبات، و الذم مقابل المدح.

و المعنى: لو لا أن أدركته و لحقت به نعمة من ربه و هو أن الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء و هو مذموم بما فعل.

لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: "فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون": الصافات: 144، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة و مقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموما و هما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.

فإنه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه (عليه السلام) كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه - و هو قوله: كان من المسبحين - و لو لا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، و الآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة و هو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما.



فمجموع الآيتين يدل على أن ذهابه مغاضبا كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه و بعده، و قدر أن ينبذ بالعراء و كان مقتضى عمله أن ينبذ مذموما فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله و جعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.

و قد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية و على ذلك يتعين لقوله: "لو لا أن تداركه نعمة من ربه" معنى آخر.

قوله تعالى: "فاجتباه ربه فجعله من الصالحين" تقدم توضيح معنى الاجتباء و الصلاح في مباحثنا المتقدمة.

قوله تعالى: "و إن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر" إن مخففة من الثقيلة، و الزلق هو الزلل، و الإزلاق الإزلال و هو الصرع كناية عن القتل و الإهلاك.

و المعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.

و المراد بإزلاقه بالأبصار و صرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلا و ربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، و قد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره.

و قيل: المعنى أنهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظرا مليئا بالعداوة و البغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.

قوله تعالى: "و يقولون إنه لمجنون و ما هو إلا ذكر للعالمين" رميهم له بالجنون عند ما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، و لذا رد قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكرا للعالمين.

و قد رد قولهم: "إنه لمجنون" في أول السورة بقوله: "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" و به ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.

بحث روائي

في المعاني، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله عز و جل: "يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود" قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا و تدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.

و فيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "يوم يكشف عن ساق" قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربي الأعلى.

أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربي الأعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق.

انتهي.

و في هذا المعنى رواية أخرى عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و فيه، بإسناده عن معلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يعني بقوله: "و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون" قال: و هم مستطيعون.

و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة، و يبقى من كان يسجد في الدنيا رياء و سمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا.

و فيه، أخرج ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يوم يكشف عن ساق" قال: يكشف الله عن ساقه.



و فيه، أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا و الطبراني و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يجمع الله الناس يوم القيامة و ينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناديا أيها الناس أ لم ترضوا من ربكم +" الذي "+ خلقكم و صوركم و رزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا و يتولى؟ أ ليس ذلك من ربكم عدلا؟ قالوا: بلى. قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا و يتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، و يتمثل لمن كان يعبد عزيزا شيطان عزيز حتى يمثل لهم الشجرة و العود و الحجر. و يبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز و جل فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا و بينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: و ما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق. فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعا ساجدا و يبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون.

الحديث.

أقول: و الروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية و نص الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مؤولة.

و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و ذكره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول الله عز و جل: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" بالنعم و المعاصي.

أقول: و قد تقدم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون": الآية 182 من سورة الأعراف.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إذ نادى و هو مكظوم": في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): يقول: مغموم.

و فيه،: في قوله تعالى: "لو لا أن تداركه نعمة من ربه" قال: النعمة الرحمة.

و فيه،: في قوله تعالى: "لنبذ بالعراء" قال: الموضع الذي لا سقف له.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و إن يكاد الذين كفروا": أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: العين حق.

و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: العين تدخل الرجل القبر و الجمل القدر.

أقول: و هناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية و هي من الجري دون التفسير و لذلك لم نوردها.

69 سورة الحاقة - 1 - 12

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الحَْاقّةُ (1) مَا الحَْاقّةُ (2) وَ مَا أَدْرَاك مَا الحَْاقّةُ (3) كَذّبَت ثَمُودُ وَ عَادُ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِكوا بِالطاغِيَةِ (5) وَ أَمّا عَادٌ فَأُهْلِكوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عَاتِيَةٍ (6) سخّرَهَا عَلَيهِمْ سبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَنِيَةَ أَيّامٍ حُسوماً فَترَى الْقَوْمَ فِيهَا صرْعَى كَأَنهُمْ أَعْجَازُ نخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَ جَاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَن قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكَت بِالخَْاطِئَةِ (9) فَعَصوْا رَسولَ رَبهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رّابِيَةً (10) إِنّا لَمّا طغَا الْمَاءُ حَمَلْنَكمْ فى الجَْارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيهَا أُذُنٌ وَعِيَةٌ (12)

بيان

السورة تذكر الحاقة و هي القيامة و قد سمتها أيضا بالقارعة و الواقعة.

و قد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالا الأمم الذين كذبوا بها فأخذهم الله أخذة رابية، و فصل تصف فيه الحاقة و انقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال و اختلاف حالهم بالسعادة و الشقاء، و فصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها و أنه حق اليقين، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة" المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتا لا مرد له و لا ريب فيه، من حق الشيء بمعنى ثبت و تقرر تقررا واقعيا.

و "ما" في "ما الحاقة" استفهامية تفيد تفخيم أمرها، و لذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير و لم يقل: ما هي، و الجملة الاستفهامية خبر الحاقة.

فقوله: "الحاقة ما الحاقة" مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها و إعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.

و قوله: "و ما أدراك ما الحاقة" خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم و هذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشيء و بلوغه الغاية في الفخامة و لعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس: أن ما في القرآن من قوله تعالى: "ما أدراك" فقد أدراه و ما فيه من قوله: "ما يدريك" فقد طوى عنه، يعني أن "ما أدراك" كناية و "ما يدريك" تصريح.

قوله تعالى: "كذبت ثمود و عاد بالقارعة" المراد بالقارعة القيامة و سميت بها لأنها تقرع و تدك السماوات و الأرض بتبديلها و الجبال بتسييرها و الشمس بتكويرها و القمر بخسفها و الكواكب بنثرها و الأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، و كان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود و عاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.

و هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام تسع آيات و إن كانت مسوقة للإشارة إلى إجمال قصص قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و من قبله و المؤتفكات و إهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقه ببعض أوصافها و هو أن الله أهلك أمما كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: "فإذا نفخ في الصور" إلخ، جواب آخر.

و محصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود و عاد و فرعون و من قبله و المؤتفكات و قوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية و أهلكهم بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى: "فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية" بيان تفصيلي لأثر تكذيبهم بالقارعة، و المراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى: "و أخذ الذين ظلموا الصيحة": هود: 67، و قال أيضا: "فأخذتهم الرجفة": الأعراف: 87، و قال أيضا: "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون": حم السجدة: 17.

و قيل: الطاغية مصدر كالطغيان و الطغوى و المعنى: فأما ثمود فأهلكوا بسبب طغيانهم، و يؤيده قوله تعالى: "كذب ثمود بطغواها": الشمس: 11.

و أول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الإهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظرا إلى كيفية إهلاكهم.

قوله تعالى: "و أما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية" الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، و عاتية من العتو بمعنى الطغيان و الابتعاد من الطاعة و الملاءمة.

قوله تعالى: "سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية" تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، و الحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، و هي صفة لسبع أي سبع ليال و ثمانية أيام متتالية متتابعة و صرعى جمع صريع و أعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشيء، و خاوية الخالية الجوف الملقاة و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "فهل ترى لهم من باقية" أي من نفس باقية، و الجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعا، و قيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء و قد أريد به البقية و ما قدمناه من المعنى أقرب.

قوله تعالى: "و جاء فرعون و من قبله و المؤتفكات بالخاطئة" المراد بفرعون فرعون موسى، و بمن قبله الأمم المتقدمة عليه زمانا من المكذبين، و بالمؤتفكات قرى قوم لوط و الجماعة القاطنة بها، و "خاطئة" مصدر بمعنى الخطاء و المراد بالمجيء بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية" ضمير "عصوا" لفرعون و من قبله و المؤتفكات، و المراد بالرسول جنسه، و الرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، و المراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة و قيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات و قيل: الخارقة للعادة.

قوله تعالى: "إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" إشارة إلى طوفان نوح و الجارية السفينة، و عد المخاطبين محمولين في سفينة نوح و المحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "لنجعلها لكم تذكرة و تعيها أذن واعية" تعليل لحملهم في السفينة فضمير "لنجعلها" للحمل باعتبار أنه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به و عبرة تعتبرون بها و موعظة تتعظون بها.

و قوله: "و تعيها أذن واعية" الوعي جعل الشيء في الوعاء، و المراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس و حفظها فيها لترتب عليها فائدتها و هي التذكر و الاتعاظ.

و في الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.

توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50، و قوله: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3، و قد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه و الأعلى و غيرهما.

و الإنسان يشارك سائر الأنواع المادية في أن له استكمالا تكوينيا و سلوكا وجوديا نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة و يختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الإنسانية استكمالا من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الأوصاف و النعوت و تتلبس به من الملكات و الأحوال في الحياة الدنيا و هي غاية وجود الإنسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.



و هذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل و إنزال الكتب و الهداية إليها "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء: 165، و قد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و غيره، و هذه هداية بمعنى إراءة الطريق و إعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الإنسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا": الدهر: 3، فإن لزم الصراط و سلكه حي بحياة طيبة سعيدة و إن تركه و أعرض عنه هلك بشقاء دائم و تمت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: "ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من حي عن بينة": الأنفال: 42.

إذا تقرر هذا تبين أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، و إليها الإشارة بقوله: "لنجعلها لكم تذكرة" فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكر بها بل ربما أثرت و ربما تخلفت.

و من سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها و إيصالها إليها بتحريكها و سوقها نحوه، و إليها الإشارة بقوله: "و تعيها أذن واعية" فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية و إنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة و هو من الله و أما الوعي فإنه و إن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة و بيان الأجر و المثوبة على إجابة الدعوة و الأجر و المثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.

و يظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض": الأعراف: 96 أن لأعمال الإنسان تأثيرا في الحوادث الخارجية و قد تقدم بعض الكلام فيه.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: "لنجعلها لكم تذكرة" قال: لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كم من سفينة قد هلكت و أثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.

أقول: و تقدم ما يؤيد ذلك في قصة نوح في تفسير سورة هود.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن مكحول قال: لما نزلت "و تعيها أذن واعية" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت ربي أن يجعلها أذن علي. قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئا فنسيته.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الواحدي و ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجاري عن بردة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك و لا أقصيك و أن أعلمك و أن تعي و حق لك أن تعي فنزلت هذه الآية "و تعيها أذن واعية".

و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي إن الله أمرني أن أدنيك و أعلمك لتعي فأنزلت هذه الآية "و تعيها أذن واعية" فأنت أذن واعية لعلمي:. أقول: و روي هذا المعنى في تفسير البرهان، عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن الكليني بإسناده عنه (عليه السلام)، و عن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام). و رواه أيضا عن ابن شهرآشوب عن حلية الأولياء عن عمر بن علي، و عن الواحدي في أسباب النزول عن بريدة، و عن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زر بن حبيش عن علي (عليه السلام). و قد روي في غاية المرام، من طرق الفريقين ستة عشر حديثا في ذلك و قال في البرهان إن محمد بن العباس روى فيه ثلاثين حديثا من طرق العامة و الخاصة.

69 سورة الحاقة - 13 - 37

فَإِذَا نُفِخَ فى الصورِ نَفْخَةٌ وَحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الأَرْض وَ الجِْبَالُ فَدُكّتَا دَكّةً وَحِدَةً (14) فَيَوْمَئذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَ انشقّتِ السمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَك عَلى أَرْجَائهَا وَ يحْمِلُ عَرْش رَبِّك فَوْقَهُمْ يَوْمَئذٍ ثمَنِيَةٌ (17) يَوْمَئذٍ تُعْرَضونَ لا تخْفَى مِنكمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمّا مَنْ أُوتىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَبِيَهْ (19) إِنى ظنَنت أَنى مُلَقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فى عِيشةٍ رّاضِيَةٍ (21) فى جَنّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كلُوا وَ اشرَبُوا هَنِيئَا بِمَا أَسلَفْتُمْ فى الأَيّامِ الخَْالِيَةِ (24) وَ أَمّا مَنْ أُوتىَ كِتَبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَلَيْتَنى لَمْ أُوت كِتَبِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَلَيْتهَا كانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنى مَالِيَهْ (28) هَلَك عَنى سلْطنِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلّوهُ (30) ثُمّ الجَْحِيمَ صلّوهُ (31) ثُمّ فى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسلُكُوهُ (32) إِنّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لا يحُض عَلى طعَامِ الْمِسكِينِ (34) فَلَيْس لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا حَمِيمٌ (35) وَ لا طعَامٌ إِلا مِنْ غِسلِينٍ (36) لا يَأْكلُهُ إِلا الخَْطِئُونَ (37)

بيان

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرف الحاقة ببعض أشراطها و نبذة مما يقع فيها.

قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة" قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.

قوله تعالى: "و حملت الأرض و الجبال فدكتا دكة واحدة" الدك أشد الدق و هو كسر الشيء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.

قوله تعالى: "فيومئذ وقعت الواقعة" أي قامت القيامة.

قوله تعالى: "و انشقت السماء فهي يومئذ واهية" انشقاق الشيء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شق الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله: "و انشقت السماء فهي يومئذ واهية و الملك على أرجائها" في معنى قوله: "و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا": الفرقان: 25.

قوله تعالى: "و الملك على أرجائها و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى: "و الملك على أرجائها"

انتهي.

و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في الآية الجمع.

و قوله: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" ضمير "فوقهم" على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى: "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا": المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" أن الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم": الزمر: 75.

قوله تعالى: "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية" الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: "و عرضوا على ربك صفا": الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازا لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدل الغيب شهادة و السر علنا قال: "يوم تبلى السرائر": الطارق: 9، و قال: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء": المؤمن: 16.



و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شيء منهم عليه و غير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، و إنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهورا لا ستر عليه و لا مرية فيه.

فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله و يظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: "فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه" قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤن.

هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤن.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى.

انتهي.

و الآية و ما بعدها إلى قوله: "الخاطئون" بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "فمن أوتي كتابه بيمينه": إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أن قوله: "هاؤم اقرءوا كتابيه" خطاب للملائكة، و الهاء في "كتابيه" و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرءوا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: "إني ظننت أني ملاق حسابيه" الظن بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصل من الآية السابقة و محصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين و قاضيا بسعادتي لأني أيقنت في الدنيا أني سألاقي حسابي فآمنت بربي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: "فهو في عيشة راضية" أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.

قوله تعالى: "في جنة عالية - إلى قوله - الخالية" أي هو في جنة عالية قدرا فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله: "قطوفها دانية" القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله: "كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية" أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا التي تقضت أيامها.

قوله تعالى: "و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه و لم أدر ما حسابيه" و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مر الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.

قوله تعالى: "يا ليتها كانت القاضية" ذكروا أن ضمير "ليتها" للموتة الأولى التي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية علي تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد و أشاهد ما أشاهد.



قوله تعالى: "ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية" كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كل مكروه و يسلطانه على كل ما يحب و يرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربه و عن كل حق يدعى إليه و كذب داعيه فلما شاهد تقطع الأسباب و أنه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسرا و توجعا و ما ذا ينفع التحسر؟.

قوله تعالى: "خذوه فغلوه - إلى قوله - فاسلكوه" حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و "غلوه" أمر من الغل بالفتح و هو الشد بالغل الذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله: "ثم الجحيم صلوه" أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إياها.

و قوله: "ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه" السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعا.

قوله تعالى: "إنه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحض على طعام المسكين" الحض التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إن الأخذ ثم التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: "فليس له اليوم هاهنا حميم - إلى قوله - الخاطئون" الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله: "إنه كان لا يؤمن" إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم هاهنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله: "و لا طعام إلا من غسلين" الغسلين الغسالة و كان المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة: "حميم" و متفرع على قوله: "و لا يحض" إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا طعام إلا من غسلين أهل النار.

و قوله: "لا يأكله إلا الخاطئون" وصف لغسلين و الخاطئون المتلبسون بالخطيئة و الإثم.

بحث روائي

في الدر المنثور، في قوله تعالى: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله: "يومئذ" إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمي، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام).

أقول: و في غير واحد من الروايات أن الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أن حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منا و أربعة ممن شاء الله.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامه الذي مات في عصره فإن أثبته أعطي كتابه بيمينه لقوله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه إلى أن قال و من أنكر كان من أصحاب الشمال الذين قال الله: "و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال - في سموم و حميم و ظل من يحموم" إلخ.



أقول: و في عدة من الروايات تطبيق قوله: "فأما من أوتي كتابه بيمينه" إلخ، على علي (عليه السلام)، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله: "و أما من أوتي كتابه بشماله" إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون؟ كل و الله يخطو. فتبسم علي و قال: يا أعرابي "لا يأكله إلا الخاطئون" قال: صدقت و الله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده. ثم التفت علي إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و لو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرها.

69 سورة الحاقة - 38 - 52

فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَ مَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنّهُ لَقَوْلُ رَسولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مّا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رّب الْعَلَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْض الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثمّ لَقَطعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَجِزِينَ (47) وَ إِنّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتّقِينَ (48) وَ إِنّا لَنَعْلَمُ أَنّ مِنكم مّكَذِّبِينَ (49) وَ إِنّهُ لَحَسرَةٌ عَلى الْكَفِرِينَ (50) وَ إِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ (51) فَسبِّحْ بِاسمِ رَبِّك الْعَظِيمِ (52)

بيان

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكد ما تقدم من أمر الحاقة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقية ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: "فلا أقسم بما تبصرون و ما لا تبصرون" ظاهر الآية أنه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإن من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صف واحد و يعظمه تعالى و ما صنع تعظيما مشتركا في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنه خلقه جليل جميل لأنه تعالى جميل لا يصدر منه إلا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى على نفسه بخلقه في قوله: "الذي أحسن كل شيء خلقه": الم السجدة: 7، و قوله: "فتبارك الله أحسن الخالقين": المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإن النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحده تعالى و مصير الكل إليه و ما يترتب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و مما تقدم يظهر عدم استقامة ما قيل: إن المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإن السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إن المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إن المراد الجن و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعم مدلولا من جميع ذلك.

قوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم" الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أن المراد برسول كريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنه إنما ينسب إليه بما أنه رسول و الرسول بما أنه رسول لا يأتي إلا بقول مرسله، و قد بين ذلك فضل بيان بقوله بعد: "تنزيل من رب العالمين".

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه مما نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أن قوله بعد: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل" و ما يتلوه إنما يناسب كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: "و ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون" نفي أن يكون القرآن نظما ألفه شاعر و لم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا و لم يكن شاعرا.

و قوله: "قليلا ما تؤمنون" توبيخ لمجتمعهم حيث إن الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلا قليل منهم.

قوله تعالى: "و لا بقول كاهن قليلا ما تذكرون" نفي أن يكون القرآن كهانة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كاهنا يأخذ القرآن من الجن و هم يلقونه إليه.

و قوله: "قليلا ما تذكرون" توبيخ أيضا لمجتمعهم.

قوله تعالى: "تنزيل من رب العالمين" أي منزل من رب العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل - إلى قوله - حاجزين" يقال: تقول على فلان أي اختلق قولا من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى: "و لو تقول علينا" هذا الرسول الكريم الذي حملناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزلناه عليه و اختلق "بعض الأقاويل" و نسبه إلينا "لأخذنا منه باليمين" كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوة كما في رواية القمي "ثم لقطعنا منه الوتين" و قتلناه لتقوله علينا "فما منكم من أحد عنه حاجزين" تحجبونه عنا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقدير أن يفتري على الله كذبا و ينسب إليه شيئا لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله: "لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا": إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم: "و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون": الأنعام: 88.

فلا يرد أن مقتضى الآيات أن كل من ادعى النبوة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشد العقاب و هو منقوض ببعض مدعي النبوة من الكذابين.

و ذلك أن التهديد في الآية متوجهة إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقول على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدعي النبوة المفتري على الله في دعواه النبوة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: "و إنه لتذكرة للمتقين" يذكرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنة و ما هذا شأنه لا يكون تقولا و افتراء فالآية مسوقة حجة على كون القرآن منزها عن التقول و الفرية.

قوله تعالى: "و إنا لنعلم أن منكم مكذبين و إنه لحسرة على الكافرين" ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: "و إنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم" قد تقدم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقيقة القرآن المنبىء عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حق اليقين ثم الأمر بتسبيح اسم الرب العظيم المنزه عن خلق العالم باطلا لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقة التي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

تم و الحمد لله.
<<        الفهرس        >>