جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج20 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


70 سورة المعارج - 1 - 18
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سأَلَ سائلُ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَفِرِينَ لَيْس لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللّهِ ذِى الْمَعَارِج (3) تَعْرُجُ الْمَلَئكةُ وَ الرّوحُ إِلَيْهِ فى يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْف سنَةٍ (4) فَاصبرْ صبراً جَمِيلاً (5) إِنهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السمَاءُ كالمُْهْلِ (8) وَ تَكُونُ الجِْبَالُ كالْعِهْنِ (9) وَ لا يَسئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصرُونهُمْ يَوَدّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئذِ بِبَنِيهِ (11) وَ صحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الّتى تُئْوِيهِ (13) وَ مَن فى الأَرْضِ جَمِيعاً ثمّ يُنجِيهِ (14) َكلا إِنهَا لَظى (15) نَزّاعَةً لِّلشوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعَى (18)

بيان

الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين.

تبتدىء السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه و العذاب الذي أعد لهم فيه و تستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق و العمل الصالح.

و هذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله: "و الذين في أموالهم حق معلوم" مدني و الاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة و قد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية قوله: إلا المصلين - إلى قوله - في جنات مكرمون مدنية لما في سياقها من الاتحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات قوله: إن الإنسان خلق هلوعا - إلى قوله - منوعا.

على أن قوله: "فما للذين كفروا قبلك مهطعين" متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية.

و من جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصة قوله: "أ يطمع كل امرىء منهم" إلخ، و قوله: "على أن نبدل خيرا منهم" إلخ على ما سيجيء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم": الأنفال: 32 و قد تقدم في تفسير الآية أن سياقها و التي بعدها سياق مدني لا مكي.

لكن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة.

قوله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع" السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدي بالباء كما في قوله: "يدعون فيها بكل فاكهة آمنين": الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد، و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفرا و عتوا.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: "فاسأل به خبيرا": الفرقان: 59، و فيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع.

على أن سياق الآيات التالية و خاصة قوله: "فاصبر صبرا جميلا" لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغيانا و كفرا، و قد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم و التحقير و هو قوله: "واقع" و قوله: "ليس له دافع".

و المعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري و إجابة لمسئوله تهكما.

قوله تعالى: "للكافرين ليس له دافع" للكافرين متعلق بعذاب و صفة له، و كذا قوله: "ليس له دافع" و قد مرت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: "من الله ذي المعارج" الجار و المجرور متعلق بقوله: "دافع" أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلق بقوله: "بعذاب".

و المعارج جمع معرج و فسروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: "تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم" إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتبة علوا و شرفا التي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهمية اعتبارية.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق و العمل الصالح قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه": الفاطر 10، و قال: "و لكن يناله التقوى منكم": الحج: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل الصالح قال تعالى: "هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون": آل عمران: 163 و قال: "لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم": الأنفال: 4 و قال: "رفيع الدرجات ذو العرش": المؤمن: 15.

و الحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول، و الدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية.

قوله تعالى: "تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبباتها و الملائكة وسائط موكلة على أمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها و زيل الله بينهم و رجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم و صفوا قال تعالى: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش": الزمر - 75، و قال: "يوم يقوم الروح و الملائكة صفا": النبأ: 38.

و الظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: "قل الروح من أمر ربي": إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره": النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إن المراد بالروح جبرئيل و إن أطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله: "نزل به الروح الأمين على قلبك": الشعراء: 194 و قوله: "قل نزله روح القدس من ربك": النحل: 103 فإن المقيد غير المطلق.

قوله تعالى: "فاصبر صبرا جميلا" لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت و استكبار و هو مما يشق تحمله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى، و علله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: "إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا" ضميرا "يرونه" و "نراه" للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيد الأول قوله فيما بعد: "يوم تكون السماء كالمهل" إلخ.



و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية و رؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه و ردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه و كل ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب و تذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع و شكوى فأنا نعلم أن العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: "يوم تكون السماء كالمهل" المهل المذاب من المعدنيات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: دردي الزيت، و قيل: عكر القطران.

و الظرف متعلق بقوله: "واقع" على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: "و تكون الجبال كالعهن" العهن مطلق الصوف، و لعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: "و تكون الجبال كالعهن المنفوش": القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود.

قوله تعالى: "و لا يسأل حميم حميما" الحميم القريب الذي تهتم بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: "يبصرونهم" الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسئلونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب: يبصرونهم و يمكن أن يكون "يبصرونهم" صفة "حميما".

و من رديء التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: "يبصرونهم" يبصر الملائكة الكفار، و ما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم.

و هي جميعا وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: "يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته التي تؤويه و من في الأرض جميعا ثم ينجيه" قال في المجمع،: المودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال: وددت الشيء أي تمنيته و وددته أي أحببته أود فيهما جميعا.

انتهي.

و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشيء ببدل منه

انتهي.

و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة.

انتهي.

و ذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقي بالنسبة إلى قوله: "و لا يسأل حميم حميما" فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

و المعنى "يود" و يتمنى "المجرم" و هو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر "لو يفتدي من عذاب يومئذ" و هذا هو الذي يتمناه، و الجملة قائمة مقام مفعول يود.

"ببنيه" الذين هم أحب الناس عنده "و صاحبته" التي كانت سكنا له و كان يحبها و ربما قدمها على أبويه "و أخيه" الذي كان شقيقه و ناصره "و فصيلته" من عشيرته الأقربين "التي تؤويه" و تضمه إليها "و من في الأرض جميعا" من أولي العقل "ثم ينجيه" هذا الافتداء.

قوله تعالى: "كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر و تولى و جمع فأوعى" كلا للردع، و ضمير "أنها" لجهنم أو للنار و سميت لظى لكونها تتلظى و تشتعل، و النزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله: "كلا" ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علل الردع بقوله: "أنها لظى" إلخ و محصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان.

فقوله: "إنها لظى" أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله: "نزاعة للشوى" أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه.

و قوله: "تدعوا من أدبر و تولى و جمع فأوعى" أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

بحث روائي

في المجمع، حدثنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري. فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع".

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية، و قد عرفت الكلام في مكية السورة.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و النسائي و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "سأل سائل" قال هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله: "سأل سائل" قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث و قد قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي، و في بعض رواياتهم أن القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنية السورة و المعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية و قد تقدم كلام في سياق الآية.



و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة":. أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام).

و في المجمع، روى أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أطول هذا اليوم فقال: و الذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يوم تكون السماء كالمهل" قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "يبصرونهم" يقول: يعرفونهم ثم لا يتساءلون.

و فيه،: في قوله تعالى: "نزاعة للشوى" قال: تنزع عينه و تسود وجهه.

و فيه،: في قوله تعالى: "تدعوا من أدبر و تولى" قال: تجره إليها.

70 سورة المعارج - 19 - 35
إِنّ الانسنَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسهُ الشرّ جَزُوعاً (20) وَ إِذَا مَسهُ الخَْيرُ مَنُوعاً (21) إِلا الْمُصلِّينَ (22) الّذِينَ هُمْ عَلى صلاتهِمْ دَائمُونَ (23) وَ الّذِينَ فى أَمْوَلهِِمْ حَقّ مّعْلُومٌ (24) لِّلسائلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الّذِينَ يُصدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبهِم مّشفِقُونَ (27) إِنّ عَذَاب رَبهِمْ غَيرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظونَ (29) إِلا عَلى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَنهُمْ فَإِنهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الْعَادُونَ (31) وَ الّذِينَ هُمْ لأَمَنَتهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَعُونَ (32) وَ الّذِينَ هُم بِشهَدَتهِمْ قَائمُونَ (33) وَ الّذِينَ هُمْ عَلى صلاتهِمْ يحَافِظونَ (34) أُولَئك فى جَنّتٍ مّكْرَمُونَ (35)

بيان

تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

و ذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه و يسيء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون.

قوله تعالى: "إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا" الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين و هو شدة الحرص، و ذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.

و ذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شيء خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير و النافع و لا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مس الشر و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسه و يؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا و أنفع بحاله فالجزع عند مس الشر و المنع عند مس الخير من لوازم الهلع و شدة الحرص.

و ليس الهلع و شدة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحق و بغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة و هي التي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.

و هو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحق و الباطل و الخير و الشر و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق و الباطل و الخير و الشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده و بالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيات و اشتغل بها عن اتباع الحق و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه و لا ذا حق إلا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه و لا منع ذا حق حقه.

فالإنسان في بادىء أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتقاء الشر قال تعالى: "و إنه لحب الخير لشديد": العاديات: 8.

ثم إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزا آخر و هو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق و ما هو الخير في العمل، و يتبدل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعا عند مس الشر و منوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسه شر أخروي و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي و هو مواجهة الحسنة، و أما الشر و الخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان.

و أما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدى إلى حق كل ذي حق و لم يقف في حرصه على الخير على حد فقد بدل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.

و قد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذم و قد قال تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة 7، و ذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره.

و ذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة، و المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، و كأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم و الله سبحانه لا يذم فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعا.

و فيه أن الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى.

و استثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها و لم يبدلوها رذيلة و نقمة.

و أجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع و هو كما ترى.

قوله تعالى: "إلا المصلين" استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنها خير الأعمال.

على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر": العنكبوت 45.

قوله تعالى: "الذين هم على صلاتهم دائمون" في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، و فيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى: "و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم" فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): أن الحق المعلوم ليس من الزكاة و إنما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الذي يسأل، و المحروم الفقير الذي يتعفف و لا يسأل و السياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: "إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله": التوبة 60 و ليست مختصة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.



قوله تعالى: "و الذين يصدقون بيوم الدين" الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.

و في التعبير بقوله: "يصدقون" دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.

قوله تعالى: "و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون" أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

و لازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف.

و الملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى: "قل فمن يملك من الله شيئا": المائدة 17.

على أن الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: "يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون" فيصفهم بالخوف و هو يصرح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه: "و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله": الأحزاب: 39، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول: "أولئك في جنات مكرمون".

قوله تعالى: "إن عذاب ربهم غير مأمون" تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدم وجهه.

قوله تعالى: "و الذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله - هم العادون" تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون.

قوله تعالى: "و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون" المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جيء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

و قيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد و عمل فتعم حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه.

و قيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.

و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوز.

و قيل: العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شيء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى: "و الذين هم بشهاداتهم قائمون" الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها و أداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: "و الذين هم على صلاتهم يحافظون" المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى: "أولئك في جنات مكرمون" الإشارة إلى المصلين في قوله: "إلا المصلين" و تنكير جنات للتفخيم، و "في جنات" خبر و "مكرمون" خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: "مكرمون".

بحث روائي

في تفسير القمي،: "إذا مسه الشر جزوعا" قال: الشر هو الفقر و الفاقة "و إذا مسه الخير منوعا" قال: الغنى و السعة.

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ثم استثنى فقال "إلا المصلين" فوصفهم بأحسن أعمالهم "الذين هم على صلاتهم دائمون" يقول: إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه.

أقول: قوله: إذا فرض على نفسه "إلخ" استفاد (عليه السلام) هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير "هم" و قد أشرنا إليه فيما مر.

و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و الذين هم على صلاتهم يحافظون" قال: هي الفريضة. قلت: "الذين هم على صلاتهم دائمون" قال: هي النافلة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الذين في أموالهم حق معلوم": و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة و هو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة و إن شئت كل يوم، و لكل ذي فضل فضله.

قال: و روي عنه أيضا أنه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدق على من عاداك.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) بعدة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل "للسائل و المحروم" قال: المحروم المحارف الذي قد حرم كد يمينه في الشراء و البيع.

قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الذين هم على صلاتهم يحافظون": روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

أقول: و لعله مبني على ما ورد عنهم (عليهم السلام) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض.

70 سورة المعارج - 36 - 44
فَمَا لِ الّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَك مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشمَالِ عِزِينَ (37) أَ يَطمَعُ كلّ امْرِىٍ مِّنهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنّةَ نَعِيمٍ (38) َكلا إِنّا خَلَقْنَهُم مِّمّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَب المَْشرِقِ وَ المَْغَرِبِ إِنّا لَقَدِرُونَ (40) عَلى أَن نّبَدِّلَ خَيراً مِّنْهُمْ وَ مَا نحْنُ بِمَسبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يخُوضوا وَ يَلْعَبُوا حَتى يُلَقُوا يَوْمَهُمُ الّذِى يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنهُمْ إِلى نُصبٍ يُوفِضونَ (43) خَشِعَةً أَبْصرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ ذَلِك الْيَوْمُ الّذِى كانُوا يُوعَدُونَ (44)

بيان

لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع و هو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر و تولى و جمع فأوعى.

ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع و حب خير نفسه و يؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على أولئك الكفار كالمتعجب من أمرهم حيث يجتمعون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر و قد قد ر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم و يخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده و يدخل جنته.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

قوله تعالى: "فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين" قال في المجمع،: قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله و ذلك من نظر العدو، و قال أبو عبيدة الإهطاع الإسراع، و عزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة.

انتهي.

و قبل الشيء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه و الفاء في "فما" فصيحة.

و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: "أ يطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم"، الاستفهام للإنكار أي - ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة.

و نسب الطمع إلى كل امرىء منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا "إلخ" كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد.

و في قوله: "أن يدخل" مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم و مشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة إن شاء و لن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا و فرقا يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين - و هم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنة - إنما كان استهزاء و تهكما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار و الجنة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة و إنكاره عليهم.

فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: "فما للذين كفروا" قوما من المنافقين آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا و لازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم": المنافقون 3، و قوله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم": التوبة 66، و قوله: "فأعقبهم نفاقا في قلوبهم": التوبة 77.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.

و يؤيده قوله الآتي: "إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم" إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: "كلا إنا خلقناهم مما يعلمون" ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم.

و قوله: "إنا خلقناهم مما يعلمون" المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها.

و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة - و هم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشيء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار و يسبقونا فندخلهم الجنة و ينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر.

و قيل: "من" في قوله: "مما يعلمون" تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفار؟ و إنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قيل: "من" لابتداء الغاية، و المعنى: أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتى تتطهر بالإيمان و الطاعة و تتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنى لهم ذلك و هم كفار.

و قيل: المراد بما في "ما يعلمون" الجنس، و المعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل و لا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: "فلا أقسم برب المشارق و المغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم و ما نحن بمسبوقين" المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا و مغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم و مغاربها.



و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: "فلا أقسم" التفات من التكلم مع الغير في "إنا خلقناهم" إلى التكلم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

و في قوله: "برب المشارق و المغارب" التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل و هي ربوبيته للمشارق و المغارب فإن الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضية المقارنة له.

و في قوله: "إنا لقادرون" التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله عن شيء منها و لا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله خيرا منه و إلا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك.

و قوله: "إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم" "على" متعلق بقوله: "لقادرون" و المفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم و إنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و "خيرا" مفعوله الثاني و هو صفة أقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، و خيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتبعوا الحق و لا يردوه.

و قوله: "و ما نحن بمسبوقين" المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.

و سياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله: "خيرا منهم" لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية و لله أن يبدل خيرا منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به و لم يردوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدم أن قوله: "إنا خلقناهم مما يعلمون" إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: "كلا"، و أن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل و المدبر لها قادر أن يذهب بهم و يبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم و يدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: "فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلح عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون" بيان ليومهم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و سراعا جمع سريع، و النصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض الإسراع و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون" الخشوع تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق غشيان الشيء بقهر.

و قوله: "ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون" الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا و خشوع الأبصار و رهق الذلة.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه.

أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: ما لي أراكم عزين، و روي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة.

و في تفسير القمي،: و قوله: "كلا إنا خلقناهم مما يعلمون" قال: من نطفة ثم علقة، و قوله: "فلا أقسم" أي أقسم "برب المشارق و المغارب" قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.

و في المعاني، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لها ثلاثمائة و ستون مشرقا و ثلاثمائة و ستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل.

و في تفسير القمي،: و قوله: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا" قال: من القبر "كأنهم إلى نصب يوفضون" قال: إلى الداعي ينادون، و قوله: "ترهقهم ذلة" قال: تصيبهم ذلة.


71 سورة نوح - 1 - 24
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إِنّا أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَك مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَقَوْمِ إِنى لَكمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكم مِّن ذُنُوبِكمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مّسمّى إِنّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَب إِنى دَعَوْت قَوْمِى لَيْلاً وَ نَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِى إِلا فِرَاراً (6) وَ إِنى كلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصبِعَهُمْ فى ءَاذَانهِمْ وَ استَغْشوْا ثِيَابهُمْ وَ أَصرّوا وَ استَكْبرُوا استِكْبَاراً (7) ثُمّ إِنى دَعَوْتهُمْ جِهَاراً (8) ثُمّ إِنى أَعْلَنت لهَُمْ وَ أَسرَرْت لهَُمْ إِسرَاراً (9) فَقُلْت استَغْفِرُوا رَبّكُمْ إِنّهُ كانَ غَفّاراً (10) يُرْسِلِ السمَاءَ عَلَيْكم مِّدْرَاراً (11) وَ يُمْدِدْكم بِأَمْوَلٍ وَ بَنِينَ وَ يجْعَل لّكمْ جَنّتٍ وَ يجْعَل لّكمْ أَنهَراً (12) مّا لَكمْ لا تَرْجُونَ للّهِ وَقَاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكمْ أَطوَاراً (14) أَ لَمْ تَرَوْا كَيْف خَلَقَ اللّهُ سبْعَ سمَوَتٍ طِبَاقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَ جَعَلَ الشمْس سِرَاجاً (16) وَ اللّهُ أَنبَتَكم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثمّ يُعِيدُكمْ فِيهَا وَ يخْرِجُكمْ إِخْرَاجاً (18) وَ اللّهُ جَعَلَ لَكمُ الأَرْض بِساطاً (19) لِّتَسلُكُوا مِنهَا سبُلاً فِجَاجاً (20) قَالَ نُوحٌ رّب إِنهُمْ عَصوْنى وَ اتّبَعُوا مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلا خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كبّاراً (22) وَ قَالُوا لا تَذَرُنّ ءَالِهَتَكمْ وَ لا تَذَرُنّ وَدّا وَ لا سوَاعاً وَ لا يَغُوث وَ يَعُوقَ وَ نَسراً (23) وَ قَدْ أَضلّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظلِمِينَ إِلا ضلَلاً (24)

بيان

تشير السورة إلى رسالة نوح (عليه السلام) إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات ثم حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم" "أن أنذر قومك" إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر "إلخ".

و في الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله (عليه السلام) في الآية التالية: "اعبدوا الله و اتقوه" و ذلك أن الإنذار تخويف و التخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذر، و قد أفاد قوله: "من قبل أن يأتيهم عذاب أليم" إنه متوجه إليهم غير تاركهم لو لا تحذرهم منه.

قوله تعالى: "قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون" بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: "إني لكم نذير مبين" و تفصيلا بقوله: "أن اعبدوا الله" إلخ.

و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي أنكم قومي يجمعكم و إياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم و سعادتكم إني لكم نذير إلخ.

و في قوله: "أن اعبدوا الله" دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و الوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

و في قوله: "و اتقوه" دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.

و في قوله: "و أطيعون" دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه و يستن به في الحياة منه (عليه السلام) ففي قوله: "اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون" ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: "اعبدوا الله" و المعاد الذي هو أساس التقوى و التصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى: "يغفر لكم من ذنوبكم" مجزوم في جواب الأمر و كلمة "من" للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، و لا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

و يؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: "يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم": الأحقاف 31، و قوله: "يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم": إبراهيم 10 و قوله: "قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف": الأنفال 38.



و أما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات": الصف 12 فهو و إن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلما تحققت.

و قد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب و في سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته: "يغفر لكم من ذنوبكم" و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم "يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم" و قول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: "يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم".

و فيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه.

على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفار هذه الأمة.

و ذهب بعضهم إلى كون "من" في قوله: "من ذنوبكم" زائدة، و لم تثبت زيادة "من" في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أن "من" بيانية، و قول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.

قوله تعالى: "و يؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون" تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، و إن الأجل المسمى أقصى الأجلين و أبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا و في قوله: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر" تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى و غير المسمى فلا راد لقضائه تعالى و لا معقب لحكمه.

و المعنى: أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم و لم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.

و قد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر.

و أنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: "يغفر لكم من ذنوبكم".

و قوله: "لو كنتم تعلمون" متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين و أن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول "تعلمون" محذوف يدل عليه سابق الكلام.

و قيل: إن "تعلمون" منزل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلق بأول الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.



قوله تعالى: "قال ربي إني دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" القائل هو نوح (عليه السلام) و الذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلا و نهارا كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.

و قوله: "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد و التأبي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، و قد قال تعالى في صفة القرآن: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا": إسراء 82.

قوله تعالى: "و إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم" إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته و الأصل دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم" لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته و لم يرد إلا ما فيه خير دنياهم و عقباهم.

و قوله: "جعلوا أصابعهم في آذانهم" كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، و قوله: "و استغشوا ثيابهم" أي غطوا بها رءوسهم و وجوههم لئلا يروني و لا يسمعوا كلامي و هو كناية عن التنفر و عدم الاستماع إلى قوله.

و قوله: "و أصروا و استكبروا استكبارا" أي و ألحوا على الامتناع من الاستماع و استكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا.

قوله تعالى: "ثم إني دعوتهم جهارا" "ثم" للتراخي بحسب رتبة الكلام و الجهار النداء بأعلى الصوت.

قوله تعالى: "ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا" الإعلان و الإسرار متقابلان و هما الإظهار و الإخفاء، و ظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا و علانية فتارة علانية و تارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن و سائرا في كل مسير مرجو.

قوله تعالى: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا - إلى قوله - أنهارا" علل أمرهم بالاستغفار بقوله: "إنه كان غفارا" دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة و هي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.

و قوله: "يرسل السماء عليكم مدرارا" مجزوم في جواب الأمر، و المراد بالسماء السحاب، و المدرار كثير الدرور بالأمطار.

و قوله: "و يمددكم بأموال و بنين" الأمداد إلحاق المدد و هو ما يتقوى به الممد على حاجته، و الأموال و البنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية.

و قوله: "و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا" هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.

و الآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية و تحكي عنه (عليه السلام) أنه يعد قومه توافر النعم و تواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب و النقمات العامة و انفتاح أبواب النعم من السماء و الأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني و فساده و بين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية و طيب عيشه و نكده.



كما يدل عليه قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس": الروم 41، و قوله: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم": الشورى 30، و قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض": الأعراف 94، و قد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقارا" استفهام إنكاري و الوقار - كما في المجمع، - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، و الرجاء مقابل الخوف و هو الظن بما فيه مسرة، و المراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، و قيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.

و المعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.

و الحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف و هو ما يقابل الخوف و نفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، و الوقار الثبوت و الاستقرار و التمكن و هو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته و معبوديته.

كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره و هو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، و العبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر و تدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة و الجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، و أما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب و مربوبيهم جميعا دون التدبير.

و الآية أعني قوله: "ما لكم لا ترجون لله وقارا" و ما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية و حجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة و غيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، و يتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.

و محصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية و المعبودية و اليأس عن وقاره؟ و أنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم و خلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، و ليس تدبير الكون و من فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه و النظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا.

و يتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق و الرزق و الرحمة و سائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته.

قوله تعالى: "و قد خلقكم أطوارا" حال من فاعل "لا ترجون" و الأطوار جمع طور و هو حد الشيء و حاله التي هو عليها.

و محصل المعنى - لا ترجون لله وقارا في ربوبية - و الحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا و أنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة و الأنوثة و الألوان و الهيئات و القوة و الضعف إلى غير ذلك، و هل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.

قوله تعالى: "أ لم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا" مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن و تماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.



و المراد بالرؤية العلم، و توصيف السماوات السبع - و الكلام مسوق سوق الحجة - يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا و يسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.

و كيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء (عليهم السلام) من أقدم العهود.

قوله تعالى: "و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا" الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.

و على هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا و لولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، و كون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا.

و أما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: "و جعل القمر فيهن نورا" فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن و إن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا و إن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن و كما تقول: أتيت بني تميم و إنما أتيت بعضهم.

قوله تعالى: "و الله أنبتكم من الأرض نباتا" أي أنبتكم إنبات النبات و ذلك أن الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي و ينمو و يولد المثل، و هذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه و استعارة.

قوله تعالى: "ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا" الإعادة فيها بالإماتة و الإقبار، و الإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية و التي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى: "فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون": الأعراف: 25.

و في قوله: "و يخرجكم" دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة و الإخراج كالصنع الواحد و الإعادة مقدمة للإخراج، و الإنسان في حالتي الإعادة و الإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.

قوله تعالى: "و الله جعل لكم الأرض بساطا" أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، و الانتقال من قطر إلى قطر.

قوله تعالى: "لتسلكوا منها سبلا فجاجا" السبل جمع سبيل بمعنى الطريق و الفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، و قيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.

قوله تعالى: "قال نوح رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا" رجوع منه (عليه السلام) إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم و ما ألقاه من القول إليهم من قوله: "ثم إني دعوتهم جهارا" إلى آخر الآيات.

و شكواه السابق له قوله: "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: "رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا".

و في الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه (عليه السلام) كانوا يصدون الناس عنه و يحرضونهم على مخالفته و إيذائه.

و معنى قوله: "لم يزده ماله و ولده إلا خسارا" - و قد عد المال و الولد في سابق كلامه من النعم - أن المال و الولد اللذين هما من نعمك و كان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا و أورثهم ذلك خسرانا من رحمتك.

قوله تعالى: "و مكروا مكرا كبارا" الكبار اسم مبالغة من الكبر.

قوله تعالى: "و قالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا" توصية منهم بالتمسك بآلهتهم و عدم ترك عبادتها.



و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن و لذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، و لعل تصدير ود و ذكر سواع و يغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق و نسر و الله أعلم.

قوله تعالى: "و قد أضلوا كثيرا و لا تزد الظالمين إلا ضلالا" ضمير "أضلوا" للرؤساء المتبوعين و يتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: "و مكروا" "و قالوا لا تذرن آلهتكم" و قيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، و لا يخلو من بعد.

و قوله: "و لا تزد الظالمين إلا ضلالا" دعاء من نوح على الظالمين بالضلال و المراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم و فسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.

بحث روائي

في نهج البلاغة،: و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا - يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين" فرحم الله امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيته أقول: و الروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق و الأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.

و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: "لا ترجون لله وقارا" قال؟ لا تخافون لله عظمة:. أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: "سبع سماوات طباقا" يقول بعضها فوق بعض.

و فيه،: في قوله تعالى: "رب إنهم عصوني - و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا" قال: اتبعوا الأغنياء.

و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأصنام و الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، و أما سواع فكانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبإ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. و كانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسخ العلم عبدت.

أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف و الأسماء، و أما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته.

و روي القصة أيضا في علل الشرائع، بإسناده عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) كما في الرواية و في روضة الكافي، بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتي بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال: فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الداريين و هو موضع دار ابن حكيم، و ذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل و هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر.

71 سورة نوح - 25 - 28
مِّمّا خَطِيئَتهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يجِدُوا لهَُم مِّن دُونِ اللّهِ أَنصاراً (25) وَ قَالَ نُوحٌ رّب لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الْكَفِرِينَ دَيّاراً (26) إِنّك إِن تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَك وَ لا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كفّاراً (27) رّب اغْفِرْ لى وَ لِوَلِدَى وَ لِمَن دَخَلَ بَيْتىَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ وَ لا تَزِدِ الظلِمِينَ إِلا تَبَارَا (28)

بيان

تتضمن الآيات هلاك القوم و تتمة دعاء نوح (عليه السلام) عليهم.

قوله تعالى: "مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا" إلخ "من" لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و "ما" زائدة لتأكيد أمر الخطايا و تفخيمه، و الخطيئات المعاصي و الذنوب، و تنكير النار للتفخيم.

و المعنى: من أجل معاصيهم و ذنوبهم أغرقوا بالطوفان فأدخلوا - أدخلهم الله - نارا لا يقدر عذابها بقدر، و من لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء و إدخال النار.

و المراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت و البعث دون نار الآخرة، و الآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا و سيدخلون النار يوم القيامة، و لا يعبأ بما قيل: إن من الجائز أن يراد بها نار الآخرة.

و قوله: "فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا" أي ينصرونهم في صرف الهلاك و العذاب عنهم.

تعريض لأصنامهم و آلهتهم.

قوله تعالى: "و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" الديار نازل الدار، و الآية تتمة دعائه (عليه السلام) عليهم، و كان قوله: "مما خطيئاتهم أغرقوا" إلخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنهم أهلكوا لما عد نوح من خطيئاتهم و لتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن إغراقهم كان استجابة لدعائه، و أن العذاب استوعبهم عن آخرهم.

قوله تعالى: "إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا" تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنهم يضلونهم، و لا فيمن يلدونه من الأولاد فإنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا - و الفجور الفسق الشنيع و الكفار المبالغ في الكفر.

و قد استفاد (عليه السلام) ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهي على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود.

قوله تعالى: "رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات" "إلخ" المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه، و بالمؤمنين و المؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة.

و قوله: "و لا تزد الظالمين إلا تبارا" التبار الهلاك، و الظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة و هو الضلال و هلاك الدنيا بالغرق، و قد تقدما جميعا في دعائه، و هذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه (عليه السلام) في القرآن الكريم.


72 سورة الجن - 1 - 17
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلىّ أَنّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِْنِّ فَقَالُوا إِنّا سمِعْنَا قُرْءَاناً عجَباً (1) يهْدِى إِلى الرّشدِ فَئَامَنّا بِهِ وَ لَن نّشرِك بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَ أَنّهُ تَعَلى جَدّ رَبِّنَا مَا اتخَذَ صحِبَةً وَ لا وَلَداً (3) وَ أَنّهُ كانَ يَقُولُ سفِيهُنَا عَلى اللّهِ شططاً (4) وَ أَنّا ظنَنّا أَن لّن تَقُولَ الانس وَ الجِْنّ عَلى اللّهِ كَذِباً (5) وَ أَنّهُ كانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِْنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَ أَنهُمْ ظنّوا كَمَا ظنَنتُمْ أَن لّن يَبْعَث اللّهُ أَحَداً (7) وَ أَنّا لَمَسنَا السمَاءَ فَوَجَدْنَهَا مُلِئَت حَرَساً شدِيداً وَ شهُباً (8) وَ أَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنهَا مَقَعِدَ لِلسمْع فَمَن يَستَمِع الاَنَ يجِدْ لَهُ شهَاباً رّصداً (9) وَ أَنّا لا نَدْرِى أَ شرّ أُرِيدَ بِمَن فى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بهِمْ رَبهُمْ رَشداً (10) وَ أَنّا مِنّا الصلِحُونَ وَ مِنّا دُونَ ذَلِك كُنّا طرَائقَ قِدَداً (11) وَ أَنّا ظنَنّا أَن لّن نّعجِزَ اللّهَ فى الأَرْضِ وَ لَن نّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنّا لَمّا سمِعْنَا الهُْدَى ءَامَنّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يخَاف بخْساً وَ لا رَهَقاً (13) وَ أَنّا مِنّا الْمُسلِمُونَ وَ مِنّا الْقَسِطونَ فَمَنْ أَسلَمَ فَأُولَئك تحَرّوْا رَشداً (14) وَ أَمّا الْقَسِطونَ فَكانُوا لِجَهَنّمَ حَطباً (15) وَ أَلّوِ استَقَمُوا عَلى الطرِيقَةِ لأَسقَيْنَهُم مّاءً غَدَقاً (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَن يُعْرِض عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسلُكْهُ عَذَاباً صعَداً (17)

بيان

تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به و أقروا بأصول معارفه، و تتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الإشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته و إلى المعاد، و السورة مكية بشهادة سياقها.

قوله تعالى: "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقص القصة لقومه، و الموحي هو الله سبحانه، و مفعول "استمع" القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، و النفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، و قيل: بل إلى أربعين.

و العجب بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، و إنما وصفوا القرآن بالعجب لأنه كلام خارق للعادة في لفظه و معناه أتى به رجل أمي ما كان يقرأ و لا يكتب.

و الرشد إصابة الواقع و هو خلاف الغي، و هداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد و أعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية.

و المعنى: يا أيها الرسول قل للناس: أوحي - أي أوحى الله - إلي أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا - لقومهم لما رجعوا إليهم - إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد و أعمال في التلبس بها إصابة الواقع و الظفر بحقيقة السعادة.

كلام في الجن

الجن نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم و يذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، و أنهم مخلوقون من النار كما أن الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى: "و الجان خلقناه من قبل من نار السموم": الحجر 27.

و أنهم يعيشون و يموتون و يبعثون كالإنسان قال تعالى: "أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس": الأحقاف 18.

و أن فيهم ذكورا و إناثا يتكاثرون بالتوالد و التناسل قال تعالى: "و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن": الجن 6.

و أن لهم شعورا و إرادة و أنهم يقدرون على حركات سريعة و أعمال شاقة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و تسخير الجن له و قصة ملكة سبإ.

و أنهم مكلفون كالإنسان، منهم مؤمنون و منهم كفار، و منهم صالحون و آخرون طالحون، قال تعالى: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون": الذاريات 54 و قال تعالى: "إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به": الجن: 2 و قال: "و أنا منا المسلمون و منا القاسطون": الجن 14 و قال: "و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك": الجن 11 و قال تعالى: "قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله": الأحقاف 31 إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية.

و يظهر من كلامه تعالى أن إبليس من الجن و أن له ذرية و قبيلا قال تعالى: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف 50 و قال تعالى: "أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني": الكهف: 50 و قال تعالى: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم": الأعراف 27.



قوله تعالى: "فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا" إخبار عن إيمانهم بالقرآن و تصديقهم بأنه حق، و قوله: "و لن نشرك بربنا أحدا" تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم، و أن إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا.

قوله تعالى: "و أنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدا" فسر الجد بالعظمة و فسر بالحظ، و الآية في معنى التأكيد لقولهم: "و لن نشرك بربنا أحدا".

و القراءة المشهورة "أنه" بالفتح، و قرىء بالكسر في هذه الآية و فيما بعدها من الآيات - اثنا عشر موردا - إلى قوله: "و أن لو استقاموا" فبالفتح و هو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن.

و أما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، و قد وجهها بعضهم بأن الجملة "و أنه" "إلخ" معطوفة على الضمير المجرور في قوله "آمنا به" و التقدير و آمنا بأنه تعالى جد ربنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة و الولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون.

و هذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور، و أما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء و الزجاج و الزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار و المجرور و هو النصب فإن قوله: "آمنا به" في معنى صدقناه، و التقدير و صدقنا أنه تعالى جد ربنا إلخ، و لا يخفى ما فيه من التكلف.

و وجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة و ذلك مطرد في أن و أن، و التقدير آمنا به و بأنه تعالى جد ربنا "إلخ".

و يرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله: "و أنه تعالى جد ربنا" إلخ، و قوله: "و أنه كان يقول سفيهنا" إلخ، و أما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله: "و أنا ظننا أن لن تقول" إلخ، و قوله: "و أنه كان رجال من الإنس" إلخ، و قوله: "و أنا لمسنا السماء" فلا يصح قطعا فلا معنى لأن يقال: آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله شططا، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء إلخ.

و لا يندفع الإشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الأوليين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير.

و وجه بعضهم الفتح بأن قوله: "و أنه تعالى" إلخ و سائر الآيات المصدرة بأن معطوفة على قوله: "إنه استمع" إلخ.

و لا يخفى فساده فإن محصله أن الآيات في مقام الإخبار عما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أقوالهم و قد أخبر عن قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا فآمنا به بعنوان أنه إخبار عن قولهم ثم حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا كذا و كذا و أوحي إلي أنه تعالى جد ربنا "إلخ" و أوحي إلي أنه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات.

فيرد عليه أن ما وقع في صدر الآيات من لفظة "إنه" و "أنهم" و "أنا" إن لم يكن جزء من لفظهم المحكي كان زائدا مخلا بالكلام، و إن كان جزء من كلامهم المحكي بلفظه لم يكن المحكي من مجموع أن و ما بعدها كلاما تاما و احتاج إلى تقدير ما يتم به كلاما حتى تصح الحكاية، و لم ينفع في ذلك عطفه على قوله: "إنه استمع" شيئا فلا تغفل.



قوله تعالى: "و أنه كان يقول سفيهنا على الله شططا" السفه - على ما ذكره الراغب - خفة النفس لنقصان العقل، و الشطط القول البعيد من الحق.

و الآية أيضا في معنى التأكيد لقولهم: "لن نشرك بربنا أحدا" و مرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجن، و قيل: المراد إبليس و هو من الجن، و هو بعيد من سياق قوله: "كان يقول سفيهنا" إلخ.

قوله تعالى: "و أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا" اعتراف منهم بأنهم ظنوا أن الإنس و الجن صادقون فيما يقولون و لا يكذبون على الله فلما وجدوهم مشركين و سمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة و الولد أذعنوا به و قلدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحق، و فيه تكذيب منهم للمشركين من الإنس و الجن.

قوله تعالى: "و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا" قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، و قال: رهقه الأمر غشيه بقهر انتهى.

و فسر الرهق بالإثم، و بالطغيان، و بالخوف، و بالشر، و بالذلة و الضعف، و هي تفاسير بلازم المعنى.

و المراد بعوذ الإنس بالجن - على ما قيل: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، و نقل عن مقاتل أن أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب.

و لا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجن الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، و إليه يرجع ما نقل عن بعضهم أن المعنى كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرتهم و أذاهم.

و الضميران في قوله: "فزادوهم" أولهما لرجال من الإنس و ثانيهما لرجال من الجن و المعنى فزاد رجال الإنس رجال الجن رهقا بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجن و طغوا و أثموا، و يجوز العكس بأن يكون الضمير الأول لرجال الجن و الثاني لرجال الإنس، و المعنى فزاد رجال الجن رجال الإنس رهقا أي إثما و طغيانا أو ذلة و خوفا.

قوله تعالى: "و أنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا" ضمير "أنهم" لرجال من الإنس، و الخطاب في "ظننتم" لقومهم من الجن، و المراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، و قيل: المراد به الإحياء بعد الموت، و سياق الآيات التالية يؤيد الأول.

و عن بعضهم أن هذه الآية و التي قبلها ليستا من كلام الجن بل كلامه تعالى معترضا بين الآيات المتضمنة لكلام الجن، و عليه فضمير "إنهم" للجن و خطاب "ظننتم" للناس، و فيه أنه بعيد من السياق.

قوله تعالى: "و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا" لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، و الحرس - على ما قيل - اسم جمع لحارس و لذا وصف بالمفرد و المراد بالحرس الشديد الحفاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها و لذا شفع بالشهب و هي سلاحهم.



قوله تعالى: "و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا" يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن ملء السماء بالحرس الشديد و الشهب مما حدث أخيرا و أنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة و يفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس.

فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.

فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.

و من عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لظهور قوله: "ملئت حرسا" في أن الحادث هو الملء و كثرة الحرس لا أصل الحرس، و ظهور قوله: "نقعد منها مقاعد للسمع" في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.

و يدفعه أنه لو كان المراد بالآيتين هو الإخبار عن ملء السماء بالحرس و تكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم و قد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: "فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا" إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع.

سلمنا أن المراد نفي السمع على الإطلاق و هو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، و كذا تقييد قوله: "فمن يستمع" إلخ، بقوله: "الآن" يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن و هو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا و المنع من السمع مطلقا بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، و هذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه.

و ليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد و هو غير حدوث الشهاب السماوي و هو ظاهر فلا ورود لما قيل: إن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن.

وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، و قد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام.

قوله تعالى: "و أنا لا ندري أ شر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا" الرشد بفتحتين و الرشد بالضم فالسكون خلاف الغي و تنكير "رشدا" لإفادة النوع أي نوعا من الرشد.

هذا منهم إظهار للجهل و التحير فيما شاهدوه من أمر الرجم و منع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إما خير أو شر و إذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم و سعادة و لذا بدلوا الخير و هو المقابل للشر من الرشد، و يؤيده قولهم: "أراد بهم ربهم" المشعر بالرحمة و العناية.

و قد صرحوا بالفاعل لإرادة الرشد و حذفوه في جانب الشر أدبا و لا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه.



قوله تعالى: "و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك كنا طرائق قددا" الصلاح مقابل الطلاح، و المراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، و الظاهر أن دون بمعنى غير، و يؤيده قوله: "كنا طرائق قددا" الدال على التفرق و التشتت و الطرائق جمع طريقة و هي الطريق المطروقة المسلوكة، و القدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع و صفت الطرائق بالقدد لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، و إلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة.

و الظاهر أن المراد بقوله: "الصالحون" الصالحون بحسب الطبع الأولي في المعاشرة و المعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، و لو كان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجيء من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى.

و ذكر بعضهم أن قوله: "طرائق قددا" منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد و هي المذاهب المتفرقة المتشتتة، و قال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، و لا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف و التباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة.

و المعنى: و أنا منا الصالحون طبعا و منا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض.

قوله تعالى: "و أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض و لن نعجزه هربا" الظن هو العلم اليقيني، و الأنسب أن يكون المراد بقوله: "لن نعجز الله في الأرض" إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها و ذلك بالإفساد في الأرض و إخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، و المراد بقوله: "و لن نعجزه هربا" إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم و قيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض و لن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض و لا في السماء هذا و هو كما ترى.

قوله تعالى: "و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا" المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، و البخس النقص على سبيل الظلم، و الرهق غشيان المكروه.

و الفاء في قوله: "فمن يؤمن" للتفريع و هو من تفريع العلة على المعلول لإفادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث و لا مهل.

و محصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأن من آمن به فقد آمن بربه و من يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة و الاستعجال و يتروى في الإقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق.

قوله تعالى: "و أنا منا المسلمون و منا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا" المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده و يأمر به، و القاسطون هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع،: القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق، انتهى.

و المعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لأمر الله مطيعين له، و إلى من يعدل عن التسليم لأمر الله و هو الحق.

و قوله: "فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا" تحري الشيء توخيه و قصده، و المعنى فالذين أسلموا فأولئك قصدوا إصابة الواقع و الظفر بالحق.

قوله تعالى: "و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" فيعذبون بتسعرهم و اشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس": البقرة 26.



و قد عد كثير منهم قوله: "فمن أسلم فأولئك" - إلى قوله - لجهنم حطبا تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم و قيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه": "أن" مخففة من الثقيلة، و المراد بالطريقة طريقة الإسلام، و الاستقامة عليها لزومها و الثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله و آياته.

و الماء الغدق الكثير منه، و لا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: "لأسقيناهم ماء غدقا" مثل أريد به التوسعة في الرزق، و يؤيده قوله بعده: "لنفتنهم فيه".

و المعنى: و أنه لو استقاموا أي الجن و الإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض": الأعراف 96.

و الآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: "أنه استمع" إلخ.

قوله تعالى: "و من يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا" العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاق.

و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدل على السبب الأصلي في دخول النار.

و هو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: "ذكر ربه" و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدإ الأصلي كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب.

قيل: و قوله: "يسلكه" مضمن معنى يدخله و لذا عدي إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر.

بحث روائي

في المجمع، روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجن و ما رآهم، انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به - و لن نشرك بربنا أحدا" فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن":. و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح.

أقول: و روى القمي في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله: "و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن" إلخ.



لكن ظاهر روايته أن النفر الذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإن ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف: "إنا سمعنا كتابا أنزل بعد موسى يهدي إلى الحق" الآية أنهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنهم كانوا مشركين لا يرون النبوة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللهم إلا أن يمنع الظهور.

و فيه، عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبة منا أحد فلا.

و فيه، و عن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: المراد بالجد المنفي عنه تعالى الحظ و البخت.

و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: فأقبل إليه الجن و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحج و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا.

أقول: بيعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصوم و الصلاة إلخ، يصدقها قولهم المحكي في أول السورة: "فآمنا به" و قولهم: "و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به"، و أما كيفية عملهم بها و خاصة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأول المذكور لا يخلو من خفاء.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: "و أنه كان رجال من الإنس - يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا" قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك.

و فيه،: في قوله تعالى: "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا" قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب.

: و سئل العالم عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.

أقول: لعل المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين.

و اعلم أنه ورد في بعض الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية علي (عليه السلام) و هي من الجري و ليست من التفسير في شيء.

72 سورة الجن - 18 - 28
وَ أَنّ الْمَسجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً (18) وَ أَنّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنّمَا أَدْعُوا رَبى وَ لا أُشرِك بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنى لا أَمْلِك لَكمْ ضرّا وَ لا رَشداً (21) قُلْ إِنى لَن يجِيرَنى مِنَ اللّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلا بَلَغاً مِّنَ اللّهِ وَ رِسلَتِهِ وَ مَن يَعْصِ اللّهَ وَ رَسولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسيَعْلَمُونَ مَنْ أَضعَف نَاصِراً وَ أَقَلّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِى أَ قَرِيبٌ مّا تُوعَدُونَ أَمْ يجْعَلُ لَهُ رَبى أَمَداً (25) عَلِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلا مَنِ ارْتَضى مِن رّسولٍ فَإِنّهُ يَسلُك مِن بَينِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصداً (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسلَتِ رَبهِمْ وَ أَحَاط بِمَا لَدَيهِمْ وَ أَحْصى كلّ شىْءٍ عَدَدَا (28)

بيان

في الآيات تسجيل للنبوة و ذكر وحدانيته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.

قوله تعالى: "و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا" معطوف على قوله: "إنه استمع" إلخ، و جملة "إن المساجد لله" في موضع التعليل لقوله: "فلا تدعوا مع الله أحدا" و التقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لأن المساجد له.

و المراد بالدعاء العبادة و قد سماها الله دعاء كما في قوله: "و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين": المؤمن 60.

و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد و الاثنين.

و قيل: الحرم، و هو تهكم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلها لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و فيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من بقاع الأرض خلافا لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.

و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، و هو تهكم لا دليل عليه.

و عن الإمام الجواد (عليه السلام): أن المراد بالمساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و أصابع الرجلين، و ستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير و الفراء و الزجاج.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه.

و المعنى: و أوحي إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها - أو اعبدوه بها - و لا تسجدوا - أو لا تعبدوا - أحدا غيره.

قوله تعالى "و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تدل عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: "قل إنما أدعوا ربي".

و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: "كادوا يكونون" المشركين و قد كانوا يزدحمون عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى و قرأ القرآن يستهزءون و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.

و المعنى: و أنه لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين.

و قيل: الضميران للجن و أنهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته و قراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله.

و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى و إنصاتا لما يتلوه من كلام الله.

و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: "قل إنما أدعوا ربي و لا أشرك به أحدا" أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض أخر دنيوية.

و محصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها و ترمونني بها و إنما أدعو ربي وحدة غير مشرك به أحدا و عبادة الإنسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه.

قوله تعالى: "قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا" الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى الناس.

أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه و لا يشرك به أحدا و هو قوله: "قل إنما أدعوا ربي و لا أشرك به أحدا".

و أما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا و لا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجىء إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي إني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب.

قوله تعالى: "قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله و رسالاته" الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممن يقصده بسوء، و الظاهر أن الملتحد اسم مكان و هو المكان الذي يعدل و ينحرف إليه للتحرز من الشر، و قيل: المدخل و يتعلق به قوله: "من دونه" و هو كالقيد التوضيحي و الضمير لله و البلاغ التبليغ.

و قوله: "إلا بلاغا" استثناء من قوله: "ملتحدا" و قوله: "من الله" متعلق بمقدر أي كائنا من الله و ليس متعلقا بقوله: "بلاغا" لأنه يتعدى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن "من" بمعنى عن، و المعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات.

و قوله: "و رسالاته" قيل: معطوف على "بلاغا" و التقدير إلا بلاغا من الله و إلا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلا بلاغا عن الله و عن رسالاته.

و فيما استثني منه بلاغا قول آخر و هو أنه مفعول "لا أملك" و المعنى لا أملك لكم ضرا و لا رشدا إلا تبليغا من الله و رسالاته، و يبعده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله: "لن يجيرني من الله أحد" إلخ و هو كلام مستأنف.

و معنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكانا ألتجىء إليه إلا تبليغا كائنا منه و رسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلا رسالاته في شرائع الدين.

قوله تعالى: "و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا" إفراد ضمير "له" باعتبار لفظ "من" كما أن جمع "خالدين" باعتبار معناها.



و عطف الرسول على الله في قوله: "و من يعص الله و رسوله" لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتي به رد على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله": النساء 80.

و المراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرع عليه من أصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله.

و الظاهر أن قوله: "و من يعص الله" إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا و أقل عددا" لقوله: "حتى" دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ناصريه - و هم المؤمنون - ضعفاء و استقلال عدده بعد عددهم قليلا فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.

و المراد بما يوعدون نار جهنم لأنها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لو كانت من كلامه و هي مصدرة بقوله تعالى "قل" لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.

قوله تعالى: "قل إن أدري أ قريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا" الأمد الغاية التي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: "قل إن أدري أ قريب" إلخ.

قوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا" إظهار الشيء على الشيء إعانته و تسليطه عليه، و "عالم الغيب" خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: "على غيبه" بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.

و المعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب و هو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي و إن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا و يؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.

قوله تعالى: "إلا من ارتضى من رسول" استثناء من قوله: "أحدا" و "من رسول" بيان لقوله "من ارتضى" فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الآيات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو": الأنعام: 59، و قوله: "و لله غيب السماوات و الأرض": النحل: 77، و قوله: "قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله": النمل: 65 أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله.

فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: "الله يتوفى الأنفس": الزمر: 42 الدال على الحصر، و قوله: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": الم السجدة: 11، و قوله: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا": الأنعام: 61 فالتوفي منسوب إليه تعالى على نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى.

قوله تعالى: "فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا - إلى قوله - عددا" ضمير "فإنه" لله تعالى، و ضميرا "يديه" و "خلفه" للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر، و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل - اسم فاعل - و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم".

و المعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول و من أرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - و من المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

و قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" ضمير "ليعلم" لله سبحانه، و ضميرا "قد أبلغوا و "ربهم" لقوله: "من" باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي و هو تحقق الإبلاغ في الخارج على حد قوله: "فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين": العنكبوت: 3 و هو كثير الورود في كلامه تعالى.

و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير و تبدل.

و من المحتمل أن يرجع ضميرا "بين يديه و من خلفه" إلى "غيبه" فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعفه أنه لا يلائم قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.

و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي.

و يضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره.

و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميرا "قد أبلغوا" و "ربهم" للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه.

و يبعده أن ظاهر السياق - و يؤيده سبق ذكر الرسول - أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير "ربهم" للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة.

و قيل: المعنى ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم.



و قوله: "و أحاط بما لديهم" ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى و الظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: "من بين يديه" يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله: "و من خلفه" إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله: "و أحاط بما لديهم" يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم.

و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: "و أحصى كل شيء عددا" مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنه العلم بعددها و تميز بعضها من بعض.

فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث: أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه.

و به يظهر أن ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب": الأنعام: 50، و قوله: "و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير": الأعراف: 188 و قوله: "قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم أن أتبع إلا ما يوحى إلي": الأحقاف: 9.

و ثانيا: أن عموم قوله: "فلا يظهر على غيبه أحدا" لما خصص بقوله: "إلا من ارتضى من رسول" عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الأنبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده": النساء: 163 و تدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي و أما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي" الآية: الحج: 52، و قوله: "و ما أرسلنا في قرية من نبي": الأعراف: 94 فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.

و كذا في مورد الإمام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله: "و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون": الم السجدة 24 و يعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75، و قوله: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم": التكاثر: 6 و قد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.

و أما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيبا بالنسبة إلينا.

على أن قوله: "فلا يظهر على غيبه أحدا" إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الأرض و إلا لانتقض بالأموات المشاهدين لأمور الآخرة و هي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أن الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة.

و ثالثا: أن قوله: "فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه" إلى آخر الآيتين يدل على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.

أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله "من خلفه" و أما مصونيته حين أخذ الرسول إياه و تلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، و مصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" حيث يدل على أن الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إياهم و لو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على أن الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، و يؤكده قوله بعد: "و أحاط بما لديهم".

و أما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: "من بين يديه" على ما تقدم من معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" بما تقدم من تقريب دلالته.

و يتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.

و التبليغ يعم القول و الفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية لأن في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا.

و قد تقدمت الإشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، و يتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما أوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولا و فعلا.

و رابعا: أن الذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب": هود: 65، و قول عيسى لبني إسرائيل: "و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم": آل عمران: 49، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب.

بحث روائي

عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه سأله المعتصم عن السارق من أي موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف. فقال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أجزاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يدا يسجد عليها و قال الله: "و أن المساجد لله" يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها "فلا تدعوا مع الله أحدا" و ما كان لله فلا يقطع.

الحديث

و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: و سجد يعني أبا عبد الله (عليه السلام) على ثمانية أعظم: الكفين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي التي ذكرها الله في كتابه فقال: "و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا" و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنة.

و عن الخرائج و الجرائح، روى محمد بن الفضل الهاشمي عن الرضا (عليه السلام): أنه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك لكنت مصدقا لي؟ قال: لا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: أ و ليس أنه يقول: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - إلا من ارتضى من رسول" فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حد الإحصاء، و مدلولها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذه بوحي من ربه و أنهم أخذوه بالوراثة منه (صلى الله عليه وآله وسلم).

<<        الفهرس        >>